مواقع مكتبات اسلامية قيمة جدا

ب جاري/يا الله / جاري جاري / دار تحقيق التراث الإسلامي والعلمي / في وداع الله ياأماي///ب هانم// مدونة موطأ مالك / أعلام الإسلام / جامع الأصول لمجد الدين أبو السعادات ابن الجزري / أنس ويحي / صوتيات / ياربي:العتق من / النيران ومن الفتن / مدونة الخصوص / مدونة روابط // ب قيقي /مكتبة قيقي / /استكمال مدونة قيقي  / اللهم انتقم من الطالمين الطغاة الباغين  / مدونة قيقي  / النخبة في شرعة الطلاق ااا //ب حنين//ذكر الله / اللهم ارحم والداي واغفر لهما وتجاوز عن سيئاتهما وكل الصالحين / مدونة حنين ملخص الطلاق للعدة}} / الحنين/ /المدونة العلمية z. / المصحف العظيم / الحديث النبوي ومصطلحه. / قال الله تعالي/// بوستك//المدونة الطبية / تبريزي / من هم الخاسرون؟ / مدونة بوصيري / علوم الطبيعة ///ب بادي/استكمال ثاني{حجة ابراهيم علي قومه} / النظم الفهرسية الموسوعية الببلوجرافية للأحاديث النبوية وأهميتها / مدونة أذان / المناعة البشرية وعلاج الأمراض المستعصية من خلالها / علاج الأمراض المزمنة والسر في جهاز المناعة / الحميات الخطرة وطرق الوقاية منها والعلاج / المدونة الشاملة / أمراض الأطفال الشهيرة / م الكبائر وكتب أخري / مصحف الشمرلي+تحفة الأشراف للمزي+البداية والنهايةلابن كثير / مدونة الطلاق للعدة / القواميس العربية ومنها لسان العرب وتاج العروس وغيرهما //ب-البيهقي كله / مدونة الاصابة / الطلاق للعدة ما هو؟ / علامات القيامة / منصة مستدرك الحاكم / تعاليات إيمانية / السيرة النبوية /ب مكة /مدونة فتاح / مكه / علوم الفلك / مدونة الغزالي//ب انت ديني /الدجال الكذاب / الشيخ الشعراوي[نوعي] / ديرالدجال اا. / كتب ابن حزم والشوكاني وورد /إستكمال المحلي لابن حزم والشوكاني وابن كثير الحفاظ / المخلوقات الغامضة /السير والمغازي {ابن إسحاق- ابن هشام-كل السيرة النبوية} /كتاب الإحكام في أصول الأحكام / إحياء علوم الدين للغزالي / موقع الحافظ ابن كثير / مجموع فتاوي ابن تيمية / ابن الجوزي /البحيرة الغامضة / الكامل في التاريخ /الفتن / تصنيفات الإمامين:ابن حزم والشوكاني//// مجلد 3.سنن أبي داود / الجامع الصحيح سنن الترمذي / صحيح ابن ماجة – الإمام محمد ناصر الدين الألباني / فتح الباري لابن حجر / لسان العرب لابن منظور / مدونة العموم / الحافظ المزي مصنفات أخري / مدونة المصنفات / مسند أحمد وصحيح البخاري وصحيح مسلم.وسنن ابن ماجه. / مدونة مدونات كيكي1. / أبو داود والترمذي وابن ماجه / بر الوالدين شريعة / تهذيب التهذيب +الاصابة + فتح الباري/كلهم وورد / مدونة المستخرجات / كيكي

9 مصاحف

 

الثلاثاء، 8 يونيو 2021

ج19/كتاب : أحكام القرآن المؤلف:ابن العربي

  ج19/كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي



الَّتِي بَعْدَهُ ، وَهِيَ مِمَّا تُبَيِّنُهُ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَسْلُبُ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِتَارِ ، فَدَلَّ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَمْيِيزَهُنَّ عَلَى الْإِمَاءِ اللَّاتِي يَمْشِينَ حَاسِرَاتٍ ، أَوْ بِقِنَاعٍ مُفْرَدٍ ، يَعْتَرِضُهُنَّ الرِّجَالُ فَيَتَكَشَّفْنَ ، وَيُكَلِّمْنَهُنَّ ؛ فَإِذَا تَجَلْبَبَتْ وَتَسَتَّرَتْ كَانَ ذَلِكَ حِجَابًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَعَرِّضِ بِالْكَلَامِ ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْإِذَايَةِ ، وَقَدْ قِيلَ : وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ .
قَالَ قَتَادَةُ : كَانَتْ الْأَمَةُ إذَا مَرَّتْ تَنَاوَلَهَا الْمُنَافِقُونَ بِالْإِذَايَةِ ، فَنَهَى اللَّهُ الْحَرَائِرَ أَنْ يَتَشَبَّهْنَ بِالْإِمَاءِ ؛ لِئَلَّا يَلْحَقَهُنَّ مِثْلُ تِلْكَ الْإِذَايَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَضْرِبُ الْإِمَاءَ عَلَى التَّسَتُّرِ وَكَثْرَةِ التَّحَجُّبِ ، وَيَقُولُ : أَتَتَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ ؟ وَذَلِكَ مِنْ تَرْتِيبِ أَوْضَاعِ الشَّرِيعَةِ بَيِّنٌ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ الثَّابِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا سَتِيرًا حَيِيًّا مَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَقَالُوا : مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ ، إمَّا بَرَصٌ ، وَإِمَّا أُدْرَةٌ ، وَإِمَّا آفَةٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا ، وَإِنَّ مُوسَى خَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ ، وَوَضَعَهَا عَلَى حَجَرٍ ، ثُمَّ اغْتَسَلَ .
فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا ، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ ، فَطَلَبَ الْحَجَرَ ؛ فَجَعَلَ يَقُولُ : ثَوْبِي ، حَجَرٌ ؛ ثَوْبِي ، حَجَرٌ ، حَتَّى انْتَهَى إلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ النَّاسِ خَلْقًا ، وَأَبْرَأَهُمْ مِمَّا كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ .
قَالَ : وَقَامَ إلَى الْحَجَرِ ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ ، وَطَفِقَ مُوسَى بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ ، فَوَاَللَّهِ إنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ عَصَاهُ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ آذَوْا مُوسَى } .
فَهَذِهِ إذَايَةٌ فِي بَدَنِهِ } .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَنْثُورِ : أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ صَعِدَا الْجَبَلَ فَمَاتَ هَارُونُ ، فَقَالَ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى : أَنْتَ قَتَلْته ، وَكَانَ أَلْيَنَ لَنَا مِنْك ، وَأَشَدَّ حُبًّا ؛ فَآذَوْهُ فِي ذَلِكَ ، فَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَحَمَلْته ، فَمَرُّوا بِهِ عَلَى مَجَالِسِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَتَكَلَّمَتْ الْمَلَائِكَةُ بِمَوْتِهِ ، فَمَا عَرَفَ مَوْضِعَ قَبْرِهِ إلَّا الرَّخَمُ ، وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ أَصَمَّ أَبْكَمَ ، وَهَذِهِ

إذَايَةٌ فِي الْعِرْضِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا النَّهْيِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ فِي إذَايَةِ نَبِيِّهِمْ مُوسَى : وَفِيهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ : { لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ } .
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَوَقَعَ النَّهْيُ ، تَكْلِيفًا لِلْخَلْقِ ، وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَعَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ تَحْقِيقًا لِلْمُعْجِزَةِ ، وَتَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْفِيذًا لِحُكْمِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ ، وَرَدًّا عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا مَعَانِيَ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي حَقِيقَةِ الْعَرْضِ : وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي ذِكْرِ الْأَمَانَةِ : وَفِيهَا اخْتِلَاطُ كَثِيرٍ مِنْ الْقَوْلِ ، لُبَابُهُ فِي عَشْرَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ؛ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْفَرَائِضُ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا أَمَانَةُ الْفَرْجِ عِنْدَ الْمَرْأَةِ ؛ قَالَهُ أُبَيٌّ .
الرَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الرَّحِمَ عِنْدَ آدَمَ أَمَانَةً .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا الْخِلَافَةُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا الْجَنَابَةُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ .
السَّابِعُ : أَنَّهَا أَمَانَةُ آدَمَ قَابِيلَ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ ، فَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ .
الثَّامِنُ : أَنَّهَا وَدَائِعُ النَّاسِ .
التَّاسِعُ : أَنَّهَا الطَّاعَةُ .
الْعَاشِرُ : أَنَّهَا التَّوْحِيدُ .
فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ ، تَرْجِعُ إلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : التَّوْحِيدُ : فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْعَبْدِ ، وَخَفِيَ فِي الْقَلْبِ ، لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ } .
ثَانِيهِمَا : قِسْمُ الْعَمَلِ : وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِيعَةِ ، وَكُلُّهَا أَمَانَةٌ تَخْتَصُّ بِتَأْكِيدِ الِاسْمِ فِيهَا .
وَالْمَعْنَى مَا كَانَ خَفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ ، فَأَخْفَاهُ أَحَقُّهُ بِالْحِفْظِ ، وَأَخْفَاهُ أَلْزَمُهُ بِالرِّعَايَةِ وَأَوْلَاهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : تَخْتَصُّ بِالْأَحْكَامِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ : ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : الْوَدَائِعُ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا ، وَأَوْضَحْنَا وَجْهَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا ، وَهَلْ تُقَابَلُ بِخِيَانَةٍ أَمْ لَا ؟ الثَّانِي : أَمَانَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى حَيْضِهَا وَحَمْلِهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الثَّالِثُ : الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ ، وَهُمَا أَمَانَتَانِ عَظِيمَتَانِ لَا يَعْلَمُهُمَا إلَّا اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ ؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهُوَ يَجْزِي بِهِ حَسْبَمَا وَرَدَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا كَانَتْ خَفِيَّةً لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا إذَا صَلَّى إمَامٌ بِقَوْمٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَحْدَهُ ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ أَوْ طَهَارَتَهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ ، وَاجْتِهَادٍ فِي النَّظَرِ ؛ لَيْسَ بِنَصٍّ وَلَا يَقِينٍ ، وَقَدْ أُدِّيَتْ الصَّلَاةُ وَرَاءَهُ بِاجْتِهَادٍ ؛ وَلَا يَنْقُضُ بِاجْتِهَادٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ لِلْحَدِيثِ غَيْرَ صَحِيحٍ ، وَهُوَ أَيْضًا نَاسٍ فِيهِ ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُحَقِّقٍ لَهُ حَتَّى بَالَغُوا فِي ذَلِكَ النَّظَرِ ، وَاسْتَوْفَوْا فِيهِ الْحَقَّ ، فَقَالُوا : إنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ : صَلَّيْت بِكُمْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مُتَعَمِّدًا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ مَا اسْتَقْبَلْت فِيهَا قِبْلَةً بِوُضُوءٍ ، وَلَا اغْتَسَلْت عَنْ جَنَابَةٍ ، ذَنْبًا ارْتَكَبْته ؛ وَسَيِّئَةً اجْتَرَمَتْهَا ، وَأَنَا مِنْهَا تَائِبٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِمَّنْ صَلَّى وَرَاءَهُ إعَادَةٌ ؛ وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ مِنْ قَوْلِهِ ، وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ ، وَهَذَا كَذِبٌ لِعِلَّةٍ أَوْ حِيلَةٍ أَوْ لِتَهَوُّرٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ .

سُورَةُ سَبَأٍ [ مَكِّيَّةٌ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } .
[ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { فَضْلًا } : فِيهِ ] أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا : الْأَوَّلُ : النُّبُوَّةُ .
الثَّانِي : الزَّبُورُ .
الثَّالِثُ : حُسْنُ الصَّوْتِ .
الرَّابِعُ : تَسْخِيرُ الْجِبَالِ وَالنَّاسِ .
الْخَامِسُ : التَّوْبَةُ .
السَّادِسُ : الزِّيَادَةُ فِي الْعُمْرِ .
السَّابِعُ : الطَّيْرُ .
الثَّامِنُ : الْوَفَاءُ بِمَا وُعِدَ .
التَّاسِعُ : حُسْنُ الْخُلُقِ .
الْعَاشِرُ : الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : تَيْسِيرُ الْعِبَادَةِ .
الثَّانِيَ عَشَرَ : الْعِلْمُ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا } .
الثَّالِثَ عَشَرَ : الْقُوَّةُ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ } .
الرَّابِعَ عَشَرَ : قَوْلُهُ : { وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } .
وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ حُسْنُ الصَّوْتِ ؛ فَإِنَّ سَائِرَهَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ فِي كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْمُشْكِلَيْنِ .
وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَا صَوْتٍ حَسَنٍ وَوَجْهٍ حَسَنٍ ، وَلَهُ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : لَقَدْ أُوتِيت مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد } ، وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَفِيهِ دَلِيلُ الْإِعْجَابِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ : { رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ وَهِيَ تَسِيرُ بِهِ ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً وَهُوَ يُرَجِّعُ ، وَيَقُولُ آهٍ } ، وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّرْجِيعِ ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ .
وَهُوَ جَائِزٌ { لِقَوْلِ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا } ؛ يُرِيدُ لَجَعَلْته لَك أَنْوَاعًا حِسَانًا ، وَهُوَ التَّلْحِينُ ، مَأْخُوذٌ مِنْ الثَّوْبِ الْمُحَبَّرِ ، وَهُوَ الْمُخَطَّطُ بِالْأَلْوَانِ .
وَقَدْ سَمِعْت تَاجَ الْقُرَّاءِ ابْنَ لُفْتَةَ بِجَامِعِ عَمْرٍو يَقْرَأُ : { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك } .
فَكَأَنِّي مَا سَمِعْت الْآيَةَ قَطُّ .
وَسَمِعْت ابْنَ الرَّفَّاءِ وَكَانَ مِنْ الْقُرَّاءِ الْعِظَامِ يَقْرَأُ ، وَأَنَا حَاضِرٌ بِالْقَرَافَةِ : فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ .
وَسَمِعْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ شَيْخَ الْقُرَّاءِ الْبَصْرِيِّينَ يَقْرَأُ فِي دَارٍ بِهَا الْمَلِكُ : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ حَتَّى بَلَغَ إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } فَكَأَنَّ الْإِيوَانَ قَدْ سَقَطَ عَلَيْنَا .
وَالْقُلُوبُ تَخْشَعُ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا تَخْضَعُ لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ ، وَمَا تَتَأَثَّرُ بِهِ الْقُلُوبُ فِي التَّقْوَى فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْأَجْرِ وَأَقْرَبُ إلَى لِينِ الْقُلُوبِ وَذَهَابِ الْقَسْوَةِ مِنْهَا .
وَكَانَ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ يَأْوِي إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، ثُمَّ تَمَتَّعْنَا بِهِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ ، وَلَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ فِي مَهْدِ عِيسَى فَيُسْمَعُ مِنْ الطُّورِ ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا طُولَ قِرَاءَتِهِ إلَّا الِاسْتِمَاعَ إلَيْهِ .
وَكَانَ صَاحِبُ مِصْرَ الْمُلَقَّبُ بِالْأَفْضَلِ قَدْ دَخَلَهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَحَوَّلَهَا عَنْ

أَيْدِي الْعَبَّاسِيَّةِ ، وَهُوَ حَنَقَ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا بِحِصَارِهِ لَهُمْ وَقِتَالِهِمْ لَهُ ، فَلَمَّا صَارَ فِيهَا ، وَتَدَانَى بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مِنْهَا ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَصَدَّى لَهُ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ ، وَقَرَأَ : { قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِك الْخَيْرُ إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فَمَا مَلَكَ نَفْسَهُ حِينَ سَمِعَهُ أَنْ قَالَ لِلنَّاسِ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِهِمْ عِنْدَهُ ، وَكَثْرَةِ حِقْدِهِ عَلَيْهِمْ : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .
وَالْأَصْوَاتُ الْحَسَنَةُ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَزِيَادَةٌ فِي الْخَلْقِ وَمِنَّةٌ .
وَأَحَقُّ مَا لُبِّسَتْ هَذِهِ الْحُلَّةُ النَّفِيسَةُ وَالْمَوْهِبَةُ الْكَرِيمَةُ كِتَابُ اللَّهِ ؛ فَنِعَمُ اللَّهِ إذَا صُرِفَتْ فِي الطَّاعَةِ فَقَدْ قُضِيَ بِهَا حَقُّ النِّعْمَةِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمِحْرَابُ : هُوَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ الْمُمْتَنِعُ ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْمِحْرَابُ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُهُ ، أَنْشَدَ فَقِيهُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَطَاءٌ الصُّوفِيُّ : جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُضُوعَ لِرَبِّهِ مَا أَحْسَنَ الْمِحْرَابَ فِي الْمِحْرَابِ وَالْجِفَانُ أَكْبَرُ الصِّحَافِ قَالَ الشَّاعِرُ : يَا جَفْنَةً بِإِزَاءِ الْحَوْضِ قَدْ كُفِئَتْ وَمَنْطِقًا مِثْلَ وَشْيِ الْبُرْدَةِ الْخَضِرِ وَالْجَوَابِي جَمْعُ جَابِيَةٍ ، وَهِيَ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْمَصْنُوعُ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ جَفْنَةً : كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ { وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } يَعْنِي ثَابِتَاتٍ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ شَاهَدْت مِحْرَابَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَظِيمًا مِنْ حِجَارَةٍ صَلْدَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ ، طُولُ الْحَجَرِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا ، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا ، وَكُلَّمَا قَامَ بِنَاؤُهُ صَغُرَتْ حِجَارَتُهُ ، وَيُرَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْوَارٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّحَابِ أَيَّامَ الشِّتَاءِ كُلَّهَا لَا يَظْهَرُ لِارْتِفَاعِ مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعُهُ فِي نَفْسِهِ ، لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ وَمَدْرَجَةٌ عَرِيضَةٌ ، وَفِيهِ الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ ، وَفِي أَعْلَاهُ الْمَسْجِدُ ، وَفِيهِ كُوَّةٌ شَرْقِيَّةٌ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي قَدْرِ الْبَابِ ، وَيَقُولُ النَّاسُ : إنَّهُ تَطَلَّعَ مِنْهَا عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْحَمَامَةُ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هَدْمِهِ حِيلَةٌ ، وَفِيهِ نَجَا مَنْ نَجَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ دَخَلَهَا الرُّومُ حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ أَسْلَمُوهُ إلَيْهِمْ ، عَلَى أَنْ يَسْلَمُوا فِي رِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَكَانَ ذَلِكَ ، وَتَخَلَّوْا لَهُمْ عَنْهُ .
وَرَأَيْت فِيهِ غَرِيبَةَ

الدَّهْرِ ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَائِرًا ثَارَ بِهِ عَلَى وَالِيهِ ، وَامْتَنَعَ فِيهِ بِالْقُوتِ ، فَحَصَرَهُ ، وَحَاوَلَ قِتَالَهُ بِالنُّشَّابِ مُدَّةً ، وَالْبَلَدُ عَلَى صِغَرِهِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالِهِ ، مَا أُغْلِقَتْ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ سُوقٌ ، وَلَا سَارَ إلَيْهَا مِنْ الْعَامَّةِ بَشَرٌ ، وَلَا بَرَزَ لِلْحَالِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مُعْتَكِفٌ ، وَلَا انْقَطَعَتْ مُنَاظَرَةٌ ، وَلَا بَطَلَ التَّدْرِيسُ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَسْكَرِيَّةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَتِلُونَ ، وَلَيْسَ عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ لِذَلِكَ حَرَكَةٌ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ هَذَا فِي بِلَادِنَا لَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ فِي الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ ، وَلَانْقَطَعَتْ الْمَعَايِشُ .
وَغُلِّقَتْ الدَّكَاكِينُ ، وَبَطَلَ التَّعَامُلُ لِكَثْرَةِ فُضُولِنَا وَقِلَّةِ فُضُولِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَتَمَاثِيلَ } ، وَاحِدَتُهَا تِمْثَالٌ ، وَهُوَ بِنَاءٌ غَرِيبٌ ؛ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى " تِفْعَالٍ " قَلِيلَةٌ مُنْحَصِرَةٌ ؛ جِمَاعُهَا مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ ، أَخْبَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزِيَّةَ ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ قَالَ : رَجُلٌ تِكْلَامٌ : كَثِيرُ الْكَلَامِ وَتِلْقَامٌ : كَثِيرُ اللُّقَمِ ، وَرَجُلٌ تِمْسَاحٌ : كَذَّابٌ ، وَنَاقَةٌ تِضْرَابٌ : قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالضِّرَابِ ، وَالتِّمْرَادُ : بَيْتٌ صَغِيرٌ لِلْحَمَامِ .
وَتِلْفَاقٌ .
ثَوْبَانِ يُخَاطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ .
وَالتِّجْفَافُ : مَعْرُوفٌ .
وَتِمْثَالٌ : مَعْرُوفٌ .
وَتِبْيَانٌ : مِنْ الْبَيَانِ وَتِلْقَاءَ : قُبَالَتَك وَتِهْوَاءَ مِنْ اللَّيْلِ : قِطْعَةٌ .
وَتِعْشَارٌ : مَوْضِعٌ .
وَرَجُلٌ تِنْبَالٌ : قَصِيرٌ .
وَتِلْعَابٌ : كَثِيرُ اللَّعِبِ .
وَتِقْصَارٌ : قِلَادَةٌ .
فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا .
فَلَمَّا قَرَأْت إصْلَاحَ الْمَنْطِقِ بِبَغْدَادَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الْخَطِيبِ رَئِيسِ اللُّغَةِ وَخَازِنِ دَارِ الْعِلْمِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ التَّبْرِيزِيِّ قَالَ لِي : كُنْت أَقْرَأُ خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيِّ اللُّغَوِيِّ الْفَرَائِضِيِّ فَوَصَلْت إلَى قَوْلِهِ : وَتِذْكَارُهُمْ تُوَاصِلُ مَسِيلَ الْعَبَرَاتِ ، وَقَرَأْته بِخَفْضِ التَّاءِ فَرَدَّ عَلَيَّ ، وَقَالَ وَتَذْكَارُهُمْ بِفَتْحِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تِفْعَالٌ إلَّا التِّلْقَاءَ وَإِلَّا التِّبْيَانَ ، وَتِعْشَارٌ وَتِنْزَالٌ مَوْضِعَانِ ، وَتِقْصَارٌ : قِلَادَةٌ .
قَالَ لِي التَّبْرِيزِيُّ : ثُمَّ قَرَأْت خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى بَعْضِ أَشْيَاخِي ، فَلَمَّا وَصَلْت إلَى اللَّفْظِ وَذَكَرْت لَهُ كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ لِي : اُكْتُبْ مَا أَمَلِي عَلَيْك .
فَأَمْلَى عَلَيَّ : الْأَشْيَاءُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى تِفْعَالٍ ضَرْبَانِ : مَصَادِرُ وَأَسْمَاءٌ ؛ فَأَمَّا الْمَصَادِرُ فَالتِّلْقَاءُ وَالتِّبْيَانُ ؛ وَهُمَا فِي الْقُرْآنِ .
وَالْأَسْمَاءُ : رَجُلٌ

تِنْبَالٌ : أَيْ قَصِيرٌ .
وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّاءَ فِي تِنْبَالٍ أَصْلِيَّةٌ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فِعْلَالًا .
وَذَكَرَ مَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَزَادَ التِّنْضَالُ مِنْ الْمُنَاضَلَةِ والتِّيغَارُ حَبٌّ مَقْطُوعٌ يَزِيدُ فِي الْخَابِيَةِ ، وَتِرْيَاعٌ : مَوْضِعٌ ، وَالتِّرْبَانُ وَتِرْغَامٌ اسْمُ شَاعِرٍ ، وَيُقَالُ جَاءَ لِتِنْفَاقِ الْهِلَالِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا ، وَالتِّمْتَانُ وَاحِدُ التِّمْتَانَيْنِ ، وَهِيَ خُيُوطٌ تُضْرَبُ بِهَا الْفُسْطَاطُ .
وَرَجُلٌ تِمْزَاحٌ كَثِيرُ الْمُزَاحِ ، وَالتِّمْسَاحُ الدَّابَّةُ الْمَعْرُوفَةُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ التِّمْثَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ حَيَوَانٌ وَمَوَاتٌ ، وَالْمَوَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ : جَمَادٌ وَنَامٍ ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِنُّ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ جَمِيعَهُ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا عُمُومُ قَوْلِهِ : { تَمَاثِيلَ } .
وَالثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ ، أَصْلُهَا الإسرائليات ؛ لِأَنَّ التَّمَاثِيلَ مِنْ الطَّيْرِ كَانَتْ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا عُمُومَ لِقَوْلِهِ : { تَمَاثِيلَ } فَإِنَّهُ إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ لَا عُمُومَ لَهُ ؛ إنَّمَا الْعُمُومُ فِي النَّفْيِ فِي النَّكِرَةِ حَسْبَمَا قَرَرْتُمُوهُ فِي الْأُصُولِ .
قُلْنَا : كَذَلِكَ نَقُولُ ، بَيْدَ أَنَّهُ قَدْ اُقْتُرِنَ بِهَذَا الْإِثْبَاتِ فِي النَّكِرَةِ مَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { مَا يَشَاءُ } فَاقْتِرَانُ الْمَشِيئَةِ بِهِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ شَاءَ عَمَلَ الصُّوَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ؟ قُلْنَا : لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي شَرْعِهِ ، بَلْ وَرَدَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَأْذُونًا فِيهِ ، وَاَلَّذِي أُوجِبَ النَّهْيَ عَنْهُ فِي شَرْعِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ ، فَكَانُوا يُصَوِّرُونَ وَيَعْبُدُونَ ، فَقَطَعَ اللَّهُ الذَّرِيعَةَ وَحَمَى الْبَابَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ حِينَ ذَمَّ الصُّوَرَ وَعَمَلَهَا مِنْ الصَّحِيحِ قَوْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عَذَّبَهُ اللَّهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ } ؛ فَعَلَّلَ بِغَيْرِ مَا زَعَمْتُمْ .
قُلْنَا : نُهِيَ عَنْ الصُّورَةِ ، وَذَكَرَ عِلَّةَ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِ اللَّهِ ، وَفِيهَا زِيَادَةُ عِلَّةِ عِبَادَتِهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ نَفْسَ عَمَلِهَا مَعْصِيَةٌ ، فَمَا ظَنُّك بِعِبَادَتِهَا ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ شَأْنُ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا أُنَاسًا ، ثُمَّ

صُوِّرُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَعُبِدُوا .
وَقَدْ شَاهَدْت بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة إذَا مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ صَوَّرُوهُ مِنْ خَشَبٍ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ، وَأَجْلَسُوهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ بَيْتِهِ وَكَسَوْهُ بِزَّتَهُ إنْ كَانَ رَجُلًا وَحِلْيَتَهَا إنْ كَانَتْ امْرَأَةً ، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِ الْبَابَ .
فَإِذَا أَصَابَ أَحَدًا مِنْهُمْ كَرْبٌ أَوْ تَجَدَّدَ لَهُ مَكْرُوهٌ فَتَحَ الْبَابَ [ عَلَيْهِ ] وَجَلَسَ عِنْدَهُ يَبْكِي وَيُنَاجِيهِ بِكَانَ وَكَانَ حَتَّى يَكْسِرَ سَوْرَةَ حُزْنِهِ بِإِهْرَاقِ دُمُوعِهِ ، ثُمَّ يُغْلِقُ الْبَابَ عَلَيْهِ وَيَنْصَرِفُ عَنْهُ ، وَإِنْ تَمَادَى بِهِمْ الزَّمَانُ يَعْبُدُوهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إنْ قُلْنَا : إنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا فَلَيْسَ يُنْقَلُ عَنْ ذَلِكَ حُكْمٌ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فَيَكُونُ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصُّوَرِ نَسْخًا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي قِسْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قَبْلَ هَذَا .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الَّذِي كَانَ يُصْنَعُ لَهُ الصُّوَرُ الْمُبَاحَةُ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَصُورَتِهِ فَشَرْعُنَا وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِ مَا كَانَ شَخْصًا لَا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، لُبَابُهُ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْأَحَادِيثِ خَمْسُ أُمَّهَاتٍ : الْأُمُّ الْأُولَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ ، أَوْ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا .
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ صُورَةٍ .
الْأُمُّ الثَّانِيَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ } زَادَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ : { إلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ } وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ نَحْوُهُ ، فَقُلْت لِعَائِشَةَ : هَلْ سَمِعْت هَذَا ؟ فَقَالَتْ : لَا ؛

وَسَأُحَدِّثُكُمْ ؛ { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَأَخَذْت نَمَطًا فَنَشَرْته عَلَى الْبَابِ ، فَلَمَّا قَدِمَ وَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْت الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ ، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ ، وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ .
قَالَتْ : فَقَطَعْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ وَحَشَوْتهمَا لِيفًا فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ } .
الْأُمُّ الثَّالِثَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالٌ طَائِرٌ ، وَكَانَ الدَّاخِلُ إذَا دَخَلَ اسْتَقْبَلَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَوِّلِي هَذَا فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْته ذَكَرْت الدُّنْيَا } .
الْأُمُّ الرَّابِعَةُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُتَسَتِّرَةٌ بِقِرَامٍ فِيهِ صُورَةٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ خَلْقَ اللَّهِ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقَطَّعْته ، فَجَعَلْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ } .
الْأُمُّ الْخَامِسَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ لَنَا ثَوْبٌ مَمْدُودٌ عَلَى سَهْوَةٍ فِيهَا تَصَاوِيرُ ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَخِّرِيهِ عَنِّي ، فَجَعَلْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ ؛ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَفِقُ بِهِمَا } .
وَفِي رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ النُّمْرُقَةِ قَالَتْ : { اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَتَوَسَّدَهَا ؛ فَقَالَ : إنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ } .
قَالَ الْقَاضِي : فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الصُّوَرَ مَمْنُوعَةٌ عَلَى الْعُمُومِ ، ثُمَّ جَاءَ : إلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ ، فَخُصَّ مِنْ جُمْلَةِ الصُّوَرِ ، ثُمَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي الثَّوْبِ الْمُصَوَّرِ : أَخِّرِيهِ عَنِّي ؛ فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْته ذَكَرْت

الدُّنْيَا فَثَبَتَتْ الْكَرَاهَةُ فِيهِ .
ثُمَّ بِهَتْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّوْبَ الْمُصَوَّرَ عَلَى عَائِشَةَ مَنَعَ مِنْهُ ، ثُمَّ بِقَطْعِهَا لَهَا وِسَادَتَيْنِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ الصُّورَةُ وَخَرَجَتْ عَنْ هَيْئَتِهَا بِأَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ الصُّورَةُ فِيهِ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ لَمْ يَجُزْ لِقَوْلِهَا فِي النُّمْرُقَةِ الْمُصَوَّرَةِ : اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَتَوَسَّدَهَا ، فَمَنَعَ مِنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ ، وَتَبَيَّنَ بِحَدِيثِ الصَّلَاةِ إلَى الصُّورَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا [ فِي الرَّقْمِ ] فِي الثَّوْبِ ، ثُمَّ نَسَخَهُ الْمَنْعُ ، فَهَكَذَا اسْتَقَرَّ فِيهِ الْأَمْرُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : كَالْجَوْبَةِ مِنْ الْأَرْضِ .
{ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } يَعْنِي لَا تُحْمَلُ وَلَا تُحَرَّكُ لِعِظَمِهَا ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قُدُورُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ يُصْعَدُ إلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسُلَّمٍ ، وَرَأَيْت بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ قُدُورَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ يَطْبُخُونَ جَمِيعًا ، وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْثَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَنْ أَحَدٍ ، وَعَنْهَا عَبَّرَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ : كَالْجَوَابِي لَا تَنِي مُتْرَعَةً لِقِرَى الْأَضْيَافِ أَوْ لَلْمُحْتَضَرِ وَقَالَ أَيْضًا : يُجْبَرُ الْمَحْرُوبُ فِيهَا مَالَهُ بِجِفَانٍ وَقِبَابٍ وَخَدَمٍ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } .
ثُمَّ قَالَ : ثَلَاثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُد .
قَالَ : فَقُلْنَا : مَا هُنَّ ؟ قَالَ : الْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ } .
الثَّانِي : قَوْلُهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ .
الثَّالِثُ : الصَّلَاةُ شُكْرٌ ، وَالصِّيَامُ شُكْرٌ ، وَكُلُّ خَيْرٍ يُفْعَلُ لِلَّهِ شُكْرٌ .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَقِيقَةُ الشُّكْرِ اسْتِعْمَالُ النِّعْمَةِ فِي الطَّاعَةِ ، وَالْكُفْرَانُ : اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَعْصِيَةِ .
وَقَلِيلٌ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ أَقَلُّ مِنْ الشَّرِّ ، وَالطَّاعَةَ أَقَلُّ مِنْ الْمَعْصِيَةِ بِحَسْبِ سَابِقِ التَّقْدِيرِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { يُخْلِفُهُ } يَعْنِي يَأْتِي بِثَانٍ بَعْدَ الْأَوَّلِ ، وَمِنْهُ الْخِلْفَةُ فِي النَّبَاتِ .
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ .
فَقَالَ : لَا .
بَلْ أَنَا الْخَالِفَةُ بَعْدَهُ .
[ قَالَ ثَعْلَبٌ : يُرِيدُ بِالْقَاعِدِ بَعْدَهُ ] ، وَالْخَالِفَةُ الَّذِي يَسْتَخْلِفُهُ الرَّئِيسُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَعْنَى الْخَلَفِ هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : يُخْلِفُهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا ، كَمَا يُجِيبُ الدُّعَاءَ إذَا شَاءَ .
الثَّانِي يُخْلِفُهُ بِالثَّوَابِ .
الثَّالِثُ : مَعْنَى يُخْلِفُهُ ، فَهُوَ أَخْلَفَهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا عِنْدَ الْعَبْدِ مِنْ خَلَفِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ .
رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك } .
وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخَلَفَ فِي الدُّنْيَا بِمِثْلِ الْمُنْفِقِ بِهَا إذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَهُوَ كَالدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ ؛ إمَّا أَنْ تُقْضَى حَاجَتُهُ ، وَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ يُعَوَّضُ مِثْلَهُ وَأَزْيَدَ ، وَإِمَّا أَنْ يُعَوَّضَ ، وَالتَّعْوِيضُ هَاهُنَا بِالثَّوَابِ ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ ، وَالِادِّخَارُ هَاهُنَا مِثْلُهُ فِي الْآخِرَةِ .

سُورَةُ فَاطِرٍ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَاَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي قَوْلِهِ : { يَصْعَدُ } ؛ وَالصُّعُودُ هُوَ الْحَرَكَةُ إلَى فَوْقَ ، وَهُوَ الْعُرُوجُ أَيْضًا .
وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّهُ عَرْضٌ ، وَلَكِنْ ضَرَبَ صُعُودَهُ مَثَلًا لِقَبُولِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الثَّوَابِ فَوْقَ ، وَمَوْضِعَ الْعَذَابِ أَسْفَلَ .
وَالصُّعُودُ رِفْعَةٌ وَالنُّزُولُ هَوَانٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ التَّوْحِيدُ الصَّادِرُ عَنْ عَقِيدَةٍ طَيِّبَةٍ .
الثَّانِي : مَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ .
الثَّالِثُ : مَا لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ } : هُوَ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { يَرْفَعُهُ } : قِيلَ الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ ، كَمَا أَنَّهُ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ .
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يُصْعِدُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ ، وَقَدْ قَالَ السَّلَفُ بِالْوَجْهَيْنِ ، وَهُمَا صَحِيحَانِ .
فَالْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّافِعُ الْخَافِضُ .
وَالثَّانِي مَجَازٌ ؛ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ سَائِغٌ .
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كَلَامَ الْمَرْءِ بِذِكْرِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ لَمْ يَنْفَعْ ؛ لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَهُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إذَا وَقَعَ شَرْطًا فِي الْقَوْلِ أَوْ مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّهُ لَا قَبُولَ لَهُ إلَّا بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهِ وَلَا مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّ كَلِمَهُ الطَّيِّبَ يُكْتَبُ لَهُ ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ ، وَتَقَعُ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يُحْكَمُ لَهُ بِالْفَوْزِ وَالرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ذَكَرُوا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِعُمُومٍ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ .
وَقَدْ دَخَلَ هَذَا فِي الصَّلَاةِ بِشُرُوطِهَا ، فَلَا يَقْطَعُهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِثُبُوتِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ مَا انْعَقَدَتْ بِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ .
وَقَدْ تَعَلَّقَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ مُتَعَارِضَةٌ فَتَبْقَى الصَّلَاةُ عَلَى صِحَّتِهَا .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي طَعَامِ الْبَحْرِ وَحِلْيَتِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَالنَّحْلِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا .

سُورَةُ يس [ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يس } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَكَذَا كُتِبَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي سَطَّرْنَاهَا الْآنَ ، وَهِيَ فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ قَوْلُهُ : { ق } وَثَبَتَ قَوْلُهُ : { ن وَالْقَلَمِ } ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى التَّهَجِّي ، فَيُقَالُ فِيهِ يَاسِين ، وَلَا قِيلَ قَافْ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، وَلَا نُونْ وَالْقَلَمِ ، وَلَوْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَقُلْت فِيهَا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ قَافَ جَبَلٌ ، وَإِنَّ نُونَ الْحُوتُ أَوْ الدَّوَاةُ ؛ فَكَانَتْ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ وَالصَّحَابَةَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا كَتْبَ الْقُرْآنِ كَتَبُوهَا مُطْلَقَةً لِتَبْقَى تَحْتَ حِجَابِ الْإِخْفَاءِ ، وَلَا يُقْطَعُ عَلَيْهَا بِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةِ ؛ فَإِنَّ الْقَطْعَ عَلَيْهَا إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ خَبَرٍ ؛ إذْ لَيْسَ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ، رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ قَالَ : سَأَلْت مَالِكًا هَلْ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ يس ؟ قَالَ : مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي ، لِقَوْلِ اللَّهِ : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } يَقُولُ : هَذَا اسْمِي يس .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يس يَا إنْسَانُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ ، وَقَوْلُك يَا طَهَ : يَا رَجُلُ .
وَعَنْهُ رِوَايَةُ أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كُنِيَ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا يس أَيْ يَا سَيِّدُ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ مِنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَمَّانِي اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ سَبْعَةَ أَسْمَاءٍ : مُحَمَّدًا ، وَأَحْمَدَ ، وَطَه ، وَيس ، وَالْمُزَّمِّلَ وَالْمُدَّثِّرَ ، وَعَبْدَ اللَّهِ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ ، وَقَدْ جَمَعْنَا أَسْمَاءَهُ مِنْ الْقُرْآنِ

وَالسُّنَّةِ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ : لَا يُسَمَّى أَحَدٌ يس ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ كَلَامٌ بَدِيعٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِ اللَّهِ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ ، كَقَوْلِهِ : عَالِمٌ ، وَقَادِرٌ ، وَمُرِيدٌ ، وَمُتَكَلِّمٌ ؛ وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا ، لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ ، فَرُبَّمَا كَانَ مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّبُّ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ هَلْ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْبَارِي فَيُقَدَّمُ عَلَى خَطَرٍ مِنْهُ ، فَاقْتَضَى النَّظَرُ رَفْعَهُ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { سَلَامٌ عَلَى إلْ يَاسِينَ } .
قُلْنَا : ذَلِكَ مَكْتُوبٌ بِهِجَاءٍ فَيَجُوزُ التَّسْمِيَةُ بِهِ ، وَهَذَا الَّذِي لَيْسَ بِمُتَهَجًّى هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ مَالِكٌ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ } .
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتْ مَنَازِلُ الْأَنْصَارِ بَعِيدَةً مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إلَى الْمَسْجِدِ ، فَنَزَلَتْ : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } فَقَالُوا : نَثْبُتُ مَكَانَنَا .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا بَنِي سَلِمَةَ ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بَنِي سَلِمَةَ ؛ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ؛ يَعْنِي الْزَمُوا دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ لَكُمْ آثَارُكُمْ } ، أَيْ خُطَاكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، وَحَطَّ بِهَا عَنْهُ خَطِيئَةً ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ، وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ } .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى كَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى أَوْضَاعٍ : مِنْهَا الْخُطَبُ ، وَالسَّجْعُ ، وَالْأَرَاجِيزُ ، وَالْأَمْثَالُ ، وَالْأَشْعَارُ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْصَحَ بَنِي آدَمَ } ، وَلَكِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ الشِّعْرُ ؛ لَمَّا كَانَ اللَّهُ قَدْ ادَّخَرَ مَنْ جَعَلَ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً لَهُ ، وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ ، لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ وَعَجِيبِ الْفَصَاحَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ أَنْوَاعِ كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّسْنِ الْبُلَغَاءِ الْفُصْحِ الْمُتَشَدِّقِينَ اللُّدِّ ، كَمَا سَلَبَ عَنْهُ الْكِتَابَةَ وَأَبْقَاهُ عَلَى حُكْمِ الْأُمِّيَّةِ ، تَحْقِيقًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ ، وَتَأْكِيدًا ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } ؛ لِأَجْلِ مُعْجِزَتِهِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّ صِفَتَهَا مِنْ صِفَتِهِ ، ثُمَّ هِيَ زِيَادَةٌ عُظْمَى عَلَى رُتْبَتِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَوْضَاعِنَا فِي الْأُصُولِ وَجْهَ إعْجَازِ الْقُرْآنِ وَخُرُوجِهِ عَنْ أَنْوَاعِ كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَخُصُوصًا عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَخُو أَبِي ذَرٍّ لِأَبِي ذَرٍّ : لَقَدْ وَضَعْت قَوْلَهُ عَلَى أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا ، وَلَا دَخَلَ فِي بُحُورِ الْعَرُوضِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ ، وَلَا فِي زِيَادَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْبُحُورَ تَخْرُجُ مِنْ خَمْسِ دَوَائِرَ : إحْدَاهَا دَائِرَةُ الْمُخْتَلَفِ يَنْفَكُّ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَبْحُرٍ : وَهِيَ الطَّوِيلُ ، وَالْمَدِيدُ ، وَالْبَسِيطُ ؛ ثُمَّ تَتَشَعَّبُ عَلَيْهَا زِيَادَاتٌ كُلُّهَا مُنْفَكَّةٌ .
الدَّائِرَةُ الثَّانِيَةُ دَائِرَةُ الْمُؤْتَلَفِ يَنْفَكُّ مِنْهَا بَحْرُ الْوَافِرِ ، وَالْكَامِلِ ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهَا زِيَادَاتٌ لَا تَخْرُجُ عَنْهَا .
الدَّائِرَةُ الثَّالِثَةُ دَائِرَةُ الْمُتَّفَقِ ، وَيَنْفَكُّ مِنْهَا فِي الْأَصْلِ الْهَزَجُ ، وَالرَّجَزُ ، وَالرَّمَلُ ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهَا مَا يَرْجِعُ إلَيْهَا .
الدَّائِرَةُ الرَّابِعَةُ دَائِرَةُ الْمُجْتَثِّ يَجْرِي عَلَيْهَا سِتَّةُ أَبْحُرٍ : وَهِيَ السَّرِيعُ ، وَالْمُنْسَرِحُ ، وَالْخَفِيفُ ، وَالْمُضَارَعُ ، وَالْمُقْتَضَبُ ، وَالْمُجْتَثُّ ، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا مَا يَجْرِي مَعَهَا فِي أَفَاعِيلِهَا .
الدَّائِرَةُ الْخَامِسَةُ دَائِرَةُ الْمُنْفَرِدِ ، وَيَنْفَكُّ مِنْهَا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَالْأَخْفَشِ بَحْرٌ وَاحِدٌ : وَهُوَ الْمُتَقَارَبُ ، وَعِنْدَ الزَّجَّاجِ بَحْرٌ آخَرُ سَمَّوْهُ الْمُجْتَثُّ وَالْمُتَدَارَكُ وَرَكْضُ الْخَيْلِ .
وَلَقَدْ اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنْ يُجْرُوا الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ عَلَى وَزْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْزَانِ فَلَمْ يَقْدِرُوا ، فَظَهَرَ عِنْدَ الْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } .
وَقَالَ : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } تَحْقِيقٌ فِي نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَقَدْ اعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُصَحَاءِ الْمُلْحِدَةِ عَلَيْنَا فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِأَشْيَاءَ أَرَادُوا بِهَا التَّلْبِيسَ عَلَى الضَّعَفَةِ ، مِنْهَا قَوْلُهُ { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْت أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وَقَالُوا : إنَّ هَذَا مِنْ بَحْرِ الْمُتَقَارَبِ ، عَلَى مِيزَانِ قَوْلِهِ : فَأَمَّا تَمِيمٌ تَمِيمُ بْنُ مُرٍّ فَأَلْفَاهُمْ الْقَوْمُ رُءُوسًا نِيَامًا وَهَذَا إنَّمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْجَاهِلُونَ بِالصِّنَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُلَائِمُ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ الْآيَةِ قَوْلُهُ : ( فَلَمَّا ) إلَى قَوْلِهِ ( كُلِّ ) وَإِذَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ .
وَإِذَا أَتْمَمْنَاهُ بِقَوْلِهِ : { شَيْءٍ شَهِيدٌ } خَرَجَ عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ ، وَزَادَ فِيهِ مَا يَصِيرُ بِهِ عَشْرَةَ أَجْزَاءٍ كُلَّهَا عَلَى وَزْنِ فَعُولُنْ ، وَلَيْسَ فِي بُحُورِ الشِّعْرِ مَا يَخْرُجُ الْبَيْتُ مِنْهُ مِنْ عَشْرَةِ أَجْزَاءٍ ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُهُ ثَمَانِيَةٌ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } ادَّعَوْا أَنَّهُ مِنْ بَحْرِ الْوَافِرِ ، وَقَطَّعُوهُ : مَفَاعِيلٌ مَفَاعِيلٌ فَعُولُنْ مَفَاعِيلٌ مَفَاعِيلٌ فَعُولُنْ ؛ وَهُوَ عَلَى وَزْنِ قَوْلِ الْأَوَّلِ : لَنَا غَنَمٌ نَسُوقُهَا غِزَارٌ كَأَنَّ قُرُونَ جَلَّتِهَا الْعِصِيُّ وَعَلَى وَزْنِ قَوْلِ الْآخَرِ : طَوَالُ قَنَا يُطَاعِنُهَا قِصَارُ وَقَطْرُك فِي نَدًى وَوَغًى بِحَارُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ إنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَوْ زِدْت فِيهَا أَلِفًا بِتَمْكِينِ حَرَكَةِ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ مُؤْمِنِينَ فَتَقُولُ مُؤْمِنِينَا .
الثَّانِي : أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الرَّوِيِّ بِإِشْبَاعِ حَرَكَةِ الْمِيمِ فِي قَوْلِهِ : { وَيُخْزِهِمْ } وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَى وَجْهِهِ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } ؛

زَعَمُوا أَنَّهُ مُوَافِقٌ بَحْرَ الرَّجَزِ فِي الْوَزْنِ ، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ ، فَإِنْ ضَمَمْت إلَيْهِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ خَرَجَ عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } ؛ زَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ بَحْرِ الرَّجَزِ ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ امْرِئِ الْقَيْسِ : رَهِينٌ مُعْجَبٌ بِالْقَيْنَاتِ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا إنَّمَا يَجْرِي عَلَى هَذَا الرَّوِيِّ إذَا زِدْت يَاءً بَعْدَ الْبَاءِ فِي قَوْلِك : كَالْجَوَابِي ، فَإِذَا حَذَفْت الْيَاءَ فَلَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَزْنِ شَيْءٍ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ } ؛ فَقَالُوا : هَذِهِ آيَةٌ تَامَّةٌ ، وَهِيَ عَلَى وَزْنِ بَيْتٍ مِنْ الرَّمَلِ ؛ وَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِأَنْ تُحْذَفَ مِنْ قَوْلِك لَا تَسْتَأْخِرُونَ قَوْلُهُ : " لَا تَسْ " وَتُوصِلُ قَوْلَك يَوْمٍ بِقَوْلِك تَأْخِرُونَ ، وَتَقِفُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى النُّونِ مِنْ قَوْلِك تَأْخِرُونَ ، فَتَقُولُ تَأْخِرُونَا بِالْأَلِفِ ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِصْرَاعًا ثَانِيًا ، وَيُتِمُّ الْمِصْرَاعَانِ بَيْتًا مِنْ الرَّمَلِ حِينَئِذٍ ، وَلَوْ قُرِئَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا ، وَمَتَى قُرِئَتْ الْآيَةُ عَلَى مَا جَاءَتْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا } .
وَهَذَا مَوْضُوعٌ عَلَى وَزْنِ الْكَامِلِ مِنْ وَجْهٍ ، وَعَلَى رَوِيِّ الرَّجَزِ مِنْ وَزْنٍ آخَرَ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَرَأَ عَلَيْهِمْ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ يَكُونُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٌ ، وَلَيْسَ فِي بَحْرِ الْكَامِلِ وَلَا فِي بَحْرِ الرَّجَزِ فَعُولُنْ بِحَالٍ ، وَمَنْ أَشْبَعَ حَرَكَةَ الْمِيمِ فَلَا يَكُونُ بَيْتًا إلَّا بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ مِنْ دَانِيَةً ، وَإِذَا حُذِفَتْ الْوَاوُ بَطَلَ نَظْمُ الْقُرْآنِ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرَك الَّذِي أَنَقَضَ ظَهْرَك وَرَفَعْنَا لَك ذِكْرَك } زَعَمُوا

أَرْغَمَهُمْ اللَّهُ أَنَّهَا مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ ، وَأَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَبْيَاتٍ كُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا عَلَى مِصْرَاعٍ ، وَهُوَ مِنْ مَجْزُوِّهِ عَلَى فَاعِلَاتٍ فَاعِلَاتٍ ، وَيَقُومُ فِيهَا فَعِلَاتٌ مَقَامَهُ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا جَاءَ فِي دِيوَانِ الْعَرَبِ بَيْتٌ مِنْ الرَّمَلِ عَلَى جُزْأَيْنِ ، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَجْزَاءٍ تَامَّةٍ كُلُّهَا فَاعِلَاتٌ أَوْ فِعْلَاتٌ ، أَوْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فَاعِلَاتٌ أَوْ فِعْلَاتٌ ؛ فَأَمَّا عَلَى جُزْأَيْنِ كِلَاهُمَا فَاعِلَاتٌ فَاعِلَاتٌ فَلَمْ يَرِدْ قَطُّ فِيهَا ؛ وَكَلَامُهُمْ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَزْنِ بَعْضِ بَيْتٍ ، وَهَذَا مِمَّا لَا نُنْكِرُهُ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ تَامَّةٌ ، أَوْ كَلَامٌ تَامٌّ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى وَزْنِ بَيْتٍ تَامٍّ مِنْ الشِّعْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ يَكُونُ الْمَجْزُوءُ وَالْمُرَبَّعُ مِنْ الرَّمَلِ تَارَةً مُصَرَّعًا وَتَارَةً غَيْرَ مُصَرَّعٍ ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنْ الْمَجْزُوءِ وَالْمُرَبَّعِ الْمُصَرَّعِ مِنْ الرَّمَلِ .
قُلْنَا : إنَّ الْبَيْتَ مِنْ الْقَصِيدَةِ إنَّمَا يَكُونُ مُصَرَّعًا إذَا كَانَ فِيهِ أَبْيَاتٌ أَوْ بَيْتٌ غَيْرُ مُصَرَّعٍ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَنْصَافُ أَبْيَاتِهِ كُلُّهَا عَلَى سَجْعٍ وَاحِدٍ وَكُلُّ نِصْفٍ مِنْهَا بَيْتٌ بِرَأْسِهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرَّمَلِ مَا يَكُونُ عَلَى جُزْأَيْنِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ جُزْآنِ ، فَلَمْ يَرِدْ عَلَى شَرْطِ الرَّمَلِ .
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { أَرَأَيْت الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ } وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَقَعُ فِي أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ إلَّا بِحَذْفِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ : { فَذَلِكَ } وَبِتَمْكِينِ حَرَكَةِ الْمِيمِ مِنْ الْيَتِيمِ ، فَيَكُونُ الْيَتِيمَا .
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { إنِّي وَجَدْت امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } .
فَقَوْلُهُ : { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا } بَيْتٌ تَامٌّ ، فَقَدْ بَيَّنَّا

فَسَادَ هَذَا ، وَأَنَّ بَعْضَ آيَةٍ وَجُزْءًا مِنْ كَلَامٍ لَا يَكُونُ شِعْرًا .
فَإِنْ قِيلَ : يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } إتْمَامًا لِلْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى النَّظْمَيْنِ ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ : وَهُمْ وَرَدُوا الْجِفَارَ عَلَى تَمِيمٍ وَهُمْ أَصْحَابُ يَوْمِ عُكَاظٍ إنِّي شَهِدْت لَهُمْ مَوَاطِنَ صَالِحَاتٍ أَنَرْتُهُمُ بِنُصْحِ الْقَوْلِ مِنِّي قُلْنَا : التَّضْمِينُ عَلَى عَيْبِهِ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَيْتٍ عَلَى تَأْسِيسِ بَيْتٍ قَبْلَهُ ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ التَّأْسِيسُ بَيْتًا وَالتَّضْمِينُ أَقَلَّ مِنْ بَيْتٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشِعْرٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ آيَةٍ عَلَى مِثَالِ قَوْلِ الشِّعْرِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } فَهَذَا عَلَى نِصْفِ بَيْتٍ مِنْ الرَّجَزِ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى } عَلَى نِصْفِ بَيْتٍ مِنْ الْمُتَقَارَبِ الْمُسْتَمِرِّ ، وَهَذَا كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَقَدْ ادَّعَوْهُ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : إنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ فِي كَلَامِ الَّذِي نُفِيَتْ عَنْهُ مَعْرِفَةُ الشِّعْرِ ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ .
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ } .
قُلْنَا : قَدْ قَالَ الْأَخْفَشُ : إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشِعْرٍ ، وَرَوَى ابْنُ الْمُظَفَّرِ عَنْ الْخَلِيلِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ : إنَّ مَا جَاءَ مِنْ السَّجْعِ عَلَى جُزْأَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا .
وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ مَنْهُوكِ الرَّجَزِ .
فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَا يَكُونُ مَنْهُوكَ رَجَزٍ إلَّا بِالْوَقْفِ عَلَى الْبَاءِ مِنْ قَوْلِك : لَا كَذِبْ ، وَمِنْ قَوْلِهِ : " عَبْدُ الْمُطَّلِبِ " وَلَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ قَالَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَالَ : لَا كَذِبٌ بِتَنْوِينِ الْبَاءِ مَرْفُوعَةً وَبِخَفْضِ

الْبَاءِ مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْإِضَافَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ طَرَفَةَ : سَتُبْدِي لَك الْأَيَّامُ مَا كُنْت جَاهِلًا وَيَأْتِيك مَنْ لَمْ تَزَوَّدْ بِالْأَخْبَارِ وَقَالَ : أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْ دِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ وَقَالَ : كَفَى الْإِسْلَامُ وَالشَّيْبُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، وَقَبَّلَ رَأْسَهُ قَالَ اللَّهُ : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } .
قَالُوا : وَمِنْهَا قَوْلُهُ : هَلْ أَنْتَ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيت وَأَلْزَمُونَا أَنَّ هَذَا شِعْرٌ مَوْزُونٌ مِنْ بَحْرِ السَّرِيعِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ هَذَا شِعْرًا مَوْزُونًا إذَا كُسِرَتْ التَّاءُ مِنْ دَمِيَتْ وَلَقِيت ، فَإِنْ سُكِّنَتْ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ تَكُونُ فَعُولٌ ، وَلَا مَدْخَلَ لِفَعُولٍ فِي بَحْرِ السَّرِيعِ .
وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا سَاكِنَةَ التَّاءِ أَوْ مُتَحَرِّكَةَ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ إشْبَاعٍ .
قَالُوا : وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ } ؛ فَادَّعَوْا أَنَّهُ عَلَى وَزْنِ مَشْطُورِ الرَّجَزِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ شِعْرًا إذَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَوْصُولًا ، فَإِنْ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ : اللَّهُ مَوْلَانَا ، أَوْ وَصَلَ وَحَرَّكَ الْمِيمَ مِنْ قَوْلِهِ لَكُمْ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا .
وَقَدْ نَقَلَهُ وَوَصَلَهُ بِكَلَامٍ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لَا يَكُونُ شِعْرًا إلَّا بَعْدَ تَفْسِيرِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُسَكَّنُ اللَّامُ مِنْ قَوْلِك الْوَلَدُ ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ .
وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ مَوْزُونِ الْكَلَامِ لَا يُعَدُّ شِعْرًا ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ مِنْهُ مَا يَجْرِي عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ وَمَعَ الْقَصْدِ إلَيْهِ .
فَقَدْ

يَقُولُ قَائِلٌ : حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا ، وَيُنَادَى يَا صَاحِبَ الْكِسَاءِ ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا شِعْرًا .
وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ يُنَادِي فِي مَرَضِهِ وَهُوَ مِنْ عُرْضِ الْعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ : اذْهَبُوا بِي إلَى الطَّبِيبِ ، وَقُولُوا قَدْ اكْتَوَى ، وَبِهَذَا وَسِوَاهُ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ الْآيَةِ مَعْنًى ، وَبُطْلَانُ مَا مَوَّهُوا بِهِ قَطْعًا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ إنْشَادِ الشِّعْرِ قَالَ : لَا تُكْثِرْ مِنْهُ ، فَمِنْ عَيْبِهِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } .
قَالَ : وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اجْمَعْ الشُّعَرَاءَ قِبَلَك وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الشِّعْرِ ، وَهَلْ بَقِيَ مَعَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِهِ ، وَأَحْضَرَ لَبِيدًا ذَلِكَ .
قَالَ : فَجَمَعَهُمْ وَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا : إنَّا لَنَعْرِفُهُ وَنَقُولُهُ .
وَسَأَلَ لَبِيدًا فَقَالَ : مَا قُلْت شِعْرًا مُنْذُ سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك } مِنْ عَيْبِ الْخَطِّ .
فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الْأُمِّيَّةُ مِنْ عَيْبِ الْخَطِّ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ نَفْيُ النَّظْمِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَالَ الشِّعْرِ فِي سُورَةِ الظُّلَّةِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : يُرْوَى أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ أَوْ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ مَرَّ بِرِمَّةٍ بَالِيَةٍ فَأَخَذَهَا ، وَقَالَ : الْيَوْمَ أَغْلِبُ مُحَمَّدًا ، وَجَاءَ إلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا كَمَا بَدَأَهُ ، وَفَتَّتَهُ بِيَدِهِ ، حَتَّى عَادَ رَمِيمًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْعِظَامِ حَيَاةً ، وَأَنَّهُ يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ تَحِلُّ الْحَيَاةُ بِهِ فَيَخْلُفُهَا الْمَوْتُ يُنَجَّسُ وَيُحَرَّمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَسَاعَدَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ .
وَقَدْ اضْطَرَبَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ } يَعْنِي أَصْحَابَ الْعِظَامِ ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ مَوْجُودٌ فِي الشَّرِيعَةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِضَرُورَةٍ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَةٌ تَدْعُو إلَى هَذَا الْإِضْمَارِ ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى الظَّاهِرِ ؛ إذْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ، وَالْحَقِيقَةُ تَشْهَدُ لَهُ ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَاسَ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ الْحَيَاةِ مَوْجُودٌ فِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

سُورَةُ الصَّافَّاتِ [ مَكِّيَّةٌ ، فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اُخْتُلِفَ فِي الذَّبِيحِ ، هَلْ هُوَ إِسْحَاقُ أَوْ إسْمَاعِيلُ ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَبْيِينِ الصَّحِيحِ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ ، وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَتَوَابِعِهَا وَمُتَمِّمَاتِهَا لَا أُمَّهَاتِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك } وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ فِي التَّخْيِيلِ سَبِيلٌ ، وَلَا لِلِاخْتِلَاطِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ ؛ وَإِنَّمَا قُلُوبُهُمْ صَافِيَةٌ ، وَأَفْكَارُهُمْ صَقِيلَةٌ ، فَمَا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ ، وَنَفَثَ بِهِ الْمَلِكُ فِي رَوْعِهِمْ ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ حَقٌّ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَمَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي قُرْآنٍ يُتْلَى ، وَلَكِنْ رَجَوْت أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا .
.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ نُبْذَةً مِنْهَا ، وَأَنَّ الْبَارِيَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ وَكُنَى ، فَمِنْهَا رُؤْيَا تَخْرُجُ بِصِفَتِهَا ، وَمِنْهَا رُؤْيَا تَخْرُجُ بِتَأْوِيلِهَا وَهُوَ كُنْيَتُهَا .
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ : أُرِيتُك فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ .
فَقَالَ الْمَلَكُ : هَذِهِ زَوْجُك ، فَاكْشِفْ عَنْهَا ، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ .
فَقُلْت : إنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ } .
وَلَمْ يَشُكَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ لِقَوْلِهِ : فَقَالَ لِي الْمَلَكُ ، وَلَا يَقُولُ الْمَلَكُ إلَّا حَقًّا ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ احْتَمَلَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا بِاسْمِهَا أَوْ تَكُونَ بِكُنْيَتِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ بِاسْمِهَا فَتَكُونُ هِيَ الزَّوْجَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ الرُّؤْيَا مُكَنَّاةً فَتَكُونُ فِي أُخْتِهَا أَوْ قَرَابَتِهَا أَوْ جَارَتِهَا ، أَوْ مَنْ يُسَمَّى بِاسْمِهَا ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّشْبِيهَاتِ فِيهَا ؛ وَهَذَا أَصْلٌ تَقَرَّرَ فِي الْبَابِ فَلْيُحْفَظْ وَلْيُحَصَّلْ ، فَإِنَّهُ أَصْلُهُ .
.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَدْ جَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَرِيبَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا حَيْثُ وَقَعَتْ مِنْ كَلَامِنَا ، ذَكَرَهَا جَمِيعُ عُلَمَائِنَا مَعَ أَحْزَابِ الطَّوَائِفِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الذَّبْحُ ، وَلَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ رَفْعُهُ .
وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ : إنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ ، وَلَكِنَّهُ نُفِّذَ الذَّبْحُ ، وَكَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا الْتَأَمَ ، فَاجْتَمَعَ الذَّبْحُ وَالْإِعَادَةُ لِمَوْضِعِهَا حَسْبَمَا كَانَتْ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : وَجَدَ حَلْقَهُ نُحَاسًا أَوْ مُغَشًّى بِنُحَاسٍ ، فَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ قَطْعًا وَجَدَ مَنْعًا ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ ؛ وَلَكِنْ يَفْتَقِرُ إلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ ؛ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ ، وَكَانَ الذَّبْحُ وَالْتِئَامُ الْأَجْزَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْقَعَ فِي مَطْلُوبِهِمْ مِنْ وَضْعِ النُّحَاسِ مَوْضِعَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ ، وَكُلُّهُ أَمْرٌ بَعِيدٌ مِنْ الْعِلْمِ ؛ وَبَابُ التَّحْقِيقِ فِيهَا وَمَسْلَكُهُ مَا بَيَّنَّاهُ وَاخْتَرْنَاهُ ، فَأَوْضَحْنَا لِبَابِهِ الَّذِي لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ مُخْبِرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ : إنَّهُ قَالَ لِوَلَدِهِ : { يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا } وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَا إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ غَلَبَةِ الْأَخْلَاطِ كَمَا تَقُولُ الْفَلَاسِفَةُ وَتِلْكَ أَخْلَاطٌ ، وَأَيُّهَا فَلَيْسَ لَهَا بِالْأَنْبِيَاءِ أَخْلَاطٌ ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَلَمْ يُحَدِّثْ إبْرَاهِيمُ قَطُّ نَفْسَهُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ ، فَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ سَبِيلٌ فِي تَخْيِيلٍ وَلَا تَلَاعُبٍ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ وَقَرَّرْنَاهُ

وَمَهَّدْنَاهُ وَبَسَّطْنَاهُ .
فَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِابْنِهِ : رَأَيْت أَنِّي أَذْبَحُك فِي الْمَنَامِ ، فَأَخَذَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ الرُّؤْيَا بِظَاهِرِهَا وَاسْمِهَا ، وَقَالَ لَهُ : { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } ؛ إذْ هُوَ أَمْرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُمَا عَلِمَا أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيُ اللَّهِ ، وَاسْتَسْلَمَا لِقَضَاءِ اللَّهِ ؛ هَذَا فِي قُرَّةِ عَيْنِهِ ، وَهَذَا فِي نَفْسِهِ أُعْطِيَ ذِبْحًا فِدَاءً وَقِيلَ لَهُ : هَذَا فِدَاؤُك ، فَامْتَثِلْ فِيهِ مَا رَأَيْت فَإِنَّهُ حَقِيقَةُ مَا خَاطَبْنَاك فِيهِ ، وَهُوَ كِنَايَةٌ لَا اسْمٌ ، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِلرُّؤْيَا بِمُبَادَرَتِهِ الِامْتِثَالَ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلْعَمَلِ .
فَلَمَّا اعْتَقَدَا الْوُجُوبَ ، وَتَهَيَّآ لِلْعَمَلِ ، هَذَا بِصُورَةِ الذَّابِحِ ، وَهَذَا بِصُورَةِ الْمَذْبُوحِ ، أُعْطِيَ مَحَلًّا لِلذَّبْحِ فِدَاءً عَنْ ذَلِكَ الْمَرْئِيِّ فِي الْمَنَامِ ، يَقَعُ مَوْضِعَهُ بِرَسْمِ الْكِنَايَةِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ الْمَوْعُودِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ لَهُ الْوَلَدُ : { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } فَأَيْنَ الْأَمْرُ ؟ قُلْنَا : هُمَا كَلِمَتَانِ إحْدَاهُمَا مِنْ الْوَالِدِ إبْرَاهِيمَ ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ الْوَلَدِ إسْمَاعِيلَ .
فَأَمَّا كَلِمَةُ إبْرَاهِيمَ فَهِيَ قَوْلُهُ أَذْبَحُك ، وَهُوَ خَبَرٌ لَا أَمْرٌ ، وَأَمَّا كَلِمَةُ إسْمَاعِيلَ : { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } وَهُوَ أَمْرٌ ، وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ : { إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك } وَإِنْ كَانَتْ [ صِيغَتُهُ ] صِيغَةَ الْخَبَرِ فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْأَمْرُ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّ لَوْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ خَبَرٍ وَاقِعٍ لَمَا كَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُنْتَظَرُ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ ضَرُورَةً .
فَقَالَ إسْمَاعِيلُ لِأَبِيهِ إبْرَاهِيمَ : { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } ؛ فَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالِانْقِيَادِ إلَى مَعْنَى خَبَرِ أَبِيهِ ، وَهُوَ الْأَمْرُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا } حِينَ تَيَسَّرَا لِلْعَمَلِ ، وَأَقْبَلَا عَلَى الْفِعْلِ ؛ فَكَانَ صَدَقَهَا

ذِبْحُهَا مَكَانَهَا ، وَهُوَ الْفِدَاءُ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا فِي الْمَعْنَى ضَرُورَةً ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ إبْرَاهِيمَ امْتِثَالًا ، وَمِنْ إسْمَاعِيلَ انْقِيَادًا ، وَوُضِّحَتْ الْمَعَانِي بِحَقِيقَتِهَا ، وَجَرَتْ الْأَلْفَاظُ عَلَى نِصَابِهَا لِصَوَابِهَا ، وَلَمْ يُحْتَجْ إلَى تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ يَقْلِبُ الْجِلْدَ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَمَّا قَرَّرْنَا حَظَّ التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرَكَّبَتْ عَلَيْهَا مَسْأَلَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَهُوَ إذَا نَذَرَ الرَّجُلُ ذَبْحَ وَلَدِهِ .
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ مَعْصِيَةٌ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ كَلِمَةٌ يَلْزَمُهُ بِهَا ذَبْحُ شَاةٍ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ : يَلْزَمُهُ ذَبْحُ شَاةٍ فِي تَفْصِيلٍ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ .
وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي نَنْظُرُهُ الْآنَ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَبْحَ الْوَلَدِ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ شَرْعًا ، فَأَلْزَمَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ ذَبْحَ الْوَلَدِ ، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَ الْعَبْدُ ذَبْحَ وَلَدِهِ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَبْحُ شَاةٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } .
وَالْإِيمَانُ إلْزَامٌ أَصْلِيٌّ .
وَالنَّذْرُ إلْزَامٌ فَرْعِيٌّ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَحْمُولًا .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُؤْمَرُ إبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ ؟ قُلْنَا : هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ ، فَكَيْفَ مِمَّنْ يُفْتِي فِي الْحَلَالِ مِنْهُ وَالْحَرَامِ ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } .
وَاَلَّذِي يَجْلُو الِالْتِبَاسَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالطَّاعَاتِ لَيْسَتْ بِأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْأَعْيَانِ ؛ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ مِنْ الْأَفْعَالِ ، وَالْمَعْصِيَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ مِنْ الْأَفْعَالِ ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إسْمَاعِيلَ مِنْ إبْرَاهِيمَ صَارَ طَاعَةً وَابْتِلَاءً ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } ؛ أَيْ الصَّبْرُ عَلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ وَالنَّفْسِ .
وَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِنَا فِي ذَبْحِ أَبْنَائِنَا صَارَ مَعْصِيَةً .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصِيرُ نَذْرًا

وَهُوَ مَعْصِيَةٌ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا يَصِيرُ مَعْصِيَةً لَوْ كَانَ هُوَ يَقْصِدُ ذَبْحَ وَلَدِهِ بِنَذْرِهِ وَلَا يَنْوِي الْفِدَاءَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَقَصَدَ الْمَعْصِيَةَ وَلَمْ يَنْوِ الْفِدَاءَ ؟ قُلْنَا : لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ فِي قَصْدِهِ ، وَلَا أَثَرَ فِي نَذْرِهِ ، لِأَنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ صَارَ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ شَرْعًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ وَكِنَايَةً فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كِنَايَةً عَنْ الشَّيْءِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ ؛ إمَّا بِاشْتِبَاهِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ ، وَإِمَّا بِنِسْبَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمَا ، وَهَا هُنَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَهُوَ النَّذْرُ ، وَلَا بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ ذَبْحُ الْوَلَدِ ، وَلَا تَشَابُهَ أَيْضًا بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِذَبْحِ الشَّاةِ .
قُلْنَا : هُوَ سَبَبٌ لَهُ شَرْعًا لِأَنَّهُ جُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ فِي الشَّرْعِ .
وَالْأَسْبَابُ إنَّمَا تُعْرَفُ عَادَةً أَوْ شَرْعًا ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا بَاقِيَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى } .
وَنَسَبُهُ إلَى أَبِيهِ ، أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ : هَلْ الْبَارِي تَعَالَى فِي جِهَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا ، هُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى } .
فَقِيلَ لَهُ : مَا وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ ؟ قَالَ : لَا أَقُولُهُ حَتَّى يَأْخُذَ ضَيْفِي هَذَا أَلْفَ دِينَارٍ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ .
فَقَامَ رَجُلَانِ فَقَالَا : هِيَ عَلَيْنَا .
فَقَالَ : لَا يَتْبَعُ بِهَا اثْنَيْنِ ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ .
فَقَالَ وَاحِدٌ : هِيَ عَلَيَّ .
فَقَالَ : إنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ، وَصَارَ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ، وَنَادَى : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْرَبَ مِنْ اللَّهِ مِنْ يُونُسَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الرَّفْرَفِ الْأَخْضَرِ ، وَارْتَقَى بِهِ ، وَصَعِدَ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَسْمَعُ مِنْهُ صَرِيرُ الْأَقْلَامِ ، وَنَاجَاهُ رَبُّهُ بِمَا نَاجَاهُ ، وَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى بِأَقْرَبَ مِنْ اللَّهِ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ .
قَصَدْت قَبْرَهُ مِرَارًا لَا أُحْصِيهَا بِقَرْيَةِ جُلْجُونَ فِي مَسِيرِي مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ ، وَبِتُّ بِهِ ، وَتَقَرَّبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَحَبَّتِهِ ، وَدَرَسْنَا كَثِيرًا مِنْ الْعِلْمِ عِنْدَهُ ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ عَلَى دِجْلَةَ وَمَنْ دَانَاهُمْ ، فَكَذَّبُوهُ عَلَى عَادَةِ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى يُونُسَ ، فَقَالَ لَهُ : إنَّ الْعَذَابَ يَأْتِي قَوْمَك يَوْمَ كَذَا وَكَذَا .
فَلَمَّا كَانَ يَوْمَئِذٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ لَهُ : إنَّهُمْ قَدْ حَضَرَهُمْ الْعَذَابُ .
قَالَ لَهُ يُونُسُ : أَلْتَمِسُ دَابَّةً .
قَالَ : الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ : فَأَلْتَمِسُ حِذَاءً .
قَالَ : الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ : فَغَضِبَ يُونُسُ وَخَرَجَ ، وَكَانَتْ الْعَلَامَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ خُرُوجَهُ عَنْهُمْ .
فَلَمَّا فَقَدُوهُ خَرَجُوا بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشَّاةِ وَالسَّخْلَةِ ، وَالنَّاقَةِ وَالْهُبَعِ وَالْفَحْلِ ، وَكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ ، وَعَزَلُوا الْوَالِدَةَ عَنْ وَلَدِهَا وَالْمَرْأَةَ عَنْ خَلِيلِهَا ، وَتَابُوا إلَى اللَّهِ ، وَصَاحُوا حَتَّى سُمِعَ لَهُمْ عَجِيجٌ ، فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَغَضِبَ يُونُسُ ، وَرَكِبَ الْبَحْرَ فِي سَفِينَةٍ ، حَتَّى إذَا كَانُوا حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ رَكَدَتْ السَّفِينَةُ ، وَقِيلَ : هَاجَ الْبَحْرُ بِأَمْوَاجِهِ ، وَقِيلَ : عَرَضَ لَهُمْ حُوتٌ حَبَسَ جَرْيَتَهَا ، فَقَالُوا : إنَّ فِينَا مَشْئُومًا أَوْ مُذْنِبًا ، فَلْنَقْتَرِعْ عَلَيْهِ ؛ فَاقْتَرَعُوا فَطَارَ السَّهْمُ عَلَى يُونُسَ ، فَقَالُوا : عَلَى مِثْلِ هَذَا يَقَعُ السَّهْمُ ، قَدْ أَخْطَأْنَا فَأَعِيدُوهَا ، فَأَعَادُوا الْقُرْعَةَ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالُوا مِثْلُهُ ، وَأَعَادُوهَا ، فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ يُونُسُ رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : إنَّا لَمْ نَجْعَلْ يُونُسَ لَك رِزْقًا ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا بَطْنَك لَهُ سِجْنًا ، فَنَادَى { أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ، وَأَمَرَ الْحُوتَ فَرَمَاهُ عَلَى السَّاحِلِ قَدْ ذَهَبَ شَعْرُهُ ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ

شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ تَحَاتَّ وَرَقُهَا ، فَبَكَى ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَتَبْكِي عَلَى شَجَرَةٍ أَنْبَتُّهَا فِي يَوْمٍ وَأَهْلَكْتهَا فِي يَوْمٍ ، وَلَا تَبْكِي عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ آمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ .
.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } نَصٌّ عَلَى الْقُرْعَةِ .
وَكَانَتْ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا جَائِزَةً فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْعُمُومِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَوَارِدُ أَخْبَارِهَا فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات ، وَجَاءَتْ الْقُرْعَةُ فِي شَرْعِنَا عَلَى الْخُصُوصِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ اقْتَرَعُوا عَلَى مَرْيَمَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا ، وَجَرَتْ سِهَامُهُمْ عَلَيْهَا وَالْقَوْلُ فِي جَرْيَةِ الْمَاءِ بِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا ، وَإِنَّمَا تَجْرِي الْكَفَالَةُ عَلَى مَرَاتِبِ الْقَرَابَةِ ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْقُرْعَةُ فِي الشَّرْعِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ : الْأَوَّلُ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ } .
الثَّانِي : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً } .
الثَّالِثُ : { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دَرَسَتْ ، فَقَالَ : اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا ، وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ } فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاطِنَ ، وَهِيَ الْقَسَمُ فِي النِّكَاحِ ، وَالْعِتْقُ ، وَالْقِسْمَةُ ، وَجَرَيَانُ الْقُرْعَةِ فِيهَا لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ وَحَسْمِ دَاءِ التَّشَهِّي .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْقُرْعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْغَزْوِ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا الِاقْتِرَاعُ ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّفَرَ بِجَمِيعِهِنَّ لَا يُمْكِنُ ، وَاخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إيثَارٌ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقُرْعَةُ .
وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْأَعْبُدِ السِّتَّةِ فَإِنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ثُلُثٌ ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ فِيهِ الْعِتْقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ، وَتَعْيِينُهُمَا بِالتَّشَهِّي لَا يَجُوزُ شَرْعًا ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا

الْقُرْعَةُ .
وَكَذَلِكَ التَّشَاجُرُ إذَا وَقَعَ فِي أَعْيَانِ الْمَوَارِيثِ لَمْ يُمَيِّزْ الْحَقَّ إلَّا الْقُرْعَةُ ، فَصَارَتْ أَصْلًا فِي تَعْيِينِ الْمُسْتَحَقِّ إذَا أَشْكَلَ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنْ تَجْرِيَ فِي كُلِّ مُشْكِلٍ ، فَذَلِكَ أَبْيَنُ لَهَا ، وَأَقْوَى لِفَصْلِ الْحُكْمِ فِيهَا ، وَأَجْلَى لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ عَنْهَا ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الطَّلَاقِ كَالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْإِمَاءِ فِي الْعِتْقِ ؛ وَتَفْصِيلُ الِاقْتِرَاعِ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الِاقْتِرَاعُ عَلَى إلْقَاءِ الْآدَمِيِّ فِي الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ ، فَكَيْفَ الْمُسْلِمُ ؟ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُونُسَ وَفِي زَمَانِهِ مُقَدِّمَةً لِتَحْقِيقِ بُرْهَانِهِ وَزِيَادَةٍ فِي إيمَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ عَاصِيًا أَنْ يُقْتَلَ وَلَا يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ وَالْبَحْرِ ؛ وَإِنَّمَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالتَّعْزِيرُ عَلَى مِقْدَارِ جِنَايَتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا رُمِيَ فِي الْبَحْرِ ، لِأَنَّ السَّفِينَةَ وَقَفَتْ وَأَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ ، فَقَالُوا : هَذَا مِنْ حَادِثٍ فِينَا فَانْظُرُوا مَنْ بَيْنَكُمْ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ ، فَسَلَّطُوا عَلَيْهِ مِسْبَارَ الْإِشْكَالِ وَهِيَ الْقُرْعَةُ ، فَلَمَّا خَرَجُوا بِالْقُرْعَةِ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَمْيِهِمْ لَهُ ، فَرَمَى هُوَ بِنَفْسِهِ ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّهِ وَرَجَا حُسْنَ الْعَاقِبَةِ ، وَلِهَذَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْبَحْرَ إذَا هَالَ عَلَى الْقَوْمِ فَاضْطُرُّوا إلَى تَخْفِيفِ السَّفِينَةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ ، فَيُطْرَحُ بَعْضُهُمْ تَخْفِيفًا .
وَهَذَا فَاسِدٌ ، فَإِنَّهَا لَا تَخِفُّ بِرَمْيِ بَعْضِ الرِّجَالِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ ، وَإِنَّمَا يَصْبِرُونَ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ .

سُورَةُ ص [ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } ؛ فَأَذِنَ اللَّهُ لِلْجِبَالِ ، وَخَلَقَ فِيهَا ، وَيَسَّرَ لَهَا أَنْ تُسَبِّحَ مَعَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا سَبَّحَ وَكَذَلِكَ الطَّيْرُ ؛ وَكَانَ تَسْبِيحُ دَاوُد إثْرَ صَلَاتِهِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا ، وَهِيَ صَلَاةُ الْأُمَمِ قَبْلَنَا فِيمَا يَرْوِي أَهْلُ التَّفْسِيرِ ، ثُمَّ قَالَ : { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ { كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ } أَيْ رَاجِعٌ إلَيْهِ ، تَرْجِعُ مَعَهُ ، وَتُسَبِّحُ بِتَسْبِيحِهِ ، وَتَحِنُّ إلَى صَوْتِهِ لِحُسْنِهِ ، وَتُمَثِّلُ مِثْلَ عِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَهَلْ لِلطَّيْرِ عِبَادَةٌ أَوْ تَكْلِيفٌ ؟ قُلْنَا : كُلٌّ لَهُ عِبَادَةٌ ، وَكُلٌّ لَهُ تَسْبِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْكُلُّ مُكَلَّفٌ بِتَكْلِيفِ التَّسْخِيرِ ، وَلَيْسَ بِتَكْلِيفِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ آيَةً لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَرَامَةً مِنْ تَسْخِيرِ الْكُلِّ لَهُ تَسْخِيرَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، وَآمَنَ الْجِنُّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيمَانَ الِاخْتِيَارِ وَالطَّاعَةِ ، فَقَالُوا : { إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ } { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } .
.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا كُنْت أَعْلَمُ صَلَاةَ الضُّحَى فِي الْقُرْآنِ حَتَّى سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ } وَالْأَصَحُّ هَاهُنَا أَنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى وَالْعَصْرِ ، فَأَمَّا صَلَاةُ الضُّحَى فَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَافِلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَهِيَ فِي الْغَدَاةِ بِإِزَاءِ الْعَصْرِ فِي الْعَشِيِّ ، لَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَلَّى حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْسُ طَالِعَةً ، وَيَرْتَفِعَ كَدَرُهَا ، وَتُشْرِقَ بِنُورِهَا ، كَمَا لَا تُصَلَّى الْعَصْرُ إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُبَادِرُ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ اسْتِعْجَالًا لِأَجْلِ شُغْلِهِ ، فَيَخْسَرُ عَمَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَيَأْتِي بِعَمَلٍ هُوَ عَلَيْهِ لَا لَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لَيْسَ لِصَلَاةِ الضُّحَى تَقْدِيرٌ مُعَيَّنٌ إلَّا أَنَّهَا صَلَاةُ تَطَوُّعٍ ، وَأَقَلُّ التَّطَوُّعِ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَكْعَةٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَفِي صَلَاةِ الضُّحَى أَحَادِيثُ أُصُولُهَا ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ : تَسْلِيمُهُ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ صَدَقَةٌ ، وَأَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ ، وَنَهْيُهُ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ ، وَإِمَاطَتُهُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ ، وَيَكْفِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَانِ مِنْ الضُّحَى } .
الثَّانِي : حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ صَلَاةَ الضُّحَى لَا يَقُولُ إلَّا خَيْرًا غُفِرَتْ خَطَايَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ } .
الثَّالِثُ : حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ ضَحَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ } ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { مَا سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ ، وَإِنِّي لَأَسْتَحِبُّهَا } .
وَعَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ : { لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ } .
وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّدَّ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْقَدْرِ ؛ وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا الْهَيْبَةُ .
وَالثَّانِي : بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ .
وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ شَدَدْنَاهُ بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ ، وَلَا يَنْفَعُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الْتِفَافُهُ عَلَى غَيْرِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِ مُعَانٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { مُلْكَهُ } : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ وَغَيْرِهِ الْمُلْكَ وَالْمَعْنَى فِيهِ ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ } .
وَحَقِيقَةُ الْمُلْكِ كَثْرَةُ الْمُلْكِ ، فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَلِكًا وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَلِكًا ذَا مُلْكٍ حَتَّى يَكْثُرَ ذَلِكَ ، فَلَوْ مَلَكَ الرَّجُلُ دَارًا وَقُوتًا لَمْ يَكُنْ مُلْكًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ خَادِمٌ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا لِضَرُورَةِ الْآدَمِيَّةِ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَالَ النَّبِيِّ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مُلْكًا ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ ، حَتَّى يَمُرَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ؛ فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ فَجَعَلَتْ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ ، فَقَالَ : يَا عَبَّاسُ ؛ مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ لَهُ : غَفَّارٌ .
قَالَ : مَا لِي وَلِغَفَّارٍ ، ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ ، فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ ، ثُمَّ مَرَّتْ سُلَيْمٌ فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ ، عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ : لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْيَوْمَ عَظِيمًا .
فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِمُلْكٍ ، وَلَكِنَّهَا النُّبُوَّةُ } .
وَلَمْ يُرِدْ الْعَبَّاسُ نَفْيَ الْمُلْكِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ فِي نِسْبَةِ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُجَرَّدِ الْمُلْكِ ، وَتَرْكِ الْأَصْلِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ الَّتِي تَتَرَكَّبُ عَلَى الْمُلْكِ وَالْعُبُودِيَّةِ .
عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ { جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا ، فَنَظَرَ إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ ، فَأَشَارَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ : أَنْ تَوَاضَعْ ، فَقَالَ : بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } .
قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } قِيلَ : هُوَ عِلْمُ الْقَضَاءِ ، وَقِيلَ : هُوَ الْإِيجَازُ بِجَعْلِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ .
وَقِيلَ : هُوَ قَوْلُهُ : أَمَّا بَعْدُ .
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا ، فَأَمَّا عِلْمُ الْقَضَاءِ فَلَعَمْرُ إلَهِك إنَّهُ لَنَوْعٌ مِنْ الْعِلْمِ مُجَرَّدٌ ، وَفَضْلٌ مِنْهُ مُؤَكَّدٌ غَيْرُ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَالْبَصَرِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، فَفِي الْحَدِيثِ : { أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } .
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ بَصِيرًا بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ عَارِفًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَلَا يَقُومُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيهَا ، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ يَأْتِي الْقَضَاءَ مِنْ وَجْهِهِ بِاخْتِصَارٍ مِنْ لَفْظِهِ وَإِيجَازٍ فِي طَرِيقِهِ بِحَذْفِ التَّطْوِيلِ ، وَرَفْعِ التَّشْتِيتِ ، وَإِصَابَةِ الْمَقْصُودِ .
وَلِذَلِكَ يُرْوَى { أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : لَمَّا بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ ، فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ ، فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ ، وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً ، فَحَرَجَهُمْ الْأَسَدُ فِيهَا ، فَهَلَكُوا ، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ ، وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ ، فَأَتَيْتهمْ فَقُلْت لَهُمْ : أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَجْلِ أَرْبَعَةِ أَنَاسِيَّ ، تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ ، فَإِنْ رَضِيتُمْ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ ، وَإِنْ أَبَيْتُمُوهُ رَفَعْت ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ؛ فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ ، وَلِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَلِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْأَرْبَعِ .
فَسَخَطَ بَعْضُهُمْ ، وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصُّوا

عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، فَقَالَ : أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ .
فَقَالَ قَائِلٌ : إنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا ، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى بِهِ عَلِيٌّ .
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : الْقَضَاءُ كَمَا قَضَاهُ عَلِيٌّ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَ عَلِيٍّ } .
وَكَذَلِكَ يُرْوَى فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْقَضَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : إنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَكَانَ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ جَلَدَ امْرَأَةً مَجْنُونَةً قَالَتْ لِرَجُلٍ : يَا بْنَ الزَّانِيَيْنِ .
فَحَدَّهَا حَدَّيْنِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَهِيَ قَائِمَةٌ .
فَقَالَ : أَخْطَأَ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْبَدِيهَةِ لَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ بِالرَّوِيَّةِ إلَّا الْعُلَمَاءُ .
فَأَمَّا قِصَّةُ عَلِيٍّ فَلَا يُدْرِكُهَا الشَّادِي وَلَا يَلْحَقُهَا بَعْدَ التَّمَرُّنِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا الْعَاكِفُ الْمُتَمَادِي .
وَتَحْقِيقُهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ مَقْتُولُونَ خَطَأً بِالتَّدَافُعِ عَلَى الْحُفْرَةِ مِنْ الْحَاضِرِينَ عَلَيْهَا فَلَهُمْ الدِّيَاتُ عَلَى مَنْ حَفَرَ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْتُولٌ بِالْمُدَافَعَةِ قَاتِلٌ ثَلَاثَةً بِالْمُجَاذَبَةِ ، فَلَهُ الدِّيَةُ بِمَا قَتَلَ ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَعَلَيْهِ الثُّلُثَانِ لِلِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا بِالْمُجَاذَبَةِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَعَلَيْهِ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَاحِدًا بِالْمُجَاذَبَةِ ، فَوَقَعَتْ الْمُحَاصَّةُ ، وَغَرِمَتْ الْعَوَاقِلُ هَذَا التَّقْدِيرَ بَعْدَ الْقِصَاصِ الْجَارِي فِيهِ .
وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ فَرَآهَا سِتَّةً : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ فِي حَالَةِ الْجُنُونِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُجَنُّ مَرَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُحَدُّ

بِالْقَذْفِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ .
الثَّانِي : قَوْلُهَا يَا بْنَ الزَّانِيَيْنِ ؛ فَجَلَدَهَا حَدَّيْنِ لِكُلِّ أَبٍ حَدٌّ ، فَإِنَّمَا خَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَتَدَاخَلُ ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْخَمْرِ وَالزِّنَى .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ الْحَدَّ بِالْقَذْفِ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ ، فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَقْذُوفِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ حَدٌّ بِغَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِإِقَامَتِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ ، وَمَنْ يَقُولُ إنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الِاحْتِجَاجُ لِمَنْ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ ؛ إذْ يَقُولُ : لَوْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ لَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ كَحَدِّ الزِّنَا .
الرَّابِعُ أَنَّهُ وَالَى بَيْنَ الْحَدَّيْنِ ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ لَمْ يُوَالِ بَيْنَهُمَا ، بَلْ يُحَدُّ لِأَحَدِهِمَا ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَنْدَمِلَ الضَّرْبُ أَوْ يَسْتَبِلَّ الْمَضْرُوبُ ، ثُمَّ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْآخَرُ .
الْخَامِسُ أَنَّهُ حَدَّهَا قَائِمَةً ، وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ إلَّا جَالِسَةً مَسْتُورَةً .
قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : فِي زِنْبِيلٍ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
السَّادِسُ أَنَّهُ أَقَامَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ فِيهِ إجْمَاعًا .
وَفِي الْقِصَاصِ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّعْزِيرِ فِيهِ خِلَافٌ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ وَالْخِلَافِ ؛ فَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ وَعِلْمُ الْقَضَاءِ الَّذِي وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ : { أَقَضَاكُمْ عَلِيٌّ } ، حَسْبَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْإِيجَازُ فَذَلِكَ لِلْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ ، وَلِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ الْعَرَبِ ، وَقَدْ بَيَّنَ

هَذَا بِقَوْلِهِ : { أُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ } ، وَكَانَ أَفْصَحَ النَّاسِ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ وَفِي سُورَةِ النُّورِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُهُ : " أَمَّا بَعْدُ { فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : أَمَّا بَعْدُ } .
وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ سَحْبَانُ وَائِلٌ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ ، وَأَوَّلُ مَنْ اتَّكَأَ عَلَى عَصًا ، وَعَمَّرَ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً .
وَلَوْ صَحَّ أَنَّ دَاوُد قَالَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّظْمِ ، وَإِنَّمَا كَانَ بِلِسَانِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ ، وَالْفِقْهُ فِيهِ ، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ هُوَ الْفَهْمُ وَإِصَابَةُ الْقَضَاءِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي وَصْفِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } لِمَا فِيهِ مِنْ إيجَازِ اللَّفْظِ ، وَإِصَابَةِ الْمَعْنَى ، وَنُفُوذِ الْقَضَاءِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهَلْ أَتَاك نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُد فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ } .
الْآيَةُ فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْخَصْمُ كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وُقُوعَ الْمَصَادِرِ عَلَى ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا اثْنَيْنِ ، فَيَنْتَظِمُ الْكَلَامُ بِهِمَا ، وَيَصِحُّ الْمُرَادُ فِيهِمَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } يَعْنِي جَاءُوا مِنْ أَعْلَاهُ .
وَالسُّورَةُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ كَانَتْ بُقْعَةً مَحْسُوسَةً أَوْ مَنْزِلَةً مَعْقُولَةً ؛ قَالَ الشَّاعِرُ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاك سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ فَهَذَا هُوَ الْمَنْزِلَةُ .
وَسُورُ الْمَدِينَةِ الْمَوْضِعُ الْعَالِي مِنْهَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ .
وَالسُّؤْرُ مَهْمُوزٌ : بَقِيَّةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْإِنَاءِ .
وَالسُّؤْرُ : الْوَلِيمَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ : يَأْهَلَ الْخَنْدَقِ ؛ إنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُؤْرًا فَحَيَّ هَلَّا بِكُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمِحْرَابِ ، قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُد } : قِيلَ : إنَّهُمَا كَانَا إنْسِيَّيْنِ ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ .
وَقِيلَ : مَلَكَيْنِ ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ .
وَعَيَّنَهُمَا جَمَاعَةٌ ، فَقَالُوا : إنَّهُمَا كَانَا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ ، بَيْدَ أَنِّي أَقُولُ لَكُمْ قَوْلًا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْغَرَضِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مِحْرَابَ دَاوُد كَانَ مِنْ الِامْتِنَاعِ بِالِارْتِفَاعِ بِحَيْثُ لَا يَرْقَى إلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ إلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَشْهُرًا بِحَسْبِ طَاقَتِهِ ، مَعَ أَعْوَانٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ ، وَآلَاتٍ جَمَّةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ .
وَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ يُوصَلُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ الْمِحْرَابِ لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ : { تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } ؛ إذْ لَا يُقَالُ تَسَوَّرَ الْمِحْرَابَ وَالْغُرْفَةَ لِمَنْ طَلَعَ إلَيْهَا مِنْ دَرَجِهَا ، وَجَاءَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا .
وَإِذَا شَاهَدْت الْكُوَّةَ الَّتِي يُقَالُ إنَّهُ دَخَلَ مِنْهَا الْخَصْمَانِ عَلِمْت قَطْعًا أَنَّهُمَا مَلَكَانِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْعُلُوِّ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهَا إلَّا عُلْوِيٌّ ، وَلَا نُبَالِي مَنْ كَانَا فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُك بَيَانًا ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ وَرَاءَ ذَلِكَ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ : { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } : فَإِنْ قِيلَ : لِمَ فَزِعَ وَهُوَ نَبِيٌّ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوَّةِ ، وَاطْمَأَنَّتْ بِالْوَحْيِ ، وَوَثِقَتْ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ الْمَنْزِلَةِ ، وَأَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ الْعِصْمَةَ ، وَلَا أَمِنَ مِنْ الْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ ، وَمِنْهُمَا .
كَانَ يَخَافُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا تَخَفْ .
وَقَبْلَهُ قِيلَ ذَلِكَ لِلُوطٍ ؛ فَهُمْ فَزِعُونَ مِنْ خَوْفٍ مَا لَمْ يَكُنْ قِيلَ لَهُمْ [ فِيهِ ] : إنَّكُمْ مِنْهُ مَعْصُومُونَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ : { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } : أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ .
وَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ لَمْ يَأْمُرْ بِإِخْرَاجِهِمْ إذْ عَلِمَ مَطْلَبَهُمْ ، وَقَدْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنٍ ، وَهَلَّا أَدَّبَهُمْ عَلَى تَعَدِّيهِمْ ؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ شَرْعِهِ فِي الْحِجَابِ وَالْإِذْنِ ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى حَسْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ .
وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ شَرْعِنَا مُهْمَلًا عَنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ، حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيَانِ .
الثَّانِي : إنَّا لَوْ نَزَّلْنَا الْجَوَابَ عَلَى أَحْكَامِ الْحِجَابِ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْفَزَعُ الطَّارِئُ عَلَيْهِ أَذْهَلَهُ عَمَّا كَانَ يَجِبُ فِي ذَلِكَ لَهُ .
الثَّالِثُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَلَامَهُمَا الَّذِي دَخَلَا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ آخِرَ الْأَمْرِ مِنْهُ ، وَيَرَى هَلْ يَحْتَمِلُ التَّقَحُّمُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنٍ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ عُذْرٌ لَهُمَا ، أَمْ لَا يَكُونُ لَهُمَا عُذْرٌ عَنْهُ .
وَكَانَ مِنْ آخِرِ الْحَالِ مَا انْكَشَفَ مِنْ أَنَّهُ بَلَاءٌ وَمِحْنَةٌ وَمَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِصَّةِ ، وَأَدَبٌ وَقَعَ عَلَى دَعْوَى الْعِصْمَةِ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَا إذْنَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَحَدٍ ، وَلَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } .
فِيهَا وَفِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى كَنَّى بِالنَّعْجَةِ عَنْ الْمَرْأَةِ ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّكُونِ وَالْمُعْجِزَةِ وَضَعْفِ الْجَانِبِ .
وَقَدْ يُكْنَى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحَجَرَ وَالنَّاقَةَ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْكُوبٌ .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْهُذَلِيُّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : إنَّهُ يُكَنَّى عَنْ الْمَرْأَةِ بِأَلْفِ مِثْلٍ فِي الْمَقَامِ يُعَبِّرُ بِهِ الْمَلِكُ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ ، وَقَدْ قَيَّدْنَاهَا كُلَّهَا عَنْهُ فِي سِفْرٍ وَاحِدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ { تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } إنْ كَانَ جَمِيعُهُنَّ أَحْرَارًا فَذَلِكَ شَرْعُهُ ، وَإِنْ كُنَّ إمَاءً فَذَلِكَ شَرْعُنَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا بِعَدَدٍ ، وَإِنَّمَا الْحَصْرُ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضَعْفِ الْأَبَدَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْمَارِ .
وَهْمٌ وَتَنْبِيهٌ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : لَمْ يَكُنْ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ مَثَلًا .
الْمَعْنَى هَذَا غَنِيٌّ عَنْ الزَّوْجَةِ وَأَنَا مُفْتَقِرٌ إلَيْهَا ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا مَعْنَى لَهُ ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا كَانَ مَقْصُورًا مِنْ النِّسَاءِ عَلَى مَا فِي شَرْعِنَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ : لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا نَصٌّ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهُ قَبْلُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَكْفِلْنِيهَا } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

الْأَوَّلُ : مِنْ كَفْلِهَا أَيْ ضَمِّهَا أَيْ اجْعَلْهَا تَحْتَ كَفَالَتِي .
الثَّانِي : أَعْطِنِيهَا .
وَيَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ مَعْنًى .
الثَّالِثُ : تُحَوَّلُ لِي عَنْهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَيَرْجِعُ إلَى الْعَطَاءِ وَالْكَفَالَةِ إلَّا أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْكَفَالَةِ وَأَخَصُّ مِنْ الْعَطَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } .
يَعْنِي غَلَبَنِي ، مِنْ قَوْلِهِمْ : مَنْ عَزَّ بَزَّ .
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ الْغَلَبَةِ ؛ فَقِيلَ مَعْنَاهُ : غَلَبَنِي بِبَيَانِهِ .
وَقِيلَ : غَلَبَنِي بِسُلْطَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ خِلَافَهُ .
كَانَ بِبَلَدِنَا أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ سَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، فَكَلَّمْته فِي أَنْ يَسْأَلَ لِي رَجُلًا حَاجَةً ، فَقَالَ لِي : أَمَا عَلِمْت أَنَّ طَلَبَ السُّلْطَانِ الْحَاجَةَ غَصْبٌ لَهَا .
فَقُلْت : أَمَّا إذَا كَانَ عَدْلًا فَلَا .
فَعَجِبْت مِنْ عُجْمَتِهِ وَحِفْظِهِ لِمَا تَمَثَّلَ بِهِ ، وَفِطْنَتِهِ ، كَمَا عَجِبَ مِنْ جَوَابِي لَهُ وَاسْتَغْرَبَهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ } .
الظُّلْمُ : وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا شَرْعًا ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا عَادَةً ، فَإِنْ كَانَ غَلَبَهُ عَادَةً عَلَى أَهْلِهِ فَهُوَ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ ، وَإِنْ كَانَ سَأَلَهُ إيَّاهَا فَهُوَ ظُلْمٌ مَكْرُوهٌ شَرْعًا وَعَادَةً ، وَلَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي تَقْيِيدِ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَأَحْوَالٍ مُتَفَاوِتَةٍ ؛ أَمْثَلُهَا أَنَّ دَاوُد حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ إذْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَعْتَصِمَ ، فَقِيلَ لَهُ .
إنَّك سَتُبْتَلَى وَتَعْلَمُ الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ ، فَخُذْ حِذْرَك ؛ فَأَخَذَ الزَّبُورَ وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ ، وَمَنَعَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ إذْ جَاءَ طَائِرٌ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ ، وَجَعَلَ يُدْرِجُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَهَمَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ ، فَاسْتُدْرِجَ حَتَّى وَقَعَ فِي كُوَّةِ الْمِحْرَابِ ، فَدَنَا مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ ، فَطَارَ فَاطَّلَعَ لِيُبْصِرَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ غَطَّتْ جَسَدَهَا بِشَعْرِهَا ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ ، وَكَانَ زَوْجُهَا غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَكَتَبَ دَاوُد إلَى أَمِيرِ الْغَزَاةِ أَنْ يَجْعَلَ زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ ، إمَّا أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلُوا .
فَقَدَّمَهُ فِيهِمْ ، فَقُتِلَ .
فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا دَاوُد ، فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إنْ وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ ، وَكَتَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا ، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ نَفْسُهُ حَتَّى وَلَدَتْ سُلَيْمَانَ ، وَشَبَّ وَتَسَوَّرَ الْمَلَكَانِ وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهَا مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ .
{ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي التَّنْقِيحِ : قَدْ قَدَّمْنَا لَكُمْ فِيمَا سَلَفَ ، وَأَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ إجْمَاعًا ، وَفِي الصَّغَائِرِ اخْتِلَافٌ ؛ وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ ، لِوُجُوهٍ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ النُّبُوَّاتِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ : لَا صَغِيرَةَ فِي الذُّنُوبِ وَهُوَ صَحِيحٌ ، كَمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ كَبَائِرُ وَصَغَائِرُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فَوْقَهَا مَعْصِيَةٌ ، كَمَا أَنَّ النَّظْرَةَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ دُونَهَا مَعْصِيَةٌ ، وَبَيْنَهُمَا ذُنُوبٌ إنْ قَرَنْتهَا بِالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْقَذْفِ وَالْغَصْبِ كَانَتْ صَغَائِرَ ، وَإِنْ أَضَفْتهَا إلَى مَا يَلِيهَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ كَانَتْ كَبَائِرَ وَاَلَّذِي أَوْقَعَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ التَّقْصِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَصَائِبَ لَا قَدْرَ عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ اعْتَقَدَهَا رِوَايَاتٍ وَمَذَاهِبَ ، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَلَّا تُبَثُّ عَثَرَاتُهُمْ لَوْ عَثَرُوا ، وَلَا تُبَثُّ فَلَتَاتُهُمْ لَوْ اسْتَفْلَتُوا ؛ فَإِنَّ إسْبَالَ السِّتْرِ عَلَى الْجَارِ وَالْوَلَدِ وَالْأَخِ وَالْفَضِيلَةُ أَكْرَمُ فَضِيلَةٍ ، فَكَيْفَ سَتَرْت عَلَى جَارِك حَتَّى لَمْ تَقُصَّ نَبَأَهُ فِي أَخْبَارِك ؛ وَعَكَفْت عَلَى أَنْبِيَائِك وَأَحْبَارِك تَقُولُ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَفْعَلُوا ، وَتَنْسُبُ إلَيْهِمْ مَا لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِهِ ، وَلَا تُلَوَّثُوا بِهِ ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا التَّعَدِّي وَالْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَخْبَارَهُمْ .
قُلْنَا : عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا لِلْمَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ مَا شَاءَ مِنْ أَخْبَارِ عَبِيدِهِ ، وَيَسْتُرَ وَيَفْضَحَ ، وَيَعْفُوَ وَيَأْخُذَ ،

وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُنَبِّزَ فِي مَوْلَاهُ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ اللَّوْمَ ، فَكَيْفَ بِمَا عَلَيْهِ فِيهِ الْأَدَبُ وَالْحَدُّ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ لِعِبَادِهِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } فَكَيْفَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ ؟ فَمَا ظَنُّك بِالْأَنْبِيَاءِ ، وَحَقُّهُمْ أَعْظَمُ ، وَحُرْمَتُهُمْ آكَدُ ، وَأَنْتُمْ تَغْمِسُونَ أَلْسِنَتَكُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ ، وَلَوْ قَرَّرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ حُرْمَتَهُمْ لَمَا ذَكَرْتُمْ قِصَّتَهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ عِلْمَهُ بِأَنَّ الْعِبَادَ سَيَخُوضُونَ فِيهَا بِقَدْرٍ ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِحِكْمَةٍ ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ ، فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ كَمَا وَقَعَ ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ بِالصِّدْقِ كَمَا جَرَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } يَعْنِي أَصْدَقَهُ .
وَقَالَ : { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْك مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَك } .
وَقَدْ وَصَّيْنَاكُمْ إذَا كُنْتُمْ لَا بُدَّ آخِذِينَ فِي شَأْنِهِمْ ذَاكِرِينَ قَصَصَهُمْ أَلَّا تَعْدُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَتَقُولُوا ذَلِكَ بِصِفَةِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ غَيْرِ مَا نَسَبَ اللَّهُ إلَيْهِمْ ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : قَدْ عَصَى الْأَنْبِيَاءُ فَكَيْفَ نَحْنُ ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ كَفَرَ .
.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْخُصُوصِ بِالْجَائِزِ مِنْهَا دُونَ الْمُمْتَنَعِ : أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ دَاوُد حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنْ يَعْتَصِمَ إذَا اُبْتُلِيَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ لَا حَرَجَ فِيهِ فِي شَرْعِنَا آخِرًا ، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ ذَلِكَ قِيلَ لَنَا إنَّا نُؤَاخَذُ بِهِ ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنَّا بِفَضْلِهِ ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، فَلَيْسَ فِي وُقُوعِهِ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ نَقْصٌ ؛ وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ هُوَ الْإِصْرَارُ بِالتَّمَادِي عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ وَعَقْدِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ .
الثَّانِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ نَظَرَ مِنْ حَالِهِ وَفِي عِبَادَتِهِ وَخُشُوعِهِ وَإِنَابَتِهِ وَإِخْبَاتِهِ ، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُعْطِيهِ عَادَةَ التَّجَافِي عَنْ أَسْبَابِ الذُّنُوبِ ، فَضْلًا عَنْ التَّوَغُّلِ فِيهَا ، فَوَثِقَ بِالْعِبَادَةِ ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُرِيَهُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَاطِّرَادِهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا النَّقْلُ لَمْ يَثْبُتْ ؛ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الطَّائِرَ دَرَجَ عِنْدَهُ فَهَمَّ بِأَخْذِهِ ، فَدَرَجَ فَاتَّبَعَهُ ، فَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْعِبَادَةَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُبَاحٌ فِعْلُهُ لَا سِيَّمَا وَهُوَ حَلَالٌ ، وَطَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ الطَّائِرَ لِذَاتِهِ لَا لِجَمَالِهِ فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ ؛ وَإِنَّمَا ذِكْرُهُمْ لِحُسْنِ الطَّائِرِ حِذْقٌ فِي الْجَهَالَةِ ، أَمَّا إنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ طَائِرًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّبَعَهُ لِيَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، كَمَا رُوِيَ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا ، فَخَرَّ عَلَيْهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ ، فَجَعَلَ يَحْثِي مِنْهُ ، وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ : يَا أَيُّوبُ ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُك عَمَّا تَرَى ، قَالَ : بَلَى يَا

رَبِّ ، وَلَكِنْ لَا غِنًى لِي عَنْ بَرَكَتِك " .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ عُرْيَانَةً فَلَمَّا رَأَتْهُ أَرْسَلَتْ شَعْرَهَا فَسَتَرَتْ جَسَدَهَا ، فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى لِكَشْفِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ ، وَلَا يَأْثَمُ النَّاظِرُ بِهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : أَنَّهَا لَمَّا أَعْجَبَتْهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لِيُرِيقَ دَمَهُ فِي غَرَضِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ الْأَمْرِ أَنَّ دَاوُد قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : انْزِلْ لِي عَنْ أَهْلِك ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، كَمَا يَطْلُبُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ الْحَاجَةَ بِرَغْبَةٍ صَادِقَةٍ كَانَتْ فِي الْأَهْلِ أَوْ الْمَالِ ، وَقَدْ قَالَ سَعِيدٌ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا : وَلِي زَوْجَتَانِ ، أَنْزِلُ لَك عَنْ إحْدَاهُمَا ، فَقَالَ لَهُ : بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي أَهْلِك وَمَالِك .
وَمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ ابْتِدَاءً يَجُوزُ طَلَبُهُ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ، وَلَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوَالِ عِصْمَةِ الرَّجُلِ عَنْهَا ، وَلَا وِلَادَتُهَا لِسُلَيْمَانَ ، فَعَنْ مَنْ يَرْوِي هَذَا وَيُسْنَدُ ؟ وَعَلَى مَنْ فِي نَقْلِهِ يَعْتَمِدُ ، وَلَيْسَ يُؤْثِرُهُ عَنْ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ أَحَدٌ ؟ أَمَا إنَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ نُكْتَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُد قَدْ صَارَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } يَعْنِي فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ [ كَانَ ] تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَظَرَ إلَيْهَا ، " كَمَا زُوِّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ بِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ " إلَّا أَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ كَانَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ لِلزَّوْجِ فِي فِرَاقٍ ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِزَوْجِيَّتِهَا ، وَكَانَ

تَزْوِيجُ دَاوُد الْمَرْأَةَ بِسُؤَالِ زَوْجِهَا فِرَاقَهَا ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْقَبَةُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَاوُد مُضَافَةً إلَى مَنَاقِبِهِ الْعَلِيَّةِ ، وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } تَزْوِيجُ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقِ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنْ النِّسَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ .
وَقِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فُرِضَ لَهُمْ مَا يَمْتَثِلُونَهُ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ .
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ دَاوُد نَكَحَ مِائَةَ امْرَأَةٍ ، وَهَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ .
وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سَرِيَّةٍ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ ، وَبَعْدَ هَذَا قِفُوا حَيْثُ وَقَفَ بِكُمْ الْبَيَانُ بِالْبُرْهَانِ دُونَ مَا تَتَنَاقَلُهُ الْأَلْسِنَةُ مِنْ غَيْرِ تَثْقِيفٍ لِلنَّقْلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ } : فِيهِ الْفَتْوَى فِي النَّازِلَةِ بَعْدَ السَّمَاعِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخِرِ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ ؛ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ وَلَا فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْبَشَرِ ؛ وَإِنَّمَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ ادَّعَى ، وَالْآخَرُ سَلَّمَ فِي الدَّعْوَى ، فَوَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتْوَى .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا جَلَسَ إلَيْك الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ } .
وَقِيلَ : إنَّ دَاوُد لَمْ يَقْضِ لِلْآخَرِ حَتَّى اعْتَرَفَ صَاحِبُهُ بِذَلِكَ .
وَقِيلَ : تَقْدِيرُهُ لَقَدْ ظَلَمَك إنْ كَانَ كَذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِتَعْيِينِ مَا يُمْكِنُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله تَعَالَى : { إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، لَمَا قَرَّرَهُمْ دَاوُد عَلَى ذَلِكَ ، وَلَقَالَ : انْصَرِفَا إلَى مَوْضِعِ الْقَضَاءِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الْقَضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ يَعْنِي فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي رَحْبَتِهِ لِيَصِلَ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمُشْرِكُ وَالْحَائِضُ .
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ : يَقْضِي فِي مَنْزِلِهِ وَأَيْنَ أَحَبَّ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يُقَسِّمُ أَوْقَاتَهُ وَأَحْوَالَهُ لِيَبْلُغَ كُلُّ أَحَدٍ إلَيْهِ وَيَسْتَرِيحَ هُوَ مِمَّا يَرِدُ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَظَنَّ دَاوُد أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } : يَعْنِي أَيْقَنَ .
وَالظَّنُّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعِلْمِ وَالظَّنِّ ؛ لِأَنَّهُ جَارُهُ ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } : اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الذَّنْبِ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قِيلَ : إنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى شَبِعَ مِنْهَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَغْزَى زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا .
الرَّابِعُ أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ .
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الذُّنُوبِ الْمَحْدُودَةِ عَلَى وَجْهٍ بَيِّنٍ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَكَذَلِكَ تَعْرِيضُ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ كَمَا قَدَّمْنَا تَصْوِيرٌ لِلْحَقِّ عَلَى رُوحِ الْبَاطِلِ ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ نَظَرَ إلَيْهَا حَتَّى شَبِعَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدِي بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ طُمُوحَ الْبَصَرِ لَا يَلِيقُ بِالْأَوْلِيَاءِ الْمُتَجَرِّدِينَ لِلْعِبَادَةِ ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ الْوَسَائِطُ الْمُكَاشَفُونَ بِالْغَيْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ الْحَمَامَةَ أَتَتْ فَوَقَفَتْ قَرِيبًا مِنْ دَاوُد ، وَهِيَ مِنْ ذَهَبٍ ، فَلَمَّا رَآهَا أَعْجَبَتْهُ ، فَقَامَ لِيَأْخُذَهَا ، فَفَرَّتْ مِنْ يَدِهِ ، ثُمَّ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ طَارَتْ فَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ ، فَوَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تَغْتَسِلُ ، وَلَهَا شَعْرٌ طَوِيلٌ ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ ، فَأَمَّا النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ فَلَا أَصْلَ لَهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ارْتَكَبَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مُحَرَّمًا إلَّا جَلَدْته مِائَةً وَسِتِّينَ سَوْطًا ، فَإِنَّهُ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَدُّ

حُرْمَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا حُكْمُهُ عِنْدَكُمْ ؟ قُلْنَا : أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ نَبِيًّا زَنَى فَإِنَّهُ يُقْتَلُ .
وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ مِنْ النَّظْرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ نَقْلُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ صَمَّمَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ التَّعْزِيرَ الْمَأْمُورَ بِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ إذَا لَمْ يُعَرِّضْهُ لِلْمَوْتِ ، وَبَعْدَ هَذَا فَإِنَّ الذَّنْبَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ سُؤَالُهُ زَوْجَةً وَعَدَمُ الْقَنَاعَةِ بِمَا كَانَ مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ عِنْدَهُ ؛ وَالشَّهْوَةُ لَا آخِرَ لَهَا ، وَالْأَمَلُ لَا غَايَةَ لَهُ ؛ فَإِنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا لَا يَكْفِي الْإِنْسَانَ وَحْدَهُ فِي ظَنِّهِ ، وَيَكْفِيهِ الْأَقَلُّ مِنْهُ ؛ وَاَلَّذِي عَتَبَ اللَّهُ فِيهِ عَلَى دَاوُد تَعَلُّقُ بَالُهُ إلَى زَوْجِ غَيْرِهِ ، وَمَدُّ عَيْنِهِ إلَى مَتَاعِ سِوَاهُ حَسْبَمَا نَصَّ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أُورِيَا فَمَالَ إلَيْهَا ، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ عَارِفًا ، وَهَذَا بَاطِلٌ يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ التَّفْسِيرِيَّةُ كُلُّهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرُّكُوعَ هَاهُنَا السُّجُودُ ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهُ ؛ إذْ كُلُّ رُكُوعٍ سُجُودٌ ، وَكُلُّ سُجُودٍ رُكُوعٌ ؛ فَإِنَّ السُّجُودَ هُوَ الْمِيلُ ، وَالرُّكُوعُ هُوَ الِانْحِنَاءُ ، وَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَيْئَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، فَسُمِّيَ السُّجُودُ رُكُوعًا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ أَمْ لَا ؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ ، وَلَكِنَّنِي رَأَيْتُكُمْ تَيَسَّرْتُمْ لِلسُّجُودِ ، وَنَزَلَ فَسَجَدَ } .
وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد .
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ قَالَ : { ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ .
وَقَدْ رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا } .
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ ، لَا يُسْجَدُ فِيهَا .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ ؛ وَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضِعَ سُجُودٍ ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا فَسَجَدْنَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ .
وَمَعْنَى السُّجُودِ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ سَجَدَ خَاضِعًا لِرَبِّهِ ، مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ ، تَائِبًا مِنْ خَطِيئَتِهِ ؛ فَإِذَا سَجَدَ أَحَدٌ فِيهَا فَلْيَسْجُدْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ ؛ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ بِحُرْمَةِ دَاوُد الَّذِي اتَّبَعَهُ ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا

فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لِلْغَيْرِ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ يَسْتَتِرُ بِشَجَرَةٍ ، وَهُوَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ ؛ فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ سَجَدَ وَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ مَعَهُ ، فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ أَجْرًا وَارْزُقْنِي بِهَا شُكْرًا } .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَذَا كَلَامٌ مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَهُ وَصَّى اللَّهُ فِيهِ دَاوُد ؛ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي عُوتِبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَدْلٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطْلُبْ امْرَأَةَ زَيْدٍ ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي أَمْرِهَا بَعْدَ فِرَاقِ زَوْجِهَا وَإِتْمَامِ عِدَّتِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَيَبْعُدُ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ ؛ فَلِهَذَا ذُكِّرَ وَعَلَيْهِ عُوتِبَ وَبِهِ وُعِظَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { خَلِيفَةً } : قَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَةَ وَمَعْنَاهَا لُغَةً ، وَهُوَ قِيَامُ الشَّيْءِ مَقَامَ الشَّيْءِ ؛ وَالْحُكْمُ لِلَّهِ ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْخَلْقِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } وَعَلَى الْخُصُوصِ فِي قَوْله تَعَالَى : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } وقَوْله تَعَالَى : { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَة فِي الْأَرْضِ } وَالْخُلَفَاءُ عَلَى أَقْسَامٍ : أَوَّلُهُمْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ ، وَآخِرُهُمْ الْعَبْدُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ، " قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } .
بَيْدَ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ لَا يُمْكِنُهُ تُوَلِّي كُلِّ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ ، وَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ : أَوَّلُهَا الِاسْتِخْلَافُ عَلَى الْبِلَادِ ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى الْعُمُومِ ، أَوْ يُقَدِّمَهُ عَلَى الْخُصُوصِ ؛ فَإِنْ قَدَّمَهُ وَعَيَّنَهُ فِي مَنْشُورِهِ وَقَفَ نَظَرُهُ حَيْثُ خُصَّ بِهِ ، وَإِنْ قَدَّمَهُ عَلَى الْعُمُومِ فَكُلُّ مَا فِي الْمِصْرِ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : الْأَوَّلُ الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ ، وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ يَقْضِي ، فَإِذَا قَدَّمَ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْحُكْمِ بَيْنِ الْخَلْقِ كَانَ لَهُ النَّظَرُ فِيمَا فِيهِ التَّنَازُعُ بَيْنَ الْخَلْقِ ، وَذَلِكَ حَيْثُ تَزْدَحِمُ أَهْوَاؤُهُمْ ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : النَّفْسِ ، وَالْعِرْضِ ، وَالْمَالِ ، يَفْصِلُ فِيمَا تَنَازَعَهُمْ ، وَيَذُبُّ عَنْهُمْ مَنْ يُؤْذِيهِمْ ، وَيَحْفَظُ مِنْ الضَّيَاعِ أَمْوَالَهُمْ بِالْجِبَايَةِ إنْ كَانَتْ مُفَرَّقَةً ، وَبِتَفْرِيقِهَا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا إذَا اجْتَمَعَتْ ، وَيَكُفُّ الظَّالِمَ عَنْ الْمَظْلُومِ .
وَيَدْخُلُ فِيهِ قَوَدُ الْجُيُوشِ ، وَتَدْبِيرُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هُوَ

الثَّالِثُ .

وَقَدْ رَامَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَحْصُرَ وِلَايَاتِ الشَّرْعِ فَجَمَعَهَا فِي عِشْرِينَ وِلَايَةً ، وَهِيَ : الْخِلَافَةُ الْعَامَّةُ ، وَالْوَزَارَةُ ، وَالْإِمَارَةُ فِي الْجِهَادِ ، وَوِلَايَةُ حُدُودِ الْمَصَالِحِ ، وَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ ، وَوِلَايَةُ الْمَظَالِمِ ، وَوِلَايَةُ النِّقَابَةِ عَلَى أَهْلِ الشَّرَفِ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالْحَجُّ ، وَالصَّدَقَاتُ ، وَقَسَمُ الْفَيْءِ ، وَالْغَنِيمَةِ ، وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ ، وَالْخَرَاجِ ، وَالْمَوَاتُ وَأَحْكَامُهُ ، وَالْحِمَى ، وَالْإِقْطَاعُ ، وَالدِّيوَانُ ، وَالْحِسْبَةُ .
فَأَمَّا وِلَايَةُ الْخِلَافَةِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ ، وَأَمَّا الْوَزَارَةُ فَهِيَ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ رَجُلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ فِي دِينِهِ وَعَقْلِهِ يُشَاوِرُهُ الْخَلِيفَةُ فِيمَا يَعِنُّ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى : { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } فَلَوْ سَكَتَ هَاهُنَا كَانَتْ وَزَارَةَ مَشُورَةٍ ، وَلَكِنَّهُ تَأَدَّبَ مَعَ أَخِيهِ لِسِنِّهِ وَفَضْلِهِ وَحِلْمِهِ وَصَبْرِهِ فَقَالَ : { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } فَسَأَلَ وَزَارَةَ مُشَارَكَةٍ فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ .
وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ : { وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، وَوَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ } .

وَأَمَّا الْوِلَايَةُ عَلَى الْجِهَادِ فَقَدْ { أَمَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ لَمْ يَشْهَدْهَا ، وَقَسَّمُوا الْغَنِيمَةَ فِيهَا } ، فَدَخَلَتْ إحْدَى الْوِلَايَتَيْنِ فِي الْأُخْرَى ، وَلِلْوَالِي أَنْ يُفْرِدَهُمَا .

وَأَمَّا حُدُودُ الْمَصَالِحِ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ : الرِّدَّةُ ، وَقَطْعُ السَّبِيلِ ، وَالْبَغْيُ ؛ فَأَمَّا الرِّدَّةُ وَالْقَطْعُ لِلسَّبِيلِ فَكَانَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنَّ نَفَرًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، فَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِبِلِ حَتَّى صَحُّوا ، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ مُرْتَدِّينَ ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ ، فَجِيءَ بِهِمْ فَقَتَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ كَمَا فَعَلُوا } ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَشَرْحُ الْحَدِيثِ .
وَاسْتَوْفَى اللَّهُ بَيَانَ حَرْبِ الرِّدَّةِ بِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَلَى يَدَيْهِ ، وَذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ .

وَأَمَّا قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَدْ نَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ يَقُولُ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } ؛ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ .

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ { فَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا فِي حَيَاتِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ .
وَقَالَ : لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ } .
وَشُرُوطُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ .
{ وَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهُ مِنْ وُلَاتِهِ } .

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ فَهِيَ وِلَايَةٌ غَرِيبَةٌ أَحْدَثَهَا مَنْ تَأَخَّرَ مِنْ الْوُلَاةِ ، لِفَسَادِ الْوِلَايَةِ وَفَسَادِ النَّاسِ ؛ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ حُكْمٍ يَعْجَزُ عَنْهُ الْقَاضِي فَيَنْظُرُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ يَدًا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ التَّنَازُعَ إذَا كَانَ بَيْنَ ضَعِيفَيْنِ قَوَّى أَحَدَهُمَا الْقَاضِي ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَ قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ أَوْ قَوِيَّيْنِ وَالْقُوَّةُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْوِلَايَةِ كَظُلْمِ الْأُمَرَاءِ وَالْعُمَّالِ فَهَذَا مِمَّا نُصِّبَ لَهُ الْخُلَفَاءُ أَنْفُسُهُمْ ، وَأَوَّلُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَرَدَّهُ إلَى قَاضِيهِ ابْنِ إدْرِيسَ ، ثُمَّ جَلَسَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَدَّ مَظَالِمَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْمَظْلُومِينَ ؛ إذْ كَانَتْ فِي أَيْدِي الْوُلَاةِ وَالْعُتَاةِ الَّذِينَ تَعْجَزُ عَنْهُمْ الْقُضَاةُ ، ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً ، فَصَارَ بَنُو الْعَبَّاسِ يَجْلِسُونَ لَهَا ، وَفِي قِصَّةٍ دَارِسَةٍ عَلَى أَنَّهَا فِي أَصْلِ وَضْعِهَا دَاخِلَةٌ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَكِنَّ الْوُلَاةَ أَضْعَفُوا الْخُطَّةَ الْقَضَوِيَّةِ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ ضَعْفِ الرَّعِيَّةِ ، لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِمْ ، فَيَقْعُدُوا عَنْهُمْ ، فَتَبْقَى الْمَظَالِمُ بِحَالِهَا .

وَأَمَّا وِلَايَةُ النِّقَابَةِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ الدَّعَاوَى فِي الْأَنْسَابِ الْهَاشِمِيَّةِ ، لِاسْتِيلَائِهَا عَلَى الدَّوْلَةِ ، نَصَّبَ الْوُلَاةُ قَوْمًا يَحْفَظُونَ الْأَنْسَابَ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِيهَا مَنْ لَيْسَ مِنْهَا ، ثُمَّ زَادَتْ الْحَالُ فَسَادًا ، فَجَعَلُوا إلَيْهِمْ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ، فَرَدُّوهُمْ لِقَاضٍ مِنْهُمْ لِئَلَّا تَمْتَهِنَهُمْ الْقُضَاةُ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ ، وَهُمْ أَشْرَفُ مِنْهُمْ ، وَهِيَ بِدْعِيَّةٌ تُنَافِي الشَّرْعِيَّةَ .

وَأَمَّا وِلَايَةُ الصَّلَاةِ فَهِيَ أَصْلٌ فِي نَفْسِهَا وَفَرْعٌ لِلْإِمَارَةِ ؛ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا كَانَتْ الصَّلَاةُ إلَيْهِ } ، وَلَمَّا فَسَدَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ تُرْضَى حَالُهُ لِلْإِمَامَةِ بَقِيَتْ الْوِلَايَةُ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ الْغَلَبَةِ ، وَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ مَنْ يَرْضَى ؛ سِيَاسَةً مِنْهُمْ لِلنَّاسِ ، وَإِبْقَاءً عَلَى أَنْفُسِهِمْ ؛ فَقَدْ كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ ، حِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ ، يَتَحَرَّجُ أَهْلُ الْفَضْلِ مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى الْأَبْوَابِ ؛ فَيَأْخُذُونَهُمْ بِسِيَاطِ الْحَرَسِ ، فَيَضْرِبُونَ لَهَا حَتَّى يَفِرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ الْمَسْجِدِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ، بَلْ يُصَلِّي مَعَهُمْ ، وَفِي إعَادَةِ الصَّلَاةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَجِّ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِبِلَادِ الْحَجِّ .
{ وَأَوَّلُ أَمِيرٍ بَعَثَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، بَعَثَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ تِسْعٍ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَأَرْسَلَهُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٍ ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ عَلِيًّا } ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ .

وَأَمَّا وِلَايَةُ الصَّدَقَةِ { فَقَدْ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَاتِ كَثِيرًا } .

أَمَّا وَضْعُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ فَقَدْ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ وَأَهْلَ الْبَحْرَيْنِ ، فَأَمَرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ " وَلَوْ لَمْ يَتَّفِقْ التَّقْرِيرُ لِخَلِيفَةٍ لَجَازَ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يُقَرِّرُهُ ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ حِينَ بَعَثَ إلَى الْعِرَاقِ عُمَّالَهُ ، وَأَمَرَهُمْ بِمِسَاحَةِ الْأَرْضِ ، وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا .

وَأَمَّا مَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَلَيْسَ بِوِلَايَةٍ فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْوِلَايَاتِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي مَكَّةَ وَحَرَمِهَا وَدُورِهَا ، وَفِي الْمَدِينَةِ وَحَرَمِهَا ، وَفِيمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فِيهَا ، وَأَحْوَالِ الْبِلَادِ فِيمَا فُتِحَ مِنْهَا عَنْوَةً وَصُلْحًا وَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ فِيمَا اخْتَلَفَتْ الْأَسْبَابُ فِي تَمَلُّكِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَلَيْسَ بِوِلَايَةٍ مَخْصُوصَةٍ حَتَّى يُذْكَرَ فِي جُمْلَةِ الْوِلَايَاتِ ؛ وَكَذَلِكَ إحْيَاءُ الْمَوَاتِ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْوِلَايَاتِ ، وَبَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِمَى وَالْإِقْطَاعِ فَهِيَ مَشْهُورَةٌ .
وَأَوَّلُ مَنْ وَلَّى فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَوْلَاهُ أَبَا أُسَامَةَ عَلَى حِمَى الرَّبَذَةِ ، وَوَلَّى عُمَرُ عَلَى حِمَى السَّرِفِ مَوْلَاهُ يَرْفَأُ ، وَقَالَ : اُضْمُمْ جَنَاحَك عَنْ النَّاسِ ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ ، وَإِيَّايَ وَغَنَمَ ابْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عَفَّانَ فَإِنَّهُمَا إنْ تَهْلِكُ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا ؟ لَا أَبَا لَك ، فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا .
وَأَمَّا الْإِقْطَاعُ فَهُوَ بَابٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ، { فَقَدْ أَقْطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَزْنِيِّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ } ، وَبَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .

وَأَمَّا وِلَايَةُ الدِّيوَانِ فَهِيَ الْكِتَابَةُ ، وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتَّابٌ وَلِلْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ، وَهِيَ ضَبْطُ الْجُيُوشِ بِمَعْرِفَةِ أَرْزَاقِهِمْ وَالْأَمْوَالُ لِتَحْصِيلِ فَوَائِدِهَا لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا .

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحُدُودِ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ : تَنَاوُلُ إيجَابِهَا ، وَذَلِكَ لِلْقُضَاةِ ؛ وَتَنَاوُلُ اسْتِيفَائِهَا ، { وَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ } ، وَهِيَ أَشْرَفُ الْوِلَايَاتِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَى أَشْرَفِ الْأَشْيَاءِ ، وَهِيَ الْأَبْدَانُ ؛ فَلِنَقِيصَةِ النَّاسِ وَدَحْضِهِمْ بِالذُّنُوبِ أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ بِالذِّلَّةِ بِأَنْ جَعَلَهَا فِي أَيْدِي الْأَدْنِيَاءِ وَالْأَوْضَاعِ بَيْنَ الْخَلْقِ .

وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ ؛ وَأَصْلُهَا أَكْبَرُ الْوِلَايَاتِ ، وَهِيَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَلِكَثْرَةِ ذَلِكَ رَأَى الْأُمَرَاءُ أَنْ يَجْعَلُوهَا إلَى رَجُلٍ يَتَفَقَّدُهَا فِي الْأَحْيَانِ مِنْ السَّاعَاتِ ؛ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى التَّوْفِيقَ لِلْجَمِيعِ ، وَيُرْشِدُ إلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ ، وَيَمُنُّ بِتَوْبَةٍ تُعِيدُ الْأَمْرَ إلَى أَهْلِهِ ، وَتُوسِعُنَا مَا نُؤَمِّلُهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : نَزَلَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْهُمْ : عَلِيٌّ ، وَحَمْزَةُ ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْ الْمُطَّلِبِ ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، وَأُمُّ أَيْمَنَ وَغَيْرُهُمْ ، وَيَقُولُ : أَمْ نَجْعَلُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعَاصِي مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ؛ كَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَحَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَالْعَاصِي بْنُ أُمَيَّةَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } يَعْنِي الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْآخِرَةِ كَالْفُجَّارِ يَعْنِي مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هَذِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّتِهَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّارِ ، رُءُوسًا بِرُءُوسٍ وَأَذْنَابًا بِأَذْنَابٍ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ وَالْمُفْسِدِينَ الْفُجَّارَ فِي النَّارِ ؛ وَلَا مُسَاوَاةَ أَيْضًا بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مَعْصُومُونَ دَمًا وَعِرْضًا ، وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَالْفُجَّارَ فِي النَّارِ مُبَاحُو الدَّمِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْمُفْسِدِينَ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَوَقَعَتْ فِي الْفِقْهِ نَوَازِلُ مِنْهَا قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ ، وَمِنْهَا إذَا بَنَى رَجُلٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ ، ثُمَّ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إخْرَاجَهُ عَنْ الْبُنْيَانِ ، وَهَلْ يُعْطِيهِ قِيمَتَهُ قَائِمًا أَوْ مَنْقُوضًا ؟ وَمِنْهَا إذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الشِّقْصِ الَّذِي اشْتَرَى فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ يَزِنُ الثَّمَنَ ، وَهَلْ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا أَوْ مَنْقُوضًا ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا بَنَى فِي الْأَرْضِ رَجُلٌ بِإِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَ لَهُ إخْرَاجُهُ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْطِي الشَّفِيعُ لِلْمُشْتَرِي قِيمَةَ بِنَائِهِ فِي الشِّقْصِ مَنْقُوضًا مُسَاوِيًا لَهُ بِالْغَاصِبِ .
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَائِرُ عُلَمَائِنَا وَالشَّافِعِيَّةُ إلَّا الْقَلِيلَ .
يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا ، لِأَنَّهُ بَنَاهُ بِحَقٍّ وَتَقْوَى وَصَلَاحٍ ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ إذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ ، وَإِنْ كَانَ يُقْتَلُ بِمُسْلِمٍ مِثْلِهِ ، وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } .
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ ، وَهُوَ قَوْلٌ عَامٌّ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَزَمَانٍ ، أَمَّا أَنَّهُ يَبْقَى النَّظَرُ فِي أَعْيَانِ هَذِهِ الْفُرُوعِ فَتَفْصِيلٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ ، لَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ هَاهُنَا فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { إذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : بِالْعَشِيِّ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَأَنَّهُ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى الْغُرُوبِ ، كَمَا أَنَّ الْغَدَاةَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } يَعْنِي الَّتِي وَقَفَتْ مِنْ الدَّوَابِّ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ ، وَذَلِكَ لِعِتْقِهَا ، فَإِذَا ثَنَى الْفَرَسُ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَذَلِكَ عَلَامَةٌ عَلَى كَرَمِهِ ، كَمَا أَنَّهُ إذَا شَرِبَ وَلَمْ يَثْنِ سُنْبُكُهُ دَلَّ أَيْضًا عَلَى كَرَمِهِ ، وَمِنْ الْغَرِيبِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ : { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُونًا يَعْنِي يُدِيمُونَ لَهُ الْقِيَامَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ .
وَمِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : { مَنْ سَرَّهُ أَنْ تَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ ، وَقَدْ يُقَالُ صَفَنَ لِمُجَرَّدِ الْوُقُوفِ ، وَالْمَصْدَرُ صُفُونًا قَالَ الشَّاعِرُ : أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يُزَالُ كَأَنَّهُ مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْجِيَادُ هِيَ الْخَيْلُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ بِرَدِيءٍ يُقَالُ لَهُ جَيِّدٌ ، وَدَابَّةٌ جَيِّدَةٌ وَجِيَادٌ مِثْلُ سَوْطٍ وَسِيَاطٍ ؛ عُرِضَتْ الْخَيْلُ عَلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَشَغَلَتْهُ عَنْ صَلَاةِ الْعَشِيِّ بِظَاهِرِ الْقَوْلَيْنِ ؛ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هِيَ الْعَصْرُ .
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ ، وَهِيَ الَّتِي فَاتَتْ سُلَيْمَانَ } ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ .
وَقِيلَ : كَانَتْ أَلْفَ فَرَسٍ وَرِثَهَا مِنْ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَصَابَهَا مِنْ الْعَمَالِقَةِ ، وَكَانَ لَهُ مَيْدَانٌ مُسْتَدِيرٌ يُسَابِقُ بَيْنَهَا فِيهِ ، فَنَظَرَ فِيهَا حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ خَلْفَ الْحِجَابِ ، وَهُوَ مَا كَانَ يَحْجُبُ بَيْنَهُ

وَبَيْنَهَا لَا غَيْرُ مِمَّا يَدَّعِيهِ الْمُفَسِّرُونَ ، وَقِيلَ أَرَادَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ، وَغَابَتْ عَنْ عَيْنَيْهِ فِي الْمُسَابَقَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( بِالْعَشِيِّ ) ، كَمَا تَقُولُ : سِرْت بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى غَابَتْ يَعْنِي الشَّمْسَ ، وَتَرَكَهَا لِدَلَالَةِ السَّامِعِ لَهَا عَلَيْهَا بِمَا ذَكَرَ مِمَّا يَرْتَبِطُ بِهَا ، وَتَعَلَّقَ بِذِكْرِهَا ؛ وَالْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ أَمْرٌ مُرْتَبِطٌ بِمَسِيرِ الشَّمْسِ ، فَذِكْرُهُ ذِكْرٌ لَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّ ذَلِكَ لَبِيدٌ بِقَوْلِهِ : حَتَّى إذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَلَمَّا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ قَالَ : { إنِّي أَحْبَبْت حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } يَعْنِي الْخَيْلَ ، وَسَمَّاهَا خَيْرًا لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ بِتَسْمِيَةِ الشَّارِعِ لَهُ بِذَلِكَ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ : { إنِّي أَحْبَبْت حُبَّ الْخَيْلِ } بِالتَّصْرِيحِ بِالتَّفْسِيرِ ؛ قَالَ : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا } بِسُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا ، فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مَسْحُهَا بِيَدِهِ إكْرَامًا لَهَا ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ وَهُوَ يَمْسَحُ عَنْ فَرَسِهِ عَرَقَهُ بِرِدَائِهِ ، وَقَالَ : إنِّي عُوتِبْت اللَّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ } .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَسَحَ أَعْنَاقَهَا وَسُوقَهَا بِالسُّيُوفِ عَرْقَبَةً ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَكَانَ فِعْلُهُ هَذَا بِهَا حِينَ كَانَ سَبَبًا لِاشْتِغَالِهِ بِهَا عَنْ الصَّلَاةِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَتَلَهَا ، وَهِيَ خَيْلُ الْجِهَادِ ؟ قُلْنَا : رَأَى أَنْ يَذْبَحَهَا لِلْأَكْلِ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ : { أَكَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا } .
فَكَانَ ذَلِكَ لِئَلَّا تُشْغِلَهُ مَرَّةً أُخْرَى .

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ أَمْثَالَهُ ؛ أَلَا تَرَى إلَى سُلَيْمَانَ كَيْفَ أَتْلَفَ الْخَيْلَ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ فَعَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهَا الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ .
وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ وَهِمَ فَقَالَ : وَسَمَهَا بِالْكَيِّ ، وَسَبَّلَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَيْسَتْ السُّوقُ مَحَلًّا لِلْوَسْمِ بِحَالٍ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّك أَنْتَ الْوَهَّابُ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى كَيْفَ سَأَلَ سُلَيْمَانُ الْمُلْكَ ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الدُّنْيَا ؟ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا سَأَلَهُ لِيُقِيمَ فِيهِ الْحَقَّ ، وَيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } .
كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَيْفَ مَنَعَ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ غَيْرُهُ ؟ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِيهِ أَجْوِبَةٌ سَبْعَةٌ : الْأَوَّلُ إنَّمَا سَأَلَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لَهُ فِي قَوْمِهِ وَآيَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَسْلُبْهُ عَنِّي .
الثَّالِثُ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُلْكَ ، بَلْ يَكِلُ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ .
الرَّابِعُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مِنْ الْمُلُوكِ ، وَلَمْ يُرِدْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ .
الْخَامِسُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَنَاعَةَ .
السَّادِسُ أَنَّهُ أَرَادَ مُلْكَهُ لِنَفْسِهِ .
السَّابِعُ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ إيَّاهُ لِيَفْضُلَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّنْقِيحِ لِمَنَاطِ الْأَقْوَالِ : أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ بِفَائِدَةٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُعْجِزَةِ أَنْ تَكُونَ هَكَذَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ لَا تَسْلُبْهُ عَنِّي ، فَإِنَّمَا أَرَادَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَدَّعِيَهُ بَاطِلًا ؛ إذْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَخَذَ خَاتَمَهُ وَجَلَسَ مَجْلِسَهُ ، وَحَكَمَ فِي الْخَلْقِ عَلَى لِسَانِهِ ، حَسْبَمَا رُوِيَ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ .
وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَا يَحْكُمُونَ فِي الْخَلْقِ بِصُورَةِ الْحَقِّ ، مَكْشُوفًا إلَى النَّاسِ : بِمَرْأًى مِنْهُمْ ؛ حَتَّى يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي حَقٍّ ، وَهُمْ مَعَ

الشَّيْطَانِ فِي بَاطِلٍ ؛ وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَوَهَبَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالدِّينِ لِمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلُ مَا يَزَعُهُ عَنْ ذِكْرِهِ ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُخَلِّدَهُ فِي دِيوَانٍ مِنْ بَعْدَهُ ، حَتَّى يُضِلَّ بِهِ غَيْرَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُلْكَ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ لَوْ جَاءَ بِقَوْلِهِ : { لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } فِي سَعَةِ الِاسْتِئْنَافِ لِلْقَوْلِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْكَلَامِ .
أَمَّا وَقَدْ جَاءَ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ الْحَالَّةِ مَحَلَّ الصِّفَةِ لِمَا سَبَقَ قَبْلَهَا مِنْ الْقَوْلِ فَلَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ بِهَذَا لِتَنَاقُضِ الْمَعْنَى فِيهِ وَخُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ الْقَانُونِ الْعَرَبِيِّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مِنْ الْمُلُوكِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا قَوْلٌ قَلِيلٌ الْفَائِدَةِ جِدًّا ؛ إذْ قَدْ عَلِمَ قَطْعًا وَيَقِينًا هُوَ وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مَعَهُ أَنَّ الْمُلُوكَ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى ذَلِكَ ، لَا بِالسُّؤَالِ ، وَلَا مَعَ ابْتِدَاءِ الْعَطَاءِ ، وَهُوَ مَعَ مَا بَعْدَهُ أَمْثَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلِمَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى دَرَجَةٍ مِنْ الزُّهْدِ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ لَا مَلِكٌ ، فَأَرَادَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ لَا يُؤْتَى ذَلِكَ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ فَضْلِهِ لَا يَسْأَلُهُ ، لِأَنَّهُ نَبِيٌّ عَبْدٌ ، وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ مَلِكٍ ، فَحِينَئِذٍ أَقْدَمَ عَلَى السُّؤَالِ ، وَهُوَ قَوْلٌ مُتَمَاثِلٌ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِ بِسُؤَالِهِ ، كَمَا غَفَرَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطِ اسْتِغْفَارِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ عِفْرِيتًا تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ ، وَأَرَدْت أَنْ أَرْبِطَهُ إلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ مِنْ

سِوَارِي الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ ذَكَرْت قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } .
فَأَرْسَلْته ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَصْبَحَ يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ الْمَدِينَةِ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدُعَائِهِ ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ ، وَذَلِكَ بِإِذْنٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَشْرُوعٌ ؛ إذْ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُهُ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ حَلِفِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : اتَّخَذَ إبْلِيسُ تَابُوتًا ، فَوَقَفَ عَلَى الطَّرِيقِ يُدَاوِي النَّاسَ ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةَ أَيُّوبَ ، فَقَالَتْ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ؛ إنَّ هَاهُنَا إنْسَانًا مُبْتَلًى فِي أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا ، فَهَلْ لَك أَنْ تُدَاوِيَهُ ؟ قَالَ لَهَا : نَعَمْ ، عَلَى أَنِّي إنْ شَفَيْته يَقُولُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ : أَنْتَ شَفَيْتنِي ، لَا أُرِيدُ مِنْهُ غَيْرَهَا .
فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ أَيُّوبَ ، فَقَالَ : وَيْحُك ، ذَلِكَ الشَّيْطَانُ ، لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَجْلِدَنَّك مِائَةَ جَلْدَةٍ .
فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ ، فَأَخَذَ شَمَارِيخَ قَدْرَ مِائَةٍ ، فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ : إنَّمَا كَانَ حِينَ بَاعَتْ ذَوَائِبَهَا فِي طَعَامِهِ ، وَقَدْ كَانَتْ عَدِمَتْ الطَّعَامَ ، وَكَرِهَتْ أَنْ تَتْرُكَهُ جَائِعًا ، فَبَاعَتْ ذَوَائِبَهَا وَجَاءَتْهُ بِطَعَامٍ طَيِّبٍ مِرَارًا ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، فَعَرَّفَتْهُ بِهِ ، فَقَالَ مَا قَالَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي عُمُومِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَخُصُوصِهَا : رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا لِلنَّاسِ عَامَّةً .
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا بِالنَّكَرَةِ خَاصَّةً ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : مَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةً ، فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً لَمْ يَبَرَّ .
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : يُرِيدُ مَالِكٌ قَوْله تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } .
قَالَ الْقَاضِي : شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ قِصَّةِ أَيُّوبَ هَذِهِ لَا عَنْ شَرِيعَتِهِ لِتَأْوِيلٍ بَدِيعٍ ، وَهُوَ أَنَّ مَجْرَى الْإِيمَانِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي سَبِيلِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ أَوْلَى لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } .
وَالنِّيَّةُ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ ، وَعِمَادُ الْأَعْمَالِ ، وَعِيَارُ التَّكْلِيفِ ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ .
وَقِصَّةُ أَيُّوبَ هَذِهِ لَمْ يَصِحَّ كَيْفِيَّةُ يَمِينِ أَيُّوبَ فِيهَا فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَفَانِي اللَّهُ جَلَدْتُك .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّك وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ كُتُبِ التِّرْمِذِيِّ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّصْبِ فِيهَا وَلَا فِي إشْكَالِهَا بِسَبِيلِ التَّأْوِيلِ ، وَلَا طُلِبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا بِجَمْعِ الدَّلِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبِرُّ أَوْ الْحِنْثُ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا صَدَرَ مِنْهُ نَذْرًا لَا يَمِينًا ، وَإِذَا كَانَ النَّذْرُ مُعَيَّنًا فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي كُلِّ نَذْرٍ كَفَّارَةٌ ، وَهَلْ مَخْرَجُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَوْ

الْإِجْمَالِ ؟

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ قَوْله تَعَالَى : { مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَذَلِكَ أَنَّ { قُرَيْشًا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قَالَ : سَأَلَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْت : فِي الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتِ .
قَالَ : وَمَا الْكَفَّارَاتُ ؟ قُلْت : الْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ ، وَالتَّعْقِيبُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَالَ : وَمَا الدَّرَجَاتُ ؟ قُلْت : إفْشَاءُ السَّلَامِ ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ وَقِيلَ : خُصُومَتُهُمْ قَوْلُهُمْ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِك وَنُقَدِّسُ لَك قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } } هَذَا حَدِيثُ الْحَسَنِ ؛ وَهُوَ حَسَنٌ .
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رَأَيْت رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ ، فَوَجَدْت بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ ، فَعَلِمْت مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : { وَكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، فَقُلْت : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْت : أَيْ رَبِّ فِي الْكَفَّارَاتِ .
قَالَ : وَمَا الْكَفَّارَاتُ ؟ قُلْت : الْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكْرُوهَاتِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ إلَى الصَّلَاةِ ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ ، وَكَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ صَحِيحًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ السَّكْسَكِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : {

احْتَبَسَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ ، فَخَرَجَ سَرِيعًا فَثَوَّبَ بِالصَّلَاةِ ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَنَا : عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَيْنَا ثُمَّ قَالَ : أَمَا إنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ : إنِّي قُمْت فِي اللَّيْلِ فَتَوَضَّأْت وَصَلَّيْت مَا قُدِّرَ لِي ، فَنَعَسْت فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَثْقَلْت ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ .
قُلْت : لَبَّيْكَ .
قَالَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْت : مَا أَدْرِي ثَلَاثًا .
قَالَ : فَرَأَيْته وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ ، فَوَجَدْت بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ ، وَعَرَفْت .
ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ .
قُلْت : لَبَّيْكَ ، قَالَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْت : فِي الْكَفَّارَاتِ .
قَالَ : مَا هُنَّ ؟ قُلْت مَشْيُ الْأَقْدَامِ إلَى الْحَسَنَاتِ ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ .
قَالَ : وَمَا الْحَسَنَاتُ ؟ قُلْت : إطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَلِينُ الْكَلَامِ ، وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ .
قَالَ : سَلْ .
قُلْت : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ .
وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي ، وَإِذَا أَرَدْت فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ ، أَسْأَلُك حُبَّك وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّك ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إلَى حُبِّك .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمَشْيَ فِيمَا قَرُبَ مِنْ الطَّاعَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الرُّكُوبِ ، فَأَمَّا كُلُّ مَا يُبْعِدُ فَيَكُونُ الْمَرْءُ بِكَلَالَهِ أَقَلَّ اجْتِهَادًا فِي الطَّاعَةِ فَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ فِيهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاكِبَ فِي الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ الرَّاجِلِ لِأَجْلِ غَنَائِهِ ؛ وَهَذَا فَرْعُ هَذَا الْأَصْلِ ، إذْ الْعَمَلُ مَا كَانَ أَخْلَصَ وَأَبَرَّ كَانَ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالرَّاحَةِ أَفْضَلَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَلَأُ الْأَعْلَى فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْفَضِيلَةِ وَكَمِّيَّتِهَا فَيَجْتَهِدُونَ وَيَقُولُونَ : إنَّهُ أَفْضَلُ ، كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا وَلَا أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ قَوْمٌ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ؛ وَإِنَّمَا طَلَبُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فَغُيِّبَتْ عَنْهُمْ حِكْمَتُهُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : بِنَاءُ ( ك ل ف ) فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ ، وَقَدْ غَلِطَ عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنَّهُ فِعْلُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ ، وَكُلُّ إلْزَامٍ مَشَقَّةٌ ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمَشَقَّةِ ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَشَقَّةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْمَعْنَى مَا أُلْزِمُ نَفْسِي مَا لَا يَلْزَمُنِي ، وَلَا أُلْزِمُكُمْ مَا لَا يَلْزَمُكُمْ ، وَمَا جِئْتُكُمْ بِاخْتِيَارِي دُونَ أَنْ أُرْسِلْت إلَيْكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ ، أَخْبَرَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ صَالِحٍ الْكُوفِيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ هَارُونَ الْبَلَدِيُّ ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلْوَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، فَسَارَ لَيْلًا ، فَمَرَّ عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ عِنْدَ مَقْرَاةٍ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ ، وَلَغَتْ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مَقْرَاتِكَ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ ، لَا تُخْبِرْهُ ، هَذَا مُتَكَلِّفٌ لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا ، وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ } .
وَهَذَا بَيَانُ سُؤَالٍ عَنْ وُرُودِ الْحَوْضِ السِّبَاعُ ، فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا غَالِبًا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُعَوَّلُ عَلَى حَالِ الْمَاءِ فِي لَوْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ مَا يَكْسِبُهُ فِي دِينِهِ شَكًّا أَوْ إشْكَالًا فِي عَمَلِهِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَكُمْ : إذَا جَاءَ السَّائِلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَوَجَدْتُمْ لَهُ مَخْلَصًا فِيهَا فَلَا تَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ مَخْلَصًا فَحِينَئِذٍ فَاسْأَلُوهُ عَنْ تَصَرُّفِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَنِيَّتِهِ ، عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَخْلَصٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الزُّمَرِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ ؛ وَأَعْظَمُهُ الْوُضُوءُ الَّذِي هُوَ شَطْرُ الْإِيمَانِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ اللَّذَيْنِ يَقُولَانِ : إنَّ الْوُضُوءَ يَكْفِي مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَمَا كَانَ لِيَكُونَ مِنْ الْإِيمَانِ شَطْرُهُ ، وَلَا لِيُخْرِجَ الْخَطَايَا مِنْ بَيْنِ الْأَظَافِرِ وَالشَّعْرِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قَالَ : هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ .
قَالَ الْقَاضِي : الصَّبْرُ مَقَامٌ عَظِيمٌ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ ، وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَكْرَهُهُ مِنْ تَسْرِيحِ الْخَوَاطِرِ ، وَإِرْسَالِ اللِّسَانِ ، وَانْبِسَاطِ الْجَوَارِحِ عَلَى مَا يُخَالِفُ حَالَ الصَّبْرِ ، وَمَنْ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ أَحَدًا انْتَهَى إلَى مَنْزِلَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى صَبَرَ عَلَى عَظِيمِ الْبَلَاءِ عَنْ سُؤَالٍ كَشَفَهُ بِالدُّعَاءِ ، وَإِنَّمَا عَرَضَ حِينَ خَشِيَ عَلَى دِينِهِ لِضَعْفِ قَلْبِهِ عَنْ الْإِيمَانِ ، فَقَالَ : مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوهُ فِي الْآثَارِ نِصْفَ الْإِيمَانِ ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مَأْمُورٌ وَمَزْجُورٌ ، فَالْمَأْمُورُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْفِعْلِ ، وَالْمَزْجُورُ امْتِثَالُهُ بِالْكَفِّ وَالدَّعَةِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ إلَيْهِ ، وَهُوَ الصَّبْرُ ، فَأَعْلَمَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُقَدَّرٌ مِنْ حَسَنَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَخَبَّأَ قَدْرَ الصَّبْرِ مِنْهَا تَحْتَ عِلْمِهِ ، فَقَالَ : { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ نَوْعًا مِنْ الصَّبْرِ حِينَ كَانَ كَفًّا عَنْ الشَّهَوَاتِ قَالَ تَعَالَى : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } .
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : كُلُّ أَجْرٍ يُوزَنُ وَزْنًا ، وَيُكَالُ كَيْلًا إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ يُحْثَى

حَثْيًا ، وَيُغْرَفُ غَرْفًا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ : هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَلَّمَ فِيمَا أَصَابَهُ ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ فَلَا مِقْدَارَ لِأَجْرِهِ ، وَأَشَارَ بِالصَّوْمِ إلَى أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ : زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَأَبِي ذَرٍّ ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ يَأْتِهِمْ كِتَابٌ وَلَا بُعِثَ إلَيْهِمْ نَبِيٌّ ، وَلَكِنْ وَقَرَ فِي نُفُوسِهِمْ كَرَاهِيَةُ مَا النَّاسُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعُوا مِنْ أَحْسَنِ مَا كَانَ فِي أَقْوَالِ النَّاسِ ، فَلَا جَرَمَ قَادَهُمْ ذَلِكَ إلَى الْجَنَّةِ .
أَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَمَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ فَلَهُ مَا نَوَى مِنْ الْجَنَّةِ ، وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ وَسَلْمَانُ فَتَدَارَكَتْهُمْ الْعِنَايَةُ ، وَنَالُوا الْهِدَايَةَ ، وَأَسْلَمُوا ، وَصَارُوا فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : الطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ ، وَقِيلَ : الْأَصْنَامُ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : هُوَ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَهُوَ فَلَعُوتٌ مَنْ طَغَى ؛ إذَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ ، وَدَخَلَ فِي قِسْمِ الْمَذْمُومِ فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ اتَّخَذَتْ فِي الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ ، وَهِيَ سِتُّونَ ، كَانَتْ تُعَظِّمُهَا بِتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ ، وَتُهْدَى إلَيْهَا كَمَا تُهْدَى إلَى الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ ، وَكَانَتْ تَطُوفُ بِهَا ، وَتَعْرِفُ فَضْلَ الْكَعْبَةِ عَلَيْهَا .
وَقِيلَ : كَانَ الشَّيْطَانُ يَتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ إنْسَانٍ فَيَتَحَاكَمُونَ إلَيْهِ وَهِيَ صُورَةُ إبْرَاهِيمَ وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّهُ يَأْتِي شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ فَيَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ مُتَعَمِّدًا لِيُضِلَّ النَّاسَ } ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ الْمُضِلَّةِ ، وَيَنْبَغِي أَلَّا يَقْصِدَ مَسْجِدًا ، وَلَا يُعَظِّمَ بُقْعَةً إلَّا الْبِقَاعَ الثَّلَاثَ الَّتِي قَالَ فِيهَا

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدِي هَذَا ، وَمَكَّةَ ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } .
وَقَدْ سَوَّلَ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ زَمَانِنَا أَنْ يَقْصِدُوا الرُّبُطَ ، وَيَمْشُوا إلَى الْمَسَاجِدِ تَعْظِيمًا لَهَا ، وَهِيَ بِدْعَةٌ مَا جَاءَ النَّبِيُّ بِهَا إلَّا مَسْجِدَ قُبَاءَ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا ، لَا لِأَجْلِ الْمَسْجِدِيَّةِ ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا فِي مَسْجِدِهِ كَانَتْ أَكْثَرَ ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِافْتِقَادِ لِأَهْلِهِ ، وَالتَّطْيِيبِ لِقُلُوبِهِمْ ، وَالْإِحْسَانِ بِالْأُلْفَةِ إلَيْهِمْ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } .
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ حَالِ الْإِحْبَاطِ بِالرِّدَّةِ ، وَسَنَزِيدُهُ هَاهُنَا بَيَانًا ، فَنَقُولُ : هَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ ، وَكَيْفَمَا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ فَإِنَّهُ بَيَانُ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ كَيْفَ كَانَ ، وَلَا يَعْنِي بِهِ الْكُفْرَ الْأَصْلِيَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَمَلٌ يُحْبَطُ ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ ؛ إذْ لَا عَمَلَ إلَّا بَعْدَ أَصْلِ الْإِيمَانِ ، فَالْإِيمَانُ مَعْنًى يَكُونُ بِهِ الْمَحَلُّ أَصْلًا لِلْعَمَلِ لَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَمَلِ ، كَمَا تَخَيَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْفَرْعِ ؛ إذْ الشُّرُوطُ أَتْبَاعٌ فَلَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً ؛ إذْ فِيهِ قَلْبُ الْحَالِ وَعَكْسُ الشَّيْءِ ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } فَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ حَبِطَ عَمَلُهُ ، وَاسْتَأْنَفَ الْعَمَلَ إذَا أَسْلَمَ ، وَكَانَ كَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَكْفُرْ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَالْإِسْلَامُ وَالْهِجْرَةُ يَهْدِمَانِ مَا قَبْلَهُمَا مِنْ بَاطِلٍ ، وَلَا يَكُونُ إيمَانًا إلَّا بِاعْتِقَادٍ عَامٍّ عَلَى الْأَزْمَانِ ، مُتَّصِلٍ بِتَأْبِيدِ الْأَبَدِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ وَإِنْ أُفْسِدَ فَسَدَ جَمِيعُهُ ، وَهُوَ حُكْمٌ لَا يَتَجَزَّأُ شَرْعًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ .

سُورَةُ الْمُؤْمِنِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } .
ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا كَتَمَ إيمَانَهُ ، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ لِسَانُهُ [ أَنَّهُ ] لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاعْتِقَادِهِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ طَلَاقَ زَوْجِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ، كَمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بِقَلْبِهِ ، فَجَعَلَ مَدَارَ الْإِيمَانِ عَلَى الْقَلْبِ ، وَإِنَّهُ كَذَلِكَ ، لَكِنْ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا لُبَابُهُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا نَوَى الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا ، وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ .
وَأَمَّا إذَا نَوَى الْإِيمَانَ بِقَلْبِهِ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ ، وَأَمَّا إذَا نَوَى الْإِيمَانَ بِقَلْبِهِ تَمْنَعُهُ التَّقِيَّةُ وَالْخَوْفُ مِنْ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ [ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا ] فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا تَمْنَعُهُ التَّقِيَّةُ مِنْ أَنْ يَسْمَعَهُ غَيْرُهُ ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ أَنْ يَسْمَعَهُ الْغَيْرُ فِي صِحَّتِهِ مِنْ التَّكْلِيفِ ؛ إنَّمَا يُشْتَرَطُ سَمَاعُ الْغَيْرِ لَهُ لِيَكُفَّ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ .

الْآيَتَانِ الثَّانِيَةُ ، وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } .
قَالَ الْقَاضِي : كُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالْأَنْعَامِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ ؛ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَلْحَظْهُ فِي مَوْضِعِهِ .

سُورَةُ فُصِّلَتْ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : يَعْنِي شَدَائِدَ لَا خَيْرَ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ " وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ النَّحْسَ الْغُبَارُ ، وَلَوْ كَانَ الْغُبَارُ نَحْسًا لَكَانَ أَقَلَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ نَحْسٍ ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مُتَتَابِعَاتٌ لَا يَخْرُجُ مِنْ لَفْظِ قَوْله تَعَالَى : { نَحِسَاتٍ } .
وَإِنَّمَا عُرِفَ التَّتَابُعُ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قِيلَ : إنَّهَا كَانَتْ آخِرَ شَوَّالٍ مِنْ الْأَرْبِعَاءِ إلَى الْأَرْبِعَاءِ ، وَالنَّاسُ يَكْرَهُونَ السَّفَرَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ؛ لَقِيت يَوْمًا مَعَ خَالِي الْحُسَيْنِ بْنِ حَفْصٍ رَجُلًا مِنْ الْكتاب فَوَدَّعْنَاهُ بِنِيَّةِ السَّفَرِ ، فَلَمَّا فَارَقَنَا قَالَ لِي خَالِي : إنَّك لَا تَرَاهُ أَبَدًا لِأَنَّهُ سَافَرَ يَوْمَ أَرْبِعَاءٍ لَا يَتَكَرَّرُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ : مَاتَ فِي سَفَرِهِ ، وَهَذَا مَا لَا أَرَاهُ ، فَإِنَّ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمٌ عَجِيبٌ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ الْخَلْقِ فِيهِ ، وَالتَّرْتِيبِ ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ { بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ السَّبْتِ التُّرْبَةَ ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ الْجِبَالَ ، وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ الشَّجَرَ ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الْمَكْرُوهَ ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ النُّورَ } ، وَرُوِيَ : النُّونُ وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّهُ خَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ غُرَّةَ التِّقْنِ } ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ أُتْقِنَ بِهِ الْأَشْيَاءُ يَعْنِي الْمَعَادِنَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ فَالْيَوْمُ الَّذِي خَلَقَ فِيهِ الْمَكْرُوهَ لَا يَعَافُهُ النَّاسُ ، وَالْيَوْمُ

الَّذِي خَلَقَ فِيهِ النُّورَ أَوْ التِّقْنَ يَعَافُونَهُ ، إنَّ هَذَا لَهُوَ الْجَهْلُ الْمُبِينُ .
وَفِي الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعَا عَلَى الْأَحْزَابِ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ إلَى يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ } ، وَهِيَ سَاعَةٌ فَاضِلَةٌ ؛ فَالْآثَارُ الصِّحَاحُ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْيَوْمِ ، وَكَيْفَ يُدَّعَى فِيهِ تَغْرِيرُ النَّحْسِ بِأَحَادِيثَ لَا أَصْلَ لَهَا ، وَقَدْ صَوَّرَ قَوْمٌ أَيَّامًا مِنْ الْأَشْهُرِ الشَّمْسِيَّةِ ادَّعَوْا فِيهَا الْكَرَامَةَ ؛ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِآلَاتِهَا ، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُمْ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ } يَعْنِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ؛ إذْ لَا يَتِمُّ أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ إلَّا بِالْآخَرِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } اسْتِفْعَالٌ ، مِنْ قَامَ يَعْنِي دَامَ وَاسْتَمَرَّ وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتَقَامُوا عَلَى قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَتَّى مَاتُوا عَلَيْهَا ، وَلَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يُغَيِّرُوا .
الثَّانِي : اسْتَقَامُوا عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ .
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ لَازِمٌ ، مُرَادٌ بِالْقَوْلِ .
وَالْمَعْنَى : فَإِنَّ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مِفْتَاحٌ لَهُ أَسْنَانٌ ، فَمَنْ جَاءَ بِالْمِفْتَاحِ وَأَسْنَانِهِ فُتِحَ لَهُ ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : يَعْنِي عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَأَنَا أَقُولُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَآكَدُ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْمَوْتِ ، وَحِينَ الْقَبْرِ ، وَيَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ ، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعِهَا .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْحَسَنُ إذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا حَبِيبُ اللَّهِ ، هَذَا صَفْوَةُ اللَّهِ ، هَذَا خِيرَةُ اللَّهِ ، هَذَا وَاَللَّهِ أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى اللَّهِ .
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ ، وَهَذَا ذِكْرٌ ثَانٍ لَهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَسَيَأْتِي الثَّالِثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ ، وَالْأَذَانَ مَدَنِيٌّ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهَا بِالْمَعْنَى ، لَا أَنَّهُ كَانَ الْمَقْصُودَ ، وَيَدْخُلُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ قَالَ فِي النَّبِيِّ وَقَدْ خَنَقَهُ الْمَلْعُونُ : أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ كَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَبَيَانُ الْإِيمَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَعَمِلَ صَالِحًا } .
قَالُوا : هِيَ الصَّلَاةُ ، وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ أَجَلُّهُ ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَتْبَعَ الْقَوْلَ الْعَمَلُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَقَالَ إنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ } ، وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْقَوْلِ ، وَالسَّيْفُ يَكُونُ لِلِاعْتِقَادِ ، وَيَكُونُ لِلْحُجَّةِ ، وَكَانَ الْعَمَلُ يَكُونُ لِلرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِالِاعْتِقَادِ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لِوَجْهِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ إنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَلَمْ يَقُلْ [ لَهُ ] إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : أَنَا مُسْلِمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ ؛ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ .
وَقِيلَ لَهُ : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اُخْتُلِفَ مَا الْمُرَادُ بِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قِيلَ الْمُرَادُ بِهَا مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ : إنْ كُنْت كَاذِبًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك ، وَإِنْ كُنْت صَادِقًا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَهُ لِرَجُلٍ نَالَ مِنْهُ .
الثَّانِي الْمُصَافَحَةُ ، وَفِي الْأَثَرِ : { تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ } ، وَإِنْ لَمْ يَرَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ ، وَقَدْ اجْتَمَعَ مَعَ سُفْيَانَ فَتَكَلَّمَا فِيهَا ، فَقَالَ سُفْيَانُ : قَدْ صَافَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : ذَلِكَ خَاصٌّ لَهُ ؛ فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ : مَا خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخُصُّنَا ، وَمَا عَمَّهُ يَعُمُّنَا ، وَالْمُصَافَحَةُ ثَابِتَةٌ ، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا .
وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ قَالَ : قُلْت لِأَنَسٍ : هَلْ كَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا } .
وَفِي الْأَثَرِ : { مِنْ تَمَامِ الْمَحَبَّةِ الْأَخْذُ بِالْيَدِ } .
وَمِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ إمَامٌ مُقَدَّمٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ ، فَقَرَعَ

الْبَابَ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ ، وَاَللَّهِ مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ } .
الثَّالِثُ : السَّلَامُ ، لَا يُقْطَعُ عَنْهُ سَلَامُهُ إذَا لَقِيَهُ ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَاَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّك يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } .
وَهَذِهِ آيَةُ سُجُودٍ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِهِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ : مَوْضِعُهُ : { كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأَمْرِ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَالشَّافِعِيُّ : مَوْضِعُهُ { وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ ، وَغَايَةُ الْعِبَادَةِ وَالِامْتِثَالِ .
وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَسْجُدَانِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى : { إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } .
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ عِنْدَ قَوْلِهِ : { يَسْأَمُونَ } .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : اُسْجُدُوا بِالْآخِرَةِ مِنْهُمَا ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مَسْرُوقٍ ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ؛ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَأَبِي صَالِحٍ ؛ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ ، وَطَلْحَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ .
وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَسْجُدُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ : { يَسْأَمُونَ } ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا : إنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا يَسَارُ أَبُو فَكِيهَةَ مَوْلًى مِنْ قُرَيْشٍ ، وَسَلْمَانُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَهَذَا يَصِحُّ فِي يَسَارٍ ، لِأَنَّهُ مَكِّيٌّ ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ ؛ وَأَمَّا سَلْمَانُ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِالْمَدِينَةِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِإِجْمَاعٍ مِنْ النَّاسِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَعْنَى الْآيَةِ : وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَوْ نَزَلَ بِاللُّغَةِ الْأَعْجَمِيَّةِ لَقَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ : يَا مُحَمَّدُ ؛ إذَا أُرْسِلْت إلَيْنَا بِهِ فَهَلَّا فَصَّلْت آيَاتِهِ ، أَيْ بَيَّنْت وَأَحْكَمْت .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ، التَّقْدِيرُ : أَنَّى يَجْتَمِعُ مَا يَقُولُونَ أَوْ يَنْتَظِمُ مَا يَأْفِكُونَ ؟ يَسَارٌ أَعْجَمِيٌّ ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ ، فَأَنَّى يَجْتَمِعَانِ ،

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ بِإِبْدَالِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِ بِالْفَارِسِيَّةِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا } : كَذَا لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلْعُجْمَةِ إلَيْهِ طَرِيقٌ ، فَكَيْفَ يُصْرَفُ إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ التِّبْيَانَ وَالْإِعْجَازَ إنَّمَا يَكُونُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، فَلَوْ قُلِبَ إلَى غَيْرِ هَذَا لَمَا كَانَ قُرْآنًا وَلَا بَيَانًا ، وَلَا اقْتَضَى إعْجَازًا ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ عَلَى التَّمَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُهُ .

سُورَةُ الشُّورَى فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } .
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمَشْهُورِ [ الْكَبِيرِ ] : { وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ .
فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ : أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَوَّلُ نَبِيٍّ بِغَيْرِ إشْكَالٍ ؛ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا بَنُوهُ ، وَلَمْ تُفْرَضْ لَهُ الْفَرَائِضُ ، وَلَا شُرِعَتْ لَهُ الْمَحَارِمُ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ ، وَاقْتِصَارًا عَلَى ضَرُورَاتِ الْمَعَاشِ ، وَأَخَذًا بِوَظَائِفِ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ ، وَاسْتَقَرَّ الْمَدَى إلَى نُوحٍ ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَوَظَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتِ ، وَأَوْضَحَ لَهُ الْآدَابَ فِي الدِّيَانَاتِ ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالرُّسُلِ ، وَيَتَنَاصَرُ بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، شَرِيعَةً بَعْدَ شَرِيعَةٍ ، حَتَّى خَتَمَهَا اللَّهُ بِخَيْرِ الْمِلَلِ مِلَّتِنَا ، عَلَى لِسَانِ أَكْرَمِ الرُّسُلِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى : وَوَصَّيْنَاك يَا مُحَمَّدُ وَنُوحًا دِينًا وَاحِدًا يَعْنِي فِي الْأُصُولِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرِيعَةُ ، وَهِيَ : التَّوْحِيدُ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالزَّكَاةُ ، وَالصِّيَامُ ، وَالْحَجُّ ، وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ ، وَالتَّزَلُّفُ إلَيْهِ بِمَا يَرُدُّ الْقَلْبَ وَالْجَارِحَةَ إلَيْهِ ، وَالصِّدْقُ ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ ،

وَصِلَةُ الرَّحِمِ ، وَتَحْرِيمُ الْكُفْرِ ، وَالْقَتْلِ ، وَالزِّنَا ، وَالْإِذَايَةِ لِلْخَلْقِ ، كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَيَوَانِ كَيْفَمَا كَانَ ، وَاقْتِحَامِ الدَّنَاءَاتِ ، وَمَا يَعُودُ بِخَرْمِ الْمُرُوءَاتِ .
فَهَذَا كُلُّهُ شُرِعَ دِينًا وَاحِدًا وَمِلَّةً مُتَّحِدَةً لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَعْدَادُهُمْ ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } أَيْ اجْعَلُوهُ قَائِمًا ، يُرِيدُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا ، مَحْفُوظًا مُسْتَقِرًّا ، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ ، وَلَا اضْطِرَابٍ عَلَيْهِ .
فَمِنْ الْخَلْقِ مَنْ وَفَى بِذَلِكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَكَثَ بِهِ ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ .
وَاخْتَلَفَتْ الشَّرَائِعُ وَرَاءَ هَذَا فِي مَعَانٍ حَسْبَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ ، مِمَّا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ ، وَأَوْجَبَتْ الْحِكْمَةُ وَضْعَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ عَلَى الْأُمَمِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةٍ سُبْحَانَ وَغَيْرِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَقَوْلُهُ هَاهُنَا : { وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } يُبْطِلُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ مَنْ تَوَضَّأَ تَبَرُّدًا إنَّهُ يُجْزِئْهُ عَنْ فَرِيضَةِ الْوُضُوءِ الْمُوَظَّفَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْوُضُوءِ الْمُوَظَّفَةَ عَلَيْهِ مِنْ حَرْثِ الْآخِرَةِ ، وَالتَّبَرُّدَ مِنْ حَرْثِ الدُّنْيَا ؛ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَلَا تُجْزِئُ نِيَّتُهُ عَنْهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ رُكُوبِ الْبَحْرِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ { وَأَمْرُهُمْ } يَعْنِي بِهِ الْأَنْصَارَ ، كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا كَانَ يَهُمُّهُمْ أَمْرٌ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ وَأَخَذُوا بِهِ ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ خَيْرًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الشُّورَى فَعَلَى ، مِنْ شَارَ يَشُورُ شَوْرًا إذَا عَرَضَ الْأَمْرَ عَلَى الْخِيرَةِ ، حَتَّى يَعْلَمَ الْمُرَادَ مِنْهُ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ رَكِبَ فَرَسًا يَشُورُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ ، وَسَبَبٌ إلَى الصَّوَابِ ، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلَّا هُدُوا .
وَقَدْ قَالَ حَكِيمٌ : إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ بِرَأْيِ لَبِيبٍ أَوْ مَشُورَةِ حَازِمٍ وَلَا تَجْعَلْ الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَةً فَإِنَّ الْخَوَافِيَ نَافِعٌ لِلْقَوَادِمِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مَدَحَ اللَّهُ الْمُشَاوِرَ فِي الْأُمُورِ ، وَمَدَحَ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَصَالِحِ الْحُرُوبِ ، وَذَلِكَ فِي الْآثَارِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يُشَاوِرْهُمْ فِي الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْسَامِ : مِنْ الْفَرْضِ ، وَالنَّدْبِ ، وَالْمَكْرُوهِ ، وَالْمُبَاحِ ، وَالْحَرَامِ .
فَأَمَّا الصَّحَابَةُ بَعْدَ اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِهِ عَلَيْنَا فَكَانُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي الْأَحْكَامِ ، وَيَسْتَنْبِطُونَهُ ا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَإِنَّ أَوَّلَ مَا تَشَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةُ الْخِلَافَةَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ فِيهَا بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَالْأَنْصَارِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ .
وَقَالَ عُمَرُ : نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا .
وَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ الرِّدَّةِ ، فَاسْتَقَرَّ رَأْيُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْقِتَالِ .
وَتَشَاوَرُوا فِي الْجَدِّ وَمِيرَاثِهِ ، وَفِي حَدِّ الْخَمْرِ وَعَدَدِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَتَشَاوَرُوا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُرُوبِ ، حَتَّى شَاوَرَ عُمَرَ الْهُرْمُزَانَ حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا فِي الْمَغَازِي ، فَقَالَ لَهُ .
الْهُرْمُزَانُ : إنَّ مَثَلَهَا وَمَثَلَ مَنْ فِيهَا مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَرِجْلَانِ ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسِ ، وَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الْآخَرُ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ وَالرَّأْسُ ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتْ الرِّجْلَانِ وَالْجَنَاحَانِ ، وَالرَّأْسُ كِسْرَى وَالْجَنَاحُ الْوَاحِدُ قَيْصَرُ ، وَالْآخَرُ فَارِسُ .
فَمُرْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إلَى كِسْرَى وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ : مَا أَخْطَأْت قَطُّ ؛ إذَا حَزَبَنِي أَمْرٌ شَاوَرْت قَوْمِي ، فَفَعَلْت الَّذِي يَرَوْنَ ، فَإِنْ أَصَبْت فَهُمْ الْمُصِيبُونَ ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَهُمْ الْمُخْطِئُونَ ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ فِي الْبَغْيِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ ، وَذَكَرَ الْعَفْوَ عَنْ الْجُرْمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ ؛ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى حَالَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَاغِي مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ ، وَقِحًا فِي الْجُمْهُورِ ، مُؤْذِيًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، فَيَكُونَ الِانْتِقَامُ مِنْهُ أَفْضَلَ .
وَفِي مِثْلِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : يُكْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ ، فَيَجْتَرِئَ عَلَيْهِمْ الْفُسَّاقُ .
الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْفَلْتَةَ ، أَوْ يَقَعَ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِالزَّلَّةِ ، وَيَسْأَلُ الْمَغْفِرَةَ ، فَالْعَفْوُ هَاهُنَا أَفْضَلُ ، وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَتْ : { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وقَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } .
وَقَوْلُهُ : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ السُّدِّيُّ : إنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ مَنْ انْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَاءٍ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَعَلَ بِهِ يَعْنِي كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } فَبَيَّنَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْمُرَادَ مِنْهَا ، وَهُوَ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهِيَ الْآيَةُ السَّادِسَةُ .

[ الْآيَةُ السَّابِعَةُ ] قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي ( بَرَاءَةٌ ) ، وَهِيَ قَوْلُهُ : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } فَكَمَا نَفَى اللَّهُ السَّبِيلَ عَمَّنْ أَحْسَنَ فَكَذَلِكَ أَثْبَتَهَا عَلَى مَنْ ظَلَمَ ، وَاسْتَوْفَى بَيَانَ الْقِسْمَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : لَا أُحَلِّلُ أَحَدًا .
فَقَالَ : ذَلِكَ يَخْتَلِفُ .
فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، الرَّجُلُ يُسَلِّفُ الرَّجُلَ فَيَهْلِكُ ، وَلَا فَاءَ لَهُ .
قَالَ : أَرَى أَنْ يُحَلِّلَهُ ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَلَيْسَ كُلَّمَا قَالَ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتْبَعُ .
فَقِيلَ لَهُ : الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ ، فَقَالَ : لَا أَرَى ذَلِكَ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ عِنْدِي لِلْأَوَّلِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ } ، وَيَقُولُ تَعَالَى : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } فَلَا أَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فِي حِلٍّ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا لَا يُحَلِّلُهُ بِحَالٍ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ .
وَالثَّانِي : يُحَلِّلُهُ ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ .
الثَّالِثُ إنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ ، وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلْهُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَلَّا يُحَلِّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، فَيَكُونَ كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّهِ .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ حَقُّهُ ؛ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ [ كَمَا يُسْقِطُ دَمَهُ وَعَرْضَهُ ] .
وَوَجْهُ الثَّالِثِ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا غُلِبَ عَلَى حَقِّك فَمِنْ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ تُحَلِّلَهُ ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنْ

الْحَقِّ أَلَّا تَتْرُكَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الظَّلَمَةُ ، وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ الصَّامِتِ قَالَ : خَرَجْت أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَنَا أَبُو الْيُسْرِ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ وَعَلَى أَبِي الْيُسْرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ ، فَقَالَ لَهُ أَبِي : أَيْ عَمُّ ؛ أَرَى فِي وَجْهِك سُفْعَةً مِنْ غَضَبٍ .
فَقَالَ : أَجَلْ ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ دَيْنٌ ، فَأَتَيْت أَهْلَهُ فَسَلَّمْت ، وَقُلْت : أَثَمَّ هُوَ ؟ قَالُوا : لَا ، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ ، قُلْت لَهُ : أَيْنَ أَبُوك ، فَقَالَ : سَمِعَ صَوْتَك فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي ، فَقُلْت : اُخْرُجْ إلَيَّ ، فَقَدْ عَلِمْت أَيْنَ أَنْتَ ، فَخَرَجَ ، فَقُلْت لَهُ : مَا حَمَلَك عَلَى أَنْ اخْتَبَأْت مِنِّي ؟ قَالَ : أَنَا وَاَللَّهِ أُحَدِّثُك ، ثُمَّ لَا أَكْذِبُك ، خَشِيت وَاَللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَك فَأَكْذِبَك ، وَأَعِدُك فَأُخْلِفُك ، وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْت وَاَللَّهِ مُعْسِرًا .
قَالَ : فَقُلْت : آللَّهُ ، قَالَ : آللَّهُ .
قُلْت : آللَّهُ ، قَالَ : آللَّهُ ، قَالَ : فَقُلْت : آللَّهُ ، قَالَ : آللَّهُ .
قَالَ : فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ .
قَالَ : إنْ وَجَدْت قَضَاءً فَاقْضِ ، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ .
.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَهَذَا فِي الْحَيِّ الَّذِي يُرْجَى لَهُ الْأَدَاءُ لِسَلَامَةِ الذِّمَّةِ ، وَرَجَاءِ التَّحَلُّلِ ، فَكَيْفَ بِالْمَيِّتِ الَّذِي لَا مَحَالَةَ مَعَهُ ، وَلَا ذِمَّةَ مَعَهُ ،

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْلُهُ { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا } يَعْنِي لُوطًا كَانَ لَهُ بَنَاتٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ إبْرَاهِيمُ كَانَ لَهُ بَنُونَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بِنْتٌ .
وَقَوْلُهُ : { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا } يَعْنِي آدَمَ ، كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ وَلَدَيْنِ تَوْأَمَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى ؛ فَيُزَوِّجُ الذَّكَرَ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ مِنْ الْأُنْثَى مِنْ هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ ، حَتَّى أَحْكَمَ اللَّهُ التَّحْرِيمَ فِي شَرْعِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ ، مِنْ الْأَوْلَادِ : الْقَاسِمُ ، وَالطَّيِّبِ ، وَالطَّاهِرِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ ؛ وَزَيْنَبَ ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ ، وَرُقَيَّةُ ، وَفَاطِمَةَ ؛ وَكُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ .
وَكَذَلِكَ قَسَّمَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى زَمَانِنَا إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَحْدُودِ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ ، لِيَبْقَى النَّسْلُ ، وَيَتَمَادَى الْخَلْقُ ، وَيَنْفُذُ الْوَعْدُ ، وَيَحِقُّ الْأَمْرُ ، وَتَعْمُرُ الدُّنْيَا ، وَتَأْخُذُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَا يَمْلَأُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَيَبْقَى ؛ فَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ النَّارَ لَنْ تَمْتَلِئَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ ، فَتَقُولَ قَطُّ قَطُّ وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَتَبْقَى فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنَّ اللَّهَ لِعُمُومِ قُدْرَتِهِ وَشَدِيدِ قُوَّتِهِ يَخْلُقُ الْخَلْقَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ، وَبِعَظِيمِ لُطْفِهِ وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ يَخْلُقُ

شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ لَا عَنْ حَاجَةٍ ، فَإِنَّهُ قُدُّوسٌ عَنْ الْحَاجَاتِ ، سَلَامٌ عَنْ الْآفَاتِ ، كَمَا قَالَ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ ، فَخَلَقَ آدَمَ مِنْ الْأَرْضِ ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ ، وَخَلَقَ النَّشْأَةِ مِنْ بَيْنَهُمَا مِنْهُمَا ، مُرَتَّبًا عَنْ الْوَطْءِ كَائِنًا عَنْ الْحَمْلِ ، مَوْجُودًا فِي الْجَنِينِ بِالْوَضْعِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَنَّثَا } .
وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا { إذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَعْمَامَهُ ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا لُبَابُهُ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : ذَكَرٌ يُشْبِهُ أَعْمَامَهُ .
أُنْثَى تُشْبِهُ أَخْوَالَهَا .
ذَكَرٌ يُشْبِهُ أَخْوَالَهُ .
أُنْثَى تُشْبِهُ أَعْمَامَهَا .
وَذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ بَيِّنٌ ظَاهِرُ التَّعَالُجِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَبَقَ : خَرَجَ مِنْ قَبْلُ ، وَمَعْنَى عَلَا كَثُرَ ، فَإِذَا خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ قَبْلُ وَخَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ بَعْدَهُ وَكَانَ أَقَلَّ مِنْهُ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الرَّجُلِ ، وَيُشْبِهُ أَعْمَامَهُ بِحُكْمِ كَثْرَةِ مَائِهِ أَيْضًا وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ وَخَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ بَعْدَهُ وَكَانَ أَقَلَّ مِنْ مَائِهَا كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الْمَرْأَةِ ، وَيُشْبِهُ أَحْوَالَهَا لِأَنَّ مَاءَهَا عَلَا مَاءَ الرَّجُلِ وَكَاثَرَهُ .
وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ قَبْلُ لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ كَانَ أَكْثَرَ جَاءَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الرَّجُلِ وَأَشْبَهَ أُمَّهُ وَأَخْوَالَهُ بِحُكْمِ عُلُوِّ مَاءِ الْمَرْأَةِ وَكَثْرَتِهِ .
وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ وَأَعْلَى كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الْمَرْأَةِ ،

وَيُشْبِهُ أَبَاهُ وَأَعْمَامَهُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ مَاءِ الذَّكَرِ وَعُلُوِّهِ وَكَثْرَتِهِ عَلَى مَاءِ الْمَرْأَةِ .
فَسُبْحَانَ الْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَدْ كَانَتْ الْخِلْقَةُ مُسْتَمِرَّةً ذَكَرًا وَأُنْثَى إلَى أَنْ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى الْخُنْثَى ، فَأَتَى بِهِ فَرِيضُ الْعَرَبِ وَمُعَمِّرُهَا عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهِ ، وَأَرْجَأَهُمْ عَنْهُ ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ تَنَكَّرَ مَوْضِعَهُ ، وَأَقَضَّ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ ، وَجَعَلَ يَتَقَلَّى وَيَتَقَلَّبُ .
وَتَجِيءُ بِهِ الْأَفْكَارُ وَتَذْهَبُ إلَى أَنْ أَنْكَرَتْ الْأَمَةُ حَالَتَهُ ، فَقَالَتْ : مَا بِك ؟ قَالَ لَهَا : سَهِرْت لِأَمْرٍ قُصِدْت فِيهِ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهِ .
فَقَالَتْ لَهُ : مَا هُوَ ؟ قَالَ لَهَا : رَجُلٌ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ ، كَيْفَ تَكُونُ حَالَتُهُ فِي الْمِيرَاثِ ؟ قَالَتْ لَهُ الْأَمَةُ : وَرِّثْهُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ ، فَعَقَلَهَا ، وَأَصْبَحَ ، فَعَرَضَهَا لَهُمْ وَأَمْضَاهَا عَلَيْهِمْ ، فَانْقَلَبُوا بِهَا رَاضِينَ .
وَجَاءَ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ تَنْزِلْ إلَّا فِي عَهْدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَضَى فِيهَا بِمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ رَوَى الْفَرْضِيُّونَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ مِنْ أَيْنَ يُوَرَّثُ ؟ قَالَ : مِنْ حَيْثُ يَبُولُ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَتَى بِخُنْثَى مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ : { وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ } .
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّقَّاقُ فَرَضِيُّ الْإِسْلَامِ : إنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَرِثَ بِاَلَّذِي يَسْبِقُ مِنْهُ الْبَوْلُ ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَنَحْوَهُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَحَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ قَوْمٌ : لَا دَلَالَةَ فِي الْبَوْلِ ، فَإِنْ خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُحْكَمُ بِالْأَكْثَرِ .
وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : أَيَكِيلُهُ ، وَلَمْ يَجْعَلْ أَصْحَابُ

الشَّافِعِيِّ لِلْكَثْرَةِ حُكْمًا .
وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ : تُعَدُّ أَضْلَاعُهُ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَزِيدُ عَلَى الرَّجُلِ بِضِلْعٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا أَشْكَلَ حَالُهُ .
انْتَهَى كَلَامُ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ .
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي : لَا أَحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْخُنْثَى شَيْئًا .
وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ ذَكَرًا ، وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّقَّاقُ : وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حَالِهِ : الْحَيْضُ ، وَالْحَبَلُ ، وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ مِنْ الذَّكَرِ ، وَاللِّحْيَةُ ، وَالثَّدْيَانِ ؛ وَلَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ .
وَقَدْ قِيلَ : إذَا بَلَغَ زَالَ الْإِشْكَالُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَرُوِيَ عَنْ عُلَمَائِنَا فِيهِ قَالَ مُطَرِّفٌ ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ نَافِعٍ ، وَأَصْبَغُ : يُعْتَبَرُ مَبَالُهُ .
فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا فَالْأَسْبَقُ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُمَا فَالْأَكْثَرُ ، وَلَوْلَا مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا لَقُلْت : إنَّهُ إنْ بَالَ مِنْ ثُقْبٍ إنَّهُ يُعْتَبَرُ بِهِ هُوَ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يُخْرِجُ مِنْ الْمَبَالِ بِحَالٍ ، وَإِنَّمَا ثُقْبُ الْبَوْلِ غَيْرُ مَخْرَجِ الْوَلَدِ .
وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي الْأُنْثَى ، وَقَالُوا عَلَى مَخْرَجِ الْبَوْلِ يَنْبَنِي نِكَاحُهُ وَمِيرَاثُهُ وَشَهَادَتُهُ وَإِحْرَامُهُ فِي حَجِّهِ ، وَجَمِيعِ أَمْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَدْيٌ وَلِحْيَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ رَجُلٍ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ نِكَاحٌ ، وَيَكُونُ أَمْرُهُ فِي شَهَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَإِحْرَامِهِ عَلَى أَحْوَطِ الْأَمْرَيْنِ .
وَاَلَّذِي نَقُولُ : إنَّهُ يُسْتَدَلُّ فِيهِ بِالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ .
حَالَةٌ ثَالِثَةٌ كَحَالَةٍ أُولَى لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ فَطَلَب النِّكَاحَ مِنْ ذَكَرِهِ ، وَطَلَبَ النِّكَاحَ مِنْ فَرْجِهِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا ، وَهُوَ مِنْ النَّوْعِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ دَعْهُ حَتَّى

يَقَعَ ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ فِي الْأَحْكَامِ وَالتَّعَارُضِ فِي الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ أَنْكَرَهُ قَوْمٌ مِنْ رُءُوسِ الْعَوَامّ ، فَقَالُوا : إنَّهُ لَا خُنْثَى ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَّمَ الْخَلْقَ إلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى .
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ بِاللُّغَةِ وَغَبَاوَةٌ عَنْ مَقْطَعِ الْفَصَاحَةِ ، وَقُصُورٌ عَنْ مَعْرِفَةِ سَعَةِ الْقُدْرَةِ ؛ أَمَّا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
وَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَا يَنْفِي وُجُودَ الْخُنْثَى ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } ، فَهَذَا عُمُومٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَقْتَضِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } فَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ الْغَالِبِ فِي الْمَوْجُودَاتِ ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ النَّادِرِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ ؛ وَالْوُجُودُ يَشْهَدُ لَهُ ، وَالْعِيَانُ يُكَذِّبُ مُنْكِرَهُ .
وَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ مَعَنَا بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ عَلِيٍّ الْإِمَامِ الشَّهِيدِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ خُنْثَى [ لَيْسَ ] لَهُ لِحْيَةٌ ، وَلَهُ ثَدْيَانِ ، وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ ، فَرَبُّك أَعْلَمُ بِهِ ، وَمَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ عَقَلَنِي الْحَيَاءُ عَنْ سُؤَالِهِ ، وَبِوُدِّيِّ الْيَوْمَ لَوْ كَاشَفْته عَنْ حَالِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَوْرِيثِهِ ، وَهُوَ مَذْكُورٌ عَلَى التَّمَامِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .

سُورَة الزُّخْرُف فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } يَعْنِي بِذَلِكَ الْإِبِلَ دُونَ الْبَقَرِ ؛ لِأَنَّ الْبَقَرَ لَمْ تُخْلَقْ لِتُرْكَبَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ بَقَرَةً إذْ قَالَتْ لَهُ : إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا ، وَإِنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : آمَنْت بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمَا هُمَا فِي الْقَوْمِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } يَعْنِي الْإِبِلَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْفُلْكَ إنَّمَا تُرْكَبُ بُطُونُهَا ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ، وَعَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى آخِرِهِمَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ ظَاهِرُهَا بَاطِنَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ غَمَرَهُ وَسَتَرَهُ ، وَبَاطِنُهَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ انْكَشَفَ لِلرَّاكِبِينَ وَظَهَرَ لِلْمُبْصِرِينَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أَيْ مُطِيقِينَ ، تَقُولُ : قَرَنْت كَذَا وَكَذَا إذَا رَبَطْته بِهِ ، وَجَعَلْته قَرِينَهُ ، وَأَقْرَنْت كَذَا بِكَذَا إذَا أَطَقْته وَحَكَمْته ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي قَرَنٍ وَهُوَ الْحَبْلُ ، فَأَوْثَقَهُ بِهِ ، وَشَدَّهُ فِيهِ ؛ فَعَلَّمَنَا اللَّهُ تَعَالَى مَا نَقُولُ إذَا رَكِبْنَا الدَّوَابَّ ، وَعَلَّمَنَا اللَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى عَلَى لِسَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا نَقُولُ إذَا رَكِبْنَا السُّفُنَ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا رَكِبَ قَعُودًا لَهُ وَقَالَ : إنِّي لَمُقْرِنٌ لَهُ ، فَرَكَضَتْ بِهِ الْقَعُودُ حَتَّى صَرَعَتْهُ ، فَانْدَقَّتْ عُنُقُهُ .
وَمَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَدَعَ قَوْلَ هَذَا ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ اعْتِقَادُهُ بِالْقَلْبِ ، أَمَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ فَيَقُولُ مَتَى رَكِبَ وَخَاصَّةً بِاللِّسَانِ إذَا تَذَكَّرَ فِي السَّفَرِ : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } { اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ } يَعْنِي بِالْحَوْرِ وَالْكَوْرِ تَشَتُّتَ أَمْرِ الرَّجُلِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : رَكِبْت مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ إلَى أَرْضٍ لَهُ نَحْوُ حَائِطٍ يُقَالُ لَهَا مَدْرَكَةٌ ، فَرَكِبَ عَلَى جَمَلٍ صَعْبٍ ، فَقُلْت لَهُ : أَبَا جَعْفَرٍ ، أَمَا تَخَافُ أَنْ يَصْرَعَك .
فَقَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : عَلَى سَنَامِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ ، فَإِذَا رَكِبْتُمُوهَا فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ كَمَا أَمَرَكُمْ ، ثُمَّ امْتَهِنُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُ

اللَّهُ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ : { شَهِدْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَكِبَ دَابَّةً يَوْمًا ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ .
ثُمَّ قَالَ : سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ .
وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ .
ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا ، اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت لَهُ : مَا أَضْحَكَك ؟ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ كَمَا صَنَعْت ، وَقَالَ كَمَا قُلْت ، ثُمَّ ضَحِكَ ، فَقُلْت لَهُ : مَا يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِعَبْدٍ أَوْ قَالَ : عَجَبًا لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي شَرْحِ الْكَلِمَةِ ؛ وَهِيَ النُّبُوَّةُ فِي قَوْلٍ ، وَالتَّوْحِيدُ فِي قَوْلٍ آخَرَ ؛ وَلَا جَرَمَ لَمْ تَزَلْ النُّبُوَّةُ بَاقِيَةً فِي ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَالتَّوْحِيدُ هُمْ أَصْلُهُ ، وَغَيْرُهُمْ فِيهِ تَبَعٌ لَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { فِي عَقِبِهِ } : بِنَاءُ ع ق ب لِمَا يَخْلُفُ الشَّيْءَ ، وَيَأْتِي بَعْدَهُ ، يُقَالُ : عَقَبَ يَعْقُبُ عُقُوبًا وَعَقِبًا إذَا جَاءَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، وَلِهَذَا قِيلَ لِوَلَدِ الرَّجُلِ مِنْ بَعْدِهِ عَقِبُهُ .
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ سَافَرَ فِي عَقِبِ رَمَضَانَ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَوَارِدِ كَثِيرَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنَّمَا كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ فِي الْأَعْقَابِ مَوْصُولَةً بِالْأَحْقَابِ بِدَعْوَتَيْهِ الْمُجَابَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا بِقَوْلِهِ : { إنِّي جَاعِلُك لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فَقَدْ قَالَ لَهُ : نَعَمْ ، إلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ ، فَلَا عَهْدَ لَهُ .
ثَانِيهِمَا قَوْلُهُ : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِي أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } .
وَقِيلَ بَدَلُ الْأُولَى : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } فَكُلُّ أُمَّةٍ تُعَظِّمُهُ ؛ بَنُوهُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي سَامٍ أَوْ فِي نُوحٍ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ جَرَى ذِكْرُ الْعَقِبِ هَاهُنَا مَوْصُولًا فِي الْمَعْنَى بِالْحُقْبِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عُقُودُ الْعُمْرَى أَوْ التَّحْبِيسِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيهَا لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا } ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ .
وَهِيَ تَرِدُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا قَوْلُهُ : اللَّفْظُ الْأَوَّلُ الْوَلَدُ ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عِبَارَةٌ عَمَّنْ وُجِدَ عَنْ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، وَعَنْ وَلَدِ الذُّكُورِ دُونَ وَلَدِ الْإِنَاثِ لُغَةً وَشَرْعًا ؛ وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْمِيرَاثُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُعَيَّنِ وَأَوْلَادِ الذُّكُورِ مِنْ الْمُعَيَّنِ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ ، لِأَنَّهُ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْحَبْسِ بِهَذَا اللَّفْظِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَغَيْرِهَا .
اللَّفْظُ الثَّانِي الْبَنُونَ فَإِنْ قَالَ : هَذَا حَبْسٌ عَلَى ابْنِي فَلَا يَتَعَدَّى الْوَلَدَ الْمُعَيَّنَ وَلَا يَتَعَدَّدُ .
وَلَوْ قَالَ : وَلَدِي لَتَعَدَّى وَتَعَدَّدَ فِي كُلِّ مَنْ وُلِدَ .
وَإِنْ قَالَ : عَلَى بَنِيَّ دَخَلَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ .
قَالَ مَالِكٌ : مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ فَإِنَّ بَنَاتَه وَبَنَاتَ بَنَاتِهِ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ .
وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ حَبَسَ عَلَى بَنَاتِهِ فَإِنَّ بِنْتَ بِنْتِهِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعَ بَنَاتِ صُلْبِهِ .
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْبَنِينَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنِ بْنِ بِنْتِهِ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
قُلْنَا : هَذَا مَجَازٌ ، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إلَى تَشْرِيفِهِ وَتَقْدِيمِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَفْيُهُ عَنْهُ ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ فِي وَلَدِ بِنْتِهِ :

لَيْسَ بِابْنِي ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً مَا جَازَ نَفْيُهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا تُنْفَى عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : إنَّهُ هَاشِمِيٌّ ؛ وَلَيْسَ بِهِلَالِيٍّ ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ هِلَالِيَّةً .
اللَّفْظُ الثَّالِثُ الذُّرِّيَّةُ ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ ، فِي الْأَشْهَرِ ، فَكَأَنَّهُمْ وُجِدُوا عَنْهُ وَنُسِبُوا إلَيْهِ .
وَيَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا وَلَدُ الْبَنَاتِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ } .
إلَى أَنْ قَالَ : { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى } فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ .
اللَّفْظُ الرَّابِعُ الْعَقِبُ ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ جَاءَ بَعْدَ شَيْءٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ ، يُقَالُ أَعْقَبَ اللَّهُ بِخَيْرٍ ، أَيْ جَاءَ بَعْدَ الشِّدَّةِ بِالرَّخَاءِ .
وَأَعْقَبَ الشِّيبُ السَّوَادَ .
وَالْمِعْقَابُ مِنْ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِدُ ذَكَرًا بَعْدَ أُنْثَى هَكَذَا أَبَدًا .
وَعَقِبُ الرَّجُلِ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ الْبَاقُونَ بَعْدَهُ .
وَالْعَاقِبَةُ : الْوَلَدُ قَالَ يَعْقُوبُ : وَفِي الْقُرْآنِ : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } .
وَقِيلَ : بَلْ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ عَقِبُ .
وَالْعَاقِبَةُ : الْوَلَدُ ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ هَاهُنَا .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هَاهُنَا : هُمْ الذُّرِّيَّةُ .
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : هُمْ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ .
وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ : الْعَقِبُ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : وَلَيْسَ وَلَدُ الْبَنَاتِ عَقِبًا بِحَالٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ حَبَسَ عَلَى عَقِبِهِ وَلِعَقِبِهِ وَلَدٌ فَإِنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آبَائِهِمْ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ ، وَيُفَضَّلُ ذُو الْعِيَالِ ، وَهَذَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ إنَّهُ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ ، وَلَيْسَ

وَلَدُ الِابْنَةِ عَقِبًا وَلَا ابْنَةُ الِابْنَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ التَّوْحِيدَ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامَةَ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الذَّكَرُ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْأُنْثَى لَيْسَتْ بِإِمَامٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَأَوْضَحْنَاهُ ؛ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ وَلَدُ الْبَنَاتِ عَقِبًا وَلَا وَلَدًا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : عَلَى وَلَدِي أَوْ عَقِبِي مُفْرَدًا ، وَأَمَّا إذَا تَكَرَّرَ فَقَالَ : عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي ، وَعَلَى عَقِبِي وَعَقِبِ عَقِبِي ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ فِيهِ حَسْبَمَا يَذْكُرُ فِيهِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا بَعْدَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ : أَبَدًا ، وَمِثْلَ قَوْلِهِ مَا تَنَاسَلُوا .
اللَّفْظُ الْخَامِسُ نَسْلِي ، وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا كَقَوْلِهِ : وَلَدُ وَلَدِي فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلُوا ؛ لِأَنَّ " نَسْلَ " بِمَعْنَى خَرَجَ ، وَوَلَدُ الْبَنَاتِ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُ بِوَجْهٍ ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَخُصُّهُ ، كَمَا اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ : عَقِبِي مَا تَنَاسَلُوا ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
اللَّفْظُ السَّادِسُ الْآلُ ، وَهُمْ الْأَهْلُ .
وَهُوَ اللَّفْظُ السَّابِعُ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : هُمَا سَوَاءٌ ، وَهُمْ الْعَصَبَةُ وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ ، وَالْبَنَاتُ وَالْعَمَّاتُ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخَالَاتُ ، وَأَصْلُ الْأَهْلِ الِاجْتِمَاعُ ، يُقَالُ مَكَانٌ آهِلٌ إذَا كَانَ فِيهِ جَمَاعَةٌ ، وَذَلِكَ بِالْعَصَبَةِ ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ ؛ وَالْعَصَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ ، وَهِيَ أَخَصُّ بِهِ .
وَفِي حَدِيثِ الْإِفْكِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَهْلُك وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا يَعْنِي عَائِشَةَ ؛ وَلَكِنْ لَا تَدْخُلُ الزَّوْجَةُ فِيهِ بِإِجْمَاعٍ ، وَإِنْ كَانَتْ أَصْلَ التَّأَهُّلِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا لَيْسَ بِيَقِينٍ ، وَقَدْ يَتَبَدَّلُ رَبْطُهَا وَيَنْحَلُّ بِالطَّلَاقِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ مِنْ الْقَرَابَةِ ،

وَقَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ وَقُصِدَ بِالرَّحْمَةِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ : يَدْخُلُ فِي الْأَهْلِ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ فَوَفَّى الِاشْتِقَاقَ حَقَّهُ ، وَغَفَلَ عَنْ الْعُرْفِ وَمُطْلَقِ الِاسْتِعْمَالِ .
وَهَذِهِ الْمَعَانِي إنَّمَا تُبْنَى عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، فَهَذَانِ لَفْظَانِ .
اللَّفْظُ الثَّامِنُ الْقَرَابَةُ ، وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ، وَابْنِ عَبْدُوسٍ : إنَّهُمْ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ ، وَلَا وَلَدُ الْخَالَاتِ .
الثَّانِي يَدْخُلُ فِيهِ أَقَارِبُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ أَشْهَبُ : يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
الرَّابِعُ قَالَ ابْنُ كِنَانَةٍ : يَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } قَالَ : إلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَقَالَ : لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا كَانَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَابَةٌ ، فَهَذَا يَضْبِطُهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
اللَّفْظُ التَّاسِعُ : الْعَشِيرَةُ ، وَيَضْبِطُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُطُونَ قُرَيْشٍ وَسَمَّاهُمْ } كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهُمْ الْعَشِيرَةُ الْأَقْرَبُونَ ؛ وَسِوَاهُمْ عَشِيرَةٌ فِي الْإِطْلَاقِ ، وَاللَّفْظُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَخَصِّ الْأَقْرَبِ بِالِاجْتِهَادِ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا .
اللَّفْظُ الْعَاشِرُ الْقَوْمُ [ قَالَ الْقَرَوِيُّونَ ] : يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ خَاصَّةً مِنْ الْعَصَبَةِ دُونَ النِّسَاءِ .
وَالْقَوْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى الرِّجَالِ

وَالنِّسَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّاعِرُ قَدْ قَالَ : وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ أَخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا دَعَا قَوْمَهُ لِلنُّصْرَةِ عَنَى الرِّجَالَ ، وَإِذَا دَعَاهُمْ لِلْحُرْمَةِ دَخَلَ فِيهِمْ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، فَتَعُمُّهُ الصِّفَةُ وَتَخُصُّهُ الْقَرِينَةُ .
اللَّفْظُ الْحَادِيَ عَشَرَ الْمَوَالِي : قَالَ مَالِكٌ : يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالِي أَبِيهِ وَابْنِهِ مَعَ مَوَالِيهِ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ مَوَالِيهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ فِيهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَرِثُهُ بِالْوَلَاءِ ؛ وَهَذِهِ فُصُولُ الْكَلَامِ وَأُصُولُهُ مُرْتَبِطَةٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؛ وَالسُّنَّةُ الْمُبَيِّنَةُ لَهُ وَالتَّفْرِيعُ وَالتَّتْمِيمُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَمَةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْهَوَانِ بِحَيْثُ كَانَ يَجْعَلُ بُيُوتَ الْكُفَّارِ وَدُرَجِهَا وَأَبْوَابِهَا ذَهَبًا وَفِضَّةً ، لَوْلَا غَلَبَةُ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَى الْقُلُوبِ ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْكُفْرِ .
وَالْقَدَرُ الَّذِي [ جُعِلَ ] عِنْدَ الْكُفَّارِ مِنْ الدُّنْيَا وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ إنَّمَا هُوَ فِتْنَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّك بَصِيرًا } .
أقسام الكتاب 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23
الصفحة الرئيسية حول الموقع اتصل بنا ترجمات القران أعلى الصفحة

ISLAMICBOOK.WS © 2019 | جميع الحقوق متاحة لجميع المسلمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق