مواقع مكتبات اسلامية قيمة جدا

ب جاري/يا الله / جاري جاري / دار تحقيق التراث الإسلامي والعلمي / في وداع الله ياأماي///ب هانم// مدونة موطأ مالك / أعلام الإسلام / جامع الأصول لمجد الدين أبو السعادات ابن الجزري / أنس ويحي / صوتيات / ياربي:العتق من / النيران ومن الفتن / مدونة الخصوص / مدونة روابط // ب قيقي /مكتبة قيقي / /استكمال مدونة قيقي  / اللهم انتقم من الطالمين الطغاة الباغين  / مدونة قيقي  / النخبة في شرعة الطلاق ااا //ب حنين//ذكر الله / اللهم ارحم والداي واغفر لهما وتجاوز عن سيئاتهما وكل الصالحين / مدونة حنين ملخص الطلاق للعدة}} / الحنين/ /المدونة العلمية z. / المصحف العظيم / الحديث النبوي ومصطلحه. / قال الله تعالي/// بوستك//المدونة الطبية / تبريزي / من هم الخاسرون؟ / مدونة بوصيري / علوم الطبيعة ///ب بادي/استكمال ثاني{حجة ابراهيم علي قومه} / النظم الفهرسية الموسوعية الببلوجرافية للأحاديث النبوية وأهميتها / مدونة أذان / المناعة البشرية وعلاج الأمراض المستعصية من خلالها / علاج الأمراض المزمنة والسر في جهاز المناعة / الحميات الخطرة وطرق الوقاية منها والعلاج / المدونة الشاملة / أمراض الأطفال الشهيرة / م الكبائر وكتب أخري / مصحف الشمرلي+تحفة الأشراف للمزي+البداية والنهايةلابن كثير / مدونة الطلاق للعدة / القواميس العربية ومنها لسان العرب وتاج العروس وغيرهما //ب-البيهقي كله / مدونة الاصابة / الطلاق للعدة ما هو؟ / علامات القيامة / منصة مستدرك الحاكم / تعاليات إيمانية / السيرة النبوية /ب مكة /مدونة فتاح / مكه / علوم الفلك / مدونة الغزالي//ب انت ديني /الدجال الكذاب / الشيخ الشعراوي[نوعي] / ديرالدجال اا. / كتب ابن حزم والشوكاني وورد /إستكمال المحلي لابن حزم والشوكاني وابن كثير الحفاظ / المخلوقات الغامضة /السير والمغازي {ابن إسحاق- ابن هشام-كل السيرة النبوية} /كتاب الإحكام في أصول الأحكام / إحياء علوم الدين للغزالي / موقع الحافظ ابن كثير / مجموع فتاوي ابن تيمية / ابن الجوزي /البحيرة الغامضة / الكامل في التاريخ /الفتن / تصنيفات الإمامين:ابن حزم والشوكاني//// مجلد 3.سنن أبي داود / الجامع الصحيح سنن الترمذي / صحيح ابن ماجة – الإمام محمد ناصر الدين الألباني / فتح الباري لابن حجر / لسان العرب لابن منظور / مدونة العموم / الحافظ المزي مصنفات أخري / مدونة المصنفات / مسند أحمد وصحيح البخاري وصحيح مسلم.وسنن ابن ماجه. / مدونة مدونات كيكي1. / أبو داود والترمذي وابن ماجه / بر الوالدين شريعة / تهذيب التهذيب +الاصابة + فتح الباري/كلهم وورد / مدونة المستخرجات / كيكي

9 مصاحف

 

الجمعة، 18 مايو 2018

3. جواز التحديث عن أخبار من قبلنا


الترتيب والترقيم للشاملة

جواز التحديث عن أخبار من قبلنا
 
جواز التحديث عن أخبار من قبلنا
وفي هذا الحديث أيضاًَ من الفوائد: التحديث عن أخبار من قبلَنا حتى يكون في ذلك عبرة لنا وقدوة:- وهكذا دائماً دأب الصالحين الاقتداء بمن قبلَهم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
(13/14)
تعريف النفقة وأحكامها
وبعد هذا نأتي إلى ذكر بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالنفقة وهو أحد الأشياء التي ذكرها هذا الرجل فقال: (وآكل أنا وعيالي ثلثاً).
فما هي أحكام النفقة؟ وعلى من يجب على الإنسان أن ينفق؟ وكم ينفق؟ أما النفقة فهي في اللغة: الدراهم ونحوها من الأموال، هذه تسمى نفقه لأنها تنفَق.
تعريف النفقة شرعاً: كفاية من يمونه بالمعروف قوتاً، وكسوةً، ومسكناً، وتوابعه.
أنت مسئول عن شخص معين؛ زوجة أو ولد؛ كفايته أن تعطيه ما يكفيه بالمعروف من الكسوة والقوت وتوابع ذلك المسكن، هذه هي النفقة الشرعية، النفقة.
وأول ما يجب على الإنسان النفقة بعد نفسه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك) ثانياً: زوجته، فيلزم الزوج نفقة زوجته قوتاً، وكسوةً، وسكنى بما يصلح لمثلها.
(13/15)
الزوجة ومراعاة النفقة عليها
فإذاً يراعي في الإنفاق حال الزوجة، البيت الذي هي منه، كيف كانت تعيش عند أبيها، القوم الذين هي منهم، فإذاً يراعى في الإنفاق على الزوجة ما يصلح لمثلها، قد تكون مثقفة تحتاج إلى نفقة غير الأمية، قد تكون من عائلة غنية غير العائلة الفقيرة، ونحو ذلك.
إذاً لا بد من مراعاة حال الزوجة عند الإنفاق عليها، ما هو الدليل؟ قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
إذاً لو أن أحداً قال: كم أنْفِق عليها؟ أعطيها شيئاً بيدها، هي تصرف على نفسها؟ أو أن أُنْفِق أنا عليها؟ وكم أنفق عليها؟ وكم يجب عليَّ؟ وما هي النسبة؟ وما هو المقدار؟ فالآية أجابت عن ذلك بقول الله تعالى: {بِالْمَعْرُوف} [البقرة:241] ما تعارف عليه الناس بينهم من الأمور المقرَّة بينهم.
فإذاً ينفق عليها بالمعروف، مثلاً: تحتاج إلى طعام لا بد أن يعطيها الطعام، تحتاج إلى شراب لا بد أن يوفر لها الشراب، تحتاج إلى فستان، تحتاج إلى جورب، تحتاج إلى خمار، حجاب، فلا بد أن يعطيها ذلك، فإذاً مرد الإنفاق إلى العرف وليس هناك مقدار معين للنفقة حددته الشريعة، وإنما جعل ذلك إلى العرف وإلى يسار الزوج وإعساره.
إذاً هناك أمران يتحكمان في النفقة على الزوجة: الأول: العرف.
والثاني: حال الزوج من الغنى والفقر، واليسار والإعسار.
هل هو متوسط الحال، هل هو فقير الحال، هل هو غني.
وعند النزاع يقدر القاضي مقداراًَ معيناً يوجب على الزوج أن ينفقه على زوجته عند النزاع، ويُراعي القاضي هذين الأمرين، مثلاً: إذا كان حال الزوج مع العرف ينفق عليها ألفاً في الشهر إذاً ينفق عليها ألفاً، يفرض لها ألفاً، سبعمائة، خمسمائة، فيُفرض للموسرة تحت الموسر من النفقة قدر كفايتها، مما تأكل الموسرة تحت الموسر في محلهما، ويُفرض لها كذلك من الكسوة، والفرش، والأثاث، ما يليق بمثلها في البلد، وكذلك المتوسط مع المتوسطة، والفقير مع الفقيرة، ونحو ذلك.
وعلى الزوج نفقة نظافة زوجته.
وكذلك فإن عليه أن ينفق عليها إذا طلقها طلاقاً رجعياً لأنها ما زالت في عصمته، أما طلاق البينونة الكبرى فلا نفقة لها، ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس عندما طلقها زوجها البتة -يعني: بالثلاث انتهت- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نفقة لها ولا سكنى) إلا إذا كانت حاملاً فإنه لو طلقها الطلقة الأخيرة وهي حامل فلها النفقة لأجل الجنين الذي في بطنها الذي هو ولده وهو مكلف بالإنفاق عليه، ولا يمكن فصل الولد عن الأم؛ لأنه ما زال في بطنها، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فإذاً لها سكنى ولها نفقة طيلة حملها حتى لو كان الطلاق مبتوتاً بالثلاث.
(13/16)
أسباب تسقط بها نفقة الزوجة
تسقط نفقة الزوجة بأسباب: - منها: إذا امتنعت عن تسليم نفسها له، أو حُبست عنه؛ لأنه لا يمكن أن يستمتع بها، والنفقة واجبة مقابل الاستمتاع.
- كذلك من الأحوال التي تسقط نفقة المرأة فيها: إذا نشزت عنه، نشزت أي: خرجت من البيت ورفضت الرجوع، امتنعت عن الفراش، امتنعت من الانتقال معه من بيت إلى بيت، أو من بلد إلى بلد ما لم يكن هناك شروط، فامتنعت من الانتقال معه فإنها تعتبر ناشزاً، ولا يمكن أن يستمتع بها، ولذلك لا نفقة لها.
- كذلك من الحالات التي لا تجب فيها النفقة على الزوجة: إذا سافرت لحاجتها لا لحاجته، فإذا كان لها حاجة هي وسافرت فلا يجب الإنفاق عليها، إعطاؤها من باب الإكرام، من باب التودد، من باب البر، لكن الوجوب إذا سافرت لحاجتها هي فعند ذلك يسقط الوجوب، ولكن الإحسان والبر والمعاشرة بالمعروف أن يعطيها، أما إذا سافرت لحاجته، هو الذي أرسلها، فإن النفقة باقية عليه.
والمرأة المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها من تركة الزوج؛ لأن المال انتقل من الزوج إلى الورثة، فالنفقة عليها، وكذلك هي من الورثة، فإذا كانت المتوفى عنها حاملاً وجبت النفقة في حصة الحمل من التركة إن كان للمتوفى تركة.
ويجوز تعجيل النفقة كأن يعطيها نفقة سنة مقدماً ويقول: أنفقي على نفسك من هذا المال، وتجب لها الكسوة كل عام من أوله؛ كسوة الشتاء وكسوة الصيف.
ومن غاب عنها زوجها ولم يترك لها نفقة، أو كان حاضراً ولم ينفق عليها لزمته النفقة عما مضى لأنه دين في عنقه، لها أن تطالبه به، وإن أعسر فبعد اليسار يعوضها عما فات.
(13/17)
وقت إيجاب النفقة على الزوجة
متى يجب الإنفاق؟ من حين تسليم الزوجة نفسها له، وليس بمجرد العقد؛ فإذا عقد عليها لا زالت النفقة على أبيها.
مثلاً: فإذا صارت حفلة الزفاف وسلَّمت نفسها له، من تلك اللحظة يجب الإنفاق، ويجوز للمرأة أن تطلب فسخ النكاح إذا امتنع الزوج الإنفاق عليها، أو أعسر، يجوز لها أن تطلب الطلاق وإذا صبرت عليه فهي مأجورة.
وكذلك لها أن تستدين على حسابه في حال غيابه إذا لم يترك لها شيئاً، تأخذ من البقَّال مثلاً الأغراض، أغراض البيت وما تحتاجه على حسابه إذا غاب عنها.
وكذلك يجوز لها أن تأخذ من جيبه خفية إذا بخل عليها بالنفقة لكن بالمعروف، لحديث هند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
وهذه الأحكام تدل على عدل الشريعة وكمالها.
(13/18)
النفقة على الأقارب غير الزوجة
أما غير الزوجة فعلى من؟ ينفق الإنسان؟ ينفق على أقاربه ومماليكه.
وأقارب الإنسان: كل من يرثه بفرض أو تعصيب.
والمماليك: العبيد، الإماء، ويدخل كذلك البهائم فيجب على الإنسان شرعاً أن ينفق عليها، نحن سبقنا جمعية الرأفة بالحيوان، الذين يحتاجون إلى الرأفة بالإنسان.
ويجب على الإنسان أن ينفق على كل من تحت ملكه من إنسان وبهيمة، بالإضافة إلى الأقرباء كما ذكرنا.
(13/19)
الأقارب الذين ينفق عليهم
ومَن هو القريب الذي يجب الإنفاق عليه؟ الأقرباء كُثر.
ف
الجواب
إذا كان القريب من عمودَي النسب تجب نفقته عليك، إذا احتاج وما عنده ما يسد حاجته.
فعمودا النسب: الآباء والأجداد وإن علَو، والعمود الثاني: الأبناء والأحفاد وإن نزلوا.
فيجب عليك أن تنفق على أبيك إذا احتاج وأمك والجد وأبو الجد إذا احتاج وما عنده، وأنت تستطيع يجب عليك أن تنفق عليه، ابنك، وبنتك، وحفيدك، حفيدتك، إذا كنت قادراً واحتاجوا يجب أن تنفق عليهم.
فإذا كان القريب من عمودَي النسب، وكان المنفق غنياً؛ عنده ما يستطيع أن ينفق على هؤلاء، وكان المنفَق عليه محتاجاً، فقيراً، لا يملك شيئاً، أو لا يملك ما يكفيه، أو لا يقدر على الكسب، وكان على دِين واحد؛ أما إذا كان كافراً لا تجب النفقة، إذا كان ولده كافراً، أبوه كافراً، فالنفقة تجب على الإنسان لقريبه إذا كان على دِين واحد.
والدليل على وجوب النفقة على الوالدين قول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] والإنفاق عليهما من أعظم الإحسان.
والدليل على وجوب النفقة للأولاد على أبيهم قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] مَن هو المولود له؟ الأب: {رِزْقُهُنَِّ} [البقرة:233] طعام الوالدات: {وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة:233] لباسهن: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] بما جرت به العادة: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] يدل على أن المتوارثين من القرابات، هناك حقوق ومنها: النفقة، فإذا كان هناك إنسان أنت ترثه لو مات فيجب عليك أن تنفق عليه إذا كان فقيراً محتاجاً، وقال الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] فإذا كان أخوك فقيراً وأنت قادر إذاً يجب أن تنفق عليه، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26].
فنفقة الأقارب المحتاجين على قريبهم الغني واجبة إذا كان قادراً، وجاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مَن أَبَرُّ؟ قال: أمَّك وأباك وأختَك وأخاك) وفي رواية: (وابدأ بمن تعول؛ أمَّك وأباك وأختَك وأخاك، ثم أدناك أدناك) هذا يفسر قول الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] ذا القربى عام، وهذا تفصيله في السنة.
والوالد تجب عليه نفقة الولد كاملة ينفرد بها، ما يوزع هذا، يقول: فقط عليَّ الطعام، أكلك عليَّ، لبسك ما لي دخل فيه، سكنك عليَّ، وكذا، يجب عليه أن ينفق على الولد نفقة كاملة.
والفقير الذي له أقارب أغنياء وليس لديهم أب حتى نحمِّل الأب النفقة كاملة، هل يتحملها الأكبر منهم؟ ليس عدلاً، نقول: يشتركون في الإنفاق عليه كلٌّ بقدر إرثه منه، فإذا كان -مثلاً- كل واحد يرث منه الثلث، نقول: ثلث النفقة على كل واحد منهم هذا يرث السدس، نقول: أنت سدس النفقة عليك، وهذا يرث النصف، نقول: نصف النفقة عليك، وهكذا.
وأما نفقة المماليك من الأرقاء والبهائم فإنها تجب بالمعروف أيضاً: (إخوانكم خَوَلُكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه -يعني: العبد- تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم).
وإن طلب الرقيق نكاحاً زوجه سيده أو باعه حتى لا يمنعه من الزواج، وكذلك إن طلبت الأمة خُيِّر سيدُها بين وطئها، أو تزويجها، أو بيعها؛ لئلا يضر بها، وكذلك الدابة؛ العلف والسقْي وكل ما يصلحها لا بد من ذلك: (عُذبت امرأة في هرة) الحديث، فكل حيوان عندك لو كان عندك عصفور يجب عليك الإنفاق عليه، ولا يجوز تعذيب البهيمة، ولا حلبها بما يضر ولدها، ولا لعنها، ولا وسمها في وجهها، فإن عجز عن الإنفاق عليها أُجبر على بيعها، أو تأجيرها، أو ذبحها إذا كانت مما تؤكل؛ لأن بقاءها مع رجل لا ينفق عليها ظلم لها، هذا معلوم من الفقه الإسلامي، والذي قلنا أنه سبق الغربيين في الرأفة بالحيوان منذ قديم الزمان.
هذه بعض الأشياء المتعلقة بالنفقة، وهذا كان له علاقة بحديث اليوم والقصة التي سبق ذكرها.
وأيضاً: فإن من الأشياء المتعلقة: الصدقة؛ والصدقة التي ذكرها الرجل هي: إعطاء الفقراء والمساكين وغير ذلك من وجوه البر لأن أبواب الصدقة كثيرة جداً، ولا يجوز للإنسان أن يرجع في صدقته إذا سلمها للفقير أو للشخص الذي تصدق به عليه، وكذلك لا يشتري صدقته، ويُخفي الصدقة، كما أن هناك آداباً تتعلق بهذا الموضوع، ربما نأتي عليها مرة أخرى إن شاء الله.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(13/20)
الأسئلة
.
(13/21)
وجوب إخراج الزكاة الماضية
السؤال
رجل لم يُخرج زكاة الفطر العام الماضي، هل تبقى في الذمة؟
الجواب
نعم، تبقى في الذمة ديناً عليه لله تعالى، ويتوب من تأخيرها، وعليه الإخراج.
(13/22)
قضاء صلاة العيد
السؤال
هل صلاة العيد تُقضى؟
الجواب
قال بعض العلماء: إن من فاتته صلاة العيد فإنه يصليها، من الممكن أن يصلوها جماعة مثلاً إذا فاتتهم بعد صلاة الإمام، لا بأس بذلك.
(13/23)
حكم إخراج زكاة الفطر مالاً يشترى به طعاماً
السؤال
في بعض المساجد هناك إعلان عن قبول قيمة عشرة ريالات زكاة الفطر يقومون هم بشراء الأرز أو التمر!
الجواب
لا بأس بذلك، ما دام أن الشخص هذا ثقة أو هذه اللجنة موثوق بها تُعطَى المال لتشتري به الطعام.
(13/24)
حكم الصلاة في مسجد بجواره قبور
السؤال
يوجد في بلدتنا مسجد، ومجاورٌ لهذا المسجد قبور أهل البلدة التي يَدفنون بها!
الجواب
ما دام خارج المسجد فلا بأس من الصلاة في المسجد، الأحسن أن يُجعل بينهما وبين المسجد طريق لكي يتم الفصل التام بين المقبرة والمسجد، وجداران؛ جدار للمقبرة، وجدار للمسجد.
(13/25)
حكم ملاعبة الزوجة دون الإيلاج
السؤال
صائم عمل كل شيء مع زوجته ما عدا الإيلاج والإنزال!
الجواب
عليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهو قد جرح هذا الصيام، ونقص منه بقدر ما وَلَغَ في هذا الأمر المحرم.
(13/26)
مقدار نصاب زكاة المال
السؤال
كم هو النصاب الواجب في المال اليوم، في الزكاة؟
الجواب
إذا كانت العملة مقوَّمة أصلاً بالذهب فهو نصاب الذهب، وإذا كان العملة مقوَّمة بالفضة فهو نصاب الفضة.
(13/27)
حكم صلاة المرأة إذا زاد حيضها على عادتها
السؤال
امرأة دورتها الشهرية سبعة أيام وعندما ظهر لها علامة الطهر بين قوسَين (الكُدْرة) -وهذا خطأ، علامة الطهر ليست الكُدْره، علامة الطهر هي السائل الأبيض النقي الذي يدفعه الرحم بعد العادة- الذي يخرج وارء العادة، تطهرت وصامت، وفي اليوم الثامن رأت الدم ثم الكُدْرة فقالت: ربما لم تنتظر فتطهرت وصامت، تكرر ذلك في التاسع والعاشر والحادي عشر!
الجواب
إذا رأت الطهر فلا يضرها ما خرج بعد ذلك من الكُدْره، وأما إذا لم تر الطهر فالكُدْره المتصلة بدم الحيض من الحيض، ولو استمر الدم لا تصلِّي ما لم يبلغ خمسة عشر يوماً فإذا بلغ خمسة عشر يوماً اعتبرناها مستحاضة وقلنا لها: اعتدي بعادتك الأصلية إذا كانت سبعة أيام، أو ستة أيام، أو ثمانية أيام، واقضي ما مضى من الصلاة والصيام.
(13/28)
حكم سفر الخادمة مع العائلة
السؤال
سفر الخادمة مع العائلة بَراً؟
الجواب
لا يجوز سفر الخادمة بغير محرم لأنها امرأة، امرأة تدخل في الأحاديث، وعليهم أن يبحثوا عن مكانٍ آمن يضعوها فيه عائلة مأمونة، إذا ما وجدوا فإن أخذها في هذه الحالة يكون من باب الحاجة الشرعية، أو الضرورة الشرعية، إذا خُشي عليها أو خشي منها، إذا تُركت وحدها تؤخذ من باب الضرورة، ولكن ليس هذا هو الأصل.
(13/29)
حكم الخروج بالأهل إلى السوق
السؤال
هل يجوز للرجل أن يذهب بأهله إلى السوق مع ما فيه من الفجور والفساد العظيم؟
الجواب
هو لا بد من الذهاب إلى السوق، لأنه لا يمكن للواحد كيف يوفر الأغراض؟ لكن ماذا يفعل؟ ينتقي أولاً: الأسواق التي لا يغلب عليها، أو التي هي أقل سوءاً من غيرها، هناك بعض الأسواق أقل سوءاً من غيرها، حتى المجمعات التجارية تختلف؛ بعض المجمعات بالتجربة وبالخبرة تعرف أنها فيها نوع من المحافظة، وفيها نوع من الحراسة مثلاً، فالذهاب إليها أولى من الذهاب إلى غيرها ولا شك.
ثانياً: انتقِ الوقت المناسب، فمثلاً: في هذه الأيام الذهاب بعد الظهر وبعد العصر وفي الصباح أحسن من الذهاب في الليل بآلاف المرات، ولذلك الذهاب في هذه الأوقات مناسب.
ثم بعد ذلك ثالثاً: التزام الشروط الشرعية: غض البصر، الحجاب الكامل للأهل.
ثم الإنسان يتجنب مضايق الزحام الشديد، الأماكن المكتظة، الأماكن المليئة بالنساء أو التبرج، ربما يدخل المكان وبعد قليل تغيِّر وضع المكان، وهكذا.
(13/30)
حكم زواج الشاب بدون علم أبيه وأمه
السؤال
شخص يريد أن يتزوج دون علم والدته ووالده، ويريد أن يبقى الزواج سراً؟
الجواب
لا.
ما يمكن أن يبقى الزواج سراً عاجلاً أم آجلاً، فهو لا بد أن يعلنه ويشهره، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعليه أن يرضي والديه، يسترضيهما قدر الإمكان، وإذا كانا يرضيان بفتاة دون فتاة ينتقي الفتاة التي يرتضيانها إذا كان ليس بها عيبٌ من دين أو خلق، وأما إذا احتاج للزواج وهو طالب وهما يرفضان زواجه فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والحال حاله يعرفها، فإذاً يتزوج مع الإحسان إليهما.
(13/31)
حكم إعطاء العطية مع مقابلتها بمكافأة أكبر
السؤال
هل يجوز لي أن أعطي لشخص لعلمي أنه سيعطيني هدية أكبر منها؟
الجواب
هذا من الطمع في الدنيا ولا شك، وليس من باب (تهادوا تحابوا) وليس من الأخوة، لكن هل نقول له: يحرم؟ إذا كان الشخص الآخر لا يُحرج، ولا يَشق عليه، أو لا يستدين من أجلك، فلا يَحرم؛ لكنه ليس من العبادات والطاعات أن الإنسان ينوي بأن يعطي بهذه النية.
(13/32)
حكم وطء العبد سيدته
السؤال
إذا كان الرجل عنده أمَة من حقه أن يطأها شرعاً، فإذا كانت الحرة عندها عبدٌ فهل تمكنه من نفسها؟
الجواب
لا يجوز حتى بالفطرة، فهي تتصرف فيه، وعليه الخدمة والزراعة والبيع والشراء وكل شيء من الأشياء يقوم بها، ولها أن تبيعه أو تؤجره؛ ولكن الوطء لا، بل عليها أن تحتجب منه ما تكشف عليه كمَحْرَم، لا.
(13/33)
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره في القرآن
السؤال
أقرأ القرآن، فذُكِر النبي صلى الله عليه وسلم، هل أصلي عليه؟
الجواب
نعم.
لا بأس بذلك، صلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم.
(13/34)
هل تقطع المرأة الصلاة في الحرم؟
السؤال
حديث: (أن المرأة تَقْطَع الصلاة) كيف يطبَّق في الحرم؟
الجواب
في حالات الزحام الشديد التي لا يمكن فيها تجنب مرور الناس أمام بعضهم بعضاً عند ذلك يسقط الحكم لتعذر تطبيقه لأنك كلما مرت بين يديك امرأة كبرت للإحرام فلن تصلي إلا بعد خروج الوقت في بعض الحالات، الزحام الشديد، ولذلك {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فأولاً: إذا كنت وراء إمام فلا يضرك من مر بين يديك، لكن إذا كنت تصلي وحدك، فأنت ترد المرأة التي تمر، فإذا كان الزحام شديداً جداً، تمنع من؟ وتُبْقِي من؟ فعند ذلك صلاتك صحيحة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] مثل الزحام هذا في ليلة السابعة والعشرين، في الحرم، وليلة ختم القرآن، هذا قد لا يتيسر مطلقاً، بل ربما ما يجد الواحد مكاناً يصلي فيه أصلاً.
(13/35)
المقصود بالنفقة على الزوجة
السؤال
بعض النساء لا يفهمن النفقة بمعناها الشامل ويقصدن بها النفقة الخاصة مثل: الملابس وما شابهها، ويقولون: أعطنا نفقتنا الشهرية؟
الجواب
إذا لم ترد الطعام فهذا شأنها، وإذا كانت تريد ملابس، فتزيد في الطلب لأجل التفاخر أو المباهاة أو المغالاة، فتريد الشيء المرتفع الثمن الذي يقصم ظهر الزوج ويأتي على راتبه؛ فهذا طبعاً ليس من حقها أن تشق على زوجها وإنما ينفق عليها بالمعروف، فلا إفراط ولا تفريط.
وبعض النساء عاقلات يعني: تدرك أن هناك أشياء مهمة يحتاج مثلاً الزوج إلى بيت وهو الآن يستأجر بيتاً وهو يريد أن يبني بيتاً فهي تقتصد معه من أجل البيت لأن البيت بيتهما، لأن هذا البيت سيكون بيتاً لهما جميعاً فهي تساعد زوجها.
وبعض النساء ليست بعاقلة جداً فهي تريد أن تبذر وتسرف في الأموال ولو كان على حساب الأشياء المهمة والضرورية للبيت وللأولاد أو للزوج والأولاد، وهذا ليس من الحكمة في شيء.
فإذاً ينبغي أن تنظر، وفي نفس الوقت ليس معنى هذا أنه كلما طلبت منه لباساً قال: نريد أن نبني بيتاً، كلما جاءت تطلب منه شيئاً، قال: نريد أن نبني بيتاً، هذا الشيء لا ينتهي، فلا يجعل هذا حجة لرد كل طلباتها، وفي نفس الوقت هي لا تتمادى في الطلبات بحيث تشق على الزوج.
(13/36)
كيفية كفارة اليمين
السؤال
في كفارة اليمين هل يجزئ أن يطعم خمسة مساكين مرتين بدلاً عن عشرة؟
الجواب
لا، لا بد من عشرة مختلفين.
(13/37)
جواز صلاة القيام في أكثر من مسجد
السؤال
هل يجوز أن يصلي في مسجد القيام ثم يذهب إلى مسجد آخر يصلي معهم؟
الجواب
نعم.
لا بأس بذلك، لكن لا يعيد الوتر: (لا وتران في ليلة).
(13/38)
حالات الجمع والقصر في السفر
السؤال
في صلاة المسافر أيهما أولى: الجمع، أم القصر؟
الجواب
إذا كان متحركاً في سفره في السفر في الطريق يجمع ويقصر، إذا نزل بلداً يوماً أو يومين أو ثلاثة يعني: لا زال مسافراً فهو يقصر من غير جمع؛ هذه هي السنة، في مكة أو في غير مكة.
(13/39)
أجر من صلى صلاة القيام كلها مع الإمام
السؤال
كيف يطبَّق أجر حديث: (إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف)؟
الجواب
يعني: من كل الصلاة، سواء كانت الصلاة جزءاً واحداً أو جزأين، إذا صلى معهم حتى ينصرف من كل الصلاة، كذلك لو كان في المسجد به أكثر من إمام، حتى ينصرف يعني: حتى تنقضي كل الصلاة.
هذا والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(13/40)
قصة عائشة رضي الله عنها وقبر البقيع
زيارة القبور تذكر بالآخرة، وترقق القلب، وتزكي النفس، ولكن قد طال على المسلمين الأمد كما طال على الذين من قبلهم، فقست قلوبهم فلم يعودوا ليتعضوا إلا مَنْ رحم الله، وحل الابتداع محل التذكر والاتباع، وقد وضح الشيخ ذلك من خلال شرحه لحديث عائشة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم بقيع الغرقد، وذكر بعض أحكام المقابر.
(14/1)
حديث زيارة البقيع وشرحه
الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فالقصة التي سنتحدث عنها هي من القصص التي لها علاقة بما يزيد الإيمان، وهو زيارة المقابر.
وسنتعرض إن شاء الله بعد هذه القصة لبعض أحكام وآداب زيارة المقابر.
والقصة: قصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي رواها الإمام أحمد ومسلم وغيرهما: عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوماً: (ألا أحدثكم عني وعن أمي؟ فظننا أنه يريد أمه التي ولدته، قال: قالت عائشة -وهي أمه لأنها أم المؤمنين، وهي كذلك أمنا جميعاً- قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي انقلب فوَضَع رداءه) انقلب، أي: رجع إلى بيته من صلاة العشاء، وكان عادتهم النوم بعد صلاة العشاء مباشرة، فلا سمر عندهم إلا في حالات خاصة، وكانوا يؤخرون العشاء كما هي السنة، ثم ينامون بعدها استعداداً لقيام الليل؛ هكذا كان المجتمع الأول في استعداده لقيام الليل.
(انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه -صلى الله عليه وسلم- وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رَقَدْتُ -في رواية أحمد، أي: لبث عليه الصلاة والسلام على فراشه فترة ظن أن عائشة قد نامت واستغرقت في النوم- فأخذ رداءه رويداً -أي: برفق لئلا يزعجها- وانتعل رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج، ثم أجافه رويداً -أي: أغلقه وراءه- فجعلتُ درعي في رأسي واختمرتُ، وتقنعتُ إزاري -لبِسَتْ إزارها واستترت- ثم انطلقتُ على إثره) أي: تَبِعْتُه، خرجت من باب البيت وتَبِعَتْه خفية وهو لا يدري صلى الله عليه وسلم، (حتى جاء البقيع)، وهو: بقيع الغرقد؛ مقبرة المسلمين بـ المدينة، سُمِّي بـ بقيع الغرقد لغرقد كان فيه، وهو ما عَظُمَ من نبات العوسج.
(فقام عليه الصلاة والسلام عند المقبرة فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفتُ، وأسرع فأسرعتُ، فهرول فهرولتُ، فأحضر فأحضرتُ، فسبقته فدخلتُ).
ومعنى الإسراع والهرولة واضح.
وأما أحضر: فمن الإحضار، وهو العدو، فكأنه أسرع ثم زاد سرعته؛ ولكن عائشة سبقته في الظلام، فدخلت الحجرة قبل أن يدخلها عليه الصلاة والسلام.
(فأَحْضَر فأحضرتُ، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعتُ، فدخل صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لكِ يا عائش حشيا رابية؟!) رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدر عائشة متهيجاً، يسرع في الارتفاع والانخفاض، والنفس متزايد عندها، فسألها قال: (ما لكِ يا عائش حشياً رابيةً) ما لكِ حشيا، الحشا، وهو: الربو والتهيج الذي يحدث للمسرع في مشيه من ارتفاع النفَس وتواتره، رابية: مرتفعة البطن؛ يعني: هذا الذي يحدث لمن أسرع، أو هرول، أو جرى.
قالت: (قلت: لا شيء يا رسول الله! قال: لَتُخْبِرِنِّي أو لَيُخْبِرَنِّي اللطيف الخبير قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، فأخبرته الخبر، قال: فأنت السواد الذي رأيته أمامي؟ قلت: نعم فلهزني في صدري لهزةً أوجعتني) -واللهز هو: الضرب بجمع الكف في الصدر- (وقال عليه الصلاة والسلام: أظَنَنْتِ أن يحيف عليكِ الله ورسوله؟!) هذه اللهزة الشديدة كانت تأديباً من النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة من سوء الظن.
وذلك أنها أساءت الظن، وخافت أن يكون قد ذهب في ليلتها إلى زوجةٍ أخرى، ولذلك خرجت وراءه، وكانت عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم شديدة الغيرة جداً، فلما رأته خرج من بيتها في ليلتها خشيَت أن سيذهب إلى زوجة أخرى في ليلتها، فلَهَزَها في صدرها لهزةً أوجعتها، وقال: (أظننتِ أن يحيف عليكِ الله ورسوله؟!) أظننت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يظلمك ويذهب في ليلتك إلى امرأة أخرى من زوجاته، وهو أعدل الناس؟! الإنسان إذا كان عند زوجة في ليلة فلا يذهب إلى غيرها، لأن لكل واحدة قسماً.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يفعل ذلك دون أمر من الله، لا يمكن أن يذهب إلى امرأة أخرى في ليلة واحدة، إلا بأمر من الله، قالت عائشة رضي الله عنها: (مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم).
فـ النووي رحمه الله ذكر في شرح الحديث: أنها قالت هذا وقررته: (مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم) يعني: نعم كذلك، أنه مهما كتم الواحد شيئاً فالله يعلمه.
قال: (نعم.
وفي رواية: قال: نعم، فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيتِ فناداني، فأخفاه منكِ، فأجبتُه فأخفيتُه منكِ، ولم يكن ليدخل عليكِ وقد وضعتِ ثيابك، وظننتُ أنكِ قد رقدتِ، فكرهتُ أن أوقظكِ، وخشيتُ أن تستوحشي) -يعني: إذا تركتُ البيت وأنتِ مستيقظة؛ وخرجتُ بقيت في وحشة في الظلمة، فما أحببت أن أوقظكِ لئلا تبقي في وحشة، وظننتُ أنكِ قد نمتِ فخرجتُ.
ماذا قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (إن ربك جلَّ وعز يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت عائشة رضي الله عنها: كيف أقول لهم يا رسول الله لو أنا ذهبتُ؟ فقال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله لَلاحقون).
(14/2)
من فوائد حديث زيارة البقيع
هذا الحديث فيه فوائد متعددة:-
(14/3)
أن نساء النبي أمهات للمؤمنين
فمن ذلك: أن أمهات المؤمنين أمهاتٌ للجميع، وأن احترام أمهات المؤمنين واجب: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب:53] فهن محرماتٌ علينا، والذي يقذف واحدة من أمهات المؤمنين بالفاحشة فهو كافر؛ لأنه مكذب لله تعالى الذي أخبر أن الطيبات للطيبين، والنبي صلى الله عليه وسلم أطيب الطيبين، ولا يمكن أن يجعل الله تحت نبيٍّ امرأةً بغياً.
ولذلك بعض الكفار يقولون: إن عائشة -والعياذ بالله- قد ارتكبت الفاحشة.
ويقولون: إن مهديهم سيخرج آخر الزمان، ويستخرجها من قبرها ويقيم عليها حد الرجم، لعنة الله عليهم آمين.
ولذلك فاحترام أمهات المؤمنين واجب، ومن قذف عائشة بما برأها الله منه فهو كافر؛ لأن الله برأها مما رماها المنافقون به من فوق سبع سموات في سورة النور، فمن قذف عائشة فهو كافر.
(14/4)
حسن معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه
ثانياً: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً لطيفاً حسن العشرة لزوجته:- ولذلك بقي في الفراش حتى ظن أن عائشة قد نامت لئلا تستوحش إذا أيقظها وخرج، أو خرج قبل أن تنام وتركها في الظلمة تستوحش، فبقي حتى ظن أنها قد نامت ثم خرج؛ وهذا من حسن العشرة مع المرأة، وأن من حسن العشرة ألا تترك المرأة وحيدة في الظلمة، ولكن ينبغي على المرأة كذلك ألا تكون جبانةً تخشى من ظلها، وينبغي أن يكون عندها شيءٌ من التحمل خصوصاً عند خروج الزوج لحاجة، كهؤلاء الذين يخرجون في النوبات الليلية في الأعمال، وأنه ينبغي على الزوج أن يجعل من يؤنس وحشة زوجته، أو يجعل في المكان شيئاً من أسباب الأمن مما يكون فيه حماية لزوجته بإذن الله تعالى إذا بقيت في البيت وحدها في الليل.
(14/5)
استحباب إطالة الدعاء عند زيارة القبور
ثالثاً: استحباب إطالة الدعاء:- لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هناك وأطال الدعاء.
رابعاً: استحباب رفع اليدين في الدعاء:- وقد ورد هذا في أكثر من مائة حديث.
خامساً: استحباب زيارة القبور:- وسنأتي على ذلك إن شاء الله.
سادساً: أنه لا بأس من زيارة القبور في الليل.
سابعاً: أن الدعاء في المقبرة واقفاً أفضل من الدعاء فيها جالساً.
(14/6)
العدل بين الزوجات وتأديب الزوجة بالمشروع
ثامناً: وجوب العدل بين الزوجات، وأنه لا يجوز للإنسان أن يذهب في ليلة زوجة إلى زوجة أخرى إلا بإذن صاحبة القسم، أما الطوارئ والأشياء الضرورية فلها حكم آخر، وهذا حكم شرعي من أحكام العدل بين الزوجات.
تاسعاً: مشروعية تأديب الزوجة إذا أساءت الظن بزوجها، أو أساءت العشرة، أو نشزت.
عاشراً: أن تأديب الزوجة لا يكون بما يجرح، ويسيل الدم، أو يكسر العظم، أو يفقأ العين، أو بضرب الوجه، فإن ذلك حرام، وإنما يكون بشيء مؤثر دون أن يكون مؤذياً أو مسبباً لأمرٍ من الأمور المحرمة، ككسر أو جرحٍ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لهزها في صدرها لهزة أوجعتها، ولكن لم تكن قاسية بحيث تكسر مثلاً، أو تُقْعِد.
(14/7)
علم الله تعالى بكل شيء
الحادي عشر: أن الله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى.
(14/8)
السلام المشروع على أهل المقابر
الثاني عشر: أن الدعاء المستحب للإنسان إذا ذهب إلى المقبرة أن يسلم على الموتى بقوله: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منكم ومنا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لَلاحقون، هذا أحد الألفاظ التي تقال عند الذهاب إلى المقبرة.
(14/9)
حرمة المقابر وأحكام ذلك
الثالث عشر: أن الموتى هم أهل المكان وساكنوه، فلا يجوز الاعتداء عليهم، فالميت إذا سبق الحي إلى الأرض فهو ساكنها مثل الأحياء، فلا يجوز لإنسان نبش القبور، ولا إخراج جثث المسلمين، أو يبني في المقبرة بيتاً أو يزرعها مثلاً؛ لأن الميت سبق الحي إلى المكان؛ وهذه حرمة للميت لا يجوز انتهاكها.
فالمقبرة بيوت الأموات؛ وبيوت الأموات لا يجوز انتهاك حرمتها، ولا يجوز إخراجهم منها إلا للأمر الطارئ والضروري كما إذا جاء سيل أخرج العظام عن مكانها، أو صار المكان ليس فيه حرمة مثلاً، فتُنْقَل عند ذلك الجثث والعظام إلى مكان آمن.
ونَبَّاش القبور عند بعض العلماء سارق تقطع يده، وبعض الناس يسرقون الجثث ويبيعونها على كليات الطب في بعض البلدان، فحكم نباش القبور عند بعض العلماء سارق تقطع يده، لأنه سرق من حرز؛ وهو الأرض، فإنها حرز للجثة، واستدل العلماء على ذلك بقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25 - 26].
فالأرض حرز للجثة، فمن سرق الجثة قطعت يده، وهو مرتكب لكبيرة من الكبائر.
وبعض الناس يتساهلون في إخراج جثث الأموات ليبنوا بيوتاً أو للزراعة ونحو ذلك؛ وهذا حرام لا يجوز فعله مطلقاً، وهذا خاص بمقابر المسلمين.
وأما مقابر الكفار فليس لها حرمة، فإذا حصلت حاجة للأرض أُخْرجت جثث الكفار ونُقِلَت إلى أي مكان آخر.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني المسجد النبوي المعروف، أخرج جثث قبور المشركين التي كانت موجودة، فدل ذلك على جواز إخراج جثث الكفار ونقلها للمصلحة.
أما قبور المسلمين لا يجوز العبث بها مطلقاً، ويجب أن تسوَّر المقبرة حتى تكون مصانة عن أيدي العابثين.
ولا يجوز أن تجعل مَجْمَعاً للقمامة أو النفايات.
ويجب أن تصان القبور عن كل شيء يفسدها أو يضر بها، كالمشي فوقها، أو المشي بينها بالنعال، أو القعود عليها، أو جعلها مجمع نفايات، أو مأوى للكلاب الضالة، ونحو ذلك.
كذلك يؤخذ من هذا الحديث: زيارة النساء للقبور:- ولكن عدداً من العلماء ذهب إلى تحريم ذلك؛ لحديث: (لعن الله زوَّارات القبور.
وفي رواية: لعن الله زائرات القبور) وقالوا: إن أحاديث الإذن منسوخة، الأحاديث التي يؤخذ منها ذهاب النساء إلى المقابر منسوخة، والمسألة فيها كلام طويل.
وذهب إلى تحريم زيارة القبور للنساء شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لأن المرأة قليلة الصبر شديدة الجزع، ولا يؤمن من ذهابها إلى المقبرة حصول شيء من النياحة أو المحرمات.
كما أن عموم ما يحدث منهن من التبرج لا يشجع مطلقاً على القول بزيارة القبور للنساء.
لكن المرأة إذا مرت بمقبرة دون أن تدخلها كأن تكون ماشية في الشارع مثلاً، أو في سيارة، فإنها تسلم على الموتى بهذا الدعاء، لكن لا تأتي المقبرة وتدخل فيها.
(14/10)
الإيمان بالغيب
كذلك في هذا الحديث: الإيمان بالغيب، والملائكة، وجبريل عليه السلام:- وكيف جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلَّمه دون علم عائشة مع أنها كانت مستيقظة.
(14/11)
أحكام زيارة المقابر
أما بالنسبة لموضوعنا الموضوع الأساسي وهو مسألة زيارة المقابر، فإن زيارة القبور مشروعة للاتعاظ وتذكر الآخرة، شريطة ألا يقول عندها ما يغضب الرب، وكثيراً ما يقع إغضاب الرب، بل الشرك بالله في المقابر، كدعاء المقبورين، والاستغاثة بالموتى من دون الله، كهذه الأضرحة والقباب المبنية على القبور، والخرق المعقودة بشبابيك القبور، والأموال، وحلق الرأس عند القبر، والطواف بالقبر، وغير ذلك، وتقبيل الأعتاب؛ وغيرها من مظاهر الشرك بالله، ونداء الموتى.
أما الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة ولا أمر محرم فإنها للرجال عبادة وقربة إلى الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم بالآخرة، ولتزدكم زيارتها خيراً، فمن أراد أن يزور فلْيَزُر، ولا تقولوا هجْراً) لا تقولوا هجْراً: لا تقولوا شيئاً محرماً، والهجْر: الكلام الباطل، وكان من عادة أهل الجاهلية أن يتكلموا بكلام الجاهلية عند القبور، وربما ندب بعضهم فقال: وافلاناه! ونحو ذلك.
نُدِبْنا لزيارة القبور لأن فيها موعظة، وقال عليه الصلاة والسلام: (إني نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإن فيها عبرة) وهذه العبرة هي تذكر الموت، تذكر الآخرة.
وفي رواية: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تُرِقُّ القلب، وتُدْمِع العين، وتذكِّر الآخرة، ولا تقولوا هُجْراً) ومعنى: تُرِقُّ القلب أي: تزيل قسوته.
(14/12)
زيارة المقابر خاصة بالرجال ويزار الكافر للاتعاظ
وكذلك فإن زيارة القبور كما قلنا: خاصة بالرجال على الراجح؛ لحديث: (لعن الله زوَّارات القبور) والأحاديث التي فيها قد يُفهم من ظاهرها جواز زيارة النساء للقبور منسوخة بأحاديث النهي، ولم يُستثنَ إلا الرجال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) أي: يا أيها الرجال، أما النساء: (لعن الله زائرات القبور، أو لعن الله زوَّارات القبور) وهذا يدل على التحريم ولا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن على شيء مباح أو مكروه، ولا يكون اللعن إلا على شيء محرم.
ولكن كما قلنا: لو مرت بجانب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهي خارجة من باب الحرم، أو داخلة باب الحرم، أو مرت بمقبرة من غير قصد زيارتها فلتسلم عليها بما سبق.
هذا ويجوز زيارة قبر من مات على غير الإسلام للعبرة فقط، وقد جاء في هذا أحاديث: منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت).
وفي رواية: عن بريدة رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب ففداه بالأب والأم، يقول: يا رسول الله! ما لَكَ؟ قال: إني سألت ربي عزوجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، واستأذنتُ ربي في زيارتها فأَذن لي، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولْتَزِدْكم زيارتها خيراً) ففي هذا الحديث جواز زيارة المشركين في الحياة، وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنها إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى.
وفي الحديث النهي عن الاستغفار للكفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له بالاستغفار لأمه؛ لأنها ماتت على الشرك.
والعرب كان عندهم دين إبراهيم، وعرفوه، وأقيمت عليهم الحجة به، وإسماعيل كان من الأنبياء في العرب.
وأبو النبي صلى الله عليه وسلم وأمه ماتا على الشرك، وكذلك عمَّاه وجده، ماتوا على الشرك، والله عزوجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
إذاً: لا يجوز الاستغفار للكافر، والآية نزلت في وفاة أبي طالب على الشرك.
وكذلك فإن القصد من زيارة القبور شيئان: الأمر الأول: انتفاع الزائر.
والثاني: انتفاع المزور.
انتفاع الزائر: بذكر الموت والموتى والمآل بعد الموت.
انتفاع المزور: بالدعاء له، والاستغفار له، والإحسان إليه في هذه الزيارة.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع فيدعو لهم، فسألته عائشة عن ذلك فقال: (إني أمرت أن أدعو لهم).
وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لَلاحقون، أنتم لنا فَرَط -يعني: سبقتمونا- ونحن لكم تَبَع -نأتي على إثركم- أسأل الله لنا ولكم العافية) فهذا دعاء آخر.
وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أوَلَسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعدُ) الحديث.
(14/13)
قراءة القرآن في المقابر
أما قراءة القرآن عند زيارة المقبرة والفاتحة: فمما لا أصل له في السنة أبداً، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أنه قرأ القرآن في المقبرة للموتى، ولا أنه قرأ الفاتحة وأهداها للموتى مطلقاً، ومن أبى فعليه الدليل، وليأتِ بعلم إن كان صادقاً: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143] {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4] ولما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم عائشة السلام والدعاء، لم يعلمها أن تقرأ الفاتحة أو غيرها من القرآن.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يُقرأ فيه سورة البقرة) فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن القبور ليست موضعاً لقراءة القرآن شرعاً، ولذلك قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) اقرءوا فيها سورة البقرة، ما معنى الكلام هذا؟ الآن المقابر ما فيها قراءة قرآن، (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يُقرأ فيه سورة البقرة) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً) لأن المقابر لا يجوز الصلاة فيها، إلا صلاة الجنازة لمن فاتته صلاة الجنازة، يجعل القبر بينه وبين القبلة ويصلي الجنازة على القبر فقط، أما صلاة أخرى في المقبرة فلا تجوز.
وكان مذهب جمهور السلف كـ أبي حنيفة، ومالك، وغيرهما، كراهة القراءة عند القبور.
قال أبو داود رحمه الله: سمعت أحمد سئل عن القراءة عند القبر، فقال: لا، لا توجد قراءة عند القبر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: ولا يُحْفَظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لأن ذلك كان عنده بدعة.
وقال مالك -الذي مذهبه مالكي يسمع كلام مالك -: [ما علمتُ أحداً يفعل ذلك] يعني: يقرأ القرآن في المقبرة.
فعُلِم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاختيارات العلمية: والقراءة على الميت بعد موته بدعة.
وجاء في بعض الآثار عن الصحابة قراءة يس على المحتضر وليس على الميت، وليس ذلك حديثاً مرفوعاً، أما الميت فلا يُقرأ عنده؛ لا يس ولا غير يس؛ لا قبل الدفن ولا بعد الدفن، فلا يُقرأ عنده شيء البته.
وكذلك فإن الإنسان إذا جاء يدعو في المقبرة يرفع يديه في الدعاء لأجل الحديث الذي مر معنا.
(14/14)
استقبال القبلة في الدعاء لا القبر
نقطة مهمة: إذا جئت تدعو في المقبرة فاستقبل القبلة لا القبر، والدعاء عبادة، ويجب أن يُفْعَل وفق الطريقة الشرعية.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا أصل مستمر؛ أنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يُستحب أن يصلي إليه، ألا ترى أن الرجل لما نُهي عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها فإنه يُنهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء، ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح سواءً كانت في المشرق أو غيره، وهذا ضلال بيِّن، وشر واضح.
كما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض الصالحين، وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله، وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى.
فإذاً: لا يستلم القبر بيده، ولا يقبِّله، ولا يستقبله في الدعاء، بل يستقبل القبلة، فهو إذا قصد السلام على ميت جاءه فسلم عليه من قِبَل وجهه، وإذا أراد التحول للدعاء فإنه يقصد الكعبة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: ومذهب الأئمة الأربعة مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة؛ لأنك إذا جئت إلى المسجد النبوي وأردت أن تسلم على قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فإنك تستقبل القبر لأجل السلام، فتقف أمام القبر وتقول: السلام عليك يا رسول الله، وعندئذٍ يكون ظهرك إلى القبلة، إذا أردت أن تدعو فعليك أن تستدير وتستقبل القبلة لا القبر، ولذلك ترى بعض هؤلاء المغفلين، أو بعض الجهلة، أو بعض الصوفيين المتعمدين الأفاكين؛ يستقبلون القبر ويستدبرون الكعبة، ويدعو إلى القبر تاركاً الكعبة وراءه.
قال شيخ الإسلام: فقال الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه.
وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام كما لا يستقبلها وقت الدعاء.
فـ أبو حنيفة حتى السلام عنده يستقبل فيه القبلة، وهؤلاء يقولون: مذهبهم حنفي.
فالدعاء لم يتنازع الأئمة الأربعة في أنه يستقبل فيه القبلة لا الحجرة، لكن في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة الثلاثة قالوا: يستقبل الحجرة، وأبو حنيفة قال: الكعبة، فمذهبه فيه قولان: قيل: يستدبر الحجرة.
وقيل: يجعلها عن يساره عند السلام.
(14/15)
قبر الكافر يزار ولا يدعى له
وأما بالنسبة لزيارة قبر الكافر فإنه لا يسلم عليه، ولا يدعو له، بل يبشره بالنار، كما جاء الدليل في حديث سعد بن أبي وقاص، قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي كان يصل الرحم، وكان، وكان، فأين هو؟ قال: في النار، فكأن الأعرابي وَجَدَ من ذلك، فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ فقال في رواية قال: أبي وأبوك في النار.
في هذه الرواية قال: حيث ما مررت بقبر كافرٍ فبشره بالنار، قال: فأسلم الأعرابي بعدُ، فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً؛ ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار) رواه ابن ماجة والطبراني وغيرهم.
(14/16)
الانتعال في المقبرة
ولا يجوز للإنسان أن يمشي بين قبور المسلمين بنعليه، لحديث بشير بن الخصاصية قال: (بينما أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على قبور المسلمين، فبينما هو يمشي إذ حانت منه نظرة، فإذا هو برجل يمشي بين القبور عليه نعلان -بين القبور- فقال: يا صاحب السبتيتين، ألْقِ سبتيتيك، فنظر، فلما عرف الرجلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه فرمى بهما) والسبتيتان: نوع من النعال.
المقابر اليوم مثل المقبرة التي عندنا هنا فيها شوارع عريضة بين القبور فلا بأس أن تمشي فيها بالنعال؛ لأن الشارع ليس فيه قبور، لكن إذا ذهبت يميناً أو شمالاً فينبغي أن تخلع نعليك إذا أردت أن تمشي بين القبور، ولا تمشي بالنعال، كل هذا من احترام الإسلام للميت، وقد ثبت أن الإمام أحمد رحمه الله كان يعمل بهذا الحديث، فقال أبو داود في مسائله: رأيت أحمد إذا تبع الجنازة فقرُب من المقابر خلع نعليه.
(14/17)
وضع غصن رطب على القبر
هل يُشرع وضع جريد نخل، أو غصن شجرة رطب على القبر؟ لا يجوز ذلك، فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وضعه، فنقول: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعل ذلك في كل زيارة مقبرة وإنها هي حالة نُقِلَت وضعه فيها لسبب، قال: أرجو أن يُخَفَّف عنهما ما لم ييبسا؛ وهذه مسألة غيبية لا نعلمها، أي: لا نعلم هل يُخَفَّف أو لا يُخَفَّف، ولذلك فإن هذه المسألة غيبية، خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أن الصحابة ما فعلوها ولا السلف، وبعض الناس في بعض البلدان يضعون الأغصان الخضراء، وبعضهم يزرعون أشجاراً عند المقبرة، وهذه كمقابر النصارى خضراء كأنها غابة أو حدائق وجنات، فهي لا تيبس وهم في النار، وهذا يدل على أن حديث: (يُخَفَّف عنهما ما لم ييبسا) خاص بالحالة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فهناك مقابر كفار فيها أشجار خضراء طيلة العام ولا يغني عنهم ذلك شيئاً.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببتُ بشفاعتي أن يُرَدَّ عنهما ما دام الغصنان رطبين).
فالسبب للتخفيف هو الشفاعة لا وضع الغصن لما سبق في الحديث، لو كان السبب رطوبة الغصن لكانت هذه الأشجار الخضراء الغناء الموجودة في مقابر الكفار نفعت؛ لكن القضية بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
فالسر ليس في النداوة والرطوبة، ليست هي السبب في تخفيف العذاب؛ وإنما بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه.
فتأمل الآن ما يفعله بعض المسلمين من الذهاب إلى المقابر ووضع أكاليل الزهور والرياحين ونحو ذلك على قبورهم أو قبور الآخرين، أو الجندي المجهول، أو الجندي المعلوم، أو الكلام الفارغ الذي يفعلونه تقليداً للنصارى؛ وهذا حرام ولا شك، فوضع الرياحين والورود وأكاليل الزهور على القبور بدعة ضلالة، وتقليد للكفار، ولا يجوز لمسلم أن يفعله.
هذه بعض الفوائد المأخوذة من حديث عائشة مع شيء من التوضيح في مسألة زيارة المقابر.
نسأل الله أن يتغمدنا برحمته.
(14/18)
الأسئلة
(14/19)
لا تسن الاستراحة بعد سجود التلاوة في الصلاة
يقول
السؤال
هل توجد جلسة استراحة بعد سجود التلاوة في الصلاة؟
الجواب
لا.
جلسة الاستراحة تكون في الانتقال من الركعة الأولى إلى الثانية ومن الثالثة إلى الرابعة، أما بعد سجود التلاوة فلا.
(14/20)
تحديد ليلة لزيارة القبور
السؤال
أهل بعض البلدان لهم ليلة للدعاء عند القبور، ويستدلون بحديث عائشة في زيارة البقيع، فما الحكم؟
الجواب
تعيين ليلة معينة لزيارة القبور بدعة، بل يزور في أي وقت تيسر، وإذا كانت المقبرة لا تفتح إلا يوم الجمعة، فليزرها يوم الجمعة لا لأجل يوم الجمعة تحديداً، بل لأنه لا يتيسر ذلك إلا يوم الجمعة فقط، أما أن يحدد ليلة معينة يزور فيها القبر ويعتقد أن لهذه الليلة خاصية في الزيارة؛ فهذا حرام، وبعضهم يقول: الزيارة يوم العيد، يعيد على الأحياء وعلى الأموات؛ وهذه أيضاً من البدع، زيارة القبور في أي وقت، وليس هناك وقت محدد؛ لا لجمعة ولا العيد.
(14/21)
الإحرام من بلد الحاج
السؤال
هل يجوز أن أغتسل في بيتي وألبس الإحرام ثم أذهب إلى الميقات؟
الجواب
نعم، يمكن ذلك.
(14/22)
قيام العشر من رمضان كاملة
السؤال
بعض البلدان يصلون آخر العشر من رمضان كلها من بعد العشاء مباشرة لوجود أعمال وأشغال.
فما الحكم؟
الجواب
لا بأس، لكن قد لا يكون هناك راحة، والناس قد لا يستطيعون مواصلة ساعتين قياماً، فالأفضل أن تجعل قسمين، لأجل أن يصيب في النصف الأخير من الليل الثلث الأخير من الليل.
(14/23)
حكم الكفارة إذا تعددت الأيمان
السؤال
رجل حلف أيماناً متعددة في وقت واحد على شيء واحد، فهل تكرر الكفارة؟
الجواب
الكفارة واحدة.
(14/24)
التبرع بالأعضاء بعد الموت
السؤال
هل يجوز التبرع بالأعضاء بعد الموت؟
الجواب
نعم، بشروط ذكرها العلماء في الفتاوى المعاصرة.
(14/25)
فضيلة القبر في البقيع
السؤال
هل ثبتت سنة في فضيلة القبر بمقبرة بقيع الغرقد؟
الجواب
النبي صلى الله عليه سلم دعا لأهل بقيع الغرقد، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استطاع منكم أن يموت بـ المدينة فليفعل) فهذا يدل على أن الموت فيها له فضل، والبقيع مقبرة أهل المدينة إلى الآن.
(14/26)
تغميض الينين في الصلاة
السؤال
هل يجوز تغميض العين في الصلاة؟
الجواب
يجوز إذا لم يخشع إلا بذلك، أما إذا كان يخشع بغيره فالسنة النظر إلى موضع السجود، وإلى السبابة في التشهد، أما إغماض العينين دون سبب فلا، وقيل: إنه من فعل اليهود، لكن إذا كان هناك زخارف، أو لا يخشع إلا بذلك فلا بأس.
(14/27)
الشحناء بين الزوجين ورفع الأعمال
السؤال
( تُرفع الأعمال يوم الإثنين والخميس) فهل يدخل في ذلك شحناء الزوج على زوجته؟
الجواب
إذا كان بحق فلا يدخل، وأما إذا كانا يتشاحنان بغير حق فهما من ضمن المتشاحنين.
(14/28)
حكم من كان يفطر ولا يدري
السؤال
تعمَّد الإفطار في وقت الصِّغَر ولا يذكر إذا كان مكلفاً آنذاك أم لا، فهل عليه القضاء؟
الجواب
يعمل بغلبة الظن، إذا كان مكلفاً فعليه القضاء.
(14/29)
من نوى السفر لعمرة فالإحرام من الميقات
السؤال
أنوي الذهاب إلى جدة لغرض العمل حوالي خمسة أشهر، وأنوي عمل عمرة متى ما تيسر، فكيف الإحرام؟
الجواب
ما دام سيسافر بنية العمرة فالإحرام من الميقات.
(14/30)
هيئة القبر الإسلامي
السؤال
اذكر لنا هيئة القبر الإسلامي؟
الجواب
أن يُجْعَل مُسَنَّماً مرتفعاً عن الأرض بمقدار شبر، ولا يزاد على ذلك، ولا تجوز الكتابة عليه، ولا تجصيصه، ولا البناء عليه، ولا وضع الأنوار عليه.
(14/31)
هجر الزوجة
السؤال
ما صفة هجر الزوجة؟
الجواب
تُهجر الزوجة بالكلام، وتُهجر في الفراش، ويهجرها في البيت حتى تستجيب.
(14/32)
العقيقة عمن ولد ميتاً
السؤال
هل للذي يولد ميتاً عقيقة؟
الجواب
إذا نُفِخ فيه الروح ومات بعد ذلك فيعق عنه.
(14/33)
التوبة من بدع القبور
السؤال
قبل الالتزام بالدين ذهبت إلى السيد البدوي وضريح آخر، وفعلتْ ما يفعله الآخرون من الدعاء والطواف، والنذور بالنجاح وبالزواج، والآن عرفت والحمد لله أن كل هذا حرام، فماذا يلزمني؟
الجواب
يلزم التوبة من هذا الشرك العظيم، وتحقيق التوحيد، والقراءة في كتب التوحيد، والتحذير من الشرك، ونصيحة الآخرين.
(14/34)
حكم نقل القبر
السؤال
ما حكم نقل القبر من مكان إلى آخر؟
الجواب
لا يجوز نقل القبر من مكان إلى آخر إلا إذا وجدت حاجة للنقل، مثل: أن يصبح بمنطقة ليس فيها حرمة للمقابر، أو يخشى عليه، كمنطقة سيول، أو منطقة سرق، فعند ذلك ينقل، وإلا فلا يجوز أن ينقل.
(14/35)
لم يُصلِّ النبي عند القبر
السؤال
فهمتُ من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام عند المقابر، هل يعني هذا أنه صلى؟
الجواب
لا، قام أي: قام على رجليه يدعو.
(14/36)
حكم خروج المرأة متعطرة ولا تمر على الرجال
السؤال
زوجتي تخرج متعطرة إلى بيت أهلها، وأنا أقوم بتقريب السيارة حين خروجها ونزولها، وكذلك بيت بعض الأقرباء دون مرورها على الرجال، فهل في ذلك بأس؟
الجواب
إذا كنت تضمن ألا تمر على الرجال فلا بأس، لكن كيف تضمن؟!
(14/37)
زيارة القبر النبوي الشريف
السؤال
إذا ذهبت إلى المدينة المنورة لأزور قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز ذلك؟
الجواب
لا يجوز أن ينوي بالسفر زيارة القبر، لكن ينوي بالسفر الصلاة في المسجد، فإذا صار هناك زار القبر.
(14/38)
الزيادة في رفع القبر ذريعة للشرك
السؤال
كم يكون رفع القبور؟
الجواب
السنة أن تكون شبراً فقط، ورفعها زيادةً على ذلك ذريعةٌ للشرك.
(14/39)
وضع النقود عند القبر
السؤال
في البلد وعلى الطريق قبر، ولا يستطيع أن يتجاوزه إلا بعد السلام عليه، والدعاء عنده، وإعطاء بعض النقود تحت إلحاح العائلة والزوجة.
الجواب
يقف ليدعو أما أن ينزل إليه ويدفع النقود فلا، فإعطاء النقود ووضعها عند القبر بدعة؛ وهذه النقود هي نقود ليس لها صاحب، بمعنى: لو جاء واحد وأخذها فهي حلال له، لا هي للقبر، ولا لها حرمة، ولا شيء.
(14/40)
جمع حلي المرأة وبناتها لأجل الزكاة
السؤال
عندي بنات وزوجة ولديهن ذهب لا يكمل النصاب إلا إذا جمعته.
الجواب
ليس فيه زكاة، ولا يجب جمعه.
(14/41)
معنى الحيوان في آية العنكبوت
السؤال
{ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] ما معنى الحيوان؟
الجواب
معناه: الحياة الحقيقية المستمرة المستقرة الدائمة.
(14/42)
التوجه في سجود التلاوة
السؤال
إلى أين يتوجه في سجود التلاوة؟
الجواب
في سجود التلاوة يتوجه إلى القبلة.
(14/43)
حكم اتباع مذهب فقهي
السؤال
هل المسلم ملزم باتباع مذهب من المذاهب الأربعة؟
الجواب
لا، إذا كان عامياً فمذهبه مذهب مفتيه، وإذا كان طالب علم فيبحث عن القول الراجح بدليله، ولا حرج من تقليد أحد الأئمة بشرط: أن يَتْبَع الحق إذا عرف أن الحق في غير المذهب.
(14/44)
التراجع عن التعليق في الطلاق
السؤال
رجل جعل على امرأته الطلاق إذا سافرت إلى جدة وإلى أهلها، وبعد مرور مدة غير رأيه.
الجواب
تغيير الرأي لا ينفع، ولا يخرجه من الموضوع بسلام، إذا قصد الطلاق وقع الطلاق لو ذهبت، وإذا قصد اليمين فعليه كفارة يمين لو ذهبت.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(14/45)
قصة مسجد أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه
فضائل أبي بكر لا تحصى، عرفها من عرفها وجهلها من جهل، فإنه كان صاحب فضل وخير على الناس في الجاهلية والإسلام، ولا أعظم من أن يكون أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذا استبقاه للهجرة معه، وفي هذه المحاضرة شرح لحديث الهجرة، ومنه يتبين فضل أبي بكر، وتوضيح لقصة بنائه لمسجده الذي جعل كفار قريش يفزعون منه، ويخشون على نسائهم وأطفالهم من أن يدخلوا في دينه.
(15/1)
سياق حديث الهجرة وشرحه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذا الدرس سيكون عن قصة مسجد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفيَ النهار بكرةً وعشية).
وأبوها أبو بكر وأمها أم رومان رضي الله تعالى عنهما؛ ومعنى: يدينان الدين تعني: يدينان بدين الإسلام، فهي منذ أن وعت في هذه الدنيا وعرفت أبويها؛ عرفتهما مسلمَين.
وعائشة رضي الله عنها تقول: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفَي النهار بكرة وعشية، فلما ابتُلي المسلمون) يعني: بأذى المشركين من كفار قريش وحاصروهم في الشعب، وآذوا المسلمين بالضرب والسجن والقتل والنفي (خرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة) أي: ليلحق بمن سبقه من المسلمين إلى الحبشة، وهؤلاء المسلمون المهاجرون إلى الحبشة ساروا أولاً إلى جدة، وهي ساحل مكة ليركبوا منها البحر إلى الحبشة، بعدما أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم.
(فخرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغَماد) وبَرْك الغَماد: موضع على خمس ليالٍ من مكة إلى جهة اليمن.
فلما ابتعد أبو بكر من مكة مسيرة خمس ليالٍ وبلغ هذا الموقع، وهو بَرْك الغَماد (لقيه ابن الدَّغِنَة، وهو سيد القارَة) من هو ابن الدَّغِنَة هذا؟ هو رجلٌ مشركٌ كافرٌ يُنسب إلى أمه، وقيل: إلى أم أبيه، والدَّغِنَة معناها في اللغة: المسترخيه، وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، ابن الدَّغِنَة هذا هو سيد القارَة؛ والقارَة قبيلة مشهورة من خزيمة بن مدركة بن إلياس، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكان يُضرب بهم المثل في قوة الرمي، ولذلك يقول الشاعر:
قد أنصف القارَة من رماها
فـ أبو بكر لقي ابن الدَّغِنَة في هذا الموضع بعدما خرج من مكة يريد الهجرة إلى الحبشة.
(فـ ابن الدَّغِنَة قال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي) أخرجني قومي أي: تسببوا في إخراجي من بلدي مكة، وأنا أريد أن أذهب متوجهاً إلى الحبشة.
والسياحة في اللغة: أن لا يقصد الإنسان موضعاً بعينه ليستقر فيه، فهو في سياحة يسافر ويرحل بدون قصد موضع معين للإقامة، هذه هي السياحة في اللغة.
فيقول أبو بكر: (فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدَّغِنَة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج؛ فإنك تكسب المعدوم.
وفي رواية: المعدَم، وتصل الرحم، وتحمل الكلَّ -ومعنى الكل: العاجز الفقير الذي يحتاج من يعوله- وتقري الضيف -يعني: تكرم الضيف- وتعين على نوائب الحق) وهذه الصفات مثل الصفات التي وَصَفَت بها خديجة النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذا الرجل المشرك يثني على أبي بكر الصِّدِّيق بأنه يعين في النائبات، وأنه كريم، وأنه يساعد ويغيث الملهوف.
يقول: (وأنا لك جارٌ -أي أجيرك وأمنعك ممن يؤذيك- فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدَّغِنَة ورجع مع أبي بكر فطاف في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يُكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدَّغِنَة) فلم تكذب قريش جوار ابن الدَّغِنَة، وأقرت بجواره، وقبلت شفاعته؛ لأن ابن الدَّغِنَة كان سيداً في قومه, وكان له مكانة عند قريش، ولذلك قبلوا شفاعته في أبي بكر، وكفوا عن أبي بكر الأذى.
قالت عائشة: (وآمنوا أبا بكر، وقالوا لـ ابن الدَّغِنَة: مُرْ أبا بكر فليعبُد ربه في داره، فليصلِّ وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به) أي: ليس عندنا مانع أن نبقي أبا بكر؛ بشرط أن يخفي دينه في بيته ولا يظهره، ولا يتكلم بشيء من دينه جهراً (فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدَّغِنَة لـ أبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره فترة، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير ذلك، ثم بدا لـ أبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقَصَّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ يعجبون منه، وينظرون إليه، وفي رواية: فيتقذَّف إليه) ومعنى ذلك: أنهم يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فينكسر، ومعنى يتقصفون: يجتمعون اجتماعاً عظيماً حتى إنهم يتساقطون من الزحام والرغبة في السماع، قالت عائشة: (وكان أبو بكر رجلاً بكَّاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين) وذلك لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب من أولادهم، وقد يميلون إلى دين الإسلام (فأرسلوا إلى ابن الدَّغِنَة، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فائته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فَعَلَ، وإن أبى إلا أن يُعلن ذلك فسَلْه أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك).
أي: إذا رضي أن يعود إلى داخل الدار فله ذلك، وإذا رفض وأصر على الجهر بدينه فاطلب منه أن يرد الأمان الذي أعطيناه بسببك.
(فإنا كرهنا أن نخفرك) أي: نحن لا نريد أن نغدر وقد أعطيناه الأمان بسببك، لا نريد أن نغدر به ونخفر الذمة، فاطلب من أبي بكر أن يرد إليك الجوار إذا كان يريد أن يستمر على هذا الإعلان.
() فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لـ أبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدَّغِنَة أبا بكر فقال: قد علمتَ الذي عقدتُ لك عليه -أي: الشرط بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفرت في رجلٍ عقدتُ له) أي: لا أحب أن يكون صيتي بين العرب وسمعتي أنني أعطيت إنساناً جواراً ثم إن هذا الإنسان غُدِر به، وأن جواري لا قيمة له، فإنني أكره ذلك، فماذا كان جواب الصِّدِّيق رضي الله عنه؟ قال أبو بكر: (إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بـ مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أُرِيت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخلٍ بين لابَتين) أي: أرض مالحة لا تكاد تنبت، وبين لابتين: هما الحرتان، فهاجر مَن هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة بعض مَن كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك! فإني أرجو أن يؤذن لي، قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر أربعة أشهر).
هذه رواية مختصرة لحديث الهجرة ساقها الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الحوالة من صحيحه، وهو قد ساق هذا الحديث في عدد من الأبواب من صحيحه، ومنها ما هو في المناقب.
وهكذا كان من شأن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.
(15/2)
الفوائد المستفادة من حديث الهجرة
هذه القصة فيها عدد من الفوائد:
(15/3)
جواز النزول في جوار المشرك ما لم يكن ذلاً
أولاً: فمن المسائل الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع: أن الإنسان المسلم يجوز له أن ينزل في جوار مشرك إذا لم يترتب على ذلك محظور شرعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر رضي الله تعالى عنه نزوله في جوار هذا المشرك، ولأن دخول الصِّدِّيق رضي الله عنه في حماية هذا الرجل الكافر لم ينبنِ عليه وقوع معصية من أبي بكر، أو وقوع شرك، أو تنازل عن شيء من الدين، وإنما كان ذلك حماية مجانية من ابن الدَّغِنَة، ولم يكن فيها كذلك ذلٌ للصديق رضي الله عنه، ولذلك فإن القبول بمثل هذا في هذه الحالة جائز، بخلاف ما لو ترتب على دخول المسلم في أمان مشرك أو جوار مشرك أن يتنازل عن شيء من دينه؛ كأن لا يقيم شيئاً من الدين، أو ترتب عليه وقوع في معاصٍ، أو ذل، أو أنه يعطي الدنية في دينه.
(15/4)
جواز بناء المسجد في مباح لا يضر بالناس
ثانياً: وكذلك من فوائد هذا الحديث الفقهية ما عنون البخاري رحمه الله عليه في كتاب الصلاة، باب: المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس.
فيجوز للإنسان أن يبني مسجداً في مِلكه، ويجوز أن يبني مسجداً في منطقة مباحة بحيث لا يضر بأحد، وأما بناؤه في مِلك الغير فهو ممنوع بالإجماع.
فإذاً: المسجد يمكن للإنسان أن يبنيه في ثلاثة أماكن: يبنيه في مِلكه.
الثاني: أن يبنيه في مِلك غيره.
الثالث: أن يبنيه في مكان ليس لأحد.
فأما بالنسبة لبنائه في ملكه فهذا جائز بالإجماع.
وأن يبنيه في ملك غيره فهذا ممتنع بالإجماع.
وأن يبنيه في مكان مباح ليس لأحد، هذا جائز إذا لم يكن فيه ضرر على أحد.
وأبو بكر رضي الله عنه قد بنى المسجد بفناء داره، فهو مِلكه يفعل فيه ما يشاء.
ويجوز للإنسان إذا كان عنده بيت كبير أن يبنى مسجداً في جانب منه ويجعل له باباً إلى الخارج ليدخل إليه الناس؛ وهذا لا بأس به ولا حرج، وقد فعله الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.
(15/5)
جواز الأخذ بالشدة في الدِّين
ثالثاً ومن الفوائد الأخرى في هذا الحديث: جواز الأخذ بالشدة في الدين: فإنه كان يجوز لـ أبي بكر الصِّدِّيق في هذا الوضع أن يبقى في حماية ابن الدَّغِنَة، ويعبد ربه في داره، ولكنه أخذ بالشدة، وأخذ بالأمر الشاق، ورد جوار المشرك، وقبل أن يتحمل الأذى، وقال له: (أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله) فهذا دال على قوة يقين أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وعلى الأخذ بالأشد في الدين، وأن عنده قدرة على التحمل، ولذلك رد جوار المشرك، ورضي أن يتعرض للأذى في مقابل أن يعلن دينه.
(15/6)
أهمية التزام الأبوين لبناء شخصية الطفل
رابعاً: أهمية نشوء الطفل في أول أمره بين أبويَن مسلمَين في بيت مسلم، وأن هذه النشأة لها أثر بالغ عليه في المستقبل: فـ عائشة رضي الله عنها من أعقل النساء، وأفضل النساء، وأعلم النساء، بل هي أعلم نساء المؤمنين على الإطلاق.
ومن أسباب ذلك: أنها نشأت في أول أمرها بين أبوَين صالحَين، لم يضع من عمر عائشة فترة من الزمن وهي في جاهلية أو شرك أو جهل، أو كفر أو فسق، تقول: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين) ولذلك كلما كان التزام الأبوين بالدين مبكراً كان ذلك في صالح الولد أكثر.
وأي تأخر في التزام الأب أو التزام الأم بالدين؛ إنما يكون على حساب الولد؛ لأنه سيضيع فترة من عمر الولد بدون اهتمام أو تعليم؛ لأن الأب جاهل أو بعيد عن الدين، وكذلك الأم.
فلا شك أن الولد
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوَّده أبوهُ
فكلما كان التبكير بالأخذ بالدين والالتزام به، كلما كان ذلك في منفعة الولد ومصلحته.
(15/7)
شدة علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالصديق
خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وثيق الصلة بـ أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه: وكان يشاوره في أمور الدعوة ولا شك، ولذلك كان لا بد أن يمر على الصِّدِّيق يومياً: (ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرَفي النهار بكرة وعشية) وهذا يدل على منزلة الصِّدِّيق من النبي عليه الصلاة والسلام، فهو وزيره الأول.
(15/8)
الهجرة بالدين
وسادساً: أن الإنسان إذا لم يستطع أن يظهر شعائر الدين في بلده فإنه يُشرع له أن ينتقل إلى بلد آخر.
فلما ابتلي المؤمنون خرج الصِّدِّيق مهاجراً، وانتقال الإنسان من بلد إلى بلد آخر لإقامة الدين أمر مهم، بل يجب على المرء إذا لم يستطع أن يقيم شعائر الدين في بلده ما لم تكن في البقاء مصلحة أكبر من مصلحة الهجرة، وأن سلامة الدين أهم من سلامة المال، أو البقاء في البلد، أو الديار، أو الأهل، أو الوطن، وأن الغربة في سبيل الله مطلوبة، ولذلك رضي بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهاجر قسم كبير منهم؛ لأجل أنهم لم يكونوا يستطيعون إقامة شعائر الدين في مكة.
(15/9)
أهمية السمعة الطيبة للمسلم
وسابعاً: مكانة وأهمية سمعة الإنسان المسلم بين الناس: فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه لا نفاقاً ولا رياءً، وإنما هذا من طبعه رضي الله عنه أنه كان كريماً صاحب معروف، يعطي المعدوم، يصل الرحم، يقري الضيف، يعين العاجز الفقير في النوائب، وهذه الأعمال الخيرية التي كانت في الصِّدِّيق كان لها انتشار بين الناس حتى عُرِف بها الصِّدِّيق، ولذلك لما رأى ابن الدَّغِنَة الصِّدِّيق خرج من مكة قال: (إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج) أي: لا يمكن أن مثل هذا يَخرج أو يُخرج إنسان هذه صفاته، وذكر لهم صفات الصِّدِّيق.
فسمعة الإنسان المسلم بأعمال الخير التي يعملها تكون سبباً في نجاته بإذن الله، وييسر الله له من الناس، ولو من الكفرة والمشركين مَن يحميه أو يدافع عنه بسبب أعماله الخيرية، فيجب أن يحرص المسلم على أن يكون له باعٌ في عمل الخير، لا من أجل أن يحمي نفسه، أو من أجل أن يكون له شافع من الناس، أو جار يجيره، ولكن ذلك من طبيعة هذا الدين، والله تعالى يوصلها إلى الخلق، ويصبح هذا الشخص صاحب سمعة طيبة بين الناس، وعمل الخير ينفع صاحبه دائماً، وفي أوقات الشدة يكون هذا العمل من الأشياء التي تعين الإنسان على إقامة دينه.
(15/10)
نصر الله الدين بالرجل الفاجر
ثامناً: أن الله تعالى قد يقيض من الكفار من يحمي المسلم: إن من الغرائب أن يوجد كافر يحمي مسلماً؛ لكن الله عز وجل يقيض لبعض المسلمين مَن يحميه من الكفار، كما حصل من جوار ابن الدَّغِنَة لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
(15/11)
أهمية إعلان الدعوة
الفائدة التاسعة: خطورة وأهمية إعلان الدين والصدع بالحق: وأن إعلاء كلمة الدين والوصول بها إلى المنابر، وإلى الأماكن التي تنفُذ من خلالها إلى الناس أمرٌ في غاية الأهمية, وأن تلك الوظيفة الإعلامية المهمة في نقل الدين إلى الناس لها شأن تأثيري عظيم لا يُستهان به، وأن الكفار كانوا يخشون من مجرد قراءة القرآن، والإعلان بالدين، يخشون على نسائهم وأطفالهم أو شبابهم من وصول كلمة الحق إليهم.
فوجود أماكن ومنابر ووسائل يُنْقَل بها الدين للناس أمر في غاية الأهمية.
(15/12)
قبول الحق والتأثر به ولو كان السامع كافراً
والفائدة العاشرة: أن هناك من الكفار من يسمع الحق ويقبل به، ويتأثر بالحق: فإن هؤلاء النساء والشباب الصغار من الكفار؛ كانوا يجتمعون لدرجة أن بعضهم يركب بعضاً، ويزدحمون على دار الصِّدِّيق، حتى ربما سقط بعضهم من الزحام، ولذلك قال الراوي: (فيتقذَّفوا.
وفي رواية: يتقصَّفوا -يزدحمون عليه- حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر) فهذا من شدة الاجتماع والحضور، قد يوجد من الكفار من يستمع.
(15/13)
الإخلاص عامل تأثير في السامعين
والفائدة الحادية عشرة: أن الإنسان المسلم إذا كان مخلصاً تأثر بكلامه الآخرون، وازدحموا عليه وسمعوا منه، وليس مجرد اجتماع وتجمهر، فإن ذلك يمكن تحصيله بوسائل جمع الناس، لكن التأثير في الناس مسألة قلبية، فأنت ترى في مناسبات كثيرة في الأرض يتظاهرُ آلافٌ مؤلفةٌ، وعشرات الآلاف، ومئات الآلاف؛ ويُجمَعون بوسائل كثيرة من ترغيب أو ترهيب؛ لكن مَن الذي يتأثر ويؤثر، التأثير إنما يكون بناءً على الصدق والإخلاص، فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه كان صاحب تأثيرٍ بصِدْقِه وقلبه النقي في الآخرين، حتى خشي الكفار على أولادهم وشبابهم من أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وقالوا: (فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا).
(15/14)
أثر القرآن في الدعوة إلى الله
والفائدة الثانية عشرة: أن هذا القرآن له أثر كبير في نفوس الناس: ماذا كان يفعل الصِّدِّيق غير قراءة القرآن؟ لا شيء، إنما كان يجهر بالقرآن، كل الذي كان يفعله أبو بكر الصِّدِّيق هو أنه كان يجهر بالقرآن؛ ولكن القوم كانوا عرباً فصحاء يفهمون معاني القرآن، ويتأثرون به، وهكذا ارتضعوا اللغة منذ نعومة أظفارهم، ولذلك كان نساؤهم وشبابهم وصغارهم يتأثرون بالقرآن.
فإذاً: ينبغي أن لا يُغفل دور القرآن في الدعوة إلى الله أبداً، بل ربما يخطب الإنسان خطبة كلها من القرآن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة ق.
ومن أثر القرآن، ومكانة القرآن وخطورة شأن القرآن في الدعوة إلى الله، قال الله تعالى في كتابه العزيز عن القرآن: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] جاهدهم به: الهاء ترجع إلى القرآن، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:52] أي: بهذا القرآن {جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] فَعُلِمْنا بهذه الآية أن القرآن وسيلة عظيمة للجهاد.
(15/15)
مكانة الجوار والذمة عند العرب واستغلال القرابة في خدمة الدعوة
الفائدة الثالثة عشرة: أن الجوار والذمة كان لها عند العرب شأن كبير: ولا زال الأمر كذلك عند كثير من أهل البادية؛ أنهم يقيمون وزناً للجوار والذمة، وأن هذه المسألة يمكن أن يستفاد منها في الدعوة إلى الله تعالى كما حصل هنا في حماية الداعية إلى الله وهو أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد استفاد من علاقاته القَبَلِيَّة، واستفاد من قراباته؛ فمَنَعَه قومُه وأقرباؤه، وبنو هاشم كان لهم دور، وعهد الصحيفة وحصار الشعب إنما انتهى بأن قام ناس من الكفار فأنهوه لقرابتهم من بني هاشم.
إذاً: فالقرابات والعلاقات لها أثر في حماية الدعوة أو الداعية، فإنه لا ينبغي أن يُستهان بها، ولولا أن علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بأقربائه كانت قوية لِحُسْنِ معاملته لما دافعوا عنه، ولا ردوا عنه، ولا أُنْهِي حصار الشعب.
فإذاً: ينبغي أن تُقَدَّر هذه القضية حق قدْرها.
(15/16)
فضل أبي بكر الصديق وخشيته لله
وكذلك يؤخذ من هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله: وأن أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه من مناقبه: أنه كان رجلاً بكاءً، إذا قرأ القرآن لم يملك عينه، يعني: من الدمع والبكاء، وهذا من مناقبه رضي الله عنه، وكثير من الناس مع الأسف لا يعرفون مناقب الصِّدِّيق جيداً، ولا يتعرفون على شخصيته جيداً، وربما بعضهم يعرف بعض الأشياء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو عن علي بن أبي طالب؛ لكن لا يعرفون كثيراً عن الصِّدِّيق، مع أن الصِّدِّيق أفضل الجميع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي معرفة شأن الصِّدِّيق رضي الله عنه في رقة قلبه وإيمانه، وسبقه في الخير والدعوة، وعموم أفعال البر التي كان يعملها، ومكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يمر عليه في اليوم مرتين بكرة وعشية، وأنه الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى حتى يهاجر معه، وأخبره عليه الصلاة والسلام أنه يرجو أن يؤذَن له بالهجرة، فيبقى الصِّدِّيق لكي يهاجر معه، ولذلك حبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلف الراحلتين وجهزهما، وحماه، وخاف عليه، وأصيب بالحزن لما اقترب الكفار من الغار، وهو الذي حلب له اللبن وبرَّده، وكان يضع له ذلك الشيء في الظل حتى يستريح عليه، وكان يورِّي، فكان يقول إذا سئل في الهجرة: (هذا رجل يهديني الطريق) حتى لا يعرف النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أتى بغلامه ليدل على الطريق، وهو الذي أتى بابنه يرعى الغنم، وهو الذي أتى بابنته أسماء التي كانت تأتي بالطعام وتربطه بنطاقَيها، حتى سميت بـ ذات النطاقين.
ففضل الصِّدِّيق في الدعوة إلى الله وفي الإسلام، ومكانة الرجل في الإسلام عظيمة ينبغي أن تحفظ له، وأن ندعو الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل العظيم أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، لما قدم وأعان في نصرة هذا الدين.
وهذا الحديث من تأمل فيه يجد مزيداً من الفوائد؛ خصوصاً في مجال الدعوة والتعامل مع الآخرين، وكيف يستفيد الإنسان من الواقع، ومن الإمكانات المتاحة في الدعوة إلى الله عزوجل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع الصِّدِّيق في الدرجة العالية وأن يجزيه خير الجزاء.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(15/17)
قصة مقتل خبيب بن عدي
كثير هم الذين يموتون بأسباب شتى، لكن التاريخ لا يُسطَّر إلا لمن مات مدافعاً عن دينه وعقيدته، ومن أولئك النفر خبيب بن عدي رضي الله عنه وأصحابه في غزوة الرجيع، وهنا بيان لقصة مقتله مع ذكر فوائد مستقاة من تلك الأحداث.
(16/1)
قصة غزوة الرجيع
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهذه القصة التي سنذكرها -إن شاء الله تعالى- هي قصةٌ من قصص الصحابة رضي الله عنهم مما حصل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبين شيئاً من تضحيات أولئك النفر العظام في سبيل هذا الدين، وكيف اصطفى الله منهم شهداء.
وقد روى هذه القصة الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: المغازي من صحيحه، وفي كتاب: الجهاد والسِّيَر، وأبو داوُد رحمه الله في كتاب: الجهاد من سننه، وكذلك أخرجها الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريةً عيناً -عشرة رهط- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا حتى إذا كانوا بـ الهدَأة بين عُسْفان ومكة -اسم موضع- ذُكِروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لِحْيان -وبنو لِحْيان كانوا مشركين- فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فتتبعوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد) وهو المكان المرتفع عن الأرض، حيث حاصر المشركون هؤلاء العشرة المسلمون في هذه الغزوة وهي غزوة الرجيع.
(وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا -أي: المشركون-: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم -وهو أمير السرية-: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب، وزيد، ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق، نزلوا إليهم) نزل المسلمون الثلاثة إليهم، وقد عنون البخاري رحمه الله على هذه القصة ب
السؤال
هل يستسلم المسلم للكفار أم لا؟ هل يرضى بالأسر أم لا يرضى، أم يقاتل حتى يُقتل؟ (فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم، فربطوهم بها -ربطوا المسلمين بوتر القوس- فقال الرجل الثالث -المسلم- الذي معهما: هذا أول الغدر -ربطنا معناه: غدر- فأبى أن يصحبهم، فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل -رفض الانقياد- فقتلوه، وانطلقوا بـ خبيب وزيد حتى باعوهما بـ مكة -من كفار قريش- فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فأهل الحارث المشرك اشتروا خبيباً لينتقموا منه ويقتلوه- فمكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا على قتله استعار مُوسَىً من بعض بنات الحارث - موسىً ليستحدَّ بها -أي: ليحلق العانة- فأعارته، قالت المرأة -التي كانت مشركة-: فغفلت عن صبي لي فدَرَج إليه -حبا إلى مكان موضع الأسير المسلم- فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعةً عرف ذاك مني -عرف أني الآن فزعةٌ على الولد- وهو في يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذاك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بـ مكة يومئذٍ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدتُ -أي: على ركعتين- فكان أول من سن الركعتين عند القتل، ثم قال: اللهم احصهم عدداً، ثم قال:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزَّعِ
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم -أمير السرية الذي قُتل في الطريق- ليؤتَوا بشيء من جسده يعرفونه -يقطعوا قطعة من جسده وهو ميت- وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبْر -سحابة من زنابير النحل تغطي جسده، وتظله- فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء) ما استطاعوا مطلقاً أن يأخذوا قطعة من جسده.
(16/2)
شرح قصة غزوة الرجيع
هذه القصة هي قصة غزوة الرجيع، والرجيع: اسم موضع كانت هذه الوقعة بالقرب منه، وغزوة الرجيع هذه غير غزوة بئر معونة، هؤلاء عشرة والذين في بئر معونة كان عددهم سبعون رجلاً من القراء.
وحديث عَضْل -وهم بطن من بعض قبائل العرب- والقارَة أكمة سوداء فيها حجارة نزلوا عندها، ويُضرب بهم المثل في الرمي.
وقصة العضل والقارَة كانت في غزوة الرجيع في أواخر السنة الثالثة من الهجرة.
وبئر معونة كانت في أوائل السنة الرابعة من الهجرة.
(16/3)
وقوع أصحاب الرجيع في كمين ومقتل أمير السرية
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت مع هؤلاء الصحابة العشرة فغدر بهم بنو لِحْيان.
ما هو السبب في إرسالهم؟ النبي صلى الله عليه وسلم أرسلهم سريةً -وقيل: إنه أرسلهم يأتون له بأخبار قريش، أي بعثهم عيوناً له صلى الله عليه وسلم- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت -لما كانوا في الطريق بين عُسْفان ومكة خرج لهم هؤلاء القوم من بني لِحْيان المشركين- فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ.
وفي رواية: مائتي رجل -مائة رماة، ومائة من غير رماة- فتتبعوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوه نوى تمر هؤلاء الصحابة نزلوا بـ الرجيع في هذا المكان في السحر، وأكلوا تمر عجوة فسقطت نواة في الأرض وكانوا يخفون آثارهم.
كان عيون النبي عليه الصلاة والسلام يسيرون بالليل، ويكمنون بالنهار؛ لكن {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال:42] {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] سقطت نواة من نوى تمر يثرب؛ لأن التمر الذي كان معهم من تمر المدينة فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنماً فرأت النواة، فأنكرت صغرها -صغر النواة بالنسبة لحجم النوى في تلك المنطقة- فقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أوتيتم فجاءوا في طلبهم، فتتبعوا آثار الصحابة حتى لحقوهم، ففوجئ الصحابة بهؤلاء القوم قد غشوهم وحاصروهم، فلجأ هؤلاء الصحابة العشرة إلى مرتفع من الأرض، وبدأ المشركون بالخداع، وقالوا: نعطيكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا مستسلمين ألا نقتل رجلاً منكم ولا نريد أن نقاتلكم.
فقال عاصم أمير السرية أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ولا أقبل عهد مشرك هؤلاء الناس لا يخافون الله، وليس لهم عهد ولا ميثاق: {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] فرفض أن يستسلم وقاتل، وقبل أن يموت قال: اللهم أخبر عنا رسولك، دعا عاصم الله عز وجل أن يبلغ خبر حصار المشركين لهم؛ وما حصل لهم للنبي عليه الصلاة والسلام، فاستجاب الله لـ عاصم وأخبر رسوله بالخبر، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه في المدينة بالخبر في اليوم نفسه، أن عاصماً قتل ومعه سبعة بنبل الرماة المشركين، وبقي خُبيب بن عدي، وزيد بن الدَّثِنة، وعبد الله بن طارق.
(16/4)
مقتل خبيب وأصحابه
رأى هؤلاء المسلمون الثلاثة أن يَستأسروا -أي: ينزلوا أُسارى- فلما نزلوا ربطوهم، ولما أرادوا ربطهم رفض الثالث أن يستسلم، وجرُّوه وحاولوا أن يأخذوه، فما طاوعهم، فقتلوه، فبقي خُبيب بن عدي وزيد، فأخذوهما حتى باعوهما بـ مكة، وانتهزوا فرصة أن قريشاً تريد الثأر من قتلاها يوم بدر، فباعوا خبيب بن عدي وزيداً إلى الكفار، باعوهما أسيرين، خبيب -كما تقدم- قتل الحارث بن عامر يوم بدر وكان من المشركين، فأهله أرادوا الانتقام واشتروا خبيباً ليقتلوه ويكون ذلك انتقاماً لمقتل أبيهم.
فمكث عندهم خبيب رضي الله عنه أسيراً حتى إذا أجمعوا على قتله عندما انقضت الأشهر الحرم أخرجوهما إلى التنعيم لقتلهما.
وجاء في رواية: أنهم أساءوا إليه في أول الأسر، فقال لهم: [ما تصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم] فأحسنوا إليه، وجعلوه عند امرأة تحرسه.
وفي رواية: أنهم جعلوه عند موهب مولى آل نوفل، فقال له خبيب: يا موهب! أطلب إليك ثلاثاً: أن تسقيني العذب؟ وأن تجنبني ما ذُبح على النصب، أي: لا تعطني طعاماً مذبوحاً على النصب، أي: للأصنام والآلهة.
وأن تُعْلِمَني إذا أرادوا قتلي.
حتى إذا أجمعوا على قتله أراد أن يتهيأ رضي الله عنه للقتل، فيحتاج إلى إزالة الشعر الذي لا بد من إزالته- فاستعار موسىً) طلب موسى لأجل حلق العانة من هذه المرأة، زينب بنت الحارث، أخت عقبة بنت الحارث، وعقبة بن الحارث هو الذي قَتل خبيباً، وقيل: إن المرأة التي تحرس خبيباً هي أخته أو زوجته، فاستعار منها موسى، فدرج ولد لها - كان عندها صبي غفلت عنه، فالصبي هذا درج- حتى وصل إلى مكان الأسير الموثق بالحديد -المربوط- وبيده الموسى، فنظرت إليه -وانتبهت- فزعةً، وظنت أنه يريد أن يقتله؛ لأنه ما دام هو مقتول فلينتقم منهم بقتل الولد ما دام قد قُدِر عليه، ولكن الأسير المسلم ما كان ليقتل الأطفال، وما ذنب الأطفال؟! فتركه وقال: أتخشين أن أقتله؟! لا أقتله إن شاء الله -تقول هذه المرأة في ذكرياتها عن خبيب: إنها رأته وهو في الأسر وهو مقيد- في يده عنقود عنب مثل رأس الرجل -أي: في الحجم يأكل منه -ومكة كلها ما فيها عنب ولا ثمر أصلاً، فهي تذكر هذا المشهد جيداً، وأن خبيباً رُزِق من الله بهذا القطف من العنب- ولما خرجوا بـ خبيب من الحرم، أي: من منطقة الحرم إلى التنعيم؛ لأن التنعيم خارج الحرم في الحل، ولذلك يحرم منها من أراد العمرة من أهل مكة أو من في حكمهم ممن ذهب إليهم إذا أراد أن يعتمر لابد أن يحرم من الحل، وأقرب موضع من الحل إلى الحرم هو: التنعيم، والمكان الذي أحرمت منه عائشة وفيه مسجدها إلى اليوم يحرم الناس عنده، فإن الحل الذي يخرج الإنسان إليه في عدة أماكن؛ الجعرانة والتنعيم وغيرها.
أخرجوه خارج الحرم؛ لأن قريشاً كانت تعتقد أنه لا يجوز القتل داخل منطقة الحرم وفي الأشهر الحرم، فانتظَروا الأشهر الحرم حتى تمضي، وأخرجوا خبيباً إلى خارج منطقة الحرم إلى التنعيم ليقتلوه، فلما أرادوا قتله، قال: دعوني أصلي، فصلى ركعتين -في موضع مسجد التنعيم - وقال للكفار: لولا أنكم تظنون أني أخشى الموت لزدتُ -صليتُ ركعتين أخريين، لكنه اكتفى بهاتين الركعتين- ثم دعا الله، قال: (اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً -أي: متفرقين- ولا تبقِ منهم أحداً).
وفي رواية: قال: (اللهم إني لا أجد من يبلِّغ رسولك مني السلام فبلِّغه).
وفي رواية: فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء، قال: فلبد رجل بالأرض خوفاً من دعائه، وكانت قريش تعتقد أن الإنسان المدعو عليه إذا نزل بالأرض وألصق جنبه بها فاتته الدعوة -أي: ما أصابته الدعوة- وأحد الكافر عندما دعا خبيب لبد بالأرض مباشرة.
وجاء عند ابن إسحاق: أن معاوية بن أبي سفيان كان مع أبيه، وكان أبوه مشركاً في ذلك الوقت، قال: [كنتُ مع أبي، فجعل يُلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب] أول ما سمع أبو سفيان الدعاء ألقى معاوية إلى الأرض مخافة أن تصيبه الدعوة بحسب ما كانوا يعتقدون، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر خبيب -فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذلك اليوم وهو جالس: وعليك السلام يا خبيب! قَتَلَتْه قريش.
وقال هذه الأبيات العظيمة:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزَّع
الأوصال: جمع وصل، والوصل: هو العضو.
والشلو: الجسد.
ممزَّعِ: مقطع.
وقد ساق ابن إسحاق في روايته عدة أبيات قالها خبيب، ربما تصل إلى ثلاثة عشر بيتاً، وبعضهم ينكر أن تكون له، والذي في صحيح البخاري هذان البيتان، وعند ابن إسحاق:
لقد جمع الأحزاب حولي وألَّبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقُرِّبتُ من جذع طويل ممنعِ
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداءُ لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي فقد قطعوا لحمي وقد يئس مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزَّعِ
وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد همَلَت عيناي من غير مجزعِ
وما بي حذارُ الموت إني لميتٌ ولكن حذاري جحم نار ملفَعِ
فوالله ما أرجو إذا مت مسلماً على أي جنب كان في الله مضجعي
على أية حال! هذان البيتان في صحيح الإمام البخاري رحمه الله، ومنها الأبيات التي قالها خبيب، وقيل: إن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد رثاه بأبيات منها:
ما بال عينك لا ترقى مدامعها صحاً على الصدر مثل اللؤلؤ الفلقِ
على خبيب فتى الفتيان قد علموا لا فََشِلٍ حين تلقاه ولا نزقِ
فاذهب خبيب جزاك الله طيِّبةً وجنة الخلد عند الحور في الرُّفُقِ
ماذا تقولون إن قال النبي لكم حين الملائكةُ الأبرارُ في الأفقِ
فيمَ قتلتم شهيد الله في رجلٍ طاغٍ قد أوعث في البلدان والرُّفَقِ
فرثاه حسان بن ثابت وكان لسان إعلام المسلمين.
(16/5)
إكرام الله لجسد عاصم بن ثابت
وأما بالنسبة لـ عاصم بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- الذي هو أمير السرية، فإنه لما قُتل أراد الكفار قطعة من جسده، وقيل: إنهم أرادوا أن يأخذوا رأسه؛ لأن قريبة له نَذَرَت أن تشرب الخمر في قحف رأسه -قريبة للمقتول المشرك الذي قتله عاصم في بدر أرسلوا رسلاً منهم ليأتي برأس عاصم -فأرسل الله الظلة السحابة- من الزنابير -أي: ذكور النحل- فحمته منهم، ولم يستطيعوا أن يمدوا أيديهم ليأخذوا شيئاً من جسده، فلم يقدروا منه على شيء.
(16/6)
فوائد من غزوة الرجيع
هذه القصة العظيمة فيها فوائد كثيرة للغاية: هذه القصة العظيمة فيها فوائد كثيرة للغاية: 1 - منها: تضحية صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وخروجهم لنصرة الله ورسوله بالرغم من الأخطار التي كانت موجودة.
2 - أن العلماء قد تكلموا في مسألة المسلم هل يجوز له أن يستأسر أم أنه لا يمكِّن من نفسه ولو قُتل أَنَفَةً من أجل أن يجري عليه حكم الكافر؟ فقال العلماء: هنا عزيمة ورخصة: فالعزيمة: أن المسلم يمتنع من الأسر حتى لو قتلوه.
والرخصة: أنه يجوز له أن يقع أسيراً.
فإذا رأى أن من المصلحة أن يوقع نفسه أسيراً أوقع نفسه أسيراً، وإذا أخذ بالعزيمة، وقال: أقاتلهم حتى يقتلوني، وأرفض الوقوع في الأسر؛ فإنه مأجور على فعله ذلك.
3 - الامتناع عن قتل أولاد المشركين وأطفالهم.
4 - كرامات أولياء الله تعالى واضحةً جداً في هذه القصة: أ- أن قِطْف العنب عند خبيب كرامة من الله، ولا يوجد في مكة عنب، والمرأة فوجئت بعنقود من العنب كبير بحجم رأس الرجل بين يدي خبيب.
ب- أن عاصم بن ثابت حماه الله بالظلة -السحابة- من النحل تظله، وهذه كرامة من كرامات الله تعالى.
جـ- تبليغ الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الله أن يبلغ نبيه الخبر، ووصول الخبر في الوقت نفسه من كرامات الله لهم.
إذاً كرامات الله عز وجل ثابتة ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أننا نوقن ونعتقد أن الله يخرق العادة لبعض أوليائه، ويجري الله تعالى كرامات على أيدي أوليائه، ويكرمهم بخرق العادة لهم.
فقد يكون خرق العادة بأن يأتيهم بطعام لا يوجد في البلد مثله.
يأتيهم بفاكهة الصيف في الشتاء أو العكس، مثلما كان لمريم عندما كان يأتيها رزقها وهي في مكان صلاتها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] وهذا الرزق من الله وليس من أحد من البشر.
ربما يكرمهم الله بالمشي على الماء، بأن تخوض الخيول الماء مع أن العادة جرت بأن الخيل لا يركب البحر أبداً ويغرق، ومع ذلك ركبت خيول المسلمين البحر في بعض الغزوات، وما غرق أحد منهم، وما فقدوا شيئاً، حتى إن بعضهم فقد مطهرة، فلما عبروا إلى الشاطئ الآخر، قال: ربِّ مطهرتي، فرماها البحر بعد قليل إلى الشاطئ، وأخذ المطهرة؛ وهي الإناء الذي يتطهر به.
وكان في يد بعض الصحابة نور، جعل الله له نوراً في يده في الظلام يضيء له الطريق، الأول أسيد بن حضير، والثاني عباد بن بشر.
وسلمت الملائكة على عمران بن حصين.
وطعام أبي بكر الصديق كفى أعداداً من الناس، كلما أكلوا لقمة ربا من تحتها مكانها، فتركوه أكثر مما بدءوا.
وهذه الكرامة منة من الله يعطيها من يشاء من أوليائه.
إن قال قائل: ما هو الفارق بينها وبين الخارقة التي تكون للساحر والكاهن والمشعوذ؟! ربما يفعلون كرامات، ربما يطير الساحر والمشعوذ في الهواء، ربما يمشي على الماء، إذاً هذه خوارق وهذه خوارق! نقول: نعم.
والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: أولاً: أن حال ولي الله الذي يُجري الله على يديه الكرامات أنه متمسك بشرع الله، صحيح العقيدة، يقوم بالواجبات، ويمتنع عن المحرمات.
أما المشعوذون والسحرة: فإنهم مشركون عقائد فاسدة، يتعاملون مع الشياطين، ربما لا يصلون، يمتنعون عن الواجبات، ويفعلون المحرمات، وربما يشربون الخمور، ويزنون، ويرتكبون الموبقات.
ولذلك لا يغتر أحد بخرق العادة، فالعادة قد تنخرق، فالدجال من فتنته أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تخرج كنوزها فتخرج كنوزها، يَقسم رجلاً قسمين -يضربه بالسيف نصفَين- ثم يرده، ويقول: قم، فيقوم بأمر الله، الناس يشاهدون معه جنة ونار متنقلة، فالدجال معه خوارق عظيمة جداً؛ لكنه مع ذلك كافر يهودي بن يهودي، ولذلك فإن الفارق الأساسي بين الولي وبين المشعوذ أو الدجال: حال هذا وحال هذا، هذا أعظم شيء؛ ولذلك لا بد أن ننظر في حال الشخص الذي يدعي الخوارق، أو الذي حصلت له خارقة، هل هو مستقيم على الشريعة أم هو رجل منحرف؟ صحيحُ العقيدة أم رجل مشرك أو مبتدع؟ هل يقوم بالواجبات ويمتنع عن المحرمات أم إنسان يرتكب الموبقات؟ ثم إن الولي إذا حصلت له الخارقة لا يخبر الناس يقول: يا أيها الناس! حصل لي كذا وكذا، وإنما يظهرها الله بطريقة، أو تنتقل وتنتشر، وربما ما عرفت إلا بعد وفاته، أما الدجال المشعوذ فيقول لك: تعال انظر، ويدعوك إلى رؤية ما عنده، ويتظاهر ويتباهى بما عنده، أما أولياء الله إذا حصل له شيء لا يخبر الناس، ويقول: أنا كنت في الصحراء وعطشت وأوشكت على الموت، فأرسل الله لي قربة ماء بين السماء والأرض فشربت منها، لا يقول هذا، وإن حصل له يكتمها من باب الإخلاص حتى لا يدعي الولاية ويتباهى بذلك بخلاف ذلك المشعوذ.
ثم إن هؤلاء كثيراً ما يكون خرق العادة بالنسبة لهم من جهة التعاون مع الجن، الجن -مثلاً- يخدعون أعين الناس، فمثلاً: قد يجعلوا سيخ الحديد يخترق جسد هذا المشعوذ بدون قطرة دم يمشون على المسامير الحادة جداً، يدخل النار فلا يصيبه شيء، وقد يكون هذا الشيء الذي يفعله بحيلة، مثلاً: يطلي جسده بنوع من زيت النارنج أو ببعض الأشياء التي لها مقاومة للنار.
الآن هناك كراسي وجلود وأشياء مصنَّعة مقاومة للنار وللاحتراق، يقول لك: هذه قاعة المحاضرات كلها ضد الاحتراق أي: لا يحترق لا السجاد ولا المقاعد ولا السقف ولا الجدران؛ لأنها مطلية كلها بمادة مقاومة للاحتراق، كما ناظر ابن تيمية رحمه الله فرقة البطائحية الصوفية المنحرفين، قالوا: نحن ندخل النار ولا يضرنا، قال: أولاً: نغتسل كلنا، تغتسلون أمامي، ثم أدخل أنا وأنتم إلى النار، فرفضوا ذلك، وقصة مناظرته لهم معروفة مشهورة.
والخلاصة: أن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم حصلت كرامة الله عز وجل لهم.
5 - كذلك في هذه القصة من الفوائد: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد بما يشاء، مع أن هذه كانت مصيبة -ولا شك- في المجتمع المسلم أن يُفقد عشرة من أفضل أفراده؛ لكن الله سبحانه وتعالى له حكمة: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] يريد الله عز وجل أن يكرم هؤلاء المسلمين، ويريدهم لهذا الجزاء، والله يعلم أن ذهابهم إليه أفضل من بقائهم في الدنيا.
الآن حياة خبيب بعد الموت أفضل له من حياته قبل الموت، فمن ناحية الهم والغم والحزن والمرض والشقاء والتعب لا يوجد، فما بعد الموت لمثل هؤلاء نعيم، فهو الآن في قبره يُملأ عليه خَضِراً إلى يوم يبعثون، يُنَوَّر له، يأتيه عمله الصالح في أحسن حال، يُفتح له باب إلى الجنة، وفتَحْةُ الباب إلى الجنة تكفي عن كل الذي في الدنيا، ونظرته إلى أهله وماله من هذه النافذة التي في القبر إلى الجنة، ينظر إلى أهله والحور العين، وماله الذي هو في الجنة وهو في القبر أحسن له من كل هذه الدنيا، ولذلك ليس شيئاً محزناً من جميع النواحي أن يقتل خبيب وأصحابه؛ لأن في المقابل توجد كرامة ونعيم عند الله أحسن من هذه الدنيا، فالله عز وجل من محبته لأوليائه أن يعجل بأخذهم وبرحيلهم عن الدنيا، هذا سر مهم؛ أن الله يحبهم فيريدهم أن ينتقلوا عنده بسرعة.
ذهب أبو بكر وعمر ليزورا أم أيمن كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يزورها في حياته، قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام مات وكانت له عادة حسنة في زيارة هذه العجوز -المرأة الكبيرة- أمه من الرضاعة، فنواصل عادة النبي عليه الصلاة والسلام، فذهبا إلى أم أيمن، ولما جلسا عندها رضي الله عنها؛ بكت، فظنَّا أنها بكت حزناً على فراق النبي عليه الصلاة والسلام وموته، فقالا لها: [أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله؟!] أي: ما عند الله أفضل للنبي عليه الصلاة والسلام من بقائه عندنا في الدنيا، هموم وغموم وأحزان وأمراض، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60] فقالت: [نعم!] تعلم ذلك؛ ولكنها تبكي أن الوحي قد انقطع، لأجل هذا حزنت.
6 - وكذلك في هذا الحديث: أن من سنن الفطرة حلق العانة: والفطرةُ سننٌ كثيرة، جاء مجموع عشرٍ منها في حديث واحد، وبمجموع الأحاديث قد تصل إلى أكثر من عشر سنن.
- فالمضمضة من سنن الفطرة.
- والاستنشاق من سنن الفطرة.
- والسواك من سنن الفطرة.
- واللحية من سنن الفطرة.
- وغسل البراجم والأشاجع؛ غسل ما بين الأصابع، وما في هذه الانثناءات الموجودة في الأصابع، هذا من الفطرة؛ لأنه يتجمع فيها الزءومة والوسخ؛ فغسلها والاعتناء بغسلها من هذه الفطرة.
- الختان من الفطرة.
- نتف شعر الإبط من الفطرة.
- قص الأظافر من الفطرة.
- حلق العانة؛ ما حول القُبُل من الشعر الخشن من الفطرة.
هذا الذي أراد أن يفعله خبيب رضي الله عنه، وقد ذكر العلماء أن الحلق بالموسى أفضل من القص بالنسبة للعانة، كما أن النتف للإبط أفضل؛ لكن لو أزاله بأي مزيل جاز، أي: لو قال شخص: أنا لا أقوى على نتف الإبط؛ لأنه يؤلمني جداً، فهل يجوز لي أن أستخدم مزيلاً لإزالة الشعر الذي في الإبط؟ نقول: نعم، لا بأس بذلك، المهم: الإزالة؛ منعاً للروائح الكريهة؛ لأن الإسلام يعتني بنظافة المسلم في جسده، فتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، وغسل البراجم، والاستنشاق، والاستنثار، هذه كلها نظافة للمسلم.
وأيضاً حفاظاً على الهيئة الحسنة: اللحية.
وكذلك الختان؛ حتى لا تتجمع الأوساخ والأشياء الضارة، فلذلك صار الختان واجباً للذكور، مستحباً للإناث، فالختان أيضاً من الفطرة.
إذاً: الدين يأمر بكل ما فيه تنظيف وتطهير وتطييب لجسد المسلم.
فالشاهد أن الاستحداد -استخدام الحديدة والموسى أو الشفرة في حلاقة العانة- أفضل من قصه أو إزالته بأي مزيل، مع أن الإزالة بأي مزيل آخر جائز.
7 - كذلك في هذا الحديث: أن التجسس في الحرب من الأش
(16/7)
الأسئلة
(16/8)
نهج البلاغة في الميزان
السؤال
ما رأيك في كتاب نهج البلاغة؟
الجواب
كتابٌ مسمومٌ يُحذرُ منه، منسوبٌ إلى علي رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه بريء من كثير مما فيه.
(16/9)
حكم رد المرأة على الهاتف
السؤال
ما حكم إذا رَدَّت المرأة على الهاتف، وأجابت عن سؤال؟
الجواب
إذا لم يكن خضوعاً بالقول وكان لحاجة فلا بأس.
(16/10)
آداب زيارة العديل لعديله
السؤال
ما هي آداب زيارة العديل لمنزل عديله؟
الجواب
المقصود بالعديل هنا عند الناس هو: زوج أخت الزوجة، فيقولون مثلاً: هذان عديلان، أو هؤلاء عدلاء، أي: أزواج لأخوات؛ فإذا زاره في بيته، فلا يجوز الخلوة بالمرأة؛ لأنها ليست من المحارم، وهي من المحرمات عليه على التأبيد، ولا يجوز له النظر إليها بطبيعة الحال، ولا يجوز الاختلاط.
(16/11)
حكم من ترك الطواف بالبيت أثناء العمرة بسبب المشقة
السؤال يقول: بعد فراغي من أداء مناسك العمرة أردت أن أطوف بالبيت، وحين أنهيت الشوط الثالث ازداد الزحام، فخرجت ولم أتمكن من الطواف، فهل يجب علي شيء؟
الجواب
طَيِّبٌ! ما عرفنا ما فعلتَ الآن بعد هذا! هل أكملت الطواف مثلاً من السطح، أو الدور الثاني؟! هل خرجت خارج الحرم ثم رجعت وأكملت؟! هل أعدت من الأول؟! هل رجعت طفت، أتيت بربع عمرة وجئت؟! ماذا فعلت؟! فما عرفنا الآن ماذا فعلت.
فعلى أية حال لو فرضاً على أسوأ الحالات أنك رجعت ولا زلت باقياً على إحرامك حتى هذه اللحظة، لا بد أن تعود وتلبس ملابس الإحرام وتذهب تكمل وتأتي بالعمرة، وتأتي بالطواف من جديد.
وإذا صار ما هو أسوأ وأتيت زوجتك يعني: أفسدت العمرة الأولى، فعليك بالتوبة، وعليك بالذهاب بالإحرام والطواف والسعي لإتمام العمرة الفاسدة، وتعود إلى الميقات الأول وتحرم منه لعمرة جديدة بدل العمرة الفاسدة، ثم تدفع دماًَ في مكة يوزَّع على فقراء الحرم.
أما إذا كنت -مثلاً- طفت ثلاثاً من تحت، ثم صعدت إلى الدور الثاني فأتيت بالأربعة تكملة السبعة ففعلك صحيح؛ لأنه ما دام أنه رجع، فأكيد أنه الآن أكمل السبعة أو رجع بدون إكمال السبعة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(16/12)
قصة يوم الوشاح
خصص البخاري رحمه الله في صحيحه عدة أبواب من كتاب الصلاة للمساجد وأحكامها وآدابها.
وقد جاءت هذه المادة لتسلط الأضواء على تلك الآداب والأحكام من خلال الشرح والتعليق على أحاديث من تلك الأبواب.
وقد ظهر من خلال ذلك: أحكام الإقامة في المسجد تنظيف المسجد بناء المساجد آداب الكلام فيها وكذلك بيان لمن يستعان به في بناء المساجد، وغير ذلك من الأحكام المتناثرة في ثنايا هذه المادة.
(17/1)
حديث صاحبة الوشاح في صحيح البخاري
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهذه القصة التي بين أيدينا في هذه الليلة قصةٌ رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه سنتحدث عنها، ثم نتحدث عن بعض الأحكام المتعلقة بالمساجد لمناسبة هذه القصة، ولعل هذه الأحكام تفيدنا في مسألة الاعتكاف.
روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها، قالت: [أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب، وكان لها حفشٌ في المسجد، -أي: بيت صغير ضيق- قالت: فكانت تأتينا فتحدث عندنا، فإذا فرغت من حديثها، قالت:
ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
فلما أكثرت، قالت لها عائشة: وما يوم الوشاح؟ قالت: خرجت جويرية لبعض أهلي وعليها وشاح من أدم، فسقط منها، فانحطت عليه الحدية وهي تحسبه لحماً، فأخذته، فاتهموني به -أي: بسرقة الوشاح- فعذبوني حتى بلغ من أمري أنهم طلبوه في قبلي، فبينما هم حولي وأنا في كربي، إذ أقبلت الحدية حتى وازت برءوسنا، ثم ألقته، فأخذوه، فقلت لهم: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة].
وروى الحديث البخاري أيضاً رحمه الله في صحيحه، في كتاب: الصلاة، عن عائشة: [أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم، قالت: فخرجت صبيةٌ لهم عليها وشاحٌ أحمر من سيور، قالت: فوقع منها، فمرت به حديات وهو ملقىً، فحسبته لحماً، فخطفته، قالت: فالتمسوه، فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحديات، فألقته، فوقع بينهم، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة وهو ذا هو، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش، قالت: فكانت تأتيني، فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:
ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين لي مقعداً إلا قلتي هذا؟! قالت: فحدثتني بهذا الحديث].
هذه القصة من القصص التي حدثت في أيام الجاهلية لامرأة كانت (وليدة) والوليدة هي: المولودة، ثم أطلقت على الأمة وإن كانت كبيرة -هذه الوليدة عندما كانت مع هؤلاء العرب وأعتقوها، خرجت يوماً مع صبيةٍ لهؤلاء، والصبية كان عليها وشاح أحمر؛ والوشاح: ينسج من جلد عريض، ويرصع باللؤلؤ، تشجه المرأة بين عاتقها وكشحها، نوعٌ من الزينة، فلما خرجت هذه الصبية وعليها الوشاح الأحمر، وضعته ودخلت إلى مغتسلها وكانت عروساً، فجاءت الحدية؛ والحدية هي: الحدأة الطائر المعروف الذي أبيح قتله في الحل والحرم، ويقال لها: الحدا، أو الحدو أو الحدأة، وجاء في هذا الحديث تصغيرها حديات، فحسبته لحماً فخطفته، فجاء قوم هذه الصبية، فظنوا هذه الوليدة هي التي أخذته، فاتهموها به، ففتشوا منها كل شيء، وصارت هذه المرأة في كرب عظيم وهي مظلومة، فأرسل الله الحدية مرة أخرى وهي في هذا الموقف العصيب، وكانت قد دعت الله تعالى في هذا الموقف العصيب كما جاء في رواية، قالت: "فدعوت الله أن يبرئني"، فجاءت الحدية وهم ينظرون، حتى إذا وازت برءوسهم ألقت الوشاح أمامهم، فقالت لقومها: هذا الذي اتهمتموني به هاهو أمامكم الآن، ثم إن هذه المرأة جاءت إلى المدينة وأسلمت، وسكنت في هذا البيت الصغير في المسجد، وكانت تتحدث عند عائشة وكثيراً ما تقول هذا البيت:
ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
(17/2)
الفوائد المنتقاه من قصة صاحبة الوشاح
يؤخذ من هذا الحديث: 1 - استجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً؛ لأن المرأة لم تسلم إلا بعد قدومها إلى المدينة.
2 - مشروعية الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه محنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير منه، كما وقع لهذه المرأة {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] إرغاماً لأنف الذين اضطهدوه، وسعةً له في الرزق، {مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100].
3 - الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
4 - إباحة المبيت والقيلولة في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة بشرط أمن الفتنة، وإباحة الاستظلال في المسجد بخيمة ونحوها.
من هذه الفائدة ننطلق في ذكر بعض ما يتعلق بالمساجد من الآداب والأحكام الشرعية التي تعين على احترام بيوت الله تعالى، وتوقيرها، ومعرفة حقها الذي أهمله كثيرٌ من المسلمين.
(17/3)
بعض الأحكام الشرعية الدالة على احترام بيوت الله تعالى
يؤخذ من هذا الحديث: 1 - استجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً؛ لأن المرأة لم تسلم إلا بعد قدومها إلى المدينة.
2 - مشروعية الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه محنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير منه، كما وقع لهذه المرأة {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] إرغاماً لأنف الذين اضطهدوه، وسعةً له في الرزق، {مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100].
3 - الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
4 - إباحة المبيت والقيلولة في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة بشرط أمن الفتنة، وإباحة الاستظلال في المسجد بخيمة ونحوها.
من هذه الفائدة ننطلق في ذكر بعض ما يتعلق بالمساجد من الآداب والأحكام الشرعية التي تعين على احترام بيوت الله تعالى، وتوقيرها، ومعرفة حقها الذي أهمله كثيرٌ من المسلمين.
(17/4)
حك البصاق باليد من المسجد
لقد خصص البخاري رحمه الله عدة أبواب من كتاب الصلاة في صحيحه للمساجد لبيان آدابها وأحكامها، فمن العناوين التي عنونها رحمه الله، وفقه البخاري في عناوينه، قال: باب حك البصاق باليد من المسجد، وذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لما رأى نخامةً في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه بيده) هذه النخامة بقية البلغم، أو البصاق الموجود، لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حكه بيده الشريفة وأزاله تطييباً للمسجد، وطيب مكانه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم ألَّا يبصق قبل وجهه في الصلاة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قبل وجهه إذا صلى، وأخبر أن هذا من أسباب إعراض الرب.
(17/5)
حك المخاط بالحصى من المسجد
ثم قال رحمه الله: باب: حك المخاط بالحصى من المسجد، وذكر حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة فحكها، وكلُّ هذا يدل على عدم جواز البصق في المساجد وتقذير المساجد.
وكذلك فإنه لا يجوز البصق تجاه القبلة في الصلاة، ثم إنه ينبغي إزالة القذر من المسجد وتنظيف المسجد، وكفارة البصق في المسجد عندما كانت المساجد من الرمل والحصى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (البصاقة في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها).
إذاً: لا يجوز الصق في المسجد أصلاً، لكن إذا حصل ذلك فما هو العلاج؟ دفنها إذا كانت المساجد من الرمل والحصى، والآن يبصق الإنسان في منديلٍ أو ما أشبه ذلك.
(17/6)
هل يقال: مسجد بني فلان؟
كذلك عنون البخاري رحمه الله تعالى في هذه المواضع باب: هل يقال مسجد بني فلان؟ وساق حديث عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل إلى مسجد بني زريق) ففيه جواز إضافة المساجد إلى بانيها، أو المصلي فيها، أو المصلون فيها، إذا كانوا من قوم معينين أو قبيلة معينة، يقال: مسجد بني فلان، ولا حرج في ذلك.
وكذلك ربما تضاف إلى من بناها إذا أمن من ذلك الرياء؛ لأن بعض الناس ربما يسمون المساجد بأسمائهم، ويكون في ذلك رياء، لأن المسألة تعتمد على النية، والمساجد لله تعالى، فلا يجوز أن يشرك مع الله سبحانه وتعالى أحدٌ في بناء المساجد، ولعل الأولى ألَّا يقال: مسجد فلان الذي بناه ابتعاداً عن الرياء، لكن إذا أمن الرياء كما إذا مات الشخص لم يعد يخشى عليه بعد موته، فيقال: مسجد فلان ولا بأس بذلك.
(17/7)
حكم القسمة وتعليق القنوان في المسجد
ثم قال رحمه الله: باب: القسمة وتعليق القنوان في المسجد، وذكر حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بمال من البحرين، فقال: انثروه في المسجد) وأن الصحابة كانوا يعلقون القنوان -أي: العذوق التي فيها التمر في المسجد- لأجل إطعام أهل الصفة، أو غيرهم من الفقراء، فيجوز جمع الأموال، أو الصدقات في المساجد، ومنها: صدقة الفطر، وحراستها كما جاء في حديث أبي هريرة مع الشيطان، فجعلوا توزيع الأطعمة على المساكين في المساجد، وجمع الأطعمة في المساجد لا حرج فيه، بشرط ألَّا يضايق المصلين، ولا يخل بصفوف الصلاة.
(17/8)
حكم الدعوة لطعام في المسجد حكم الإجابة
ثم قال رحمه الله: باب: من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب معه، وساق حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: (وجدت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد معه أناسٌ، فقمت، فقال لي: آرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم.
فقال: لطعامٍ؟ قلت: نعم.
فقال لمن معه: قوموا الحديث).
فيؤخذ منه: جواز توجيه الدعوة للوليمة في المسجد، فلو أن إنساناً قال لجماعة في المسجد: اطعموا عندنا، أو هلموا إلى بيتنا، أو دعاهم إلى الطعام وهم في المسجد، فذلك جائزٌ ولا حرج فيه، فهذه الأمور المباحة التي يقصد منها إكرام المسلمين، والدعوة إلى الطعام لا بأس بها لو كانت في المسجد، سواءً وجهت الدعوة إلى الناس لحضور وليمة في المسجد، أو وجهت الدعوة وهم في المسجد.
(17/9)
حكم القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء
ثم قال رحمه الله: باب: القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء، وساق حديث سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله؟ -في قصة طويلة- قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد).
فيؤخذ منه: 1 - جواز الحكم بين الرجل والمرأة في المسجد.
2 - جواز البت بين المرأة وزوجها في الطلاق أو اللعان في المسجد.
والملاعنة: أن يأتي الرجل الذي قذف زوجته بالزنا والعياذ بالله، فيشهد على نفسه أربع مرات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة إذا أقرت رجمت، فإذا لم تقر تدفع عنها الحد بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وهذا يجوز أن يكون في المسجد، بل لتغليظ الأمر للوصول إلى الحقيقة يكون في المسجد، حتى يكون في الحرم، حتى قالوا: إذا كانا في مكة، يتلاعنا عند الحجر الأسود، وإذا كانا في المدينة يتلاعنا عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في البلد بمحضر القاضي يتلاعنا بمسجد البلد؛ لأجل أن يكون الجو مهيأ لبلوغ الصدق في هذه القضية الخطيرة.
ويشبه هذا مسألة المباهلة؛ كأن يتباهل إنسان مع آخر على مسألة كل يدعي الحق فيها، فيدعو كل أحد على نفسه إن كان كاذباً.
ومنها: مباهلة أهل البدع كـ الخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم، وقد حدثت من علماء المسلمين عدة مواقف من المباهلات مع المبتدعة، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه وجد بالتجربة أن صاحب الباطل إذا باهل ودعا على نفسه إن كان على باطل أن يميته الله فلا يمر عليه سنة إلا ويموت، لا يعيش أكثر من سنة، إذ إن الذي يباهل صاحب حق، صاحب دين، والآخر صاحب باطل، ما يمر عليه سنة إلا ويموت.
(17/10)
حكم التيمن في دخول المسجد
وكذلك عنون البخاري رحمه الله باباً بعنوان: التيمن في دخول المسجد، وعلق حديث ابن عمر [كان يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى] ولعله ليس هناك حديثٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل ذلك، وليكن يؤخذ من عموم التيامن تقديم الرجل اليمنى واليد اليمنى في الأمور الحسنة، والرجل اليسرى أو اليد اليسرى في الأمور المستقذرة، فكما أنه يدخل الخلاء بشماله كذلك فإنه يدخل المسجد بيمينه.
(17/11)
حكم نبش قبور المشركين واتخاذ مكانها مساجد
ثم ساق -رحمه الله تعالى- باباً: هل تنبش قبور المشركين والجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني مسجداً، كان في ذلك المكان قبور للمشركين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين، فنبشت؛ لأن قبور المشركين لا حرمة لها، ولذلك إذا كان مكان المسجد، في ناحية منها -مثلاً- قبور للكفار، أو من أيام الجاهلية، فإنها تنبش وتخرج العظام، وبعد ذلك يبنى المسجد ولا حرج، وليس في هذه الحالة في بناء المسجد محذور شرعي كالبناء على القبور؛ لأن المقصود هنا ليس هو تعظيمها؛ لأنها نبشت، أما بناء المساجد على قبور الأولياء والصالحين والأنبياء، فإنه ملعونٌ من فعل ذلك: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فأي مسجد يبنى على قبر نبي، أو ولي، أو رجل، فإنه باطل، ويهدم، ولا تجوز الصلاة فيه.
إذا كان المسجد أولاً ثم دفن فيه ميت، نبشنا القبر وأخرجناه إلى المقبرة.
وإذا كان القبر أولاً ثم بني المسجد، هدمنا المسجد؛ لأنه بني على باطل، وكل ما بني على باطل فهو باطل، وإذا كان القبر في القبلة فلا يجوز الصلاة إليه مطلقاً، ويجب أن يخرج القبر خارج المسجد، ويجعل بينه وبين المسجد جدار أو شارع، ليعزل عن المسجد تماماً؛ لأن بناء المساجد على القبور حرام، بل من مظاهر الشرك والوثنية، وهذا عمل اليهود والنصارى، مع أنه منتشر في كثير من بلدان العالم الإسلامي، كما هو معروف في قبر زينب، وقبر الحسين، وقبر العيدروس وغيرها من الأماكن التي فيها مساجد مبنية فوق القبور، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم خارج مسجده، ولما جاء الوليد بن عبد الملك أدخله في المسجد، فهو من فعل الوليد، وليس من فعل الصحابة، ولم يرضه السلف، بل أنكروا ذلك، ولكنهم لم يستطيعوا تغييره، ولما جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله جعل على القبر مثلثاً مبنياً بحيث لا يمكن استقبال القبر والقبلة معاً، ولا يمكن الوصول إلى القبر وهو مفتوح من الأعلى كما سبق أن ذكرنا ذلك.
(17/12)
حكم النوم في المسجد
ثم ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- باباً آخر بعنوان: نوم المرأة في المسجد، وقلنا: إذا أمنت الفتنة، كأن يُجعل مكان، أو خيمة خاصة للنساء، واحتج فيه بحديث المرأة التي سبق أن ذكرنا قصتها في أول هذا الدرس.
ثم قال رحمه الله: باب: نوم الرجال في المسجد، وأتى بحديث ابن عمر: أنه كان ينام وهو شابٌ أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان بين علي وفاطمة شيء، خرج علي إلى المسجد واضطجع فيه ورقد، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح صدره يداعبه ويقول: (قم أبا تراب قم أبا تراب) وكان علي رضي الله عنه يحب هذه الكنية جداً؛ وذلك لأنه عندما اضطجع أصابه تراب، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قم أبا تراب قم أبا تراب).
فيؤخذ من هذا الحديث: جواز النوم في المسجد إذا أمن انكشاف العورة، ولم يكن هناك فتنة، ولا مفسدة، فإن النوم في المسجد ليس حراماً، ولا خطيئةً، والمعتكف يحتاج إلى النوم في المسجد بطبيعة الحال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد العشر الأواخر، وهذا يحتاج إلى نوم ولا شك، وأهل الصفة كانوا ينامون في المسجد، لكن لا يتحول المسجد إلى فندق يقذر بحجة النوم فيه.
(17/13)
حكم الصلاة في المسجد إذا قدم من سفر
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك: باب: الصلاة إذا قدم من سفر، وباب: إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، وقد كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا رجع من سفر، أولاً أن يبدأ بالمسجد، فيصلى فيه ركعتين، قال النووي رحمه الله: "هذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر، وليست تحية المسجد".
من السنة إذا جاء الإنسان من السفر أن يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين، أما تحية المسجد، فإنه إذا دخل أي مسجد يصلي ركعتين، سواءً قدم من سفر أو لم يقدم من سفر، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها، وجمهور العلماء على استحبابها، وهذا خاص بالمساجد؛ بمعنى أن مصليات الشركات والدوائر الحكومية ليست مساجد؛ لأنها لم تبن بنية أن تكون مسجداً موقوفاً لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، فإن تحية المسجد خاصة بالمسجد وليست للمصليات.
(17/14)
حكم الحدث في المسجد
ثم قال رحمه الله: باب: الحدث في المسجد، وساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه).
ما معنى: ما لم يحدث؟ فسرها بعض العلماء بالمعصية أو البدعة.
وبعضهم قال: الحدث هو: الريح.
والصواب: أن خروج الريح من الإنسان في المسجد ليس محرماً -بمعنى أنه يأثم وأنها معصية وبدعة- ولكن ينبغي له أن يخرج من المسجد لئلا يؤذي المسلمين والملائكة؛ لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، والإنسان يؤجر على جلوسه في المسجد طيلة جلوسه إلا إذا أحدث، فعند ذلك ينقطع أجره، ولا تدعو له الملائكة إذا أحدث، ولذلك إذا خرج منه شيء، يذهب ويتوضأ ويرجع ويكمل اعتكافه، وكذلك إذا نام -مثلاً- يقوم ويتوضأ ويرجع، أما المعصية في المسجد والبدعة فيه فهي من المصائب العظيمة.
(17/15)
بنيان المساجد
ثم قال رحمه الله: باب بنيان المسجد، وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: [أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس]، وقال ابن عباس: [لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى] فأما بنيان المساجد فهو من علامات الإيمان، وهو أمرٌ مأمورٌ به شرعاً أن تبنى بيوت الله تعالى للعبادة فيها، ولكن المحذور هو التباهي بها والمفاخرة، كما قال أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي على أمتي زمانٌ يتباهون في المساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)، وفي رواية أبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) يشيدون مساجد كبيرة وعظيمة ضخمة سقوفها مرتفعة، فيها زينات ونقوش، ولكن من الذي يصلي فيها؟ قلة من الناس: (يأتي على أمتي زمانٌ يتباهون في المساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً) تجد المسجد الضخم لكن فيه نصف صف، وعمارة المساجد طاعة وقربة لله: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) لكن زخرفة المسجد سواءً ما وضع فيه من الأشياء المذهبة، أو المفضضة، أو الألوان، أو النقوش، والزخارف المحفورات الكتابات كل ذلك من الأمور المنهي عنها، وهذا من التشبه باليهود والنصارى، لأن اليهود والنصارى في كنائسهم ومعابدهم هكذا يفعلون، ولذلك ينبغي أن تكون المساجد نظيفة مبنية مسقوفة تحمي الناس من المطر! نعم، مثل: التكييف الآن مهم، والإنارة مهمة للقراءة، لكن أن نجعلها مزخرفة ملونة مكتوباً فيها كتابات في الجدران خطوط، فهذا كله لا يجوز؛ لأنه إضاعة للمال في غير طاعة وقربة، بل في شيء من البدع، ثم إشغال المصلين بالزخارف والنقوش.
(17/16)
التعاون في بناء المساجد
وكذلك عنون رحمه الله باباً بعنوان: التعاون في بناء المسجد، وساق حديثاً لـ ابن عباس أنه قال لـ عكرمة ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا، فإذا هو في حائطٌ يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد، فقال: كنا نحمل لبنةٍ لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فنفض التراب عنه، وقال: (ويح عمار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار).
التعاون في بناء المساجد سواءً كان مادياً؛ كأن يجتمع مجموعة من الناس وكل إنسان يتبرع بشيء، أو يتعاونون في نفس البناء بمعنى أن كل واحد يتولى شيئاً من الأشياء في البناء، فهذا من التعاون على البر والتقوى، وهذا الذي حدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تعاون الصحابة في بناء المسجد ونقلوا الحجارة.
(17/17)
الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد
وقال البخاري رحمه الله: باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى امرأة أن (مري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن) أي: المنبر، فاستعان بنجار المرأة لأجل أن تعمل أعواد المنبر ليجلس عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك جاء في حديث طلق بن علي، قال: (بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مساً، وأشدكم له سبكاً) رواه أحمد، وفي لفظٍ له: (فأخذت المسحاة، فخلطت الطين فكأنه أعجبه، فقال: دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين) أي: أنه في الصنعة متقن في الطين وفي البناء، ولذلك قال: أنت عليك الخلط، أنت ماهرٌ فيه، وفي رواية: قلت: (يا رسول الله! أأنقل كما ينقلون؟ فقال: لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به) و (ومن بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) ومهما كان صغيراً، ولو شارك في بناء مسجد بشيء يسير في الموضع الذي بني بماله من المسجد يؤجر عليه في الجنة أيضاً.
(17/18)
هل يأخذ بنصول النبل إذا مرّ بالمسجد؟
ثم ساق رحمه الله: باب: يأخذ بنصول النبل إذا مرَّ بالمسجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معه نبل، فقال: (أمسك بنصالها) وفي رواية: (فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلماً) أي: لا يجرح، هذا إذا كان نصال السهام التي معه مكشوفة -الحد- فأمره أن يأخذ عليها حتى لا يجرح مسلماً وهو مار في المسجد.
(17/19)
حكم إنشاد الشعر في المسجد
وتحت عنوان: باب: الشعر في المسجد، فإن البخاري رحمه الله قد أتى بحديث حسان: (يا حسان! أجب عن رسول صلى الله عليه وسلم، اللهم أيده بروح القدس) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم له.
إذاً: الأشعار التي يجوز أن تُقال في المسجد هي الأشعار المشتملة على الحق الأشعار التي في نصرة الدين، أما أشعار الجاهلية أشعار السوء أشعار الفحش، فلا يجوز أن تقال في المساجد.
(17/20)
أصحاب الحراب في المسجد
ثم ساق البخاري رحمه الله حديث الحراب لـ عائشة، ولعب الحبشة بالحراب، ونظر عائشة إليهم تحت عنوان: باب: أصحاب الحراب في المسجد، والحبشة لما لعبوا بالحراب لم يكن لعب لهو، ولكنه كان لأجل التدرب على القتال، والتمرن، وهو من تدريب الشجعان على مواقع الحروب، والاستعداد للعدو.
(17/21)
حرمة البيع والشراء ونشدان الضالة في المسجد
ومن أحكام المسجد: أنه لا يجوز البيع والشراء فيه: (من رأيتموه يبيع فيه أو يشتري، فقولوا: لا أربح الله تجارتك).
وكذلك لا يجوز أن تنشد في المسجد الضالة، أو يسأل عن الشخص أو يسأل عن أشياء من وجد ساعةً؟ من وجد محفظتي؟ من وجد بطاقتي؟ فقدت كذا، ويجهر بهذا، أو تعلق إعلانات داخل المسجد، فلا يجوز إنشاد الضالة في المسجد.
(17/22)
من السنة كنس المسجد وتنظيفه
ومن السنة: كنس المسجد، والتقاط الخرق والقذى والعيدان؛ كما جاء عن أبي هريرة: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، فماتت، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقالوا: ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني بها، دلوني على قبرها، فأتى قبرها فصلى عليها).
إذاً النبي عليه الصلاة والسلام اهتم بهذه الأمة السوداء، ولام الصحابة لماذا لم يخبروه، وأتى إلى القبر وصلى تكريماً لها، هذا المحتسب في تنظيف المسجد.
كذلك من رأى شيئاً في المسجد التقطه؛ عيدان، خرق، قذى، أذى، كنس المسجد، كل هذا يؤجر عليه الإنسان المسلم، واتخاذ الخادم للمسجد -أيضاً- يؤخذ من نفس الحديث، وإذا كان متبرعاً فهذا له أجرٌ عظيمٌ.
(17/23)
ربط الأسير الكافر في المسجد
يجوز ربط الأسير الكافر في المسجد، كما ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة يسمع القرآن يرى الصلوات لعله يتأثر، ويجوز دخول الكفار إلى المسجد لأجل المصلحة، غير المسجد الحرام، لينظروا إلى المصلين إذا كانوا لا يؤذون لا ينجسون لا يوسخون لا يدخلون بمناظر سيئة، ملابس قصيرة، أو نساء متبرجات، أو كاميرات للتصوير، إذا كان يريد أن ينظر، قال: أنا أريد أن أرى مساجدكم، أرى كيف تصلون، لا بأس أن نقول له: تعال، يأتي نظيفاً ويدخل ويجلس -مثلاً- يشاهد الناس كيف يصلون؟!
(17/24)
حكم استعمال غير المسلمين في بناء المساجد
كذلك استعمال الكفار في بناء المساجد، إذا لم يكن هناك مسلمين فإنه يجوز، وإذا وجد مسلمون يقدم المسلمون للبناء؛ لأننا لا نأمن من الكفار.
وكذلك بنى النبي صلى الله عليه وسلم، أو جعل خيمة للمرضى في المسجد، كما أنه جعل سعد بن معاذ فيها، فتمريض المريض في المسجد وجعله في خيمة أيضاً جائزٌ.
(17/25)
النهي عن رفع الأصوات في المسجد
رفع الأصوات في المساجد مما يُنهى عنه، وعمر -رضي الله عنه وأرضاه- لما سمع صوت رجلين ارتفعا، قال: [اذهب فأتني بهذين، فجئت بهما، قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم] فالمسجد لا يرفع فيه الصوت؛ لأجل الحفاظ على العبادة فيه وتهيئته، ويكون مكاناً هادئاً ليس مكان ضوضاء صخب.
بعض الناس يرفعون الأصوات فيه ويتشاجرون، ويحدثون نقاشات مرتفعة وصياح، هذا بيت الله، وإذا كان المسجد النبوي من باب أولى عدم جواز رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه من سوء الأدب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4].
(17/26)
حكم الاستلقاء في المسجد والنهي عن تشبيك الأصابع
يجوز الاستلقاء في المسجد ومد الرجل إذا أمن انكشاف العورة.
وينهى عن تشبيك الأصابع عند الذهاب إلى المسجد، وعند انتظار الصلاة، ثم إذا أراد أن يمثل مثلاً فشبك بين أصابعه لمصلحة أو لحاجة فلا بأس بذلك.
وهذه المساجد بيوت الله تعالى إذا عرف الإنسان أحكامها وآدابها، أجر أجراً عظيماً؛ لأنه يعطي المسجد حقه، فأما إذا عاش في جهل وعمل في جهل، فإنه ربما اعتدى على حرمات المساجد من حيث يدري ولا يدري.
نكتفي بهذا القدر من الأحكام والله تعالى أعلم.
(17/27)
الأسئلة
(17/28)
حكم أداء التراويح في مسجد والقيام في مسجد آخر
السؤال
لو صلى رجل تراويح في مسجد، ثم صلى القيام في مسجد آخر فما الحكم؟
الجواب
لا بأس بذلك، لكن الصلاة مع إمام المسجد نفسه حتى ينصرف يكتب له قيام ليلة، يصلي جميع الصلاة، ولو كان المسجد له أكثر من إمام يصلي الصلاة مع جميعهم.
(17/29)
حكم تقدم المأموم على الإمام خارج المسجد
السؤال
بعض الناس يتقدمون على الإمام من الخارج فهل يجوز ذلك؟
الجواب
لا يجوز إلا إذا ازدحموا جداً وصار للضرروة.
(17/30)
حكم إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين
السؤال
ما حكم إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين؟
الجواب
إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين جائز، أما قبل ذلك فلا.
(17/31)
مخالفة أصوات الهاتف النقال لآداب المسجد
السؤال
لوحظ في الفترة الأخيرة كثرة أصوات أجهزة النداء الآلي والهاتف الجوال في المساجد فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
هذا بطبيعة الحال من عدم الأدب مع المساجد، فعلى الإنسان إذا أراد أن يدخل مسجداً أن يغلق الجرس، لأنه هل سيتكلم بالهاتف في المسجد؟! إذاً ماهي الفائدة يغلق الجرس.
(17/32)
حكم من خرجت منه ريح في المسجد
السؤال
الريح في المسجد إذا خرجت فما الحكم؟
الجواب
يخرج ويتوضأ، وكثيراً ما تخرج ريح من غير تحكم من الشخص.
(17/33)
حكم طواف الوداع في العمرة
السؤال
هل يجب طواف الوداع في العمرة؟
الجواب
قول الجمهور وهو الراجح أنه مستحب وليس بواجب.
(17/34)
حكم خروج المعتكف للاتصال بأهله
السؤال
هل للمعتكف أن يخرج للاتصال بأهله والاطمئنان عليهم؟
الجواب
نعم إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
(17/35)
حكم خروج المعتكف للاغتسال وتغيير الملابس
السؤال
ما حكم خروج المعتكف للاغتسال وتغيير الملابس؟
الجواب
يجوز ذلك، لأنه إذا احتلم مثلاً، أو أصابه عرق أو شيء يخرج ليغتسل ويرجع، أما الأكل إذا لم يتيسر أن يحضر معه طعاماً يخرج يأكل ويرجع ويكون خروجه بقدر الحاجة.
(17/36)
حكم إتيان المعتكف زوجته في المنزل
السؤال
ما حكم إتيان الزوجة في المنزل؟
الجواب
يبطل الاعتكاف {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].
(17/37)
حكم اتصالات المعتكف المتعلقة بعمله
السؤال
ما حكم اتصالات المعتكف المتعلقة بالعمل؟
الجواب
لا.
لأنه ليس لها علاقة بالمسجد بالعبادة، ولذلك على الإنسان أن يحاول قطع كل الأشغال في فترة الاعتكاف، أما الأشياء الطارئة والضرورية التي لا بد منها إذا دعت الحاجة الشرعية إليها فإنه يخرج من أجلها.
(17/38)
حكم رفع الأيدي أثناء دعاء الإمام في القنوت
السؤال
ما حكم رفع المأمومين أيديهم عند دعاء الإمام في القنوت؟
الجواب
في خطبة الجمعة لا ترفع الأيدي، إلا في الاستسقاء.
(17/39)
حكم مسح الوجه بعد الدعاء
السؤال
ما حكم مسح الوجه بعد الدعاء؟
الجواب
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
(17/40)
حكم تحية المسجد الحرام
السؤال
إذا دخلت المسجد الحرام، هل أصلي ركعتي المسجد؟
الجواب
نعم، والطواف تحية يغني عن تحية المسجد.
(17/41)
زكاة الفطر لمن ولدت
السؤال
من صامت شيئاً من رمضان ثم وضعت هل عليها زكاة الفطر؟
الجواب
نعم.
(17/42)
حكم لبس البنطلون بالنسبة للمرأة
السؤال
ما حكم لبس المرأة البنطلون؟
الجواب
أفتى بعض العلماء المعاصرين بحرمة ذلك، خصوصاً وأن أكثر البنطلونات الضيقة ما بين السرة والركبة، وليست فضفاضة، ولا واسعة، وأن في بعضها تشبه واضح بالرجال، ولذلك يسد هذا الباب تماماً، أما أن المرأة تلبس لزوجها فتلبس ما شاءت ما دامت ليست متشبهة تلبس ضيقاً تلبس قصيراً تلبس شورتاً، ما دام لزوجها، فإنها لا بأس أن تفعل أي شيء من ذلك.
(17/43)
ضابط دم الحيض
السؤال
امرأة خرج منها دم بسيط لمدة ثلاثة أيام فهل هو دم حيض؟
الجواب
إذا كان الدم في وقت الحيض فهو حيض، أما إذا كان في غير وقت الحيض، لا الكمية مثله، ولا الرائحة، ولا الأوجاع المصاحبة، ولا الوقت، ولا اللون، فإنه ليس بحيض.
(17/44)
حكم تحية المسجد في مصلى العيد
السؤال
مصلى العيد هل له تحية مسجد؟
الجواب
لا، إلا إذا كان مسجداً، إذا صلوا العيد في المساجد، أما إذا صلوا في المصليات الخارجية في الصحراء، فهذا ليس له تحية مسجد على الراجح.
(17/45)
فضل إتيان مسجد قباء وصلاة ركعتين
السؤال
ما فضيلة إتيان مسجد قباء يوم السبت وصلاة ركعتين؟
الجواب
يعادل أجر عمرة.
(17/46)
مصير أولاد الكفار
السؤال
ما مصير أولاد الكفار؟
الجواب
اختلف العلماء فيهم، قال بعضهم: هم في النار، وقال بعضهم: هم في الجنة، وقال بعضهم: هم خدم أهل الجنة، وقال بعضهم: يمتحنون يوم القيامة مثل المجانين وغيرهم، فإذا ثبت حديث: (أطفال المشركين خدم أهل الجنة) وجب المصير إليه، وإلا نقول: إن أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى.
(17/47)
حرمة الانتفاع بالخمر
السؤال
هل للخمر منافع؟
الجواب
نعم.
فيها منافع، وربما أكسبت حرارة في البلدان الباردة، وفي تجارتها منافع مادية، لكن إثمها أكبر من نفعها، فهي حرام، حرام، حرام.
(17/48)
زكاة أسهم الشركات
السؤال
كيف تخرج زكاة أسهم الشركات؟
الجواب
إذا اتخذتها للتجارة ويبيع ويشتري فيها إذا ارتفع سعرها، فالزكاة على الأصل وعلى الأرباح، وإذا كان قد اتخذها ليتعيش من ربحها فقط، وليس ليتاجر بأصلها، فالزكاة على الربح إذا حال عليها الحول.
(17/49)
قصة بني إسرائيل مع البقرة
ما ذكر الله قصص أنبيائه في القرآن إلا عبرة لأولى الألباب، ومن هذه القصص قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل وأمرهم بذبح البقرة، فقد عرضت في القرآن بأسلوب يظهر فيه مدى تلكؤهم وسوء أدبهم مع أنبياء الله، وتعديهم لحدود الله عز وجل، وقد ذكر الشيخ في آخر الدرس مجموعة من الفوائد المتعلقة بهذه القصة، ومن أبرزها أن اليهود قوم بهت مماطلون مخادعون حتى لأنبياء الله عليهم السلام.
(18/1)
فوائد من قصص الأنبياء
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
لقد جاءت هذه الآية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في فترةٍ هي من أحرج الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى مواساةٍ وأنس وتثبيت، فجاءت هذه القصص لتثبتهم في غمرة هجوم أهل الباطل الشرس ضد جنود الحق، وكذلك فإن هذه القصص عبرة لأولي الألباب كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].
(18/2)
القصص توجد عند أهل الكتاب من حيث العموم
وهذه القصص التي في القرآن يوجد بعضها عند اليهود والنصارى، بل الكثير منها موجود من جهة العموم، يعرفون قصة يوسف من جهة العموم، يعرفون قصة أصحاب الكهف من جهة العموم، لكن التفصيلات التي جاءت في القرآن لا توجد عندهم، بل إنهم قد اختلفوا في أشياء، وجاء القرآن يفصل بينهم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76].
فأكثره قد فصل بينهم فيه في هذا الكتاب العزيز، ولذلك فإننا لسنا بحاجة إليهم: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22] لا تستفتِ في أهل الكهف أحداً من أهل الكتاب، فعندك المرجع، وعندك الكفاية.
(18/3)
موقفنا مما عند أهل الكتاب من العلم
ولذلك فإن اللجوء إلى الإسرائيليات في معرفة التفاصيل ليس من الحكمة في شيء، فهذه الإسرائيليات كثيرٌ منها كذبٌ وافتراءٌ على الأنبياء، وفيه ما لا يليق بهم، والقصص عن الماضين غيب فإننا لم نكن معهم، كما قال الله تعالى بعد سياق قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49] وقال في ختام قصة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102]، وقال في قصة مريم: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون} [آل عمران:44] فإذاً هذه القصص بالنسبة لنا غيب؛ لأننا لم نشهدها، ولم نسمعها، ولم نعاصرها من قبل، ولذلك لا يجوز أن نأتي على الغيب بشواهد من الإسرائيليات الموجودة عند الكفار في كتبهم من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى قد أغنانا عنها، وهذه الإسرائيليات الموجودة ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يوافق ما عندنا فهذا نأخذه بطبيعة الحال.
والقسم الثاني: يخالف ما عندنا ويصادمه ويضاده، فهذا نرفضه ونكذب به.
وقسم ثالث: لا يوافق ولا يخالف، فقد يكون فيه تفصيل معين ليس مذكوراً في القصة التي وردت في الكتاب والسنة، كذكر بعض البقرة الذي ضرب به القتيل من بني إسرائيل فحيي، مثل هذا نحن لا نصدق به ولا نكذب؛ لأنه قد يكون حقاً فنكذبه، وقد يكون باطلاً فنصدقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص لنا في رواية أخبارهم -غير المصادمة للشريعة- لكنه قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإنه قد يكون حقاً فتكذبونهم به، وقد يكون باطلاً فتصدقونهم به) ولذلك فهذا موقفنا من الإسرائيليات.
(18/4)
الفائدة من سرد هذه القصص في القرآن
وبالنسبة لهذه القصص فإنها بديعة الطريقة، عجيبة الأسلوب، صادقة الخبر، بتدبرها تظهر السنن الربانية، فإنه في نهاية كل قصة يكون فيه خبر التمكين والنصر للمؤمنين والهلاك والعذاب للمكذبين، كما قال الله تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] وهذه القصص ليست مخترعةً، بل إنها واقعة حقاً وحقيقة كما أخبرنا ربنا عز وجل، وينبغي أن يكون موقفنا منها الاعتبار والتفكر كما تقدم.
وما نعجبه أشد العجب: ما الذي أصاب هذه الأمة حتى غضت النظر عن القصص التي قصها ربها عليها في كتابه، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وحتى إن بعض المرتدين في هذا العصر زعم أن في القرآن خرافات مثل عصا موسى وقصة الكهف، ولا شك أن هذا الكلام كفرٌ وردة وخروج عن ملة الإسلام.
وكذلك فإن هذه القصص فيها نوعٌ من التربية عظيم، فإن التربية بالقصة من ألوان التربية المهمة، فإن الحادث المرتبط بالأسباب والنتائج تهفو لها الأسماع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضي كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، وكذلك نستفيد منها الإيمان بالرسل، فإننا وإن كنا نؤمن بجميعهم على وجه العموم والإجمال، لكن لما تأتي تفاصيل قصة بعض الأنبياء بالدقائق والأحداث فإن ذلك يزيدنا إيماناً بهم على إيمان، وكذلك فإن في هذه القصص تقريراً للإيمان بالله وتوحيده وإخلاص العمل له عز وجل، وكذلك فإن فيها عبرة للمؤمنين يقتدون بها في سائر المقامات، كالعبودية والدعوة والصبر والثبات والطمأنينة والسكون والصدق والإخلاص لله رب العالمين.
ويوجد في كثيرٍ من القصص أحكامٌ فقهية وشرعية يعرفها أهل العلم، كما استدل أهل العلم من قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] على جواز عقد الجعالة والكفالة؛ بابان من أبواب الفقه دليلهما في هذه الكلمات من الآية في قصة يوسف.
وكذلك فإن في هذه القصص التسلية عن المؤمنين فيما يلاقونه من أنواع التكذيب والاتهام الباطل من الكفار، وفيها إبراز أن الأنبياء كلهم جاءوا بشيءٍ واحد وهو التوحيد والإسلام وإن اختلفت شرائعهم.
وكذلك فيها أن الابتلاء لابد أن يحدث للمؤمنين وأن هذه سنة الله فيهم، وأن وظيفة رسل الله البلاغ، وأنهم لا يملكون للناس نفعاً ولا ضراً، وقد يوجد لنبيٍ ولدٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي أبٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي زوجة كافرة لا يغني عنها شيئاً.
وكذلك فإننا نستفيد من القصص التي ذكرها ربنا عز وجل مواعظ، الآفة التي وقع فيها كل قوم فنستفيد معرفة عيب قوم نوح في غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون في ثروتهم وعتوهم، وقوم لوط في فاحشتهم، وقوم عاد في قوتهم وبطشهم، وقوم ثمود في أشرهم وبطرهم، وقوم مدين في تطفيفهم للمكيال وإخسارهم للموازين، وبني إسرائيل في تمردهم وتحايلهم ونكوصهم.
وكذلك فإننا نستفيد من هذه القصص بمقارعة أهل الكتاب الحجة بالحجة والبيان، وكذلك فإننا سنكون شهداء لكل نبي على أمته يوم القيامة.
ومن شروط الشاهد: أن يعلم ما يشهد به، والدليل على هذه الشهادة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم.
فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً) كذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].
ثم إن في هذه القصص بياناً لبلاغة القرآن الكريم، وهذه الخصيصة العظيمة كيف جاء هذا النسق وهذا الأسلوب البديع في القرآن الكريم وهو ولا شك معجزةٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
فهذه طائفة من فوائد القصة وشيء من التربية في القصة، ولنشرع الآن في ذكر قصة من القصص في هذا القرآن وهي قصة البقرة.
(18/5)
طبيعة اليهود من خلال نظرتهم إلى أوامر الله عز وجل
كنا قد مررنا بهذه القصة في تلاوتنا في سورة البقرة في التراويح، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] الآيات.
(18/6)
خلاصة القصة
وهذه القصة خلاصتها: أنها وقعت جريمة قتل في بني إسرائيل في زمن موسى، ولم يعرف القاتل، وتدافعوا في ذلك وصارت الاتهامات متبادلة، وأراد الله تعالى أن يكشف لهم القاتل بواسطة معجزة مادية محسوسة، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرةٍ، أي بقرة كانت بدون تحديدٍ لمواصفاتها، ولكن طبيعة اليهود في التلكؤ والمماطلة والجدال جعلتهم يسألونه عن عمر البقرة أولاً، ثم عن لونها ثانياً، ثم عن عملها ثالثاً، وأخيراً ذبحوها وما كادوا يفعلون، وأمروا بضرب القتيل ببعضها فضرب، فأحياه الله فأخبر عن قاتله وقال: قتلني فلان، ثم قيل: إنه قد مات في وسط دهشة بني إسرائيل.
وهذه القصة ولا شك من القصص العظيمة التي قصها علينا ربنا في القرآن الكريم عن بني إسرائيل لنأخذ منها العبرة والعظة.
وهذه القصة لا شك قد اكتنفتها إسرائيليات، وجاءت في بعض تفاصيلها أخبار، لكننا على الموقف السابق لا نحتاج إلى هذه التفصيلات؛ لأنه لو كان لنا فيها خير وفائدة لذكرها ربنا عز وجل، فنحن لا نستفيد شيئاً إذا عرفنا أن البعض الذي ضرب منه القتيل من البقرة هو الذَّنب أو غضروف الكتف، أو الرجل، أو الرأس، هذا التفصيل لا يفيدنا، فإن كان ورد في بعض الإسرائيليات فإننا في غنية عنه.
هذه القصة توضح بجلاء تنطع بني إسرائيل وتشددهم في الأحكام، وكيف أن الله شدد عليهم، وقد كره لنا كثرة السؤال.
(18/7)
أسلوب القرآن في عرض القصة
وجاءت هذه القصة بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر في النظر إليها تحريكاً، ويهز النفس للاعتبار بها هزاً، وقال الله تعالى فيها: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] هذا ذكرت فيه المخالفة أو الاختلاف (فادارأتم فيها) ثم المنة في الخلاصة بقوله فقلنا: (فاضربوه ببعضها) ولكن وسيلة الخلاص من هذه الاتهامات وهذا اللغط، الوسيلة ذكرت قبل السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فإننا أول ما نطالع الآيات: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] نحن لا نعرف لماذا في البداية، لكن عندما نقرأ التكملة: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] ثم قال: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] عرفنا السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة.
فإذاً: تقديم ذبح البقرة كان فيه تشويق للسامع إلى معرفة ما وراء القصة، وما هو السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، ثم يفاجأ الشخص وهو يقرأ بحكاية السبب، وقد حصل عنده تشويقٌ سابق لمعرفة السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فتتوجه الفكرة بأجمعها لتلقي ذلك، وتظهر الحكمة في أمر الله تعالى لأمةٍ من الأمم بذبح بقرة خفية.
(18/8)
تنطعهم في تنفيذ الأوامر
وظاهر الأمر أن نبيهم موسى عليه السلام أمرهم بذبح بقرةٍ غير معينة، ولكنهم تنطعوا وتشددوا فشدد الله عليهم، فقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] أي بقرة كانت، وكونهم بحثوا في صفاتها تكلفاً منهم، كان ينبغي لهم أن يتنزهوا عنه، وأن يمتثلوا الأمر بذبح البقرة، ولو كان هناك صفة معينة في هذا لذكرها لهم ربهم على لسان نبيهم، ولذلك عنفهم الله تعالى بقوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68]، وفي قوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] وعلمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً، وجاء عن ابن عباس بإسنادٍ صحيح أنه قال: [لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأت منهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم] وقد كانوا محتاجين إلى ذبح البقرة لمعرفة القاتل، والله تعالى لم يذكر لهم صفة معينة في أول الأمر، فدل ذلك على أنه يجزئ أي بقرة، ولو كان البيان متعيناً لجاء، إذ لا يجوز من الله أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فكلفوا في البداية بذبح أية بقرة كانت، وثانياً كلفوا ألا تكون لا فارضٌ ولا بكر، بل عوان بين ذلك، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلول، تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كلما تشددوا في السؤال، شدد الله عليهم بصفات إضافية في هذه البقرة.
ولما أمرهم بذبح البقرة قالوا له: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] يعني: أتجعلنا مكاناً للهزأ والسخرية؟ أتهزأ بنا؟ أتتخذنا سخريةً؟
(18/9)
سوء أدبهم مع نبي الله عليه السلام
بهذا يواجهون نبيهم، نبي يأمرهم بأمر يقولون: أتهزأ بنا؟ أتسخر منا؟ هل هذا خطاب يليق بنبي؟ هل هذا أدب ينبغي للنبي؟ هذا من شأن بني إسرائيل الذين تمردوا على نبيهم، وظنوا أنه يلاعبهم، ظنوا أنه يهزأ بهم، وأشعر جوابهم هذا ما ثبت من فضاضتهم وسوء أدبهم، ولذلك رد موسى عليهم بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] لأن الاستهزاء في أثناء التبليغ لا يليق بنبي، كيف يهزأ نبي وهو يبلغ قومه؟! كيف يجعل في التبليغ مجالاً للسخرية والاستهزاء والمزاح والضحك والعبث؟! لا يمكن، ولذلك تجلى سوء أدبهم، لما قالوا له: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67].
وفي قول موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] فائدة بديعة في دفاع الداعية عن نفسه إذا اتهم بشيءٍ باطل، وهذا الهزأ في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهلٌ وسفه نفاه موسى عن نفسه، وأكد أنه جاد غاية التأكيد، وقال: أعوذ بالله، ألتجئ وأعتصم به أن أكون من الجاهلين الذين يتقدمون في الأمور بغير علم، فرموا موسى بالسفه والجهالة، ودافع موسى عليه السلام عن نفسه، وقال: ألتجئ إلى الله وأعتصم بتأديبه إياي من الجهالة والهزأ بالناس.
وكان موسى عليه السلام حكيماً لما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [البقرة:67] لم يقل: أنا آمركم، أو اذبحوا بقرة؛ لأن موسى يعلم طبيعة هؤلاء القوم، ويعلم تلكؤهم وتباطؤهم وتمردهم، ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [البقرة:67] بيَّن لهم أن الأمر من الله حتى يقطع عليهم الطريق على التأخر في التنفيذ أو التحايل، ويقطع عليهم الطريق في المناقشة.
ربما قالوا له: إنما أتيت به من عند نفسك، هذا رأيك الشخصي أن نذبح بقرة، لكنه قال لهم بكلمات واضحة ومحددة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] وقوله: (بقرة) هذه نكرة في سياق الأمر تفيد العموم، اذبحوا أي بقرة، التنكير هنا يفيد العموم، لا يهم لونها ولا حجمها ولا عمرها، ولا عملها، ولا ثمنها، المهم أن تذبحوا بقرة، لكن اليهود قومٌ بهت، لم ينقادوا للأمر ولم ينفذوه فوراً، ولم يطيعوا الله ورسوله، وأنى لهم أن يفعلوا ذلك؟ فلذلك بدلاً من أن يوقروا نبيهم وينفذوا أمره، تواقحوا عليه وأساءوا الأدب واعترضوا قائلين: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] وكأنهم يقولون: عجيب! ما هي الصلة بين ذبح البقرة وبين كشف هوية القاتل؟ نحن جئناك في حل قضيتنا نريد أن نعرف القاتل، وبما أنك نبي تعلم الغيب بإذن الله فأخبرنا من هو القاتل، ثم أنت تطلب منا أن نذبح بقرة بدلاً من أن تكشف لنا عن القاتل؟! وهذا طلبٌ مريبٌ يدل على أنك تريد أن تتخذنا هزواً.
(18/10)
خطورة الاستهزاء والمزاح في الأمور الدينية
أولاً: هذه طبيعة نفسية بني إسرائيل، يعتبرون أمر الله تعالى نوعاً من الهزأ والسخرية، وثانياً: يظنون أنه بهذا الطلب يريد أن يشغلهم عن قضيتهم الأساسية لمعرفة القتيل، وثالثاً: يظنون أن موسى الجاد عليه السلام الذي هو من أولي العزم من الرسل يظنون أنه يسخر ويهزأ ويلعب من خلال الأوامر التي يوجهها لهم، وهذا يشبه ما فعله قوم إبراهيم لما قالوا له: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] ونفى موسى التهمة عن نفسه، وقال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] وهذا دليل على أن السخرية والاستهزاء جهل.
وفيه فائدة تربوية مهمة: وهي أن الإفراط في المزاح وعدم الجدية من الجهل.
وأن الشخص المزاح اللعوب الذي يكثر السخرية والاستهزاء إنسانٌ جاهل، وبذلك نعلم أيضاً من هذه الآية خطورة الاستهزاء والطرف التي يرويها بعض الناس التي يسمونها نكتاً في قضايا عقدية أو شرعية، وأن هذا أمرٌ خطير يؤدي إلى الكفر والخروج عن الملة، كما ينسب بعضهم الجنة والنار ويعملون (نكت) وطرائف على بعض أحكام الشريعة.
وكذلك نعلم أن الذين حولوا حياتهم وحياة الآخرين إلى ضحكٍ دائم فيما يسمونه (بالكوميديا) اليوم، ويعملون لها مسرحيات وأفلاماً ويكون هم الشخص هو الضحك واللعب، يتبين لنا أن هؤلاء الناس من الجاهلين.
وكذلك يتبين أن المسلم الصادق جاد وملتزم، قد يمزح ولكنه لا يقول إلا حقاً، وقد يضحك ولكن بأدبٍ ووقار، وليس المعنى تحريم الضحك أو المزاح، بل إن المقصود هو منع تحويل الحياة إلى ضحكٍ كلها ومزاحٍ وعدم الجدية، فإن المسلم الجاد لا يرضى أن يكون من الجاهلين.
(18/11)
تجرؤهم بقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)
قالوا له بعد ذلك لما قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:67 - 68] قولهم (ادع لنا ربك) كأنهم يقولون: ربك أنت وليس بربنا نحن، وهذا ربما دل على سوء أدبهم مع الله تعالى، وقد قالوا أشياء كبيرة مثل هذا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].
وهذا يكشف عن طبيعتهم ويبين الفرق بينهم وبين الصحابة في الأدب مع الله، فإن صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] لما نزل قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] شق ذلك على الصحابة، لكن لم يتمردوا ولم يرفضوا، قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فلما زلت بهم ألسنتهم أنزل الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] إلى آخر الآية التي فيها تجاوز عن الناسي والجاهل والمخطئ، الجاهل الذي لا يعلم الحكم وهو معلومٌ بجهله.
لكن بنو إسرائيل يختلفون عن الصحابة تماماً، لم يقولوا: سمعنا وأطعنا، قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68] قالوا: أنت حيرتنا، أنت أبهمت علينا الأمر، كلامك غير واضح، يحتاج إلى زيادة تفصيل، حدد لنا عمر هذه البقرة وكأنهم يقولون: لو حددت لنا عمر البقرة نكتفي وننفذ، فأجابهم بقوله: (إنه يقول) مرة أخرى يعزو الأمر إلى الله، والتفصيل من الله، والحكم من الله لا من عنده: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] لا فارض يعني: غير مسنة انقطعت ولادتها، ولا بكرٌ لم تلد بالمرة، وإنما المراد من ولدت قليلاً ولم تلد كثيراً، عوانٌ بين ذلك: يعني: سنها لا هو صغيرٌ ولا هو كبير فهي متوسطة، حتى قيل: إن العوان معناها: النصف في السن من النساء والبهائم تسمى عوان، ولما ضيقوا ضيق الله عليهم، وجاءهم بهذا القيد الإضافي على البقرة، وقال لهم نبيهم وهو يحس بطبيعتهم ويعلمها: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] أكد عليهم الفعل؛ لأنه يعلم حالهم، كأنه يقول: اذبحوها الآن على هذه الصفات ولا تكرروا السؤال، وإنما اندفعوا للتنفيذ فوراً.
ويستفاد من هذا أن الوسط هو الطيب، ولذلك الآن في الأضحية والعقيقة لا يجزئ أقل من ستة أشهر في الضأن وسنة في المعز، وأن ما كان وسطاً في عمره هو أجود اللحوم، فلحم الحيوان الصغير الذي لا يزال في بداية نموه قد تنقصه بعض الفوائد والكمية، ولحم الحيوان الكبير يكون قد قسا ويبس وفقد بعض فائدته الغذائية فيكون الوسط هو الأفضل.
قال لهم نبيهم: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] اتركوا المزاجية والاعتراض والتلكؤ، والسؤال الذي نهيتم عنه، واشرعوا في التنفيذ، لكن هل فعلوا ذلك؟ وهل امتثلوا الأمر؟
الجواب
لا.
(18/12)
فائدة أصولية في باب الأمر
وفي قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] دليلٌ لما ذهب إليه أهل العلم من أن الأمر يقتضي الوجوب، أي أمر في القرآن والسنة يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف عن الوجوب إلى الاستحباب، وهذا هو الصحيح في أصول الفقه.
وكذلك من هذه الآية يستدل أيضاً على قاعدة أصولية أخرى تتعلق بالأمر، وهي: الأمر على الفور لا على التراخي، فإذا أمرنا بشيء يجب أن ننفذ فوراً، وهذه حجة من ذهب من العلماء إلى أن الواجب الحج فوراً: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) أول ما تتمكن تحج، لا يجوز لك التأخير بدون عذر، فإذاً الأمر يفيد الوجوب، والأمر على الفور لا على التراخي، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، لكن هل هم نفذوا على الفور؟
الجواب
لا.
(18/13)
مواصلة العناد وزيادة التشديد عليهم
قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69] انتقلوا إلى السؤال عن اللون، كان السؤال الأول عن عمر البقرة، الآن صار السؤال عن اللون، دائماً اللجاجة تقود إلى سؤالٍ جديد، فالذي لا يريد الحق دائماً يخرج لك أسئلة جديدة، والذي من طبيعته التلكؤ والنكوص يخرج أسئلة جديدة.
كانوا يزعمون أن الإبهام في الأمر الذي أمروا به في العمر، فإذا بهم الآن يرونه إبهاماً من وجهٍ آخر، ويقولون: إننا لا نعرف ما لونها، ما اللون المطلوب؟ وكأنهم يقولون: لو عرفنا اللون ذبحناها، ما لونها؟ {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69].
فلما شددوا شدد الله عليهم، ووضعهم في ضيقٍ أشد، فأمرهم بذبح بقرةٍ صفراء فاقع لونها مع أن اللون الأصفر الفاقع في البقر نادر، لكن لما شددوا شدد الله عليهم، ولعل أهلها لا يبيعونها إلا بثمن مرتفع -هذه البقرة الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين- ولا شك أن هذا من التضييق عليهم.
قال لهم: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] والفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، ويقال في التوكيد: أصفر فاقع، وأسود حالك، وأبيض يقق، وأحمر قانٍ، وأخضر ناظر، فالمقصود في قوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] يعني: شديدة الصفرة، نقية ما فيها إلا اللون الأصفر، ولا شعرة إلا صفراء، {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] يعجب الناظرون إليها، حتى إن جمهور المفسرين أشاروا إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولذلك قالوا في أحكام المعتدة: إنها تترك الزينة في الذهب والحلي والملابس الجميلة، فقالوا: تترك الملابس الصفراء والحمراء إلخ، فيعتبرونه من الألوان السارة (تسر الناظرين) حتى إن بعضهم ربما كان يلبس الأصفر من النعال، ويقول: اتركوا لبس النعال السود لأنها تغم، فاللون الأسود قد يدل على الغم، ولكن الأصفر يدل على السرور، فهو لونٌ جميل محببٌ إلى النفوس.
ومحبة الألوان الجميلة ليس مما ينافي الشريعة سواء كان حيواناً، أو فاكهةً، أو طعاماً، أو لباساً، أو أثاثاً، فالشريعة لا تحرم الاهتمام بالألوان الجميلة، لكن الفنون الجميلة هذه مما ينبغي أن تضع تحتها خطوطاً حمراء؛ لأنهم قد شغلوا بها عباد الله عن ذكر الله وسموها (فنون جميلة) وصار الواحد ينفق في الساعات والأيام والشهور في لوحة يرسمها ويتعب فيها، ويقولون: هذه أشياء تشجع عليها الشريعة والفن الإسلامي، قاتلهم الله! أشغلوا الناس عن ذكر الله بالفنون الجميلة.
الشريعة لا تحرم أن تستمع وأن تمتع ناظريك ونفسك بالأزهار وألوانها، وتتأمل فيما خلق الله، وأن تسبح ربك على هذه الخلقة التي تسر الناظرين، لكن إنفاق الأوقات والنحت والتصوير والرسم بدعوى أن هذه فنون جميلة والإسلام لا يحرم الفنون الجميلة، وليس للإسلام موقف من الفنون الجميلة، فأشغلوا الناس عن ذكر الله بهذه الهوايات السخيفة الفارغة المضيعة للأوقات.
نعود إلى قصتنا: لما بين لهم أنها بقرة صفراء فاقعٌ لونها، هل نفذوا ذلك؟ وهل سارعوا إلى ذبحها؟
الجواب
لا.
بل إنهم عمدوا إلى سؤال ثالث في مشوارهم من المماطلة والتلكؤ والتباطؤ عن تنفيذ أوامر الله.
(18/14)
ما يستفاد من العِبر في التلكؤ وسؤالهم عن عمل البقرة
قالوا: كان الإبهام في العمر، ثم صار الإبهام في اللون، الآن يقولون: ما عمل هذه البقرة؟ ماذا تعمل؟ تحرث تزرع تسقي تعمل؟ ثم إنهم لما أرادوا أن يسألوا سؤالاً ثالثاً وكأنهم استثقلوا الثالث أبدوا عذراً فقالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] كرروا السؤال عن الحال والصفة، ولا شك أنه تنطع بعد تنطع، ولذلك قيل: إن بعض الخلفاء كتب إلى عامله يقول: اذهب إلى القوم الفلانين فاقطع أشجارهم وهدم بيوتهم، فكتب إليه العامل يقول: بأيهما أبدأ بتخريب البيوت أم بقطع الأشجار؟ فرد عليه الخليفة يقول: إن قلت لك بقطع الشجر ابدأ ستقول لي بسؤالٍ آخر: بأي نوعٍ من الشجر أبدأ؟ وكذلك كتب أحد الأمراء إلى وكيله يقول: إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاةً سألتني أضأنٌ أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكرٌ أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيءٍ فلا تراجعني.
فهؤلاء قالوا: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] ما عمل هذه البقرة؟ وضح لنا وظيفة هذه البقرة؟ لقد تشابه الأمر واختلط ولا ندري أي بقرة هي المطلوبة من بين البقر.
وهذا فيه فائدة كبيرة وهي: أن الاشتباه والالتباس نتيجة طبيعية للحيرة، ضريبة يدفعها كل من يترك التشريع الرباني الميسر ويذهب للتشديد والتعقيد، مثال: الموسوسين، الشخص الموسوس الذي تقول له: توضأ بهذه الكيفية ترى أنه يأتي لك بأشياء شديدة، اغسل النجاسة، المطلوب إزالة النجاسة، يقول: وهل يلزم نتر الذكر، أو عصره، أو القفز، أو النحنحة، أو الربط، والقيام والقعود، أو النزول من درجات السلم، كل هذا من تشديدات الموسوسين.
إذاً هذه القضية وهي قضية الحيرة والاشتباه والالتباس تحدث نتيجة طبيعية للتشديد والتعقيد والبحث عما لا يلزم شرعاً، ولذلك ترى الموسوس يعيش في عذاب وحيرة وهم وغم؛ بسبب تشديده على نفسه.
فلما أخبروا بهذه الصفات المطلوبة منهم في البقرة، يا ترى أين سيجدونها؟ ومتى سيجدونها؟ وكم سيكون ثمنها؟ وهل هم مستعدون لدفع الثمن؟ ولذلك: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] وقالوا لنبيهم بعبارة يشتم منها رائحة سوء الأدب، قالوا: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] يعني: بعد البيان الثالث (الآن جئت بالحق) كأنهم يقولون: الذي قبل هذا لم يكن حقاً، الآن هذا حق، وكأنه موسى عليه السلام كان يتكلم بالباطل.
وحاشاه.
قال لهم في الصفة الثالثة: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] أما قوله: (إنها بقرة لا ذلول) الذلول: من الدواب بينة الذل التي ذللها الذين يستخدمونها، (تثير الأرض) يعني: تقلبها للزراعة، يعني: أن هذه البقرة التي أمرتم بها ليست ذلولاً تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، ولا يستقى عليها الماء لسقي الزرع ويحمل عليها الماء ويستقى بها الماء، وإنما هي (مسلَّمة) يعني: خالية ومسلَّمة من العيوب، مسلَّمة من العمل، يعني: كأنها عند أهلها للنظر والاستمتاع لا للعمل والكد، (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) وإنما هي (مسلَّمة لا شية فيها) يعني: لا عيب، ولا خلط في الألوان، فلما سمعوا هذه الأوصاف ولم يبق متسع لمزيدٍ من التساؤلات، العمر واللون والعمل، فماذا بقي؟
(18/15)
التباطؤ في التنفيذ طبيعة اليهود والمنافقين
كان الأمر يسيراً فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه، وفي النهاية فذبحوها، لكن بعد ماذا؟ (فذبحوها وما كادوا يفعلون) ما كادوا يفعلون ما أمروا به، ولذلك فإن الله تعالى ذمهم وعابهم على هذا الفعل، وشدد عليهم وجعل الأمر شاقاً عليهم، وكذلك شق عليهم في اللحوم وما يؤكل منها والشحوم، وحرَّم عليهم أشياء، {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] وهذا التباطؤ والتلكؤ يدل على نفسية لا تريد العمل، ولا تريد التنفيذ.
إن نفس المؤمن فيها شوقٌ ولهفة وهمة وحيوية للتنفيذ؛ لأن هذا هو أمر الله، فالمؤمن يتحمس لتنفيذ أمر الله، ولكن المنافق يتكاسل ويتباطأ ويتحايل ويتهرب، فإذا فشلت المحاولات نفذ مضطراً مكرهاً مرغماً {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] لكن المؤمن إذا نفذ الصلاة والحج ينفذ بطواعية وسرور نفس ومسارعة، واستسلام، لا اعتراض ولا تلكؤ، أما المنافق وطبائع اليهود هذا هو، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
ولكن إذا رأى الإنسان أنه يجرجر نفسه إلى الطاعة جرجرةً، ومرة يفعل ومرة لا يفعل، ويسأل أهل العلم فإذا أجابوه اعترض بسؤالٍ آخر، وتراه يجادل لا للتعلم، ولكن لإضاعة الوقت، ولعله ينفذ من الحكم، ويجد له مخرجاً من هذه الفتوى، فهذه طبيعة يهودية إسرائيلية بغيضة من بني إسرائيل.
(18/16)
المبادرة للتنفيذ هي المقصود من أمرهم بالذبح
ومعلوم أنه ليس المقصود الآن مجرد الذبح، المقصود الأساسي المبادرة للتنفيذ، فالله عز وجل أمرنا بذبح الضحايا والهدايا، وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] يعني: طاحت بعد نحرها: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:36 - 37].
ولولا أنهم استثنوا ما ذبحوها، ولذلك لما قالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] لو لم يستعملوا المشيئة كانوا ما ذبحوها أبداً كما قال المفسرون، وهذا من بركة المشيئة، فإنها معينة على تنفيذ الأمر، ولذلك قال الله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
(18/17)
ذبح البقرة وما كان بعدها
بعدما انتهت قضية شروط البقرة وذبح البقرة أعلمنا الله لماذا أمروا بذبحها، وهذا تشويق في القصة، وجذب الانتباه، أنه أتى بالسبب ثم أتى بالقضية الأصلية: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] هذا أول القصة، حصل أولاً القتل للشخص ثم تنازع فيه الناس، فأراد الله أن يكشف الحقيقة، فأمرهم بذبح البقرة؛ ليضربوه ببعضها فيحيا القتيل فيخبر عن قاتله، ومعنى قوله تعالى: (فادارأتم فيها) يعني: تدافعتم خصام واتهام، كل واحد يدرأ عن نفسه التهمة ويلقيها على الآخر، يدعي براءة نفسه ويتهم غيره، والله تعالى يريد فضح سر القاتل والعارفين به، ولذلك قال: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] لأنكم تريدون التغطية على القاتل والإيقاع بقومٍ أبرياء تتهمونهم بالقتل لإخفاء القاتل الحقيقي والله لا يخفى عليه مكركم، {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72].
الجواب
=6000079> فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] (اضربوه ببعضها) قلنا: إنه ورد في الإسرائيليات ذكرٌ لهذا البعض الذي أمروا أن يضربوه به، لكن ماذا يفيدنا لو عرفنا؟ وماذا يضرنا لو لم نعرف؟ لا يضرنا شيء، ولذلك ما ذكره الله لنا، ولو كان فيه منفعة لنا لذكره لنا ربنا، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله، فكان في ضربه حكمة بالغة في تقديم دليل واضح على بعث الله للناس بعد الموت، وأن الله قد بعث لكم أحد الأموات، فهو قادر على أن يبعث الأموات كلهم إذا ماتوا، {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73].
فإذاً الكلام فيه حذفٌ وتقدير، (فقلنا اضربوه ببعضها) فأحياه الله (كذلك يحيى الله الموتى) مثلما أحيا هذا الشخص، (ويريكم آياته) علاماته الدالة على كمال قدرته.
فإن قال قائل: لِمَ لم تقص القصة على ترتيبها، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل أولاً، والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ لكن لا شك أن في تقديم هذا وتأخير ذلك بلاغة واضحة في شد الانتباه والتشويق كما ذكرنا، وأنه أراد أن يظهر تباطؤ اليهود وتلكؤهم وتقاعسهم ويقرعهم على هذا الاستهزاء وترك المسارعة للامتثال، وأن هذه القضية أخطر من قضية التدارؤ في قتل هذا الشخص؛ لأن المبدأ يعني عدم تنفيذ الأوامر، هذه خطيرة، فكأنه قدم القصة المتعلقة بها على القصة المتعلقة بإحياء القتيل؛ لأن هذه المشكلة أكبر وينبغي بيانها وإيضاحها، وربما يكون تقديمها من هذه الجهة أحسن وأبلغ، وكأنه ذكر لنا قصتان: قصة التلكؤ وقصة القتيل، بينما لو ذكرت بالعكس لكانت قصة واحدة، فهو سبحانه وتعالى وصل لنا القصة الأولى بالثانية في قوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] لما وحد الضمير، لكن لما ذكر ذلك أولاً ثم هذه ثانياً، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة:72] وذكرها بعد: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] صارت كأنها قصتان، كل قصة لها مغزى، أبلغ من أن تكون قصة واحدة.
وعلى أية حال في القرآن أسرارٌ كثيرة قد تخفى، ويعلم كثيراً منها أهل العلم.
(18/18)
مجموعة من الفوائد في الآيات
وفي قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] دليل على منع الاستهزاء بالدين كما تقدم.
(18/19)
جواز بيع السلم
وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] تكلم العلماء في هذه الآية على قضية بيع السلم، وأنه يجوز بيع الحيوان سلماً إذا ضبطت صفاته كما ضبطت في هذه الآية؛ لأن العلماء قد اختلفوا في حكم بيع السلم في الحيوان، فادعى بعضهم أنه لا يجوز؛ لأنه لا يمكن ضبطه، وهم الحنفية، وذهب الشافعي رحمه الله ومالك والأوزاعي والليث وغيرهم إلى جواز بيع السلم في الحيوان واستدلوا بالآية، فما هو بيع السلم؟ معلوم أنه في القاعدة الأصولية: لا يجوز بيع ما لا تملك، شيء لا تملكه لا يجوز لك أن تبيعه، لكن الحاجة تدعو أحياناً إلى أن يبيع الإنسان ما لا يملك، فأباحت الشريعة بيع السلم، يجوز أن تبيع شيئاً ليس عندك إذا كان يمكن ضبطه، وذكرت الصفات الضابطة له وقدم الثمن في مجلس العقد إلى آخر شروط بيع السلم.
فمثلاً: يجوز أن تقول لشخص أشتري منك ثمراً هذه صفته، ولم يكن قد ظهر الثمر، أولم يُزْرَع أشتري منك قمحاً على رأس الحول هذه صفته، وهذا وزنه وهذا ضبطه ونحو ذلك، وتقدم الثمن كاملاً يجوز بيع السلم في هذه الحالة، تقول لشخص مثلاً يسافر إلى أمريكا يأتي بسيارة، تقول: أشتري منك سيارة هذه صفتها كذا وكذا، وتقدم له الثمن كله في مجلس العقد، ثم يأتي لك بالسيارة على الصفات، ومن شروط بيع السلم تحديد مدة التسليم، على أية حال الآن موضوعنا ليس بيع السلم، لكن استدلوا بهذه الآية على جواز السلم في الحيوان.
(18/20)
حرمة الاستهزاء بالأنبياء
وهذه القصة فيها فوائد كثيرة ذكرنا بعضها سابقاً ومنها: إظهار العجرفة وسوء الأخلاق في بني إسرائيل يتجنبها المسلمون، وحرمة الاعتراض على الشارع، ووجوب المبادرة إلى تنفيذ أمره ونهيه، والندب إلى الأخذ بالمتيسر، وكراهية التشديد بالأمور، وفائدة الاستثناء، وإنهم لو لم يقولوا: إن شاء الله ما نفذوا أصلاً، وتحاشي الكلمات التي قد يفهم منها الاستهزاء بالأنبياء، وهناك جدل قائم الآن على فيلم قد صور ومثل فيه لمزٌ ليوسف عليه السلام، هذا الذي يثار فيه الجدل في هذه الأيام، الأفلام التي فيها تمثيل أدوار الأنبياء، ليس هناك شك أنها سخرية بالأنبياء، يظهر لك ممثل فاسق فاجر يمثل دوراً فيه الحب والغرام والعشق المحرم في تمثيلية وفيلم ثم يمثل دور نبي، ثم لو أتيت بأتقى الناس الآن هل يرقى أن يكون في مستوى نبي حتى يمثل دوره.
فلا شك أن تمثيل أدوار الأنبياء مما يقلل من شأنهم ويظهرهم بمظهر غير المظهر الذي أظهره الله تعالى في كتابه، فلذلك حرام تمثيل أدوار الأنبياء، وهم يحاولون المناورة والمداورة وأنه لم نقصد، ولم ولكن التفاصيل التي قدموها أنهم قصدوا ذلك، وهذا من محاربة الأعداء لنا في تاريخنا، هم حاربونا في أشياء كثيرة ومنها محاربتهم لنا في تاريخنا.
(18/21)
بيان كيف يحيي الله الموتى
وكذلك فإن من فوائد هذه القصة: بيان كيف يحيى الله الموتى بدليلٍ عجيب وآيةٍ باهرة ومعجزة ربانية: إنسان ميت لا روح فيه ولا حراك، وبقرة عجماء بكماء، ذبحتم أنتم البقرة وتحولت إلى جسدٍ أيضاً لا روح فيه ولا حراك، وأخذتم أنتم جزءاً ميتاً من أجزاء البقرة الميتة وضربتم به جسد الإنسان الميت، وفوجئتم بالمفاجأة المدهشة كيف دبت الحياة في هذا الإنسان الميت من تلك الضربة، وتحرك حركة الأحياء وتكلم كلام الأحياء.
فذبح البقرة إذاً كان فيه فوائد منها: الكشف عن القاتل الحقيقي، وتعريف اليهود عليه، وإقامة الدليل العملي على قدرة الله على إحياء الموتى، وتقديم آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته، وتعريفنا على طبيعة اليهود من خلال نظرتهم لأوامر الله وتحذير المؤمنين من أخلاقهم.
لكن قصة البقرة وإحياء الميت بهذه الطريقة العجيبة هل كان ذلك مرققاً لقلوب بني إسرائيل؟
الجواب
كلا.
فإن الله أعقب ذلك مباشرة بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] مع أنهم من المتوقع أنهم لما رأوا هذه الآية الباهرة، وهذه المعجزة الربانية أن تلين قلوبهم، لكنها قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد؛ لأن من الحجارة ما يتشقق ويتحدر ويتفطر من خشية الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].
وفيه كذلك: جرم القاتل وخطورة إخفاء الحقائق، وكيف أنهم تدافعوا وحاولوا اتهام الأبرياء.
وكذلك: أن اللجاجة وكثرة الأسئلة فيما لا داعي له أمرٌ ممقوت، وأهمية الانشغال فيما ينفع والبحث عما يجدي وترك ما لا ينفع.
(18/22)
وجوب تقديم الأصول على الفروع
ثم نأتي إلى درسٍ آخر وهو: قضية عدم الانشغال بالهامشيات والثانويات والشكليات والفرعيات على حساب الأصول والأساسيات، يعني لا تقدم هذه على هذه.
ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا ألبتة ترك الجزئيات التي جاءت بها الشريعة كتحريك الإصبع في التشهد مثلاً، بزعم أن هذه جزئية وسنة وأمر شكلي وجانبي، تقول: لا.
حاشا وكلا معاذ الله، وإنما سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) ولكن أن يشتغل الإنسان بالفرعيات ويترك الأصول هذا هو المذموم، كذلك بعضهم قد يشتغل بدقائق الفقه وهو لم يؤسس أسس العقيدة في نفسه، يأخذ المسائل المفرعة الجزئية وهو لم يضبط أصولها.
(18/23)
اليهود قوم بهت مماطلون
وأخيراً: فإننا نختم فوائد هذه القصة بفائدة تتعلق بعصرنا الذي نعيش فيه، فإن المداورة والمماطلة التي كشفتها لنا قصة البقرة في طبيعة اليهود، تدل على أن طبيعة هؤلاء القوم لا يملون ولا يضجرون ولا يسأمون من المفاوضات؛ لأنهم يتقنون فن التهرب والتملص والتحايل، بل ويتمتعون أثناء ذلك بنفس طويل وأعصاب باردة، وهم على استعداد لتضييع الجهود والأوقات في هذه الشكليات والفرعيات، وأن يوجدوا لأنفسهم مداخل، ويمكن أن يعمدوا إلى قضية شكلية هامشية يمضون فيها أوقاتاً طويلة تستغرق شهوراً وسنوات على حساب الطرف المظلوم، وعندهم فنٌ في عدم حل المشاكل وإبقائها معلقة، وتأخير الحل، وعندهم حرصٌ على عدم إظهار الحق وعدم الخروج بنتيجة وإبقاء القضية في غموض وضباب، وأن يبقوا خصومهم في ضياع وفراغ، وهم قضوا أكثر من عشرين سنة في جدال، هل ينسحبون من الأراضي المحتلة، عاشوا أكثر من عشرين سنة وهم ما حلوا القضية.
وكذلك فإنهم على استعداد بأن يجعلوا المفاوضات وهيئات التحكيم الدولية والخبراء والمحامين ينشغلون في قضية طويلة، وما شغلهم بقضية طابا التي لا تتجاوز مساحتها ملعب كرة قدم، جعلوا ذلك خصاماً إلى أكثر من عشر سنوات، وبقية المسائل في تعقيدات ومماطالات، وقصة البقرة تكشف لنا طبيعة هؤلاء جيداً.
ولذلك فلا يجوز لمسلم أن يغتر بهم، ولا يظن لحظة واحدة أنهم يحرصون على خيرٍ لنا، أو أنهم يريدون أن يحلوا مشكلة، فإن الله سبحانه وتعالى قد فضحهم في كتابه، وبين لنا طبيعتهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا شرورهم ومكرهم وأن ينصرنا عليهم، ويخلص المسلمين من شرهم.
والحمد لله رب العالمين.
(18/24)
الأسئلة
(18/25)
تأجير العين المستأجرة وشروط ذلك
السؤال
هل يجوز تأجير المستأجَر؟
الجواب
يجوز إذا كان العقد لا زال ساري المفعول، إذا استأجرت شيئاً يجوز أن تؤجره إذا كان العقد ساري المفعول، وإذا لم يكن عليك شرط؛ لأنه قد يشترط في العقد ألا تؤجر الشيء الذي استأجرته، ثم من الشروط أنه لا يجوز لك أن تؤجره على من يستخدمه أكثر من استخدامك، فمثلاً: لو أجرت شقة على سكن عائلي، لا يجوز لك أن تؤجرها على عشرين عاملاً؛ لأنه معروف أنهم سيستعملونها أكثر من استعمالك، ولو استأجرته سكناً لا يجوز أن تؤجره ورشة.
فإذاً: من شروط تأجير الشيء المستأجر أن تؤجره على من يستخدمه مثل استخدامك أو أقل.
(18/26)
الشعور بالغثيان أثناء الصلاة
السؤال
يأتيني دوار في الرأس أثناء التراويح هل عليَّ خروج أم لا، مع العلم بأني أصلي التراويح كاملة؟
الجواب
إذا أصيب الإنسان بغشيان وغشي عليه -الغشي أقل من الإغماء- لا يجب عليه الوضوء، والإغماء يجب منه الوضوء، لذلك جاء في حديث أسماء في صلاة الكسوف: فغشي عليها وقامت ولم تتوضأ.
لكن لو أغمي عليه وجب عليه الوضوء، على أية حال إذا شعر بدوار لا بأس أن يخرج من الصلاة ويستريح أو يصلي قاعداً.
(18/27)
الرد على من يفسرون القرآن بأهوائهم
السؤال
ما موقفنا نحن المتبعين نهج السلف ممن يحللون القرآن تحليلاً إحصائياً من حيث عدد آياته وحروفه وكلماته وغير ذلك من التحليلات الإحصائية، ومن أقوالهم أن حذف البسملة من سورة براءة أتى لإتمام النسق الإحصائي العددي للقرآن؟
الجواب
في بحث مهم للرد على الدكتور محمد رشاد خليفة نشر في مجلة البحوث الذي تصدرها رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في العدد التاسع على ما أظن، فيه رد من العلماء على هذا الرجل.
فقد ادعى هذا الرجل أن هناك إعجازاً عددياً في القرآن وأن الإعجاز يدور على رقم (19) وأن (بسم الله الرحمن الرحيم) تسعة عشر حرفاً وشرع يحلل ويستنبط ويستخدم الكمبيوتر، فتاه عن التفسير، وذهب في متاهات لا أول لها ولا آخر.
وهذا كلام غير صحيح، فلا يوجد تسعة عشر ولا تسعة وعشرون ولا تسعون، والمسألة كلها خيالات وأوهام، والصحابة كتبوا القرآن ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبين لهم هل سورة البراءة وسورة الأنفال سورة واحدة أم سورتان؟ فلذلك لم يكتبوا بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) ولا القضية هي إتمام النسق الإحصائي العددي، فالعرب أبلغ الأمم، نزل عليهم القرآن، فما حكوا من بلاغة الأعداد هذه شيئاً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين في مزايا رقم (19) شيئاً، ولو كانت القضية بكل هذا الحجم لبينه صلى الله عليه وسلم، فإذاً هذه كلها أوهام وبناء في الهواء.
أيضاً من الذين أشاروا إلى قضايا الأخطار ما يسمى بالإعجاز العلمي كتاب: اتجاهات التفسير في القرن الثالث عشر، والمدرسة العقلية في التفسير للأستاذ فهد الرومي فهما كتابان جديران بالقراءة في هذا الموضوع، فنحن الآن نعيش في عصر طغت فيه الموجة العقلانية، فيريدون أن يحكموا عقولهم بعيداً عن العلم والعلماء في قضايا القرآن وإخضاع الآيات والتحليلات الكمبيوترية والمخبرية ونحو ذلك ليصلوا إلى ليِّ الأعناق من أجل أن توافق النظريات الموجودة عند الغربيين، وهذا طبعاً من آثار الهزيمة النفسية، فإذا وجد إعجاز ظاهر فالحمد لله، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] لو تأمل جلده وشعره، لو تأمل ما في نفسه، إن الأطباء إذا درسوا التشريح رأوا آيات باهرة، والمعارك التي تدور بين الكريات البيضاء وما يدخل في الجسم من الأشياء الغريبة والجراثيم أو الميكروبات، أشياء عجيبة فعلاً، تسبح الله عندما تراها، لكن أن تقول: الآية تفسيرها كذا، مخالفٌ لتفسير السلف، فهذا ضلالٌ مبين، إن الله قال: تدبروا في الكون وسبحوا الله على ما ترون، ترون عظمته في خلقه، ما قال: فسروا الآيات على المخترعات الحديثة.
(18/28)
حكم صيام من أكل بعد أذان الفجر
السؤال
استيقظت أنا وزملائي أمس في رمضان والمؤذن يقيم صلاة الفجر فأكلنا قليلاً من التمر، فما حكم صومنا بالأمس؟
الجواب
إذا كنتم أكلتم وهو يقيم الصلاة، معنى ذلك أنكم أكلتم بعد الفجر، فمعنى ذلك أن صومكم باطل وأنكم أذنبتم ذنباً عظيماً، فإن ظاهر السؤال يفيد أنكم تسمعون الإقامة، ولذلك فهذا الصيام لا بد من إعادته مع التوبة إلى الله توبة عظيمة؛ لأنه أكل عامداً متعمداً في نهار رمضان.
(18/29)
هجر القرآن
السؤال
هل هاجر القرآن الذي لا يقرؤه كل شهر؟

الجواب
لا يكون هاجراً هجراً مذموماً، وهذه مسألة يتفاوت فيها الناس بحسب ظروفهم وانشغالاتهم، وجاء في الحديث: (اقرأ القرآن في كل شهر) وجاء في أربعين يوماً، لا شك أن الأربعين أكثر من شهر، فإذاً لو قرأه في شهر لا بأس، في أربعين لا بأس، والأفضل هو طريقة الصحابة وأن تكون قراءته في أسبوع. (18/30)
وقت إفطار الصائم
السؤال
المساجد التي حول البيت بينها فرق دقيقتين بين أولهم وآخرهم، فعلى أيهما أفطر؟
الجواب
على المتوسط، ما دام أن هناك واحد ساعته تقدم وواحد ساعته تؤخر، إذاً خذ الوسط، على أية حال العبرة بغروب الشمس واختفاء القرص، إذا لم تعرف فعند ذلك تأخذ بمتوسط المؤذنين، وإذا علمت أن هذا المؤذن ضابطٌ للوقت حافظٌ له فإنك تفطر على أذانه.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (18/31)
-------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق