مواقع مكتبات اسلامية قيمة جدا

ب جاري/يا الله / جاري جاري / دار تحقيق التراث الإسلامي والعلمي / في وداع الله ياأماي///ب هانم// مدونة موطأ مالك / أعلام الإسلام / جامع الأصول لمجد الدين أبو السعادات ابن الجزري / أنس ويحي / صوتيات / ياربي:العتق من / النيران ومن الفتن / مدونة الخصوص / مدونة روابط // ب قيقي /مكتبة قيقي / /استكمال مدونة قيقي  / اللهم انتقم من الطالمين الطغاة الباغين  / مدونة قيقي  / النخبة في شرعة الطلاق ااا //ب حنين//ذكر الله / اللهم ارحم والداي واغفر لهما وتجاوز عن سيئاتهما وكل الصالحين / مدونة حنين ملخص الطلاق للعدة}} / الحنين/ /المدونة العلمية z. / المصحف العظيم / الحديث النبوي ومصطلحه. / قال الله تعالي/// بوستك//المدونة الطبية / تبريزي / من هم الخاسرون؟ / مدونة بوصيري / علوم الطبيعة ///ب بادي/استكمال ثاني{حجة ابراهيم علي قومه} / النظم الفهرسية الموسوعية الببلوجرافية للأحاديث النبوية وأهميتها / مدونة أذان / المناعة البشرية وعلاج الأمراض المستعصية من خلالها / علاج الأمراض المزمنة والسر في جهاز المناعة / الحميات الخطرة وطرق الوقاية منها والعلاج / المدونة الشاملة / أمراض الأطفال الشهيرة / م الكبائر وكتب أخري / مصحف الشمرلي+تحفة الأشراف للمزي+البداية والنهايةلابن كثير / مدونة الطلاق للعدة / القواميس العربية ومنها لسان العرب وتاج العروس وغيرهما //ب-البيهقي كله / مدونة الاصابة / الطلاق للعدة ما هو؟ / علامات القيامة / منصة مستدرك الحاكم / تعاليات إيمانية / السيرة النبوية /ب مكة /مدونة فتاح / مكه / علوم الفلك / مدونة الغزالي//ب انت ديني /الدجال الكذاب / الشيخ الشعراوي[نوعي] / ديرالدجال اا. / كتب ابن حزم والشوكاني وورد /إستكمال المحلي لابن حزم والشوكاني وابن كثير الحفاظ / المخلوقات الغامضة /السير والمغازي {ابن إسحاق- ابن هشام-كل السيرة النبوية} /كتاب الإحكام في أصول الأحكام / إحياء علوم الدين للغزالي / موقع الحافظ ابن كثير / مجموع فتاوي ابن تيمية / ابن الجوزي /البحيرة الغامضة / الكامل في التاريخ /الفتن / تصنيفات الإمامين:ابن حزم والشوكاني//// مجلد 3.سنن أبي داود / الجامع الصحيح سنن الترمذي / صحيح ابن ماجة – الإمام محمد ناصر الدين الألباني / فتح الباري لابن حجر / لسان العرب لابن منظور / مدونة العموم / الحافظ المزي مصنفات أخري / مدونة المصنفات / مسند أحمد وصحيح البخاري وصحيح مسلم.وسنن ابن ماجه. / مدونة مدونات كيكي1. / أبو داود والترمذي وابن ماجه / بر الوالدين شريعة / تهذيب التهذيب +الاصابة + فتح الباري/كلهم وورد / مدونة المستخرجات / كيكي

9 مصاحف

 

الثلاثاء، 8 يونيو 2021

ج11 كتاب : أحكام القرآن المؤلف:ابن العربي

     ج11 كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي

الْمُؤْمِنِينَ ، اقْضِ بَيْنَهُمَا ، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ .
فَقَالَ عُمَرُ : يَا تُيَّدُ ، كَمْ أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ؟ } يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ نَفْسَهُ .
قَالَ الرَّهْطُ : قَدْ قَالَ ذَلِكَ .
فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ : أَنْشُدُكُمَا بِاَللَّهِ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ ؟ قَالَا : نَعَمْ .
قَالَ عُمَرُ : فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ : إنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ غَيْرَهُ ، قَالَ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } .
فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَللَّهِ مَا اخْتَارَهَا دُونَكُمْ ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا ، وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ .
فَهَذَا حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ فِيهِ : إنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ : { تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَصَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ } ؛ فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا عُمَرُ إلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ .
وَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكُ فَأَمْسَكَهُمَا عُمَرُ ، وَقَالَ : هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ ، وَأَمْرُهَا إلَى مَنْ وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ .
فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَبَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ لِقُوتِ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ سَنَةً ، وَلِحُقُوقِهِ وَنَوَائِبِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ ، لَا خُمُسَ الْخُمُسِ الَّذِي ادَّعَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذَا نَصٌّ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { لِذِي الْقُرْبَى } ؛ فَنَظَرَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهَا قُرْبَى مِنْ قُرَيْشٍ ، لِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } .
وَلَمَّا نَزَلَتْ : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } .
وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ .
وَقَالَ : { يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ؛ يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ؛ يَا بَنِي هَاشِمٍ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ، يَا فَاطِمَةُ ؛ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ ؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } .
فَهَذِهِ قَرَابَاتُهُ الَّتِي دَعَا عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ حِينَ دُعِيَ إلَى أَنْ يَدْعُوَهُمْ ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَعْطَيْتَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكَتْنَا ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ فَقَالَ : { إنَّ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ } .
أَمَّا قَوْلُهُ : " وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ " .
فَلِأَنَّ هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ وَعَبْدَ شَمْسٍ بَنُو عَبْد مُنَافٍ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ } إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأُلْفَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعَبِ ، وَخَرَجَتْ عَنْهُمْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ إلَى الْمُبَايَنَةِ ، فَاتَّصَلَتْ الْقَرَابَةُ الْجَاهِلِيَّةُ بِالْمَوَدَّةِ ، فَانْتَظَمَا .
وَهَذَا يُعَضِّدُ أَنَّ بَيَانَ اللَّهِ

لِلْأَصْنَافِ بَيَانٌ لِلْمَصْرِفِ وَلَيْسَ بَيَانًا لِلْمُسْتَحِقِّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلْغَانِمَيْنِ : مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْأَمَةِ ، بَيْدَ أَنَّ الْإِمَامَ إنْ رَأَى أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأَسْرَى بِالْإِطْلَاقِ فَعَلَ وَتَبْطُلُ حُقُوقُ الْغَانِمِينَ فِيهِمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ كَانَ الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا وَكَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ الثَّنِيِّ لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ } ، وَلَهُ أَنْ يُنَفِّلَ جَمِيعَهُمْ ، وَيُبْطِلَ حَقَّ الْغَانِمِينَ بِالْقِتَالِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ؛ وَذَلِكَ بِحُكْمِ مَا يَرَى أَنَّهُ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحُ لَهُمْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : أَطْلَقَ اللَّهُ الْقَوْلَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمَيْنِ تَضْمِينًا ، وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَاضَلَ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّانِي : لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ ، وَلِلْفَارِسِ سَهْمٌ الثَّالِثُ : يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ ، فَيُنَفِّذُ مَا رَأَى مِنْهُ .
وَقَدْ رُوِيَتْ الرِّوَايَتَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ أَنْ يُعْطَى الْفَارِسُ سَهْمَيْنِ ، وَيُعْطَى لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْعَنَاءِ ، وَعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ التَّقْدِيرَ فِي الْغَنِيمَةِ بِقَدْرِ الْعَنَاءِ فِي أَخْذِهَا حِكْمَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَلَا يُفَاضِلُ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ بِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسْهِمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ غَنَاءً ، وَأَعْظَمُ مَنْفَعَةً ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرِّوَايَةَ لَمْ تَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُسْهِمَ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ فِي أَصْلِ الْغَنَاءِ وَالْمَنْفَعَةِ قَدْ رُوعِيَتْ ؛ فَأَمَّا زِيَادَتُهَا فَزِيَادَةُ تَفَاصِيلِهَا ، فَلَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ يُرْجَعُ إلَيْهِ ، وَلَا يَنْضَبِطُ ذَلِكَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُهَا فِي الْمَآلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ؛ فَلَا حَظَّ فِي الِاعْتِبَارِ لِذَلِكَ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : لَا حَقَّ فِي الْغَنَائِمِ لِلْحَشْوَةِ كَالْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ الَّذِينَ يَصْحَبُونَ الْجُيُوشَ لِلْمَعَاشِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا قِتَالًا ، وَلَا خَرَجُوا مُجَاهِدِينَ .
وَقِيلَ : يُسْهَمُ لَهُمْ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةَ } .
وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا جَاءَ لِبَيَانِ خُرُوجِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ الْقِتَالَ عَنْ الِاسْتِهَامِ ، وَأَنَّهَا لِمَنْ بَاشَرَهُ وَخَرَجَ إلَيْهِ .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ الْمُقَاتِلِينَ وَأَهْلِ الْمَعَاشِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ مُتَمَيِّزَتَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حَالُهَا وَحُكْمُهَا ، فَقَالَ : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
إلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ إذَا قَاتَلُوا لَمْ يَضُرَّهُمْ كَوْنُهُمْ عَلَى مَعَاشِهِمْ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ .
وَتَفْصِيلُ الْمَذْهَبِ : أَنَّ مَنْ قَاتَلَ أُسْهِمَ لَهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا لِلْخِدْمَةِ ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ : لَا سَهْمَ لَهُ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ قَاتَلَ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : الْعَبْدُ لَا سَهْمَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ خُوطِبَ بِالْقِتَالِ ، لِاسْتِغْرَاقِ بَدَنِهِ بِحُقُوقِ السَّيِّدِ .
فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا سَهْمَ لَهُ : أَيْضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقًا لِلْبُلُوغِ مُطِيقًا لِلْقِتَالِ فَيُسْهَمُ لَهُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُسْهَمُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّكْلِيفِ ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي ، وَعُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي } .
فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ : إنَّمَا ذَلِكَ حَدُّ الْبُلُوغِ .
وَقَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ حَبِيبٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ إلَى إطَاقَتِهِ لِلْقِتَالِ ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهِ ، وَقَدْ أَمَرَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ مِنْ أَنْبَتَ ، وَيُخَلَّى مَنْ لَمْ يُنْبِتْ ؛ وَهَذِهِ مُرَاعَاةٌ لِإِطَاقَةِ الْقِتَالِ أَيْضًا لَا لِلْبُلُوغِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } هَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلْكُفَّارِ وَلَا لِلنِّسَاءِ ، وَإِنَّمَا خُوطِبَ بِهِ مَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ ، وَخُوطِبَ بِهِ مَنْ يُقَاتِلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُونَ مَنْ لَا يُقَاتِلُ .
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا سَهْمَ لَهَا فِيهِ ، وَإِنْ قَاتَلَتْ إلَّا عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا يُسْهَمُ لَهُنَّ } ؛ فَإِنَّ الْقِتَالَ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِنَّ ، وَالسَّهْمُ لَمْ يُقْضَ بِهِ لَهُنَّ .
وَأَمَّا الْعَبِيدُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِذَا خَرَجُوا لُصُوصًا ، وَأَخَذُوا مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ لَهُمْ ، وَلَا يُخَمَّسُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخِطَابِ أَحَدٌ مِنْهُمْ .
وَقَالَ سَحْنُونٌ : لَا يُخَمَّسُ مَا يَنُوبُ الْعَبْدَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يُخَمَّسُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْقِتَالِ ، وَيُقَاتِلَ عَنْ الدِّينِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ .
فَأَمَّا إذَا كَانُوا فِي جُمْلَةِ الْجَيْشِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ لَا يُسْهَمَ لِعَبْدٍ وَلَا لِلْكَافِرِ يَكُونُ فِي الْجَيْشِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ .
زَادَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي : وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ .
الثَّالِثُ : قَالَ سَحْنُونٌ : إنْ قَدَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنِيمَةِ دُونَهُمْ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْغَنِيمَةِ إلَّا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ أُسْهِمَ لَهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ مَعَ الْأَحْرَارِ .
الرَّابِعُ : قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : إذَا خَرَجَ الْعَبْدُ وَالذِّمِّيُّ مِنْ الْجَيْشِ وَغَنِمَ فَالْغَنِيمَةُ لِلْجَيْشِ دُونَهُمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ حَضَرَ ، فَأَمَّا مَنْ غَابَ فَلَا شَيْءَ لَهُ .
وَالْمَغِيبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا بِمَرَضٍ ، أَوْ بِضَلَالٍ ، أَوْ بِأَسْرٍ .
فَأَمَّا الْمَرِيضُ فَلَا شَيْءَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ رَأْيٌ ، وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا : إنْ مَرِضَ بَعْدَ الْقِتَالِ أُسْهِمَ لَهُ ، وَإِنْ مَرِضَ بَعْدَ الْإِرَادَةِ وَقَبْلَ الْقِتَالِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ ذَلِكَ لَهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي الضَّالِّ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ وَقَالَ أَشْهَبُ : يُسْهَمُ لِلْأَسِيرِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَدِيدِ .
وَالصَّحِيحُ أَنْ لَا سَهْمَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ يُسْتَحَقُّ بِالْقِتَالِ ، فَمَنْ غَابَ خَابَ ، وَمَنْ حَضَرَ مَرِيضًا كَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ .
وَأَمَّا الْغَائِبُ الْمُطْلَقُ فَلَمْ يُسْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ لِغَائِبٍ إلَّا يَوْمَ خَيْبَرَ ؛ قَسَمَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَابَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } ، وَقَسَمَ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُثْمَانَ لِبَقَائِهِ عَلَى ابْنَتِهِ ، وَقَسَمَ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَطَلْحَةَ وَكَانَا غَائِبَيْنِ .
فَأَمَّا أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَانَ مِيعَادًا مِنْ اللَّهِ اخْتَصَّ بِأُولَئِكَ النَّفَرِ ، فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ .
وَأَمَّا عُثْمَانُ وَسَعِيدٌ وَطَلْحَةُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَسْهَمَ لَهُمْ مِنْ الْخُمُسِ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ بَقِيَ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، بَيْدَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمَوَّازِ قَالَ : إذَا أَرْسَلَ الْإِمَامُ أَحَدًا فِي مَصْلَحَةِ الْجَيْشِ فَإِنَّهُ يُشْرِكُ مَنْ غَنِمَ بِسَهْمِهِ ؛ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ .
وَقِيلَ عَنْهُ أَيْضًا : لَا شَيْءَ لَهُ ، وَهَذَا أَحْسَنُ ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْضَخُ لَهُ ، وَلَا يُعْطَى مِنْ الْغَنِيمَةِ لِعَدَمِ السَّبَبِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ عِنْدَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
هَذَا لَبَابُ مَا فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ ، فَمَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ

إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } ظَاهِرٌ فِي اللِّقَاءِ ، ظَاهِرٌ فِي الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ ، مُجْمَلٌ فِي الْفِئَتَيْنِ الَّتِي تُلْقَى مِنَّا وَاَلَّتِي تَكُونُ مِنْ مُخَالِفِينَا ، بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ الَّتِي بَعْدَهَا فِي تَعْدِيدِ الْمُقَاتِلِينَ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ هَاهُنَا بِالثَّبَاتِ عِنْدَ قِتَالِهِمْ ، كَمَا نَهَى فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا عَنْ الْفِرَارِ عَنْهُمْ ؛ فَالْتَقَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى شَفَا مِنْ الْحُكْمِ بِالْوُقُوفِ لِلْعَدُوِّ وَالتَّجَلُّدِ لَهُ .
وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْبَرَاءِ : أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا عُمَارَةَ ؟ قَالَ : لَا ، وَاَللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانٌ مِنْ النَّاسِ ، فَلَقِيَتْهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ عَلَى بَغْلَتِهِ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ .
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ } .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : { لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ ، وَإِنَّ الْفِئَتَيْنِ لَمُوَلِّيَتَانِ ، وَمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةُ رَجُلٍ } .
وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ } فِيهِ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ : الْأَوَّلُ : اُذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ جَزَعِ قُلُوبِكُمْ ؛ فَإِنَّ ذِكْرَهُ يُثَبِّتُ .
الثَّانِي : اُثْبُتُوا بِقُلُوبِكُمْ وَاذْكُرُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَسْكُنُ عِنْدَ اللِّقَاءِ ، وَيَضْطَرِبُ اللِّسَانُ ؛ فَأَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقَلْبُ عَلَى الْيَقِينِ ، وَيَثْبُتَ اللِّسَانُ عَلَى الذِّكْرِ .
الثَّالِثُ : اُذْكُرُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ [ لَكُمْ ] فِي ابْتِيَاعِهِ أَنْفُسَكُمْ مِنْكُمْ وَمُثَامَنَتِهِ لَكُمْ .
وَكُلُّهَا مُرَادٌ ، وَأَقْوَاهَا وَأَوْسَطُهَا ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ ، وَنَفَاذِ الْقَرِيحَةِ ، وَاتِّقَادِ الْبَصِيرَةِ ، وَهِيَ الشُّجَاعَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي النَّاسِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ أَقْوَى مِنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ الْخَلِيقَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْضَاهُمْ عَزِيمَةً ، وَأَنْفَذَهُمْ قَرِيحَةً ، وَأَنْوَرَهُمْ بَصِيرَةً ، وَأَصْدَقَهُمْ فِرَاسَةً ، وَأَصَحَّهُمْ رَأْيًا ، وَأَثْبَتَهُمْ [ جَأْشًا ] ، وَأَصْفَاهُمْ إيمَانًا ، وَأَشْرَحَهُمْ صَدْرًا ، وَأَسْلَمَهُمْ قَلْبًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ظُهُورُ ذَلِكَ الْمَقَامِ فِي مَقَامَاتٍ سِتَّةٍ : الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ ، وَلَمْ تَكُنْ مُصِيبَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا ، وَلَا تَكُونُ أَبَدًا عَنْهَا تَفَرَّعَتْ مَصَائِبُنَا ، وَمِنْ أَجْلِهَا فَسَدَتْ أَحْوَالُنَا ، فَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ ؛ فَأَمَّا عَلِيٌّ فَاسْتَخْفَى .
وَأَمَّا عُثْمَانُ فَبُهِتَ .
وَأَمَّا عُمَرُ فَاخْتَلَطَ ، وَقَالَ : " مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا وَاعَدَهُ اللَّهُ كَمَا وَاعَدَ مُوسَى ، وَلَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ فَلَيُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَ أُنَاسٍ وَأَرْجُلَهُمْ " وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا بِمَنْزِلِهِ بِالسُّنْحِ ، فَجَاءَ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ، وَهُوَ مَيِّتٌ مُسَجًّى

بِثَوْبِهِ ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَقَالَ : " بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْك فَقَدْ مُتَّهَا " .
وَخَرَجَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ؛ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : " مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ " ثُمَّ قَرَأَ : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } .
الْمَقَامُ الثَّانِي : لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ أَيْنَ يُدْفَنُ ؛ فَقَالَ الْقَوْمُ : يُدْفَنُ بِمَكَّةَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بِالْمَدِينَةِ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا دُفِنَ قَطُّ نَبِيٌّ إلَّا حَيْثُ يَمُوتُ } .
الْمَقَامُ الثَّالِثُ : لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَقُولُ لَهُ : لَوْ مِتَّ أَلَمْ تَكُنْ ابْنَتُك تَرِثُك ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَتْ لَهُ : فَأَعْطِنِي مِيرَاثِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ } .
فَتَذَكَّرَ ذَلِكَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ ، وَعَلِمَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةَ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ ، وَأَقَرَّ بِهِ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ .
الْمَقَامُ الرَّابِعُ : لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ الْعَرَبُ ، وَانْقَاضَ الْإِسْلَامُ ، وَتَزَلْزَلَتْ الْأَفْئِدَةُ ، وَمَاجَ النَّاسُ ؛ فَارْتَاعَ الصَّحَابَةُ ؛ فَقَالَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ لِأَبِي بَكْرٍ : خُذْ مِنْهُمْ الصَّلَاةَ ، وَدَعْ الزَّكَاةَ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الدَّيْنُ ، وَيَسْكُنَ جَأْشُ الْمُسْلِمِينَ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : " وَاَللَّهِ

لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " .
الْمَقَامُ الْخَامِسُ : قَالَتْ الصَّحَابَةُ لَهُ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ؛ أَبْقِ جَيْشَ أُسَامَةَ ؛ فَإِنَّ مَنْ حَوْلَك قَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ ، " وَاَللَّهِ لَوْ لَعِبْت الْكِلَابُ بِخَلَاخِيلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا رَدَدْت جَيْشًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
فَقَالُوا لَهُ : فَمَعَ مَنْ تُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ : وَحْدِي حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي .
الْمَقَامُ السَّادِسُ : وَهُوَ ضَنْكُ الْحَالِ وَمَأْزِقُ الِاخْتِلَالِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ اضْطَرَبَ الْأَمْرُ ، وَمَاجَ النَّاسُ ، وَمَرَجَ قَوْلُهُمْ ، وَتَشَوَّفُوا إلَى رَأْسٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ تَدْبِيرُهُمْ ، وَاجْتَمَعَتْ الْأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَلَهُمْ الْهِجْرَةُ ، وَفِيهِمْ الدَّوْحَةُ ، وَالْمُهَاجِرُونَ عَلَيْهِمْ نُزُلٌ ، وَانْتَدَبَ الشَّيْطَانُ لِيَزِيغَ قُلُوبَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ، فَسَوَّلَ لِلْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِدُوا لِرَجُلٍ مِنْهُمْ الْأَمْرَ ؛ فَجَاءَ الْمُهَاجِرُونَ .
فَاجْتُمِعُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَقَالُوا : نُرْسِلُ إلَيْهِمْ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : " لَا ، أَلَا نَأْتِيهِمْ فِي مَوْضِعِهِمْ " ، فَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ ، فَصَرَمَ وَتَقَدَّمَ وَاتَّبَعَتْهُ الْمُهَاجِرُونَ حَتَّى جَاءَ الْأَنْصَارَ فِي مَكَانِهِمْ ، وَتَقَاوَلُوا ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ فِي كَلَامِهَا : مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ ، فَتَصَدَّرَ أَبُو بَكْرٍ بِحَقِّهِ ، وَتَكَلَّمَ عَلَى مُقْتَضَى الدِّينِ وَوَفْقِهِ ، وَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؛ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا رَهْطُ رَسُولِ اللَّهِ وَعِتْرَتُهُ الْأَدْنَوْنَ ، وَأَصْلُ الْعَرَبِ ، وَقُطْبُ النَّاسِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ } .
وَقَدْ سَمَّانَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِينَ حِينَ قَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ

الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } .
وَسَمَّاكُمْ الْمُفْلِحِينَ ، فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .
وَأَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } .
وَقَالَ لَكُمْ النَّبِيُّ { سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ } .
وَقَالَ لَنَا فِي آخَرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا : { أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا أَنْ تَقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ ، وَتَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ ؛ وَلَوْ كَانَ لَكُمْ فِي الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا رَأَيْتُمْ أَثَرَةً ، وَلَا وَصَّى بِكُمْ } .
فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِ ، وَوَعَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ تَذَّكَّرُوا الْحَقَّ ؛ فَانْقَادُوا لَهُ ، وَالْتَزَمُوا حُكْمَهُ ؛ فَبَادَرَ عُمَرُ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ ، وَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ؛ اُمْدُدْ يَدَك أُبَايِعْك .
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَا سَمِعْت مِنْك تَهَّةً فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَهَا ، أَتُبَايِعُنِي وَأَبُو بَكْرٍ فِيكُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : اُمْدُدْ يَدَك أُبَايِعْك يَا أَبَا بَكْرٍ .
فَمَدَّ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ وَبَايَعَهُ ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ ، وَصَارَ الْحَقُّ فِي نِصَابِهِ ، وَدَخَلَ الدِّينُ مِنْ بَابِهِ .
وَلَوْ هُدُوا لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ الْأَدَبِيَّةِ التَّارِيخِيَّةِ لَمَا كَانُوا عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ جَائِرِينَ وَبِحَقِيقَتِهِ جَاهِلِينَ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُمْ بِقِرَاءَةِ كُتُبٍ مِنْ الْأَدَبِ وَالتَّارِيخِ قَدْ تَوَلَّاهَا جُهَّالٌ وَضُلَّالٌ ، فَقَالُوا : فَعَلَ عَلِيٌّ .
وَقَالَ عَلِيٌّ ، وَلَا يَقَعُ عَلِيٌّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ إلَّا نُقْطَةً مِنْ بَحْرٍ ، أَوْ لُقَطَةً فِي قَفْرٍ ، لَقَدْ اسْتَقَامَ

الدِّينُ وَعَلِيٌّ عَنْهُ فِي حِجْرٍ ، وَقَدْ كَانَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَ رِجَالِهِ ، وَفَارِسًا مِنْ فُرْسَانِهِ ، وَوَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَائِهِ ، وَقَرِيبًا مِنْ أَقْرِبَائِهِ ، فَلَمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِرَسُولِهِ ، وَانْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَقُمْ بِالْأَمْرِ وَلَا قَعَدَ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ قَضَاهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ ، وَقَدَّرَهُ بِالصِّدْقِ ، وَأَنْفَذَهُ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ ، وَمَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ أَحَدًا ثَبَتَ عَلَى الدَّيْنِ ، وَقَرَّرَ وُلَاتَهُ فِي الْأَقْطَارِ ، وَأَنْفَذَ الْجُيُوشَ إلَى الْأَمْصَارِ ، وَقَاتَلَ عَلَى الْحَقِّ ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ خَيْرِ الْخَلْقِ الصِّدِّيقُ ؛ فَمَهَّدَ الدَّيْنَ ، وَاسْتَتَبَّ بِهِ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ هِيَ الْعُمْدَةُ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا النَّصْرُ ، وَيَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ ، وَيُسْلِمُ مَعَهَا الْقَلْبُ ، وَتَسْتَمِرُّ مَعَهَا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الْجَوَارِحُ ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُ الْمَرْءِ كُلُّهُ بِالطَّاعَةِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ ، فَإِنَّمَا يُقَاتِلُ الْمُسْلِمُونَ بِأَعْمَالِهِمْ لَا بِأَعْدَادِهِمْ ، وَبِاعْتِقَادِهِمْ لَا بِأَمْدَادِهِمْ ؛ فَلَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا الْغَلَّابِيّ .
وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا تُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ } .
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الطَّاقَةَ فِي الطَّاعَةِ ، وَالْمِنَّةَ فِي الْهِدَايَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا } : وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَشْرُوعِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقُوَّةَ لِيُظْهِرَ بِهَا الْأَفْعَالَ ، وَقُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدَةٌ تَعُمُّ الْمَقْدُورَاتِ ، وَقُدَرُ الْخَلْقِ حَادِثَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْدُورَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا [ وَأَجْرَى اللَّهُ ] الْعَادَةَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ إذَا كَثُرَتْ عَلَى رَأْيِ قَوْمٍ أَوْ بَقِيَتْ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ ظَهَرَ الْمَقْدُورُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُدْرَةِ إنْ كَانَ كَثِيرًا فَكَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا فَقَلِيلًا ، وَكَذَلِكَ تَظْهَرُ الْمَفْعُولَاتُ بِحَسَبِ مَا يُلْقِي اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الطُّمَأْنِينَةِ ، فَإِذَا ائْتَلَفَتْ الْقُلُوبُ عَلَى الْأَمْرِ اسْتَتَبَّ وُجُودُهُ ، وَاسْتَمَرَّ مَرِيرُهُ ، وَإِذَا تَخَلْخَلَ الْقَلْبُ قَصُرَ عَنْ النَّظَرِ ، وَضَعُفَتْ الْحَوَاسُّ عَنْ الْقَبُولِ ، وَالِائْتِلَافُ طُمَأْنِينَةٌ لِلنَّفْسِ ، وَقُوَّةٌ لِلْقَلْبِ ، وَالِاخْتِلَافُ إضْعَافٌ لَهُ ؛ فَتُضَعَّفُ الْحَوَاسُّ ، فَتَقْعُدُ عَنْ الْمَطْلُوبِ ، فَيَفُوتُ الْغَرَضُ ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ، وَكَنَّى بِالرِّيحِ عَنْ اطِّرَادِ الْأَمْرِ وَمُضَائِهِ بِحُكْمِ اسْتِمْرَارِ الْقُوَّةِ فِيهِ وَالْعَزِيمَةِ عَلَيْهِ ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ الَّذِي يَبْلُغُ الْعَبْدُ بِهِ إلَى كُلِّ أَمْرٍ مُتَعَذِّرٍ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ فِي أَنَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ .
.

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ } : يَعْنِي تُصَادِفُهُمْ وَتَلْقَاهُمْ ، يُقَالُ : ثَقِفْته أَثْقَفُهُ ثَقَفًا إذَا وَجَدْته ، وَفُلَانٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ أَيْ سَرِيعُ الْوُجُودِ لِمَا يُحَاوَلُ مِنْ الْقَوْلِ .
وَامْرَأَةٌ ثَقَافٌ .
هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ ، وَهُوَ عِنْدِي بِمَعْنَى الْحَبْسِ ، وَمِنْهُ رَجُلٌ ثَقِفٌ أَيْ يُقَيِّدُ الْأُمُورَ بِمَعْرِفَتِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ } : أَيْ افْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا مِنْ الْعُقُوبَةِ يَتَفَرَّقُ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ ، وَمِنْهُ شَرَدَ الْبَعِيرُ وَالدَّابَّةُ إذَا فَارَقَ صَاحِبَهُ وَمَأْلَفَهُ وَمَرْعَاهُ ، وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لِلْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى : مِنْ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْجِزْيَةِ وَالْقَتْلِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَيَأْتِي هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهَذَا يُعْتَضَدُ بِالْآيَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ أَبْدَتْ مِنْ التَّحَزُّبِ مَعَ قُرَيْشٍ وَنَقْضِ الْعَهْدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ نَقْضُ الْعَهْدِ مَعَ خَوْفِ الْخِيَانَةِ ، وَالْخَوْفُ ظَنٌّ لَا يَقِينَ مَعَهُ ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ يَقِينُ الْعَهْدِ بِظَنِّ الْخِيَانَةِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَوْفَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ ، كَمَا يَأْتِي الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ ؛ كَقَوْلِهِ : { لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } .
الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ آثَارُ الْخِيَانَةِ ، وَثَبَتَتْ دَلَائِلُهَا وَجَبَ نَبْذُ الْعَهْدِ ، لِئَلَّا يُوقِعَ التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَةِ ، وَجَازَ إسْقَاطُ الْيَقِينِ هَاهُنَا بِالظَّنِّ لِلضَّرُورَةِ ، وَإِذَا كَانَ الْعَهْدُ قَدْ وَقَعَ فَهَذَا الشَّرْطُ عَادَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَفْظًا ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } أَيْ عَلَى مَهْلٍ ؛ قَالَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ .
وَقِيلَ : عَلَى عَدْلٍ ، مَعْنَاهُ بِالتَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ لَهُمْ ، وَهَكَذَا يَجِبُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ الْيَوْمَ فِي كِلَا وَجْهَيْ الْعَقْدِ أَوَّلًا ، وَالنَّبْذُ عَلَى السَّوَاءِ ثَانِيًا .

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ لِلْأَعْدَاءِ بَعْدَ أَنْ أَكَّدَ فِي تَقَدُّمَةِ التَّقْوَى ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَهَزَمَهُمْ بِالْكَلَامِ ، وَالتَّفْلِ فِي الْوُجُوهِ ، وَحَفْنَةٍ مِنْ تُرَابٍ ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبْلِيَ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ ، بِعِلْمِهِ السَّابِقِ وَقَضَائِهِ النَّافِذِ ؛ فَأَمَرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْآلَةِ فِي فُنُونِ الْحَرْبِ الَّتِي تَكُونُ لَنَا عُدَّةً ، وَعَلَيْهِمْ قُوَّةً ، وَوَعَدَ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى بِأَمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ الْعُلْيَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ : عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ؛ قَالَ : { قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } ؛ فَقَالَ : أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ } ثَلَاثًا .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، قَالَ : { مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ بِالسِّهَامِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ .
قَالَ : فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ نَرْمِي ، وَأَنْتَ مَعَهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلُّكُمْ } .
زَادَ الْحَاكِمُ فِي رِوَايَةٍ : { فَلَقَدْ رَمَوْا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ

ذَلِكَ ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَلَى السَّوَاءِ مَا نَضَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ { عَلِيٍّ قَالَ : مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ يَفْدِي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ : ارْمِ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ : صَانِعُهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ ، وَالرَّامِي بِهِ ، وَمُنْبِلُهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { وَالْمُمِدُّ بِهِ ، فَارْمُوا وَارْكَبُوا ، وَلَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا ، لَيْسَ مِنْ اللَّهْوِ ثَلَاثٌ : تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ .
وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ كَفَرَهَا } .
وَقَدْ شَاهَدْت الْقِتَالَ مِرَارًا فَلَمْ أَرَ فِي الْآلَةِ أَنْجَعَ مِنْ السَّهْمِ ، وَلَا أَسْرَعَ مَنْفَعَةً مِنْهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } الرِّبَاطُ : هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حِرَاسَةً لِلثُّغُورِ أَوْ مُلَازَمَةً لِلْأَعْدَاءِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ شَيْءٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلَّا الَّذِي يَمُوتُ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَأَمَّا رِبَاطُ الْخَيْلِ : فَهُوَ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ : لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ .
فَأَمَّا الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ، فَهِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ ، وَأَمَّا الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا فَهِيَ عَلَيْهِ سِتْرٌ ، وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٍ ، وَكَتَبَ لَهُ أَرْوَاثَهَا وَأَبْوَالَهَا حَسَنَاتٍ ، وَلَا يَقْطَعُ طِوَالَهَا فَتَسْتَنُّ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ ، وَلَا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ { جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْوِي نَاصِيَةَ فَرَسٍ بِأُصْبُعَيْهِ ؛ وَهُوَ يَقُولُ : الْخَيْرُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ النِّسَاءِ مِنْ الْخَيْلِ } .
خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : الْمُسْتَحَبُّ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ الْإِنَاثُ قَبْلَ الذُّكُورِ : قَالَ عِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ، فَإِنَّ الْأُنْثَى بَطْنُهَا كَنْزٌ ، وَظَهْرُهَا عِزٌّ .
وَفَرَسُ جِبْرِيلَ أُنْثَى

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : يُسْتَحَبُّ مِنْ الْخَيْلِ مَا رَوَى أَبُو وَهْبٍ الْجُشَمِيُّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَيْكُمْ بِكُلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ ، أَوْ أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ ، أَوْ أَشْقَرَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ } .
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ : { خَيْرُ الْخَيْلِ الْأَدْهَمُ الْأَقْرَحُ الْمُحَجَّلُ الْأَرْثَمُ ، ثُمَّ الْأَقْرَحُ الْمُحَجَّلُ طَلْقُ الْيَمِينِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَمُ فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : رَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنْ الْخَيْلِ .
وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ ، وَالْفَرَسِ ، وَالدَّارِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } يَعْنِي تُخِيفُونَ بِذَلِكَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَأَعْدَاءَكُمْ مِنْ الْيَهُودِ وَقُرَيْشٍ ، وَكُفَّارِ الْعَرَبِ .
{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ } يَعْنِي فَارِسَ وَالرُّومَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَمَّا فَارِسُ فَنَطْحَةٌ أَوْ نَطْحَتَانِ ، ثُمَّ لَا فَارِسَ بَعْدَهَا .
وَأَمَّا الرُّومُ ذَوَاتُ الْقُرُونِ فَكُلَّمَا هَلَكَ قَرْنٌ خَلَفَهُ آخَرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } عَامٌّ فِي الْخَيْلِ كُلِّهَا وَأَجْوَدِهَا أَعْظَمِهَا أَجْرًا .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ اللَّهُ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } فَأَرَى الْبَرَاذِينَ مِنْ الْخَيْلِ إذَا أَجَازَهَا الْوَالِي ، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : السَّلْمُ : بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَإِسْكَانِ اللَّامِ ، وَبِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ ، وَبِزِيَادَةِ الْأَلْفِ أَيْضًا : هُوَ الصُّلْحُ ، وَقَدْ يَكُونُ السَّلَامُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وَنَحْوِهِ .
الثَّانِي : إنْ دَعَوْك إلَى الصُّلْحِ فَأَجِبْهُمْ ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ .
الثَّالِثُ : إنْ جَنَحُوا إلَى الْإِسْلَامِ فَاجْنَحْ لَهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ .
قَالَ مُجَاهِدٌ : وَعَنَى بِهِ قُرَيْظَةَ ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ ، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } فَدَعْوَى ، فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنْ دَعَوْكَ إلَى الصُّلْحِ فَأَجِبْهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهِ ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ } .
فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِزَّةٍ ، وَفِي قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ ، وَمَقَانِبَ عَدِيدَةٍ ، وَعُدَّةٍ شَدِيدَةٍ : فَلَا صُلْحَ حَتَّى تُطْعَنَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا ، وَتُضْرَبَ بِالْبِيضِ الرِّقَاقِ الْجَمَاجِمُ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ لِانْتِفَاعٍ يُجْلَبُ بِهِ ، أَوْ ضُرٍّ يَنْدَفِعُ بِسَبَبِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إذَا احْتَاجُوا إلَيْهِ ، وَأَنْ يُجِيبُوا إذَا دُعُوا إلَيْهِ وَقَدْ صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شُرُوطٍ نَقَضُوهَا ، فَنَقَضَ صُلْحَهُمْ ، وَقَدْ وَادَعَ الضَّمْرِيُّ ، وَقَدْ صَالَحَ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ ، وَأَهْلَ نَجْرَانَ ،

وَقَدْ هَادَنَ قُرَيْشًا لِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَهُ ، وَمَا زَالَتْ الْخُلَفَاءُ وَالصَّحَابَةُ عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ الَّتِي شَرَعْنَاهَا سَالِكَةً ، وَبِالْوُجُوهِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا عَامِلَةً .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : عَقْدُ الصُّلْحِ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا هُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِهِمْ أَجْمَعِينَ : إذْ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ ، فَيَقُولَ : نَبَذْت إلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ ، فَخُذُوا مِنِّي حِذْرَكُمْ ، وَهَذَا عِنْدِي إذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ طَلَبُوهُ ؛ فَإِنْ طَلَبَهُ الْمُسْلِمُونَ لِمُدَّةٍ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ قَبْلَهَا إلَّا بِاتِّفَاقٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِلْمُسْلِمِينَ عَقْدُ الصُّلْحِ بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ لِلْعَدُوِّ : وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مُوَادَعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ ، عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ تَمْرِ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَامْضِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لَمْ تُؤْمَرْ بِهِ ، وَلَك فِيهِ هَوًى فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّأْيَ وَالْمَكِيدَةَ ، فَأَعْلِمْنَا بِهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا هُوَ الرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ ؛ لِأَنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ بِقَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْت أَنْ أَدْفَعَهَا عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ } .
فَقَالَ السَّعْدَانِ : إنَّا كُنَّا كُفَّارًا ، وَمَا طَمِعُوا مِنْهَا بِتَمْرَةٍ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ بِقِرًى ، فَإِذَا أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِك فَلَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ ؛ وَشَقَّا الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَانَتْ كُتِبَتْ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { حَرِّضْ } أَيْ أَكِّدْ الدُّعَاءَ ، وَوَاظِبْ عَلَيْهِ ، يُقَالُ : حَارَضَ عَلَى الْأَمْرِ ، وَوَاظَبَ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ ، وَوَاصَبَ بِالصَّادِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ ، وَوَاكَبَ بِالْكَافِ : إذَا أَكَّدَ فِيهِ وَلَازَمَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقِتَالُ : هُوَ الصَّدُّ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْقَتْلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } .
قَالَ قَوْمٌ : كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نُسِخَ ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَنَيِّفًا ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَنَيِّفًا ؛ فَكَانَ لِلْوَاحِدِ ثَلَاثَةٌ .
وَأَمَّا هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ ، وَهِيَ الْوَاحِدُ بِالْعَشَرَةِ فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ صَافُّوا الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا قَطُّ وَلَكِنَّ الْبَارِيَ فَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّكُمْ تَفْقَهُونَ مَا تُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الثَّوَابُ .
وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ .
ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ هَذَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَإِنْ كَانَتْ إلَى جَنْبِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } : أَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ حَطُّ الثِّقَلِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } فَمَعْنَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْآنِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَارِي لَمْ يَزَلْ عَالِمًا لَيْسَ لِعِلْمِهِ أَوَّلُ ، وَلَكِنَّ وَجْهَهُ : أَنَّ الْبَارِيَ يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ ، وَهُوَ بِهِ عَالِمٌ ، إذَا كَانَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَالِمُ الشَّهَادَةِ ، وَبَعْدَ الشَّيْءِ ، فَيَكُونُ بِهِ عَالِمًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ بَعْدَ عَدَمِهِ ، وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ بِالْمَعْلُومَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهَا ، وَعِلْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَيَّرُ .
وَقَدْ ضَرَبْنَا لِذَلِكَ مِثَالًا يَسْتَرْوِحُ إلَيْهِ النَّاظِرُ ؛ وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَعْلَمُ الْيَوْمَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدًا ، ثُمَّ يَرَاهَا طَالِعَةً ، ثُمَّ يَرَاهَا غَارِبَةً ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِلْمٌ مُجَدَّدٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا بَقَاءَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ لَكَانَ وَاحِدًا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، وَعِلْمُ الْبَارِي وَاجِبُ الْأَوَّلِيَّةِ ، وَاجِبُ الْبَقَاءِ ، يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ ؛ فَانْتَظَمَتْ الْمَسْأَلَةُ ، وَتَمَكَّنَتْ بِهَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرِفَةُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَلَمَّا خَفَّفَ عَنَّا أَوْجَبَ عَلَى الرَّجُلِ الثَّبَاتَ لِرَجُلَيْنِ ، وَهَكَذَا مَا تَزَايَدَتْ النِّسْبَةُ الْوَاحِدَةُ بِاثْنَيْنِ ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمَا ، وَيَتَقَدَّمَانِ إلَيْهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْذَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَيَهْجُمُ عَلَى الْوَاحِدِ فَيَطْعَنُهُ ، فَإِذَا قَتَلَهُ بَقِيَ وَاحِدٌ بِوَاحِدٍ ، وَإِنْ اقْتَتَلَا فَقَدْ حَصَلَ دَمُ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ ، وَبَقِيَ الزَّائِدُ لَغْوًا ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الصَّبْرِ ، وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يَلْقَى عَشَرَةً قَالَ : وَاسِعٌ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى مُعَسْكَرِهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَثْبُتَ مَعَهُمْ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : لَا يَقْتَحِمُ الْوَاحِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَا الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إلْقَاءَ الْيَدِ إلَى التَّهْلُكَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } فَكَانَ كُلُّ رَجُلٍ بِاثْنَيْنِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، وَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ ، وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ ، فَلَمَّا كَثُرُوا قَالَ اللَّهُ : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } ، فَخَيَّرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ بَعْدَهُ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالْأَسْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَوْمُك وَأَهْلُك ، فَاسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ .
قَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ كَذَّبُوك وَأَخْرَجُوك ، قَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ اُنْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ، ثُمَّ أَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ نَارًا .
فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : قَطَعْتَ رَحِمَك .
فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ ، ثُمَّ دَخَلَ ، فَقَالَ نَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ .
وَقَالَ نَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ .
وَقَالَ نَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ .
ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ قَوْمٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنْ اللِّينِ ، وَيَشُدُّ قُلُوبَ قَوْمٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنْ الْحِجَارَةِ ، وَإِنَّ مَثَلَك يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّك غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَمَثَلُ عِيسَى حِينَ قَالَ : { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك } .
وَمَثَلُك يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ إذْ قَالَ : { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } .

وَمَثَلُ مُوسَى إذْ قَالَ : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتُمْ الْيَوْمَ عَالَةٌ فَلَا يَفْلِتَنَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ .
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إلَّا سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ ، فَإِنِّي سَمِعْته يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ .
فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنْ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إلَّا سُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا عَنْ أَقْوَالِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ رَوَاحَةَ ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَمَّا أَسَرُوا الْأَسْرَى لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : مَا تَرَوْنَ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً ، فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ قُلْت : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ ، وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبٍ بِأَحَالَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا .
فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْت .
فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْت ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُك ، فَإِنْ وَجَدْت بُكَاءً بَكَيْت وَإِلَّا تَبَاكَيْت .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ

أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } إلَى قَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا يَعْنِي الْفِدَاءَ ، وَاَللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يَعْنِي إعْزَازَ الدَّيْنِ وَأَهْلِهِ ، وَإِذْلَالَ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَقْرَبَ الْأُسَارَى فَيَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ، أَوْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ الْفِدَاءَ ، وَيُقْتَلَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَذَا جِبْرِيلُ يُخْبِرُكُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الْأُسَارَى فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ ، أَوْ تَقْبَلُوا مِنْهُمْ الْفِدَاءَ ، وَيُسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ } .
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ بَلْ نَأْخُذُ الْفِدَاءَ فَنَقْوَى عَلَى عَدُوِّنَا ، وَيُقْتَلُ مِنَّا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ ، فَفَعَلُوا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : كَانَ بِبَدْرٍ أُسَارَى مُشْرِكُونَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ ، فَفَادَوْا وَرَجَعُوا ، وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَنَابُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ قُتِلَ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا ، وَمِثْلُهُمْ أَسْرَى ، وَكَانَ الشُّهَدَاءُ قَلِيلًا .
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ : إنَّ الْقَتْلَى كَانُوا سَبْعِينَ وَالْأَسْرَى كَذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ

الْمُسَيِّبِ ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا } .
وَأَنْشُد أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : فَأَقَامَ بِالْعَطَنِ الْمُعَطَّنِ مِنْهُمْ سَبْعُونَ عُتْبَةُ مِنْهُمْ وَالْأَسْوَدُ وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ : وَكَانُوا مُشْرِكِينَ ، وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَقَامُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا ؛ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ رَوَوْا أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي مُسْلِمٌ .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ : إنَّ الْأَسْرَى قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : آمَنَّا بِك وَبِمَا جِئْت بِهِ وَلَنَنْصَحَنَّ لَك عَلَى قَوْمِنَا ، فَنَزَلَتْ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى } ، قَالَ الْعَبَّاسُ : اُفْتُدِيت بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً ، وَقَدْ آتَانِي اللَّهُ أَرْبَعِينَ عَبْدًا ، وَإِنِّي لَأَرْجُو الْمَغْفِرَةَ .
وَهَذَا كُلُّهُ ضَعَّفَهُ مَالِكٌ ، وَاحْتَجَّ عَلَى إبْطَالِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ رُجُوعِهِمْ إلَى مَوْضِعِهِمْ ، وَزِيَادَةً عَلَيْهِ أَنَّهُمْ غَزَوْهُ يَوْمَ أُحُدٍ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُهُمْ : يَدُلُّ قَوْلُهُ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } عَلَى تَكْلِيفِ الْجِهَادِ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ .
قُلْنَا : كَانَ الْجِهَادُ وَاجِبًا عَلَى أَنْبِيَاءٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَسْرَى وَلَا غَنِيمَةٌ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } مَا كَانَ لَك يَا مُحَمَّدُ أَنْ يَكُونَ لَك أَسْرَى حَتَّى يَغْلُظَ قَتْلُك فِي الْأَرْضِ ، وَتَثْبُتَ هَيْبَتُك فِي النُّفُوسِ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ بَنَى دَارًا ، وَلَمْ يَسْكُنْهَا ، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَبْنِ بِهَا ، أَوْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الرُّجُوعِ .
قَالَ : فَلَقِيَ الْعَدُوَّ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ ؛ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّهَا مَأْمُورَةٌ ، وَإِنِّي مَأْمُورٌ فَاحْبِسْهَا حَتَّى تَقْضِيَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ، فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَجَمَعُوا الْغَنَائِمَ فَلَمْ تَأْكُلْهَا النَّارُ } .
قَالَ : { وَكَانُوا إذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكَلَتْهَا ، فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ : إنَّكُمْ غَلَلْتُمْ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ ، فَبَايَعُوهُ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ ، فَقَالَ لَهُ : إنَّ أَصْحَابَك قَدْ غَلُّوا فَأْتِنِي بِهِمْ فَلْيُبَايِعُونِي ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ ، فَقَالَ لَهُمَا : إنَّكُمَا قَدْ غَلَلْتُمَا ، فَقَالَا : أَجَلْ ، قَدْ غَلَلْنَا صُورَةَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، فَجَاءَا بِهَا ، فَطُرِحَتْ فِي الْغَنَائِمِ ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّارَ فَأَكَلَتْهَا } .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَنَا الْغَنَائِمَ رَحْمَةً رَحِمَنَا بِهَا ، وَتَخْفِيفًا خَفَّفَ عَنَّا لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَعْفِنَا } .
قَالَ الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجْهَ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَفَائِدَةَ مَا فِيهَا مِنْ حِكْمَةٍ ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ مِنْ أَفْضَلِ وُجُوهِ الْكَسْبِ ، وَهِيَ جِهَةُ الْقَهْرِ وَالِاسْتِعْلَاءِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ ،

مِنْ قَبْلِكُمْ كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَسْرَعَ النَّاسُ فِي الْغَنَائِمِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ } إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ : فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ اللَّهِ السَّابِقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : سَبَقَ مِنْ اللَّهِ أَلَّا يُعَذِّبَ قَوْمًا حَتَّى يَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ .
الثَّانِي : سَبَقَ مِنْهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ وَمُحَمَّدٌ فِيهِمْ .
الثَّالِثُ : سَبَقَ مِنْهُ إحْلَالُ الْغَنَائِمِ لَهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ اسْتَعْجَلُوا قَبْلَ الْإِحْلَالِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُمْكِنٌ صَحِيحٌ ، لَكِنَّ أَقْوَاهُ مَا سَبَقَ مِنْ إحْلَالِ الْغَنِيمَةِ ، وَقَدْ كَانُوا غَنِمُوا أَوَّلَ غَنِيمَةٍ فِي الْإِسْلَامِ حِينَ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ فِي رَجَبٍ مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى ، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ إلَى نَخْلَةٍ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَيَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا ، فَمَضَى وَمَضَى أَصْحَابُهُ مَعَهُ ، حَتَّى نَزَلُوا بِنَخْلَةٍ ، فَمَرَّتْ عَلَيْهِمْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَيْتًا وَأُدْمًا وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ ، فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ ؛ فَقُتِلَ عَمْرٌو ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسْرَى حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ ، وَقَسَمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ ؛ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْخُمُسَ ، فَأَكَلُوا الْغَنِيمَةَ ، وَنَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضُ الْغَنِيمَةِ ، كَمَا كَانَ فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ مِنْ الْخُمُسِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ .
وَاَلَّذِي ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ أَكْلُهُمْ الْغَنِيمَةَ الَّتِي غَنِمُوا ، وَإِحْلَالُ مَا أَخَذَ لَهُمْ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ عَنْ ذَلِكَ مُجِيزٌ لَهُ ؛ فَكَانَ وَحْيًا بِسُكُوتِهِ وَإِمْضَائِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ } فِي إحْلَالِ الْغَنِيمَةِ لَعُذِّبْتُمْ بِمَا اقْتَحَمْتُمْ فِيهَا مِمَّا لَيْسَ لَكُمْ اقْتِحَامُهُ إلَّا بِشَرْعٍ ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا اقْتَحَمَ مَا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا مِمَّا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ حَلَالٌ إنَّهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ كَالصَّائِمِ إذَا قَالَ : هَذَا يَوْمُ نَوْبِي فَأُفْطِرُ الْآنَ .
أَوْ هَذَا يَوْمُ حَيْضِي فَأُفْطِرُ فَفَعَلَا ذَلِكَ .
وَكَأَنَّ النَّوْبَ وَالْحَيْضَ الْمُوجِبَانِ لِلْفِطْرِ ؛ فَفِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى .
وَلَنَا فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عُمْدَةٌ ؛ فَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ سَاقِطَةٌ عِنْدَ اللَّهِ ، فَصَادَفَ الْهَتْكُ مَحَلًّا لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَصَدَ وَطْءَ امْرَأَةٍ قَدْ زُفَّتْ إلَيْهِ ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجِهِ فَإِذَا هِيَ زَوْجُهُ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِأَنَّ طُرُوءَ الْإِبَاحَةِ لَا يَنْتَصِبُ عُذْرًا فِي عُقُوبَةِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ الْهَتْكِ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ثُمَّ نَكَحَهَا ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عِلْمِنَا قَدْ اسْتَوَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّحْرِيمِ .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا اخْتَلَفَ عِلْمُنَا وَعِلْمُ اللَّهِ ، فَكَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ فِي إسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ ، كَمَا قَالَ : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { لَوْ نَزَلَتْ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ لَأَحْرَقَتْنَا إلَّا عُمَرَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنْ السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ إلَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، لِقَوْلِهِ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؛ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا غَيْرُك } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِثْخَانَ فِي الْقَتْلِ وَاجِبٌ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى إذَا قَوِيَ الْمُسْلِمُونَ جَازَ الْفِدَاءُ ؛ لِلْقُوَّةِ عَلَى الْعِدَّةِ لِقِتَالِهِمْ أَيْضًا ، فَإِنَّمَا يُرَاعَى الْأَنْظَرُ وَالْأَوْكَدُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : تَحَقَّقَ لَنَا مَعْصِيَتُهُمْ .
قُلْنَا : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : إسْرَاعُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْلَالِ .
الثَّانِي : اخْتِيَارُهُمْ الْفِدَاءَ قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْقَتْلِ .
الثَّالِثُ : قَوْلُهُ لَهُمْ : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } فَأُمِرُوا بِالْقَتْلِ فَاخْتَارُوا الْفِدَاءَ .
قُلْنَا : أَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُبَرِّرَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بَعْدَهُ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِمُحْتَمَلٍ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ أَحَدَهُمَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَهُمَا ؛ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَهُمْ فِيهِ ؛ فَمَالُوا إلَى الْفِدَاءِ ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْفَتِهِمْ بِالْكُفَّارِ مَعَ إغْلَاظِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ وَالْإِخْرَاجِ ، وَإِلَى تَحْقِيقِ الْمَعْصِيَةِ إلَى تَأْخِيرِهِمْ الْقَتْلَ حَتَّى نَزَلَ الْعَفْوُ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فَقَدْ اخْتَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَعَهُمْ ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ذَنْبًا مِنْهُ قُلْنَا : كَذَلِكَ تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ ، فَقَالَ : إنَّهُ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِيهِ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ، وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ ، إنَّمَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَقُّفٌ وَانْتِظَارٌ ، وَلَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ لِيَفُوتَ ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا الصَّنَادِيدَ ، وَأَثْخَنُوا فِي الْأَرْضِ ، فَانْتَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ ذَلِكَ كَافٍ فِيهِ أَمْ لَا ؟ وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْدَ الْإِنْصَافِ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى إنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَك فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَمَّا أَسَرَ مِنْ أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ رُوِيَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يُمْضُوا بِذَلِكَ عَزِيمَةً ، وَلَا اعْتَرَفُوا بِهِ اعْتِرَافًا جَازِمًا .
وَيُشْبِهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَقْرَبُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَبْعُدُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ تَكَلَّمَ الْكَافِرُ بِالْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ ، وَلَمْ يُمْضِ بِهِ عَزِيمَةً لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا .
وَإِذَا وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِ كَانَ كَافِرًا إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْمَرْءُ عَلَى دَفْعِهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْهَا وَأَسْقَطَهَا .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحَقِيقَةَ ؛ فَقَالَ : { وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَك } أَيْ إنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ خِيَانَةً وَمَكْرًا { فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ } بِكُفْرِهِمْ وَمَكْرِهِمْ بِك وَقِتَالِهِمْ لَك ، فَأَمْكَنَك مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ خَيْرًا وَيَعْلَمُهُ اللَّهُ فَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيُعَوِّضُهُمْ خَيْرًا مِمَّا خَرَجَ عَنْهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ وَمَكْرِهِمْ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { الَّذِينَ آمَنُوا } : هُمْ الَّذِينَ عَلِمُوا التَّوْحِيدَ ، وَصَدَّقُوا بِهِ ، وَأَمَّنُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ الْوَعِيدِ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَهَاجَرُوا } : هُمْ الَّذِينَ تَرَكُوا أَوْطَانَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ إيثَارًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي إعْلَاءِ دِينِهِ ، وَإِظْهَارِ كَلِمَتِهِ ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ ، وَعُمُومِ دَعَوْتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَجَاهَدُوا } : أَيْ الْتَزَمُوا الْجَهْدَ ؛ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ فِي أَنْفُسِهِمْ ، بِتَعْرِيضِهَا لِلْإِذَايَةِ وَالنِّكَايَةِ وَالْقَتْلِ ، وَبِأَمْوَالِهِمْ بِإِهْلَاكِهَا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا } : هُمْ الْأَنْصَارُ الَّذِي تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ، وَانْضَوَى إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرُونَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي النُّصْرَةِ .
الثَّانِي : فِي الْمِيرَاثِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : جَعَلَ اللَّهَ الْمِيرَاثَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } قِيلَ : مِنْ النُّصْرَةِ لِبُعْدِ دَارِهِمْ .
وَقِيلَ : مِنْ الْمِيرَاثِ لِانْقِطَاعِ وَلَايَتِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : { وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ } : يُرِيدُ إنْ دَعَوْا مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ عَوْنَكُمْ بِنَفِيرٍ أَوْ مَالٍ لِاسْتِنْقَاذِهِمْ ، فَأَعِينُوهُمْ ؛ فَذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَرْضٌ ، إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ ، فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عَلَيْهِمْ [ يُرِيدُ ] حَتَّى يَتِمَّ الْعَهْدُ أَوْ يُنْبَذَ عَلَى سَوَاءٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : أَمَّا قَوْلُهُ : { أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } : يَعْنِي فِي النُّصْرَةِ أَوْ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَلَا يُبَالَى بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ الْمِيرَاثِ بِقَوْلِهِ : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى عُصْبَةٍ ذَكَرٍ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } : فَإِنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي النُّصْرَةِ وَالْمِيرَاثِ ؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ عَلَى إيمَانِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُعْتَدًّا لَهُ بِهِ ، وَلَا مُثَابًا عَلَيْهِ حَتَّى يُهَاجِرَ .
ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَالْمِيرَاثِ بِالْقَرَابَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِثُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ السَّلَامِ ؛ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْهِجْرَةِ بِالسَّنَةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا أُسَرَاءَ مُسْتَضْعَفِينَ ؛ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ مَعَهُمْ قَائِمَةٌ ، وَالنُّصْرَةَ لَهُمْ وَاجِبَةٌ بِالْبَدَنِ بِأَلَّا يَبْقَى مِنَّا عَيْنٌ تَطْرِفُ حَتَّى نَخْرُجَ إلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ إنْ كَانَ عَدَدُنَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ، أَوْ نَبْذُلَ جَمِيعَ أَمْوَالِنَا فِي اسْتِخْرَاجِهِمْ ، حَتَّى لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ دِرْهَمٌ كَذَلِكَ .
قَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ : فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا حَلَّ بِالْخَلْقِ فِي تَرْكِهِمْ إخْوَانَهُمْ فِي أَسْرِ الْعَدُوِّ ، وَبِأَيْدِيهِمْ خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ وَفُضُولُ الْأَحْوَالِ وَالْعُدَّةُ وَالْعَدَدُ ، وَالْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَطَعَ اللَّهُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ ، وَجَعَلَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ ، يَتَنَاصَرُونَ بِدِينِهِمْ ، وَيَتَعَامَلُونَ بِاعْتِقَادِهِمْ .
وَفِي الصَّحِيحِ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَمِثْلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الْمِيرَاثِ ؛ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } .
وَقَالَ بَعْد هَذَا : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ } : يَعْنِي بِضَعْفِ الْإِيمَانِ وَغَلَبَةِ الْكُفْرِ ؛ وَهَذِهِ هِيَ الْفِتْنَةُ وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ ، وَفِي هَذَا أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ عَنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِيمَانِ ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَارِثَةَ : يَا حَارِثَةُ ، كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ قَالَ : مُؤْمِنًا حَقًّا .
قَالَ : لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ ، فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِكَ ؟ قَالَ : عَزَفَتْ نَفْسِي عَنْ الدُّنْيَا ؛ فَاسْتَوَى عِنْدِي حَجَرُهَا وَذَهَبُهَا ، وَكَأَنِّي نَاظِرٌ إلَى عَرْشِ رَبِّي .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَرَفْت فَالْزَمْ } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يُدْرِكُ أَحَدُكُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي النَّارِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : كَرِيمٌ .
وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ حَقًّا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي اسْتِقَامَةِ الْأَعْمَالِ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ .
وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ ، وَإِذَا كَانَ مَجَازًا قَصَّرَتْ الْجَوَارِحُ فِي الْأَعْمَالِ ؛ إذْ لَمْ تَبْلُغْ قُوَّتُهُ إلَيْهَا .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { مِنْ بَعْدُ } : يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا أَمَرْتُكُمْ بِالْمُوَالَاةِ ، هَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ، إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُرِيدُ مِنْ بَعْدِ الْإِيمَانِ الْأَوَّلِ وَالْهِجْرَةِ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْهِجْرَةَ طَبَقَاتٌ : الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ ، وَبَعْدَهُمْ مَنْ هَاجَرَ فِي بُحْبُوحَةِ الْإِيمَانِ وَقَبْلَ الْفَتْحِ ، وَهُمْ طَبَقَاتٌ عِنْدَنَا وَدَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } : يَعْنِي فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنْ تَوَلَّى قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ بِاعْتِقَادِهِ مَعَهُمْ ، وَالْتِزَامِهِ لَهُمْ ، وَعَمَلِهِ بِعَمَلِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُوَالَاةِ بِالْهِجْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا هِجْرَةٌ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ عُمُومٌ فِي كُلِّ قَرِيبٍ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِقَوْلِهِ : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى عُصْبَةٍ ذَكَرٍ } ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ .
وَكِتَابُ اللَّهِ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ ، فَتَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى مَا سَطَّرَ فِيهِ مِنْ نَسْخٍ وَثُبُوتٍ وَإِمْضَاءٍ وَرَدٍّ .

سُورَةُ التَّوْبَةِ .
فِيهَا إحْدَى وَخَمْسُونَ آيَةً [ تَسْمِيَتُهَا ] : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ ، وَلِذَلِكَ قَلَّ فِيهَا الْمَنْسُوخُ ، وَلَهَا سِتَّةُ أَسْمَاءً : التَّوْبَةُ ، وَالْمُبَعْثِرَةُ ، وَالْمُقَشْقِشَةُ ، وَالْفَاضِحَةُ وَسُورَةُ الْبُحُوثِ ، وَسُورَةُ الْعَذَابِ .
فَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِسُورَةِ التَّوْبَةِ فَلِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِيهَا تَوْبَةَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا بِتَبُوكَ .
فَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِالْفَاضِحَةِ فَلِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا : وَمِنْهُمْ ، وَمِنْهُمْ .
قَالَتْ الصَّحَابَةُ : حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا لَا تُبْقِي أَحَدًا .
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا الْمُبَعْثِرَةُ فَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، يُقَالُ : بَعْثَرْت الْمَتَاعَ : إذَا جَعَلْت أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ ، وَقَلَبْت جَمِيعَهُ وَقَلَّبْتَهُ ، وَمِنْهُ : { وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ } .
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا الْمُقَشْقِشَةُ فَمِنْ الْجَمْعِ ، فَإِنَّهَا جَمَعَتْ أَوْصَافَ الْمُنَافِقِينَ ، وَكَشَفَتْ أَسْرَارَ الدِّينِ .
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا سُورَةَ الْبُحُوثِ فَمِنْ بَحَثَ : إذَا اخْتَبَرَ وَاسْتَقْصَى ، وَذَلِكَ لِمَا تَضَمَّنَتْ أَيْضًا مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَالْبَحْثِ عَنْ أَسْرَارِهِمْ .
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا سُورَةَ الْعَذَابِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَا كَانُوا يَدْعُونَ سُورَةَ التَّوْبَةِ إلَّا الْمُبَعْثِرَةَ ، فَإِنَّهَا تُبَعْثِرُ أَخْبَارَ الْمُنَافِقِينَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : مَا كُنَّا نَدْعُوهَا إلَّا الْمُقَشْقِشَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : مَثَلُ بَرَاءَةَ كَمَثَلِ الْمِرْوَدِ مَا يُدْرَى أَسْفَلُهُ مِنْ أَعْلَاهُ .

الْقَوْلُ فِي سُقُوطِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْهَا : وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ أَغْرَاضٌ جِمَاعُهَا أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ : قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : إنَّهُ لَمَّا سَقَطَ أَوَّلُهَا سَقَطَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَعَهُ .
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سُورَةَ " بَرَاءَةَ " كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ أَوْ قُرْبَهَا ، فَذَهَبَ مِنْهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُكْتَبْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
الثَّانِي : أَنَّ بَرَاءَةَ سُخْطٌ ، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَحْمَةٌ ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
الثَّالِثُ : أَنَّ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بِرَفْعِ الْأَمَانِ ، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَانٌ .
وَهَذِهِ كُلُّهَا احْتِمَالَاتٌ ، مِنْهَا بَعِيدٌ وَمِنْهَا قَرِيبٌ ؛ وَأَبْعَدُهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ ؛ لِأَنَّ سُوَرًا كَثِيرَةً مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ اُفْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ كَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ كَفَرُوا } .
وَقَوْلِهِ : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ } .
الرَّابِعُ : وَهُوَ الْأَصَحُّ مَا ثَبَتَ عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ : قُلْنَا لِعُثْمَانَ : مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إلَى الْأَنْفَالِ ، وَهِيَ مِنْ الْمَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَةَ ، وَهِيَ مِنْ الْمِئِينِ ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ ، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ .
قَالَ عُثْمَانُ { : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَدْعُو بِبَعْضِ مَنْ يَكْتُبُ عَنْهُ ، فَيَقُولُ : ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ : ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا ، وَكَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا

شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا ، فَظَنَنْت أَنَّهَا مِنْهَا ؛ فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْت بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : آخِرُ مَا نَزَلَ بَرَاءَةٌ { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَلَمْ يَأْمُرْنَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ بِشَيْءٍ } ؛ فَلِذَلِكَ ضُمَّتْ إلَى الْأَنْفَالِ ، وَكَانَتْ شَبِيهَةً بِهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أُعْطِيت السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ ، وَأُعْطِيت الْمِئِينِ مَكَانَ الزَّبُورِ ، وَأُعْطِيت الْمَثَانِيَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ } .

نُكْتَةٌ أُصُولِيَّةٌ : فِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَأْلِيفَ الْقُرْآنِ كَانَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَأَنَّ تَأْلِيفَهُ مِنْ تَنْزِيلِهِ يُبَيِّنُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ ، وَيُمَيِّزُهُ لِكُتَّابِهِ ، وَيُرَتِّبُهُ عَلَى أَبْوَابِهِ ، إلَّا هَذِهِ السُّورَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ فِيهَا شَيْئًا ؛ لِيَتَبَيَّنَّ الْخَلْقُ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُحَاطُ بِعِلْمِهِ إلَّا بِمَا أَبْرَزَ مِنْهُ إلَى الْخَلْقِ ، وَأَوْضَحَهُ بِالْبَيَانِ .
وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى عُثْمَانَ وَأَعْيَانِ الصَّحَابَةِ كَيْفَ لَجَئُوا إلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ ، وَرَأَوْا أَنَّ قِصَّةَ " بَرَاءَةَ " شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ " الْأَنْفَالِ " فَأَلْحَقُوهَا بِهَا ؟ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ بَيَّنَ دُخُولَ الْقِيَاسِ فِي تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ فَمَا ظَنُّك بِسَائِرِ الْأَحْكَامِ .

وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ إحْدَى وَخَمْسُونَ آيَةً : الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { بَرَاءَةٌ } : أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ يُقَالُ : بَرِئْت مِنْ الشَّيْءِ أَبْرَأُ بَرَاءَةً فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ : إذَا أَزَلْته عَنْ نَفْسِك ، وَقَطَعْت سَبَبَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنِك .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } : وَلَمْ يُعَاهِدْهُمْ إلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ الْآمِرَ وَالْحَاكِمَ ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ أَوْ أَحْكَمَهُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْأُمَّةِ ، مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ ، مَحْسُوبٌ عَلَيْهِمْ ، يُؤَاخَذُونَ بِهِ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ تَحْصِيلَ الرِّضَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْجَمِيعِ مُتَعَذَّرٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِلَافُ الْآرَاءِ ، وَامْتِنَاعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ .
وَالثَّانِي : كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ الْمَانِعِ مِنْ تَحْصِيلِ رِضَا جَمِيعِهِمْ ، فَوَقَعَ الِاجْتِزَاءُ بِالْمُقَدَّمِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ ؛ فَإِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَمْرًا لَزِمَ الرَّعَايَا حُكْمُهُ ، فَإِذَا رَضُوا بِهِ كَانَ أَثْبَتَ لِنِسْبَتِهِ إلَيْهِمْ ، كَمَا نُسِبَ عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُسْلِمِينَ ، لِكَوْنِهِمْ بِهِ رَاضِينَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْجَمَاعَةِ ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْوَاحِدِ الْعَظِيمِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ الْمُشْرِكِينَ } : وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُعَاهِدَ كَانَ مُشْرِكًا ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانُوا أَيْضًا مُشْرِكِينَ ؟ لِأَنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْعَرَبِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ ، وَكَانُوا عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ كَانَ أَجَلُ عَهْدِهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ ، فَأَمْهَلَ الْكُلَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ .
وَقِيلَ : مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ أُجِّلَ خَمْسِينَ لَيْلَةً : عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } .
وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ؛ لِقَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } .
فَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أُجِّلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَيُحِلُّ دَمَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِحْلَالِ لِدَمِهِ بِالْكُفْرِ الْمَوْجُودِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ أَيْضًا أَجَلًا لِمَنْ كَانَتْ مُدَّتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
وَيَكُونَ إسْقَاطُ الزِّيَادَةِ تَخْصِيصًا لِلْمُدَّةِ ، كَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ النِّسَاءَ مِنْ أَعْدَادِ مَنْ صُولِحَ عَلَيْهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ ، بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لِلْإِمَامِ ، وَالتَّمَادِي عَلَى الْعَهْدِ ، أَوْ الرُّجُوعِ عَنْهُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } : أَيْ سِيرُوا ، وَهِيَ السِّيَاحَةُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ انْتَهَى إلَى قَرْيَةٍ خَرِبَتْ حُصُونُهَا ، وَجَفَّتْ أَنْهَارُهَا ، وَتَشَعَّبَ شَجَرُهَا ، فَنَادَى : يَا خَرِبُ ، أَيْنَ أَهْلُكِ ؟ فَنُودِيَ : يَا عِيسَى ، بَادُوا فَضَمَّتْهُمْ الْأَرْضُ ، وَعَادَتْ أَعْمَالُهُمْ قَلَائِدَ فِي رِقَابِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَجَدّ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُرِيدُ مَالِكٌ بِسِيَاحَتِهِ أَنَّهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ .
الْمَعْنَى : لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مَسِيرُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَاخْتَبِرُوا فِيهَا ، وَحَرِّرُوا أَعْمَالَكُمْ ، وَانْظُرُوا مَآلَكُمْ ، فَإِنْ دَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَكُمْ الْأَمَانُ وَالِاحْتِرَامُ ، وَإِنْ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ عُومِلْتُمْ بِمُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْإِسَارِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ فِي أَذَانِهِ : وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إلَى مُدَّتِهِ ؛ فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ الْمَحْدُودَ لِمُدَّةٍ مَوْقُوفٌ عَلَى أَمَدِهِ ، وَأَنَّ الْعَهْدَ الْمُطْلَقَ ، أَوْ الَّذِي لَهُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّ مُدَّتَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، إلَّا مَنْ لَمْ يَنْقُضْ ، فَإِنَّ عَهْدَهُ إلَى مُدَّتِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ بَعْدَ هَذَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الَّتِي قُدِّرَتْ لِلسِّيَاحَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا مِنْ شَوَّالٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ إلَى صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، أَوَّلُهَا يَوْمُ النَّحْرِ إلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
وَذَلِكَ بِمُضِيِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ ، وَقِيلَ : هُوَ الثَّالِثُ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ .
وَقِيلَ فِي الرَّابِعِ مِنْ يَوْمِ يَبْلُغُهُمْ الْعِلْمُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ؛ فَبِذَلِكَ كَانَ الْبَدْءُ وَإِلَيْهِ كَانَ الْمُنْتَهَى .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْأَذَانُ : هُوَ الْإِعْلَامُ لُغَةً مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، الْمَعْنَى بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَسُولِهِ وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، أَيْ هَذِهِ بَرَاءَةٌ ، وَهَذَا إعْلَامٌ وَإِنْذَارٌ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } .
{ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بِمِنًى فَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ .
أَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : شَهْرٌ حَرَامٌ .
قَالَ : أَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : بَلَدٌ حَرَامٌ .
قَالَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ : { بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : ثُمَّ أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيٍّ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِبَرَاءَةَ .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ ، وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ .
} وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْأَحْوَصِ ، حَدَّثَنَا

أَبِي أَنَّهُ { شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَذَكَّرَ ، وَوَعَظَ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ ، أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ ؛ أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ ؟ قَالَ : فَقَالَ النَّاسُ : يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى نَفْسِهِ ، لَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ ، وَلَا وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ ، إنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ ، فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ إلَّا مَا حَلَّ مِنْ نَفْسِهِ ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ، غَيْرَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ ، أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَارٍ عِنْدَكُمْ ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا .
أَلَا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ .
أَلَا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ } .
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ، فَقَالَ : يَوْمُ النَّحْرِ } .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

قَالَ : { بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ ، وَأَتْبَعَهُ عَلِيًّا ، فَبَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ إذْ سَمِعَ رُغَاءَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَصْوَاءِ ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَزِعًا يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ ، فَدَفَعَ إلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يُنَادِيَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ ، فَانْطَلَقَا وَحَجَّا ، فَقَامَ عَلِيٌّ فَنَادَى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ : ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ } .
وَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي فَإِذَا أَعْيَا قَامَ أَبُو بَكْرٍ يُنَادِي بِهَا .
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يَثِيعَ قَالَ : { سَأَلْت عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْت فِي الْحَجَّةِ ؟ قَالَ : بُعِثْت بِأَرْبَعٍ : أَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إلَى مُدَّتِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } .
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَرَاءَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي فَدَعَا عَلِيًّا ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؛ فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : لَا نَشُكُّ

أَنَّ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ يَوْمُ النَّحْرِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تُرْمَى فِيهِ الْجَمْرَةُ ، وَيُنْحَرُ فِيهِ الْهَدْيُ ، وَتُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ ، وَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي يَنْقَضِي فِيهِ الْحَجُّ ؛ مَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْحَجِّ وَهُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ .
وَنَحْوَهُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ عَنْهُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ، فَقَالَ : " هُوَ يَوْمٌ يُحْلَقُ فِيهِ الشَّعْرُ ، وَتُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ ، وَيُحَلُّ فِيهِ الْحَرَامُ ، وَتُوضَعُ فِيهِ النَّوَاصِي " .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : " إنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ " وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : " الْحَجُّ الْأَكْبَرُ الْقِرَانُ ، وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ " .
قَالَ الْقَاضِي : إذَا نَظَرْنَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَالْمُنَقَّحُ مِنْهَا أَنَّ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ الْحَجُّ ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ ؛ لَكِنَّا إذَا بَحَثْنَا عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَلَا شَكَّ أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَرَفَةَ ، مَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِهَا فِي يَوْمِهَا أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِهَا فَلَا حَجَّ لَهُ ؛ بَيْدَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْثِ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَ بِالْأَذَانِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَلِثُبُوتِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ قَالَ يَوْمُ النَّحْرِ : { أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ، أَلَيْسَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؟ } كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّبَيْرِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ : أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } .
وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ .
وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ أَبِي أَوْفَى عَلَى أَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بِانْقِضَاءِ الْحَجِّ فِيهِ مِنْ النُّسُكِ ، وَإِلْقَاءِ التَّفَثِ ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } .
وَغَاصَ مَالِكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَقَالَ : إنَّ يَوْمَ النَّحْرِ فِيهِ الْحَجُّ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ إنَّمَا هُوَ فِي لَيْلَتِهِ ، وَفِي صَبِيحَتِهِ الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالنَّحْرُ وَالطَّوَافُ ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا إشْكَالٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " بَرَاءَةٌ " عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ بَعَثْت بِهِ إلَى أَبِي بَكْرٍ .
فَقَالَ : { إنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنِّي إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي .
ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا ، فَقَالَ لَهُ : اُخْرُجْ بِهَذِهِ الْقُصَّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةَ ، وَأَذِنَّ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَافِرٌ ، وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدَّتِهِ .
فَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ : أَمِيرٌ أَمْ مَأْمُورٌ ؟ قَالَ بَلْ مَأْمُورٌ .
ثُمَّ مَضَيَا ، فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ الْحَجَّ ، وَالْعَرَبُ إذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ الْحَجِّ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِاَلَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ } .
وَقَدْ سَمِعْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : إنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ مَنْ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ ، وَمَنْ كَانَ يَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَكَانَ النِّدَاءُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِ أَوْلَى وَأَبْلَغَ فِي الْمُرَادِ .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَمَّاهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْوُقُوفُ كُلُّهُ بِعَرَفَةَ .
سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ الشَّهِيدَ يَقُولُ : سَمِعْت الْأُسْتَاذَ أَبَا الْمُظَفَّرِ طَاهِرَ بْنَ مُحَمَّدِ شَاهْ بُورٍ يَقُولُ : إنَّمَا أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا بِبَرَاءَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ تَضَمَّنَتْ نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ سِيرَةُ الْعَرَبِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْعَقْدُ إلَّا الَّذِي عَقَدَهُ أَوْ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ بِالْحُجَّةِ ، وَأَنْ يُرْسِلَ ابْنَ عَمِّهِ الْهَاشِمِيِّ مِنْ بَيْتِهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ ، حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ مُتَكَلِّمٌ .
وَهَذَا بَدِيعٌ فِي فَنِّهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ فِي التَّأْذِينِ : هَلْ كَانَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ تِسْعٍ إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } .
أَوْ إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
وَهَذَا إنَّمَا نَشَأَ مِنْ رِوَايَاتٍ وَرَدَتْ ، مِنْهَا قَوْلُهُ : وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ .
وَفِيهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَأْذَيْنَهُ إنَّمَا كَانَ إلَى قَوْلِهِ : { غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ إنَّمَا وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ ، مِنْهَا مَا قَالَهُ فِي تَأْذِينِهِ ، وَمِنْهَا مَا زَادَ عَلَيْهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مَنْ خَاسَ بِعَهْدِهِ ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ ، فَأَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فِي نَقْضِ عَهْدِ مَنْ خَاسَ ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى عَهْدِهِ إلَى مُدَّتِهِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
الْمَعْنَى : كَيْفَ يَبْقَى لَهُمْ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَهُمْ قَدْ نَقَضُوهُ ؛ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ قُرَيْشٌ الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ أَمَرَ أَنْ يُتِمَّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ لَهُمْ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ؛ وَهَذَا وَهْمٌ ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ كَانَ عَهْدُهَا مَنْقُوضًا مِنْهُمْ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ كَانَ الْفَتْحُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ عَاهَدَ مِنْ الْعَرَبِ كَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوَفَّى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمَعْلُومَةُ : رَجَبٌ الْفَرْدُ ، وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا شَوَّالٌ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ إلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا تَمَامُ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ عَهْدِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَاهَدُوا ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَسَاقِطٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ نَشْتَغِلَ بِهِ ، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى فَسَادِهِ ، وَيَأْتِي تَمَامُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ .
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْوَالِ فَمُحْتَمَلَةٌ ، إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْأَذَانُ ، وَبِهِ وَقَعَ الْإِعْلَامُ ، وَعَلَيْهِ تَرَتَّبَ حَلُّ الْعَقْدِ الْمُرْتَبِطِ إلَيْهِ ، وَبِنَاءُ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } : هَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِكُلِّ كَافِرٍ بِاَللَّهِ ، عَابِدٍ لِلْوَثَنِ فِي الْعُرْفِ ، وَلَكِنَّهُ عَامٌّ فِي الْحَقِيقَةِ لِكُلِّ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ ، أَمَّا أَنَّهُ بِحُكْمِ قُوَّةِ اللَّفْظِ يَرْجِعُ تَنَاوُلُهُ إلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَ الْعَهْدُ لَهُمْ وَفِي جِنْسِهِمْ ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِيمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرُهُمْ ، فَيُقْتَلُونَ بِوُجُودِ عِلَّةِ الْقَتْلِ ، وَهِيَ الْإِشْرَاكُ فِيهِمْ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْبَيَانُ بِالنَّصِّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } : عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ لَكِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ ، وَرَاهِبٍ ، وَحُشْوَةٍ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَبَقِيَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَنْ كَانَ مُحَارِبًا أَوْ مُسْتَعِدًّا لِلْحِرَابَةِ وَالْإِذَايَةِ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ : اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَكُمْ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } : هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ؛ وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهُ يَخُصُّ مِنْهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ : { وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
وَقُرِئَ : وَلَا تَقْتُلُوهُمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَقَدْ قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ ابْنُ خَطَلٍ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
قُلْنَا : هَذَا خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا كَافِرٌ أَبَدًا ، لِأَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْكُفَّارِ ، فَأَمَّا كَافِرٌ يَأْوِي إلَيْهَا فَلَا تَعْصِمُهُ وَلَا قُرَّةَ عَيْنٍ ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْحَدِيثِ وَلَا لَفْظِهِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِيهَا .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ } : دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِسَارِ فِيهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اغْتِيَالِهِمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ } الْآيَةَ إلَى : { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } لِمَا تَقَدَّمَ ، ( رَحِيمٌ ) بِخَلْقِهِ فِي إمْهَالِهِمْ ثُمَّ الْمَغْفِرَةُ لَهُمْ .
وَهَذَا مُبَيَّنٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } .
فَانْتَظَمَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَاطَّرَدَا .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ } : دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ فِي قَوْلِهِ : لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْعِصْمَةَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، فَتَعَلَّقَ بِهِمَا .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ : { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } : وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَرْكِ قِتَالِهِمْ وَحَصْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنْ التَّصَرُّفِ ، وَأَلَّا يَرْصُدَ لَهُمْ غِيلَةً ، وَلَا يَقْطَعَ عَلَى أَحَدٍ فَعَلَ ذَلِكَ سَبِيلُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى { وَاحْصُرُوهُمْ } : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : امْنَعُوهُمْ عَنْ التَّصَرُّفِ إلَى بِلَادِكُمْ وَالدُّخُولِ إلَّا لِلْقَلِيلِ إلَيْكُمْ ، إلَّا أَنْ تَأْذَنُوا لَهُمْ فِي ذَلِكَ ، فَيَدْخُلُوا إلَيْكُمْ بِأَمَانٍ مِنْكُمْ ؛ فَإِنَّ الْمَحْبُوسَ تَحْتَ سُلْطَانِ الْإِذْنِ ، مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَبْسٌ وَلَا حَصْرٌ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُهُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك } : مَعْنَاهُ سَأَلَ جِوَارَك ، أَيْ أَمَانَك وَذِمَامَك فَأَعْطِهِ إيَّاهُ لِيَسْمَعَ الْقُرْآنَ ؛ فَإِنْ قَبِلَ أَمْرًا فَحَسَنٌ ، وَإِنْ أَبَى فَرُدَّهُ إلَى مَأْمَنِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ : إذَا وُجِدَ الْحَرْبِيُّ فِي طَرِيقِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : جِئْت أَطْلُبُ الْأَمَانَ ، فَقَالَ مَالِكٌ : هَذِهِ أُمُورٌ مُشْكِلَةٌ ، وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ ، وَالْآيَةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَنْ يُرِيدُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالنَّظَرَ فِي الْإِسْلَامِ ؛ فَأَمَّا الْإِجَارَةُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالنَّظَرُ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِهِ مَنْفَعَةٌ ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ مَأْمُورٍ ؛ فَأَمَّا الْأَمِيرُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ إجَارَتَهُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ لِلنَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ ، نَائِبٌ عَنْ الْجَمِيعِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ رَعِيَّةً رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ } .
وَاَلَّذِي مِنْهُمْ غَيْرُ الْأَمِيرِ ، وَهُوَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ ، فَأَمَّا الْحُرُّ فَيَمْضِي أَمَانُهُ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ ، إلَّا أَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ : يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِيهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ جِوَارَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ أَمْضَاهُ عُمَرُ عَلَى النَّاسِ ، وَتَوَعَّدَ بِالْقَتْلِ مَنْ رَدَّهُ ، فَقَالَ : " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِلْجِ إذَا اشْتَدَّ فِي الْحَبْلِ مُطَرَّسٌ فَإِذَا سَكَنَ إلَى قَوْلِهِ قَتَلَهُ ؛ فَإِنِّي لَا أُوتَى بِأَحَدٍ فَعَلَ

ذَلِكَ إلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ " .
وَأَمَّا الْعَبْدُ : فَلَهُ الْأَمَانُ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَمَانَ لَهُ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِعُلَمَائِنَا ، وَكَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَأَى أَنَّ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ ، لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ .
وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ عُمُومَ الْحَدِيثِ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ ، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ نَاقَضَ فَقَالَ : إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْقِتَالِ جَازَ أَمَانُهُ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسْلَبَ جَوَازَ الْأَمْنِ مِنْ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهُ صَدَّهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَهُ بِالْإِسْلَامِ وَالْآدَمِيَّةِ .
وَأَمَّا الصَّبِيُّ : فَعَدَمُ تَكْلِيفِهِ يُسْقِطُ قَوْلَهُ بِلَا كَلَامٍ ، إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالَتْ : إذَا أَطَاقَ الْقِتَالَ صَارَ فِي جُمْلَةِ الْجَيْشِ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُ ذَلِكَ ؛ وَجَازَ أَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ ، وَدَخَلَ فِي الْفِئَةِ الْحَامِيَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } : مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ إلَّا وَهُوَ سَامِعٌ لِكَلَامِ اللَّهِ ، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ اللُّغَاتِ وَبِدَلَالَةِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ ، وَكَذَلِكَ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كُلُّ غَائِبٍ ، لَكِنَّ الْقُدُّوسَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا لِكَلَامِهِ .
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكَرِّمَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ ، كَمَا فَعَلَ بِمُوسَى وَمُحَمَّدٍ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَيْسَ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ : { حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } مُجَرَّدَ الْإِصْغَاءِ ، فَيَحْصُلَ الْعِلْمُ لَهُ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فَهْمَ الْمَقْصُودِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ ، وَفَهْمِ الْمَقْصُودِ بِهِ مِنْ التَّكْلِيفِ ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَى الْعَرَبِ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِيهِ ، وَطَرِيقُ الدَّلَالَةُ عَلَى النُّبُوَّةِ ، لِكَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ أَسَالِيبِ فَصَاحَةِ الْعَرَبِ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، وَالْخُطَبِ وَالْأَرَاجِيزِ ، وَالسَّجْعِ وَالْأَمْثَالِ ، وَأَنْوَاعِ فَصْلِ الْخِطَابِ ؛ فَإِنْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ ، وَالْقَبُولَ لَهُ صَارَ مِنْ جُمْلَة الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ صُدَّ بِالطَّبْعِ ، وَمُنِعَ بِالْخَتْمِ ، وَحَقَّ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ الْقَوْلُ رُدَّ إلَى مَأْمَنِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } : نَفَى اللَّهُ عَنْهُمْ الْعِلْمَ ؛ لِنَفْيِ فَائِدَتِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ ، وَقَدْ يَنْتَفِي الشَّيْءُ بِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ ؛ إذْ الشَّيْءُ إنَّمَا يُرَادُ لِمَقْصُودِهِ ، فَإِذَا عَدِمَ الْمَقْصُودَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ بِالرِّفْقِ بِهِمْ ، وَالْإِمْهَالِ لَهُمْ ، حَتَّى يَقَعَ الِاعْتِبَارُ أَنْ مَنَّ اللَّهُ بِالْهُدَى وَالِاسْتِبْصَارِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ } : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّاعِنَ فِي الدِّينِ كَافِرٌ ، وَهُوَ الَّذِي يَنْسِبُ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ ، أَوْ يَعْتَرِضُ بِالِاسْتِخْفَافِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ الدِّينِ ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى صِحَّةِ أُصُولِهِ وَاسْتِقَامَةِ فُرُوعِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي الدِّينِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ لِقَوْلِهِ : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } إلَى : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ إذَا طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَكْثُهُمْ لِلْعَهْدِ .
وَالثَّانِي : طَعْنُهُمْ فِي الدِّينِ .
قُلْنَا : الطَّعْنُ فِي الدِّينِ نَكْثٌ لِلْعَهْدِ ، بَلْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنْ عَمِلُوا مَا يُخَالِفُ الْعَهْدَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ ذِمِّيًّا نَخَسَ دَابَّةً عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ ، فَرَمَحَتْ ، فَأَسْقَطَتْهَا ، فَانْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهَا ، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِعِ وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا حَارَبَ الذِّمِّيُّ نُقِضَ عَهْدُهُ ، وَكَانَ [ مَالُهُ وَوَلَدُهُ ] فَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ : وَلَا يُؤْخَذُ وَلَدُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ وَحْدَهُ .
وَقَالَ : أَمَّا مَالُهُ فَيُؤْخَذُ .
وَهَذَا تَعَارُضٌ لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ عَهْدَهُ هُوَ الَّذِي حَمَى وَلَده وَمَالَهُ ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ ذَهَبَ عَنْ وَلَدِهِ وَمَالِهِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : إذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ عَلَى عَهْدِهِ ، وَلَا يَعُودُ الْحُرُّ فِي الرِّقِّ أَبَدًا .
وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ ، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْعَهْدَ مَعْنًى مَحْسُوسًا ، وَإِنَّمَا الْعَهْدُ حُكْمٌ اقْتَضَاهُ النَّظَرُ ، وَالْتَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ ، فَإِذَا نَقَضَهُ انْتَقَضَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ مِنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ ، فَإِنَّهَا تُعْقَدُ ؛ فَتُرَتَّبُ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ ؛ فَإِذَا نُقِضَتْ وَنُسِخَتْ ذَهَبَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَعُمَّار الْمَسَاجِدِ بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ رَبَطَهَا بِهَا ، وَأَخْبَرَ عَنْهَا بِمُلَازَمَتِهَا ، وَالنَّفْسُ تُطَمْئِنُ بِهَا وَتَسْكُنُ إلَيْهَا ، وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الصَّلَاحِ لَيْسَ فِي مَقَاطِعِ الشَّهَادَاتِ ، فَلَهَا وُجُوهٌ ، وَلِلْعَارِفِينَ بِهَا أَحْوَالٌ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ كُلُّ أَحَدٍ بِمِقْدَارِ حَالِهِ وَعَلَى مُقْتَضَى صِفَتِهِ ؛ فَمِنْهُمْ الذَّكِيُّ الْفَطِنُ الْمُحَصِّلُ لِمَا يَعْلَمُ اعْتِقَادًا وَإِخْبَارًا ، وَمِنْهُمْ الْمُغَفَّلُ ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ يَنْزِلُ عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَيَقْدِرُ عَلَى صِفَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا قُصِدَ بِهَا قُرَيْشٌ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْخَرُونَ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ سُكَّانُ مَكَّةَ وَعُمَّارُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَيَرَوْنَ بِذَلِكَ فَضْلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ شَرْعًا وَفَضِيلَةً ، لَا حِسًّا وَوُجُودًا ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِمَارَةَ لِبَيْتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ بِالْكُفْرِ بِهِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِالْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ وَأَدَاءِ الطَّاعَةِ ؛ سَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ يَقُولُ : كَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ يُسَمِّي الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ إمَامَ الشَّافِعِيَّةِ وَشَيْخَ الصُّوفِيَّةِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ حَمَامَةَ الْمَسْجِدِ ؛ لِمُلَازِمَتِهِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ بَيْتًا سِوَاهُ يُلَازِمُ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ ، وَيُوَاظِبُ الْقِرَاءَةَ وَالتَّدْرِيسَ حَتَّى صَارَ إمَامَ الطَّرِيقَتَيْنِ : الْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَفَى اللَّهُ الْمُوَالَاةَ بِالْكُفْرِ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ خَاصَّةً ، وَلَا قُرْبَى أَقْرَبُ مِنْهَا ، كَمَا نَفَاهَا بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ، بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } ؛ لَيُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْبَ قُرْبُ الْأَدْيَانِ لَا قُرْبُ الدِّيَارِ وَالْأَبَدَانِ ، وَمِثْلُهُ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ : يَقُولُونَ لِي دَارُ الْأَحِبَّةِ قَدْ دَنَتْ وَأَنْتَ كَئِيبٌ إنَّ ذَا لَعَجِيبُ فَقُلْت وَمَا تُغْنِي دِيَارٌ قَرِيبَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقُلُوبِ قَرِيبُ

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْإِحْسَانُ بِالْهِبَةِ وَالصِّلَةِ مُسْتَثْنَى مِنْ الْوِلَايَةِ : لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ ؛ قَالَتْ { : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً ، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : صِلِي أُمَّكِ } .
وَتَمَامُهُ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ : { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } : تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إمَّا بِالْمَآلِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ ، وَإِمَّا بِالْأَحْكَامِ فِي الْعَاجِلَةِ ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ أَيْ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ الْمَوْضُوعِ فِيهِ كُفْرًا وَإِيمَانًا .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا } : هَذَا بَيَانُ فَضْلِ الْجِهَادِ ، وَإِشَارَةٌ إلَى رَاحَةِ النَّفْسِ وَعَلَاقَتِهَا بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ حَالِ مَنْ تَرَكَ الْهِجْرَةَ ، وَآثَرَ الْبَقَاءَ مَعَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةَ مَقَاعِدَ : قَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ : أَتَذَرُ دِينَك وَدِينَ آبَائِك وَتُسْلِمَ .
فَخَالَفَهُ وَأَسْلَمَ .
وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ ، فَقَالَ لَهُ : أَتَذَرُ أَهْلَك وَمَالَك فَتُهَاجِرَ ، فَخَالَفَهُ ثُمَّ هَاجَرَ .
وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ ، فَقَالَ لَهُ : تُجَاهِدُ فَتُقْتَلُ ، وَتُنْكَحُ أَهْلُك ، وَيُقْسَمُ مَالُك ، فَخَالَفَهُ فَجَاهَدَ فَقَتَلَ .
فَحَقَّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْعَشِيرَةُ : الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَبْلُغُ عِقْدَ الْعَشَرَةِ ، فَمَا زَادَ .
وَمِنْهُ الْمُعَاشَرَةُ ، وَهِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعَزْمِ الْكَثِيرِ .
وَقَوْلُهُ : { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أَيْ اقْتَطَعْتُمُوهَا مِنْ غَيْرِهَا وَالْكَسَادُ : نُقْصَانُ الْقِيمَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ : لَا

يَتْبَعُنِي رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا ، أَوْ بَنَى دَارًا وَلَمْ يَسْكُنْهَا .
} الْحَدِيثَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } : قَوْلُهُ : فَتَرَبَّصُوا صِيغَتُهُ الْأَمْرُ ، وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ ، وَأَمْرُ اللَّهِ الَّذِي يَأْتِي فَتْحُ مَكَّةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَعْنَى الْآيَةِ الْهِجْرَةُ ، وَيَكُونُ أَمْرُ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ الَّتِي تُنْزِلُ بِهِمْ الذُّلَّ وَالْخِزْيَ ، حَتَّى يَغْزُوَهُمْ الْعَدُوُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ ، وَيَسْلُبَهُمْ أَمْوَالَهُمْ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى { لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ { : لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبَضَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ عَلَى عِنَانِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ مُرْ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ انْهَزَمُوا فَنَضْرِبَ رِقَابَهُمْ .
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَخَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ؟ فَقِيلَ لَهُ : أَوَقَسَمَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ خَرَجَ يُدَاوِي الْجَرْحَى ؟ فَقَالَ : مَا عَلِمْت أَنَّهُ أَسْهَمَ لِامْرَأَةٍ فِي مَغَازِيهِ } .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : وَكَانَتْ حُنَيْنٌ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ لَنَا مَالِكٌ : حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِصَفْوَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ : وَاَللَّهِ لَا نَرْتَدُّ أَبَدًا .
فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ : وَاَللَّهِ لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنْ رَبٍّ مِنْ هَوَازِنَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْطَى صَفْوَانَ مَثْنَى مِئِينَ أَوْ ثَلَاثَ .
وَقَالَ صَفْوَانُ : لَقَدْ حَضَرْت حُنَيْنًا وَمَا أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ أَبْغَضُ إلَيَّ مِنْهُ ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ الْخَلْقِ مِنْهُ .
وَكَانَ صَفْوَانُ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ وَهْبٍ : سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ حِينَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَاهُ أَكَانَ مُسْلِمًا أَوْ مُشْرِكًا ؟ قَالَ : مَا سَمِعْت شَيْئًا ، وَمَا أَرَاهُ كَانَ إلَّا مُشْرِكًا .
وَلَقَدْ قَالَ : رَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنْ رَبٍّ مِنْ

هَوَازِنَ وَمَا هَذَا بِكَلَامِ مُسْلِمٍ .
وَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ قَوْلًا حِينَ قَالَ صَفْوَانُ : لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أُمَيَّةَ إذْ لَمْ يَرَ هَذَا الْأَسْوَدَ فَوْقَ الْكَعْبَةِ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : كَانَ شِعَارُهُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
قَالَ مَالِكٌ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ وَجْهَهُ ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ بِالسُّقْيَا جَاءَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَكَانَ شَاعِرًا ، فَأَنْشُدهُ شِعْرَهُ لِيَعْلَم مَا عِنْدَهُ وَيَنْظُرَ مَا فِي نَفْسِهِ ، فَأَنْشَدَهُ : قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ إرْبٍ وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجَمَمْنَا السُّيُوفَا نُسَائِلُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ قَوَاطِعُهُنَّ دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالْقَصِيدَةُ مَشْهُورَةٌ ، وَتَمَامُهَا : فَلَسْت لِحَاضِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْهَا بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنَّا أَلُوفَا وَتُنْتَزَعُ الْعُرُوشُ بِبَطْنِ وَجٍّ وَتُصْبِحُ دَارُكُمْ مِنَّا خُلُوفَا وَتَأْتِيكُمْ لَنَا سَرْعَانُ خَيْلٍ يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا إذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ لَهَا مِمَّا أَنَاخَ بِهَا رَجِيفَا بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَاتٌ يَزُرْنَ الْمُصْطَلَيْنَ بِهَا الْحُتُوفَا كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا تَخَالُ جَدِيَّةُ الْأَبْطَالِ فِيهَا غَدَاةَ الزَّحْفِ جَادِيًا مَدُوفَا أَجَدُّهُمْ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ مِنْ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا فَخَبِّرْهُمْ بِأَنَّا قَدْ جَمَعْنَا عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنُّجْبَ الطُّرُوفَا وَأَنَّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمْ صُفُوفَا رَئِيسُهُمْ النَّبِيُّ وَكَانَ صَلْبًا نَقِيَّ الثَّوْبِ مُصْطَبِرًا عَزُوفَا رَشِيدَ الْأَمْرِ ذَا حُكْمٍ وَعِلْمٍ وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا نُطِيعُ نَبِيَّنَا وَنُطِيعُ رَبًّا هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا لَطِيفَا فَإِنْ يُلْقُوا إلَيْنَا السَّلْمَ نَقْبَلْ وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا وَإِنْ تَأْبَوْا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعْشًا ضَعِيفَا نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا إلَى الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مَضِيفَا

نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَا لَقِينَا أَأَهْلَكْنَا التِّلَادَ أَمْ الطَّرِيفَا وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً فَجَدَّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأُنُوفَا بِكُلِّ مُهَنَّدٍ لَيِّنٍ صَقِيلٍ نَسُوقُهُمْ بِهِ سَوْقًا عَنِيفَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى يَقُومَ الدِّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا وَنُنْسِي اللَّاتِي وَالْعُزَّى وَوُدَّ وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشُّنُوفَا فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرُّوا وَاطْمَأَنُّوا وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يُقْتَلْ خُسُوفَا فَأَجَابَهُ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا فَإِنَّا بِدَارِ مَعْلَمٍ لَا نَرِيمُهَا وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا نَرَى وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا وَقَدْ جَرَّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا وَقَدْ عَلِمَتْ أَنْ قَالَتْ الْحَقَّ أَنَّنَا إذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا نُقَوِّمُهَا حَتَّى يَلِينَ شَرِيسُهَا وَيُعْرَفَ لِلْحَقِّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثٍ مُحَرَّقٍ كَلَوْنِ السَّمَاءِ زِينَتُهَا نُجُومُهَا نُرَفِّعُهَا عَنَّا بِبِيضٍ صَوَارِمَ إذَا جُرِّرَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشِيمُهَا قَالُوا : فَلَمَّا سَمِعَتْ دَوْسٌ بِأَبْيَاتِ كَعْبٍ هَذِهِ بَادَرَتْ بِإِسْلَامِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ : قَالَ مَالِكٌ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلْبُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْإِمَامِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ فِي مَغَازِيهِ كُلِّهَا .
وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ نَفَلَ فِي بَعْضِهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلْبُهُ ، إلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ نَفْلَ الْأَسْلَابِ وَغَيْرَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْخُمُسِ ، لَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخُمُسَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بِرَأْيِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقْدَمُونَ لِلتِّجَارَةِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } الْآيَةَ .
رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَرَوَى غَيْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَكَّةَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ ، فَقَالُوا : كَيْفَ بِمَا نُصِيبُ مِنْهُمْ فِي التِّجَارَةِ فِي الْمِيرَةِ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } .
فَأَغْنَاهُمْ اللَّهُ بِالْجِزْيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : نَادِ فِي أَذَانِك أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ } .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التِّلَاوَةُ بَعْدَ الْأَذَانِ ؛ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فِي الْعَامِ الثَّانِي كَرَّمَهُ اللَّهُ وَكَرَّمَ دِينَهُ عَنْ أَنْ يُخَالِطَهُمْ مُشْرِكٌ .
وَقِيلَ : إذَا امْتَنَعَ دُخُولُ الْمُشْرِكِينَ مَكَّةَ لِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ ، فَلِمَ يَبْقَى النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ حِسِّيَّةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، أَمَرَ اللَّهَ بِإِبْعَادِهَا ، كَمَا أَمَرَ بِإِبْعَادِ الْبَدَنِ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَدَثِ ، وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَيْسَ بِعَيْنٍ حِسِّيَّةٍ .
وَقَدْ ذَهِلَتْ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ ؛ فَظَنُّوا أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ ، تَعُمُّ زَوَالَ الْعَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، وَهُوَ إذَا

ظَهَرَتْ ، حِسِّيٌّ .
وَكَوْنُهَا بِعَيْنِهَا نَجِسَةً حُكْمِيٌّ ، وَبَقَاءُ الْمَحِلِّ نَجَسًا بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِهَا حُكْمِيٌّ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَ مَسْجِدًا سِوَاهُ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ النَّجَاسَةُ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ ، وَالْحُرْمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْجِدِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا كَثِيرًا ؛ فَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ .
وَهَذَا جُمُودٌ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يُسْقِطُ هَذَا الظَّاهِرَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ : لَا يَقْرَبُ هَؤُلَاءِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ وَلَوْ قَالَ : لَا يَقْرَبْ الْمُشْرِكُونَ وَالْأَنْجَاسُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَى التَّعْلِيلِ بِالشِّرْكِ أَوْ النَّجَاسَةِ ، أَوْ الْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا ، بَلْ أَكَّدَ الْحَالُ بَيَانَ الْعِلَّةِ وَكَشَفَهَا ، فَقَالَ : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } : يُرِيدُ وَلَا بُدَّ لِنَجَاسَتِهِمْ ، فَتَعَدَّتْ الْعِلَّةُ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مُحْتَرَمٍ بِالْمَسْجِدِيَّةِ .
وَمِمَّا قَالَهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْكَافِرَ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُشْرِكٌ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ ، لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ عَلِمَ إسْلَامَهُ ، وَهَذَا وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَلَا يَضُرُّنَا ؛ لِأَنَّ عِلْمَ النَّبِيِّ بِإِسْلَامِهِ فِي الْمَآلِ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِهِ فِي الْحَالِ .
، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : الْعُمُومُ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَخْصُوصٌ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ .
وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ ، وَسَنَدٌ ضَعِيفٌ لَا يُخَصُّ بِمِثْلِهِ الْعُمُومَاتُ الْمُطْلَقَةُ ، فَكَيْفَ الْمُعَلَّلَةُ بِالْعِلَّةِ الْعَامَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِجَمِيعِهَا ، وَهِيَ الشِّرْكُ ؟ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ

: هَذَا الْقَوْلُ وَالْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
فَأَمَّا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فَلَا يَزِيدُ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهِ ؛ إذْ قَدْ دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْرِكٌ عِنْدَ إقْبَالِهِ لِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ حِينَ خَشِيَ نَقْضَ الصُّلْحِ بِمَا أَحْدَثَهُ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا ضَعِيفٌ ، وَلَوْ صَحَّ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ ظَاهِرٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَ ثُمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَدُخُولَ أَبِي سُفْيَانَ فِيهِ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } ؛ فَمَنَعَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَصًّا ، وَمَنَعَ مِنْ دُخُولِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ تَعْلِيلًا بِالنَّجَاسَةِ ، وَلِوُجُوبِ صِيَانَةِ الْمَسْجِدِ عَنْ كُلِّ نَجَسٍ .
وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَدْخُلُ الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِحَالٍ ، وَيَدْخُلُ غَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ لِلْحَاجَةِ ، كَمَا دَخَلَ ثُمَامَةُ وَأَبُو سُفْيَانَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ خَطَأٌ ، أَمَّا دُخُولُهُ لِلْحَاجَةِ فَقَدْ أَفْسَدْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا دُخُولُهُمْ كَذَلِكَ مُطْلَقًا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ تَعْلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَدْقِيقِهِ .
وَلَقَدْ كُنْت أَرَى بِدِمَشْقَ عَجَبًا ، كَانَ لِجَامِعِهَا بَابَانِ : بَابٌ شَرْقِيٌّ وَهُوَ بَابُ جَيْرُونَ ، وَبَابٌ غَرْبِيٌّ ، وَكَانَ النَّاسُ يَجْعَلُونَهُ طَرِيقًا يَمْشُونَ عَلَيْهَا نَهَارَهُمْ كُلَّهُ فِي حَوَائِجِهِمْ ، وَكَانَ الذِّمِّيُّ إذَا أَرَادَ الْمُرُورَ وَقَفَ عَلَى الْبَابِ حَتَّى يَمُرَّ بِهِ مُسْلِمٌ ، مُجْتَازٌ ، فَيَقُولَ لَهُ الذِّمِّيُّ : يَا مُسْلِمُ ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَمُرَّ مَعَكَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيَدْخُلُ مَعَهُ ، وَعَلَيْهِ

الْغِيَارُ عَلَامَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَإِذَا رَآهُ الْقَيِّمُ صَاحَ بِهِ : ارْجِعْ ، ارْجِعْ ، فَيَقُولُ لَهُ الْمُسْلِمُ : أَنَا أَذِنْت لَهُ فَيَتْرُكُهُ الْقَيِّمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَنَةُ تِسْعٍ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ سَنَةُ عَشْرٍ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ .
وَإِنَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ [ إنَّهُ ] سَنَةُ تِسْعٍ ، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَذَانُ وَلَوْ دَخَلَ غُلَامُ رَجُلٍ دَارِهِ يَوْمًا ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ : لَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ بَعْدَ يَوْمِك هَذَا لَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْيَوْمَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ .
فَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّهْيَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ، وَأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّدَاءُ ، وَلَوْ تَنَاصَفَ النَّاسُ فِي الْحَقِّ ، وَأَمْسَكَ كُلُّ أَحَدٍ عَمَّا لَا يَعْلَمُ مَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا النِّزَاعُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } : الْمَعْنَى : إنْ خِفْتُمْ الْفَقْرَ بِانْقِطَاعِ مَادَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي كَانُوا يَجْلِبُونَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُ عَنْهَا ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْدُورًا ، وَأَمْرُ اللَّهِ وَقَسْمُهُ لَهُ مَفْعُولًا ، وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً ؛ لِتَعْلَمَ الْقُلُوبُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ مِنْ الْقُلُوبِ الَّتِي تَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ ، وَلَيْسَ يُنَافِي النَّظَرَ إلَى السَّبَبِ التَّوَكُّلُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُسَخَّرٌ مَقْدُورٌ ؛ وَإِنَّمَا يُضَادُّ التَّوَكُّلَ النَّظَرُ إلَيْهِ بِذَاتِهِ ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الَّذِي سَخَّرَهُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا } .
فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَادُّهُ الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ ، لَكِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ قَالُوا : إنَّمَا تَغْدُو وَتَرُوحُ فِي الطَّاعَةِ ، فَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : قَوْلُهُ : { وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ } .
وَالثَّانِي قَوْلُهُ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } فَلَيْسَ يَنْزِلُ الرِّزْقُ مِنْ مَحِلِّهِ وَهُوَ السَّمَاءُ إلَّا مَا يَصْعَدُ إلَيْهَا وَهُوَ الذِّكْرُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ، وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي جِهَاتِ الْأَرْضِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْقٌ .
وَالصَّحِيحُ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ الْحَرْثِ وَالتِّجَارَةِ وَالْغِرَاسَةِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَعْمَلُهُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَالْعِمَارَةِ لِلْأَمْوَالِ ، وَغَرْسِ

الثِّمَارِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَضْرِبُ عَلَى الْكُفَّارِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَيَسْتَرْزِقُ مِنْ أَفْضَلِ وُجُوهِ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ الْأَغْنَامُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رَاضٍ عَنْهُمْ ، وَهَذِهِ كَانَتْ صِفَةَ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُمْ ؛ يَسْلُكُونَ هَذِهِ السَّبِيلَ فِي الِاكْتِسَابِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ .
أَمَا إنَّهُ لَقَدْ كَانَ قَوْمٌ يَقْعُدُونَ بِصُفَّةِ الْمَسْجِدِ مَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ ، لَيْسَ لَهُمْ كَسْبٌ وَلَا مَالٌ ، إنَّمَا هُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ إذَا جَاءَتْ هَدِيَّةٌ أَكَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً خَصَّهُمْ بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُعَابٍ عَلَيْهِمْ ، لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْعِبَادَةِ ، وَمُلَازَمَتِهِمْ لِلذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ ، فَصَارَتْ جَادَّتَيْنِ فِي الدَّيْن وَمَسْلَكَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَمَنْ آثَرَ مِنْهُمَا وَاحِدًا لَمْ يَخْرُج عَنْ سُنَنِهِ ، وَلَا اقْتَحَمَ مَكْرُوهًا .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { مِنْ فَضْلِهِ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مِنْ حَيْثُ شَاءَ ، وَعَلِمَ ؛ لِعُمُومِ فَضْلِهِ ، وَسَعَةِ رِزْقِهِ وَرَحْمَتِهِ .
الثَّانِي : بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَخِصْبِ الْأَرْضِ ، فَأَخْصَبَ تَبَالَةُ وَجُرَشُ ، فَحَمَلُوا إلَى مَكَّةَ الطَّعَامَ وَالْوَدَكَ ، وَأَسْلَمَ أَهْلُ نَجْدٍ وَصَنْعَاءَ .
الثَّالِثُ : بِالْجِزْيَةِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ وَيُرَادُ بِهِ جَمِيعُهَا ، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ بِهِ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِيمَا يَجْلِبُونَ مِنْ التِّجَارَةِ وَالرِّزْقِ إلَيْكُمْ بِجَلْبِكُمْ أَنْتُمْ لَهَا وَاسْتِغْنَائِكُمْ عَنْهَا بِأَنْفُسِكُمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ : { إنْ شَاءَ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِيَعْلَمَ الْخَلْقُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِالِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَوَلَّى قِسْمَتَهُ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ } .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } : أَمْرٌ بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ ؛ فَإِنَّ كُلَّهُمْ قَدْ أَطْبَقَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ ، مِنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ .
وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ } .
وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا مُتَعَدِّدَةً مَذْكُورَةً فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، فَإِنَّ اسْمَ الْكُفْرِ يَجْمَعُهَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا } .
وَخَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ فَقَالَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ وَالْغَايَةُ الْقُصْوَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } الْآيَةَ : نَصٌّ فِي تَحْقِيقِ الْكُفْرِ ، وَذَلِكَ أَنْ نَقُولَ : الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ أَصْلَانِ فِي تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمَا فِي الدِّينِ ، وَهُمَا فِي وَضْعِ اللُّغَةِ مَعْلُومَانِ .
وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ لُغَةً أَوْ التَّأْمِينُ .
وَالْكُفْرُ هُوَ السِّتْرُ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ حِسًّا ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِنْكَارِ وَالْجَحْدِ مَعْنًى ، وَكِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ ، أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى " وَغَيْرِهِ .
وَقَدْ قَالَ شَيْخُ السُّنَّةِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لُغَةً ، وَقَدْ أَفَدْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُفْرَ الْمَعَانِي جُحُودُهَا وَإِنْكَارُهَا فَالشَّرْعُ لَمْ يُعَلِّقْ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى كُلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ كُفْرٍ ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ عَلَى بَعْضِهَا ، وَهِيَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْآيَةَ .
فَقَوْلُهُ : { لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } نَصٌّ فِي الْكُفْرِ بِذَاتِهِ يَقِينًا ، وَفِي الْكُفْرِ بِالصِّفَاتِ ظَاهِرًا : لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَهُ الصِّفَاتُ الْعُلَا وَالْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ؛ فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَقَوْلُهُ : { وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } نَصٌّ فِي صِفَاتِهِ ، فَإِنَّ الْيَوْمَ الْآخِرَ عَرَفْنَاهُ بِقُدْرَتِهِ وَبِكَلَامِهِ ؛ فَأَمَّا عِلْمُنَا لَهُ بِقُدْرَتِهِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ .
وَأَمَّا عِلْمُنَا لَهُ بِالْكَلَامِ فَبِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ فَاعِلُهُ ، فَإِذَا أَنْكَرَ أَحَدٌ الْبَعْثَ فَقَدْ أَنْكَرَ الْقُدْرَةَ وَالْكَلَامَ ، وَكَفَرَ قَطْعًا بِغَيْرِ كَلَامٍ ، وَقَوْلُهُ : { وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } نَصٌّ فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي مِنْ أُمَّهَاتِهَا

إرْسَالُ الرُّسُلِ ، وَتَأْيِيدُهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ : صَدَقْتُمْ أَيُّهَا الرُّسُلُ ، فَإِذَا أَنْكَرَ أَحَدٌ الرُّسُلَ أَوْ كَذَّبَهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَالْأَوَامِرِ وَالنَّدْبِ ، فَهُوَ كَافِرٌ ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَهُ تَفْصِيلٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي أَشَرْنَا ، بِهَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ التَّفْصِيلِ ، وَالتَّفْسِيقِ وَالتَّخْطِئَةِ وَالتَّصْوِيبِ ؛ وَذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَالْجِهَةِ ، أَوْ الْخَوْضِ فِي إنْكَارِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ، وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَيَاةِ ، فَهَذِهِ الْأُصُولُ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا بِلَا إشْكَالٍ .
وَكَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ : إنَّ الْعِبَادَ يَخْلُقُونَ أَفْعَالَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ ، وَإِنَّ نُفُوذَ الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ عَلَى الْخَلْقِ بِالنَّارِ جَوْرٌ .
وَكَقَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ : إنَّ الْبَارِيَ جِسْمٌ ، وَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِجِهَةٍ ، وَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمُحَالِ ، وَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ .
وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ صُرَاحٌ ، وَبَعْدَ هَذَا تَفَاصِيلُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا وَيُجَرُّ إلَيْهَا ، وَفِي التَّكْفِيرِ بِهَا تَدْقِيقٌ .
وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ : وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِخْبَارُ عَنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ النَّارِ مَعَانٍ ؛ كَالسُّرُورِ وَالْهَمِّ ، وَلَيْسَتْ صُوَرًا ، وَلَا فِيهَا أَكْلٌ وَلَا شُرْبٌ ، وَلَا وَطْءٌ وَلَا حَيَاةٌ ، وَلَا مُهْلٌ يُشْرَبُ ، وَلَا نَارٌ تَلَظَّى .
وَقَوْلُهُ : { وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ التَّحْرِيمِ بِعُقُولِهَا فِي السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ ، وَمَا يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِهِ الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الزُّورِ ، وَعَمَّا كَانَتْ الرُّهْبَانُ تَفْعَلُهُ ، وَالْأَحْبَارُ مِنْ الْيَهُودِ تَبْتَدِعُهُ مِنْ تَحْرِيمِ

مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ ، أَوْ تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ : { وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } إشَارَةً إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ الِاعْتِقَادِ لِلْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } : وَفِي ذِكْرِهِمْ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ كَانُوا أُمِرُوا بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ، فَأُمِرُوا أَيْضًا بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ مِنْ ذِكْرِ الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ ، وَكَانَ تَخْصِيصًا لِمَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ ؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ مُقَدَّمَةٌ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ، فَجَاءَهُمْ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَجْأَةً عَلَى جَهَالَةٍ .
فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ ، وَخُصُوصًا ذِكْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِلَّتِهِ وَأُمَّتِهِ ؛ فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ ، وَعَظُمَتْ مِنْهُمْ الْجَرِيمَةُ ، فَنَبَّهَ عَلَى مَحِلِّهِمْ بِذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ تَخْصِيصَهُمْ بِالذِّكْرِ إنَّمَا كَانَ لِأَجَلٍ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
وَاَلَّذِينَ يُخْتَصُّونَ بِفَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ صِنْفِ الْكُفَّارِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؟ قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلَا دَانُوا بِدِينِ الْحَقِّ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا عَطِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا جَزَاءٌ عَلَى الْكُفْرِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ اشْتِقَاقَهَا مِنْ الْإِجْزَاءِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ ، كَمَا تَقُولُ : جَزَى كَذَا عَنِّي يَجْزِي إذَا قَضَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي تَقْدِيرِهَا : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ ، وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى الْوَرِقِ ، وَإِنْ كَانُوا مَجُوسًا .
وَكَذَلِكَ رَوَى مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، مَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
وَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ وَيَجْتَهِدُ فِيهِ ؛ مِنْ الْغِنَى وَالْفَقْرِ ، وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَالِاقْتِدَاءُ بِعُمَرَ أُسْوَةٌ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي لُجَيْمٍ قُلْت لِمُجَاهِدٍ : مَا بَالُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ ، وَعَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ دِينَارٌ ؟ قَالَ : إنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْيَسَارِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ : { خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرِيَّ } ، ثُمَّ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عُمَرُ فِي زَمَانِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ الثَّرْوَةُ وَالْقِلَّةُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي مَحِلِّ الْجِزْيَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا رَضِيَتْ الْأُمَمُ كُلُّهَا بِالْجِزْيَةِ قُبِلَتْ مِنْهُمْ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : لَا تُقْبَلُ .
الرَّابِعُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : لَا تُقْبَلُ مِنْ مَجُوسِ الْعَرَبِ ، وَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَجْهُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ تَخْصِيصُ اللَّهِ بِالذِّكْرِ أَهْلَ الْكِتَابِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ الْأُمَمِ كُلِّهَا فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا .
ثُمَّ قَالَ : اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ ، اُغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا ، وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا .
وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِلَالٍ ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ : اُدْعُهُمْ إلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ عَنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ ، وَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ ؛ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ ، إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ ، وَإِنْ هُمْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ

بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ } .
وَذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحِيحِ { أَنَّ عُمَرَ تَوَقَّفَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ ، حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ } .
وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ مَجُوسٌ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ أَسْلَمَ ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ ؛ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ إنْ لَمْ يُسْلِمْ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ .
وَالصَّحِيحُ قَبُولُهَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ، وَفِي كُلِّ حَالٍ عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْإِجَابَةِ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : [ مَحِلُّ الْجِزْيَةِ ] : وَمَحِلُّهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْرَارُ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ دُونَ الْمَجَانِينِ ، وَهُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ ، دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِذَلِكَ .
وَاخْتُلِفَ فِي الرُّهْبَانِ ؛ فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ .
قَالَ مُطَرِّفٌ ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ : هَذَا إذَا لَمْ يَتَرَهَّبْ بَعْدَ فَرْضِهَا ، فَإِنْ فُرِضَتْ ، لَمْ يُسْقِطْهَا تَرَهُّبُهُ .
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ : وَسَتَجِدُ قَوْمًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ ، فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَهِيجُوا ، وَلَمْ يَقْتُلُوا لَمْ تُطْلَبْ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } : فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا : الْأَوَّلُ : أَنْ يُعْطِيَهَا وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ جَالِسٌ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ الثَّانِي : يُعْطُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ يَمْشُونَ بِهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : يَعْنِي مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ آخِذِهِ ، كَمَا تَقُولُ : كَلَّمَتْهُ فَمًا لِفَمٍ ، وَلَقِيَتْهُ كِفَّةً كِفَّةً ، وَأَعْطَيْته يَدًا عَنْ يَدٍ .
الرَّابِعُ : عَنْ قُوَّةٍ مِنْهُمْ .
الْخَامِسُ : عَنْ ظُهُورٍ .
السَّادِسُ : غَيْرَ مَحْمُودِينَ وَلَا مَدْعُوٍّ لَهُمْ .
السَّابِعُ : تُوجَأُ عُنُقُهُ .
الثَّامِنُ : عَنْ ذُلٍّ .
التَّاسِعُ : عَنْ غِنًى .
الْعَاشِرُ : عَنْ عَهْدٍ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : نَقْدًا غَيْرَ نَسِيئَةٍ .
الثَّانِيَ عَشَرَ : اعْتِرَافًا مِنْهُمْ أَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِينَ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : عَنْ قَهْرٍ .
الرَّابِعَ عَشَرَ : عَنْ إنْعَامٍ بِقَبُولِهَا عَلَيْهِمْ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : مُبْتَدِئًا غَيْرَ مُكَافِئٍ .
قَالَ الْإِمَامُ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِنْهَا مُتَدَاخِلَةٌ ، وَمِنْهَا مُتَنَافِرَةٌ ، وَتَرْجِعُ إلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُون الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْحَقِيقَةَ ، وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْمَجَازَ .
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةَ فَيَرْجِعُ إلَى مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَنِيبٍ فِي دَفْعِهَا أَحَدًا .
وَأَمَّا جِهَةُ الْمَجَازِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّعْجِيلَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقُوَّةَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمِنَّةَ وَالْإِنْعَامَ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ جَالِسٌ فَلَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ عَنْ يَدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِهِ : عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : يَمْشُونَ بِهَا وَهُمْ كَارِهُونَ ، مِنْ الصَّغَارِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ : وَلَا مَقْهُورِينَ يَعُودُ إلَى الصَّغَارِ وَالْيَدِ ، وَحَقِيقَةُ الصَّغَارِ تَقْلِيلُ الْكَثِيرِ مِنْ الْأَجْسَامِ ، أَوْ مِنْ الْمَعَانِي فِي

الْمَرَاتِبِ وَالدَّرَجَاتِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُ ؛ فَقَالَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَسُكْنَى الدَّارِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ : إنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ بِالْجِهَادِ .
وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ سِرُّ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ .
وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ [ بِأَنَّهَا ] وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ ، وَهُوَ جِنَايَةٌ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسَبِّبُهَا عُقُوبَةً ؛ وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ ، وَهُمْ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ الْمُقَاتِلُونَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ ، وَسُكْنَى الدَّارِ أَنَّهَا تَجِبُ بِالْمُعَاقَدَةِ وَالتَّرَاضِي ، وَلَا تَقِفُ الْعُقُوبَاتُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالرِّضَا .
وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَلَا تَخْتَلِفُ الْعُقُوبَاتُ بِذَلِكَ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً ، وَالْعُقُوبَاتُ تَجِبُ مُعَجَّلَةً ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهَا وَجَبَتْ بِالرِّضَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوهَا قَسْرًا .
وَأَمَّا إنْكَارُهُمْ اخْتِلَافَ الْعُقُوبَاتِ بِالْقِلَّةِ وَالْيَسَارِ فَذَلِكَ بَاطِلٌ مِنْ الْإِنْكَارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَبْعُدُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِالثُّيُوبَةِ ، وَالْبَكَارَةِ ، وَالْإِنْكَارِ ، فَكَمَا اخْتَلَفَتْ عُقُوبَةُ الْبَدَنِ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْمُوجَبِ عَلَيْهِ لَا يُسْتَنْكَرُ أَنْ يَخْتَلِفَ عُقُوبَةُ الْمَالِ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْمَالِ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ .
وَأَمَّا تَأْجِيلُهَا فَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مَصْلَحَةً ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَرْبَةِ لَازِبٍ فِيهَا .
وَقَدْ

اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَفَائِدَتُهَا أَنَّا إذَا قُلْنَا : إنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَتْ عَنْهُ لِسُقُوطِ الْقَتْلِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا دَيْنٌ اسْتَقَرَّ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُسْقِطُهُ الْإِسْلَامُ كَأُجْرَةِ الدَّارِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ، وَهُمَا قَوْلُهُ : { عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } ؛ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُؤَدَّى عُقُوبَةً وَهِيَ الْجِزْيَةُ ، وَبَيْنَ مَا يُؤَدَّى طُهْرَةً وَقُرْبَةً وَهِيَ الصَّدَقَةُ ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } .
وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ ، وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ " ؛ فَجَعَلَ يَدَ الْمُعْطِي فِي الصَّدَقَةِ عُلْيَا ، وَجَعَلَ يَدَ الْمُعْطِي فِي الْجِزْيَةِ صَاغِرَةً سُفْلَى ، وَيَدَ الْآخِذِ عُلْيَا ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ الرَّافِعُ الْخَافِضُ ، يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْفِضُ مَنْ يَشَاءُ ، وَكُلُّ فِعْلٍ أَوْ حُكْمٍ يَرْجِعُ إلَى الْأَسْمَاءِ حَسْبَمَا مَهَّدْنَاهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى " .
فَإِنْ قِيلَ ؛ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا بَذَلَ الْجِزْيَةَ فَحَقَنَ دَمَهُ بِمَالٍ يَسِيرٍ مَعَ إقْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ ؛ هَلْ هَذَا إلَّا كَالرِّضَا بِهِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَا نَقُولُ : فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ مِنْ الْحِكْمَةِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي أَخْذِهَا مَعُونَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَتَقْوِيَةً لَهُمْ ، وَرِزْقٌ حَلَالٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْكَافِرُ لَيَئِسَ مِنْ الْفَلَاحِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْهَلَكَةُ ؛ فَإِذَا أَعْطَى الْجِزْيَةَ وَأُمْهِلَ لَعَلَّهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ الْحَقَّ ، وَيَرْجِعَ إلَى الصَّوَابِ ، لَا سِيَّمَا بِمُرَاقَبَةِ أَهْلِ الدِّينِ ، وَالتَّدَرُّبِ بِسَمَاعِ مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عَظِيمَ كُفْرِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إدْرَارِ رِزْقِهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنْ اللَّهِ ، يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ ، وَهُمْ يَدْعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ } .
وَقَدْ بَيَّنَ عُلَمَاءُ خُرَاسَانَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ، فَقَالُوا : إنَّ الْعُقُوبَاتِ تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : مَا فِيهِ هَلَكَةُ الْمُعَاقَبِ .
وَالثَّانِي : مَا يَعُودُ بِمَصْلَحَةٍ

عَلَيْهِ ، مِنْ زَجْرِهِ عَمَّا ارْتَكَبَ ، وَرَدِّهِ عَمَّا اعْتَقَدَ وَفَعَلَ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي هَذَا مِنْ قَوْلِ رَبِّنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُفْرِ غَيْرِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْطِقُ بِهِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعْظَامِ لَهُ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّنَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَحَدٌ ، فَإِذَا أَمْكَنَ مِنْ انْطِلَاقِ الْأَلْسِنَةِ بِهِ فَقَدْ أَذِنَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ ، عَلَى مَعْنَى إنْكَارِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } : كُلُّ قَوْلِ أَحَدٍ إنَّمَا هُوَ بِفِيهِ ، وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَتَجَاوَزُ الْفَمَ ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَحَرَّكَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِاضْطِرَارٍ ، وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ ، فَيَقِفُ حَيْثُ وُجِدَ ، وَلَا يَتَعَدَّاهُ بِحَدٍّ ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الصَّحِيحَةِ ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِمُ وَتَطَّرِدُ ، وَتُعَضِّدُهَا الْأَدِلَّةُ ، وَتَقُومُ عَلَيْهَا الْبَرَاهِينُ ، وَتَنْتَشِرُ بِالْحَقِّ ، وَتَظْهَرُ بِالْبَيَانِ وَالصِّدْقِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { يُضَاهِئُونَ } : يَعْنِي يُشَابِهُونَ .
وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ : امْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ لِلَّتِي لَا تَحِيضُ ، وَاَلَّتِي لَا ثَدْيَ لَهَا ، كَأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الرِّجَالَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : الْأَوَّلُ : قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ : اللَّاتَ ، وَالْعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى .
الثَّانِي : قَوْلُ الْكَفَرَةِ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ .
الثَّالِثُ : قَوْلُ أَسْلَافِهِمْ ، فَقَلَّدُوهُمْ فِي الْبَاطِلِ ، وَاتَّبَعُوهُمْ فِي الْكُفْرِ ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } وَفِي هَذَا ذَمُّ الِاتِّبَاعِ فِي الْبَاطِلِ .

قَوْله تَعَالَى { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْحَبْرُ : هُوَ الَّذِي يُحْسِنُ الْقَوْلَ وَيُنَظِّمُهُ وَيُتْقِنُهُ ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ مُحَبَّرٌ ، أَيْ جَمَعَ الزِّينَةَ .
وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا ، وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ ، فَقَالَ : إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِحَمْلِ الْحِبْرِ وَهُوَ الْمِدَادُ وَالْكِتَابَةُ .
وَالرَّاهِبُ هُوَ مِنْ الرَّهْبَةِ : الَّذِي حَمَلَهُ خَوْفُ اللَّهِ عَلَى أَنْ يُخْلِصَ إلَيْهِ النِّيَّةَ دُونَ النَّاسِ ، وَيَجْعَلَ زِمَامَهُ لَهُ ، وَعَمَلَهُ مَعَهُ ، وَأُنْسَهُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَدِيُّ ؟ اطْرَحْ عَنْك هَذَا الْوَثَنَ .
وَسَمِعْته يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } .
قَالَ : أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ } .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } ؛ بَلْ يَجْعَلُونَ التَّحْرِيمَ لِغَيْرِهِ .
.

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَكْلُهَا بِالرُّشَا ، وَهِيَ كُلُّ هَدِيَّةٍ قُصِدَ بِهَا التَّوَصُّلُ إلَى بَاطِلٍ ، كَأَنَّهَا تُسَبِّبُ إلَيْهِ ؛ مِنْ الرِّشَاءِ ، وَهُوَ الْحَبْلُ ؛ فَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْحُكْمِ فَهُوَ سُحْتٌ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْجَاهِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ } ، وَالرَّائِشَ ، وَهُوَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُمَا ، وَيَتَوَسَّطُ لِذَلِكَ مَعَهُمَا .
الثَّانِي : أَخْذُهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } : إنْ قِيلَ فِيهِ : يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَالْقَضَاءِ بِالْعَدْلِ ، أَوْ قِيلَ فِيهِ : إنَّ مَعْنَاهُ صَدُّهُمْ لِأَهْلِ دِينِهِمْ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِتَبْدِيلِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ ، وَإِغْوَائِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ ، فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ ، لَا يَدْفَعُهُ اللَّفْظُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } : الْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ ، كَانَ فَوْقَ الْأَرْضِ أَوْ تَحْتَهَا ، يُقَالُ : كَنَزَهُ يَكْنِزُهُ إذَا جَمَعَهُ ، فَأَمَّا فِي الشَّرْعِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَنَحْنُ لَا نَقُولُ : إنَّ الشَّرْعَ غَيْرُ اللُّغَةِ ، وَإِنَّمَا نَقُولُ : إنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَهَا فِي نَفْسِهَا بِتَخْصِيصِ بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا ، وَقَصْرِ بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهَا لِلْأَسْمَاءِ ، كَالْقَارُورَةِ وَالدَّابَّةِ فِي بَعْضِ الْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْمَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْ النَّقْدَيْنِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حُلِيًّا .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا دَفِينًا .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا لَمْ تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوقُ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ يُنْفَقْ وَيُهْلَكْ فِي ذَاتِ اللَّهِ .
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا رَوَى ابْنُ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَأْتِي الْإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ مِنْهَا حَقَّهَا ، تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا .
وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ مِنْهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا .
قَالَ : وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ ، وَلَيَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارُ ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ .
فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، قَدْ بَلَّغْتُ .
وَيَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ .
فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، قَدْ بَلَّغْتُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : حَتَّى ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ : {

وَحَقُّهَا إطْرَاقُ فَحْلِهَا ، وَإِفْقَارُ ظَهْرِهَا ، وَحَلْبِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا } .
وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لِكُلِّ جَامِعٍ فِي كُلِّ مُوطِنٍ بِكُلِّ حَالٍ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي : أَنَّ الْكَنْزَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي النَّقْدَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ [ تَحْرِيمٌ ] ضُبِطَ غَيْرُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ : أَنَّ الْحُلِيَّ مَأْذُونٌ فِي اتِّخَاذِهِ وَلَا حَقَّ فِيهِ ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ الدَّفِينُ مَا رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي التَّمْرِ صَدَقَتُهُ ، و مَنْ دَفَنَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا يَدْفَعُهَا بَعْدَهَا لِغَرِيمٍ ، وَلَا يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لَهُ : أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ ، إنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ ، فَلِمَا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرَةً لِلْأَمْوَالِ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّادِسِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِهَا : { وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا ، وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا } .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّابِعِ أَنَّ الْحُقُوقَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَالْمَسَاكِينُ لَا تَسْتَقِلُّ بِهِمْ الزَّكَاةُ ، وَرُبَّمَا حُبِسَتْ عَنْهُمْ ، فَكَنْزُ الْمَالِ دُونَ ذَلِكَ ذَنْبٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَذَهَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ .
وَخَالَفَهُ أَبُو ذَرٍّ وَغَيْرُهُ ، فَقَالَ : الْمُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ :

مَرَرْت بِالرَّبَذَةِ ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ ، فَقُلْت لَهُ : مَا أَنْزَلَك مَنْزِلَك هَذَا ؟ قَالَ : كُنْت بِالشَّامِ ، فَاخْتَلَفْت أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ .
فَقُلْت : نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ ، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ [ رِيبَةٌ ] فِي ذَلِكَ .
فَكَتَبَ إلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِي ، فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أَقْدُمَ الْمَدِينَةَ .
فَقَدِمْتُهَا ، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُثْمَانَ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : حَتَّى آذَوْنِي .
فَقَالَ لِي عُثْمَانُ : إنْ شِئْت تَنَحَّيْت فَكُنْت قَرِيبًا ، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْت وَأَطَعْت .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ .
وَذَهَبَ عُمَرُ إلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ؛ نَسَخَتْهَا : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } ؛ قَالَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ : وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ ، وَجَلَاءِ الْحَقِّ : وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ مَدَارَكَ : الْمُدْرَكُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الْكُلَّ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَاهَا وَقُضِيَتْ بَقِيَ الْمَالُ مُطَهَّرًا ، كَمَا قَالَ عُمَرُ .
الْمُدْرَكُ الثَّانِي : أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ ، وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } .
الْمُدْرَكُ الثَّالِثُ : تَخْلِيصُ الْحَقِّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ، فَنَقُولُ : أَمَّا الْكَنْزُ فَهُوَ مَالٌ مَجْمُوعٌ ، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَالٍ دِينَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ حَقٌّ ، وَلَا حَقَّ لِلَّهِ سِوَى الزَّكَاةُ ؛ فَإِخْرَاجُهَا يُخْرِجُ الْمَالَ عَنْ وَصْفِ الْكَنْزِيَّةِ ، ثُمَّ إنَّ الْكَنْزَ لَا

يَكُونُ إلَّا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ أَوْ تِبْرِهَا ، وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً .

ثُمَّ إنَّ الْحُلِيَّ لَا زَكَاةَ فِيهِ ؛ فَيُتَنَخَّلُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُمَا ، أَوْ اُتُّخِذَتْ حُلِيًّا فَلَيْسَا بِكَنْزٍ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ } الْآيَةَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خَاصَّةً ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبُ لِقَوْلِهِ : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَلَا يَتَوَجَّهُ الْعَذَابُ إلَّا عَلَى تَارِكِ الْوَاجِبِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُلِيَّ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قُلْنَا : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، أَصْلُهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ .
وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْءٌ .
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ : فَأَخَذَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي النَّقْدَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُلِيٍّ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنْ قَصَدَ التَّمَلُّكَ لِمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْعُرُوضِ ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ ، كَذَلِكَ قَصْدُ قَطْعِ النَّمَاءِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاِتِّخَاذِهِمَا حُلِيًّا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ ، فَإِنَّ مَا أَوْجَبَ مَا لَمْ يَجِبْ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ ، وَتَخْصِيصِ مَا عَمَّ وَشَمَلَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ كَنْزٌ ، وَعَزَوْهُ إلَى عَلِيٍّ .
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يُذْكَرُ ، لِبُطْلَانِهِ .
أَمَا إنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُفَرِّقُهَا } .
قَالَ أَبُو ذَرٍّ : الْأَكْثَرُونَ أَصْحَابُ عَشَرَةِ آلَافٍ ، يُرِيدُ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مَالًا هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوَابًا ، إلَّا مَنْ فَرَّقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَهَذَا بَيَانٌ لِنُقْصَانِ الْمَرْتَبَةِ بِقِلَّةِ

الصَّدَقَةِ ، لَا لِوُجُوبِ التَّفْرِقَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ ، مَا عَدَا الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ ، يُبَيِّنُهُ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : أُنْزِلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ ؟ فَقَالَ : أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إيمَانِهِ } .
فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا جَوَابًا لِمَنْ عَلِمَ رَغْبَتَهُ فِي الْمَالِ فَرَدَّهُ إلَى مَنْفَعَةِ الْمَالِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَاغِ ، وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ .
وَقَدْ بَيَّنَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فِي حَالَةٍ أَمْ أُخْرَى لِقَوْمٍ آخَرِينَ ؟ فَقَالَ : { خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ ، وَمَوَاقِعَ الْقُطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا } : فَذَكَرَ ضَمِيرًا وَاحِدًا عَنْ مَذْكُورَيْنِ .
وَعَنْهُ جَوَابَانِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ } جَمَاعَةٌ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ كَنْزٌ ، فَمُرَجِّعُ قَوْلِهِ : " هَا " إلَى جَمَاعَةِ الْكُنُوزِ .
الثَّانِي : أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ يَكْفِي عَنْ الثَّانِي ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا } .
وَهُمَا شَيْئَانِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : إنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعْرِ الْأَسْ وَدِ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا وَطَرِيقُ الْكَلَامِ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يُعَاصَيَا ، وَلَكِنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إنَّمَا وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَرَجَعَ قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } إلَيْهِمْ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ وَخُصُوصَهُ لَا يُؤْثِرُ فِي آخَرَ الْكَلَامِ وَعُمُومِهِ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا [ بِنَفْسِهِ ] .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ لَوْ قَالَ : وَيَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ .
أَمَا وَقَدْ قَالَ : وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، فَقَدْ اسْتَأْنَفَ مَعْنًى آخَرَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ ، لَا وَصْفًا لِجُمْلَةٍ عَلَى وَصْفٍ لَهَا .
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ : جَلَسْت إلَى مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَجَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ ، حَتَّى قَامَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ قَالَ : " بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ " .
ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إلَى سَارِيَةٍ ، وَجَلَسْت إلَيْهِ ، وَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ ، فَقُلْت لَهُ : لَا أَرَى الْقَوْمَ إلَّا قَدْ كَرِهُوا مَا قُلْت لَهُمْ .
قَالَ : إنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا قَالَ لِي خَلِيلِي .
قُلْت : مَنْ خَلِيلُك ؟ قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا أَبَا ذَرٍّ ؛ أَتُبْصِرُ أَحَدًا ؟ فَنَظَرْت إلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ ، وَأَنَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ .
قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ لِي : مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ ، إلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ ،

إنَّمَا يَجْمَعُونَ لِلدُّنْيَا ، وَاَللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا ، وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ ، حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ } .
قَالَ الْقَاضِي : الْحَلَمَةُ : طَرَفُ الثَّدْيِ ، وَالنُّغْضُ ، بَارِزُ عَظْمِ الْكَتِفِ الْمُحَدَّدِ .
وَرِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ لِهَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحَةٌ ، وَتَأْوِيلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ جَامِعٍ لِلْمَالِ مُحْتَجِزٍ لَهُ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَنْ احْتَجَنَهُ وَاكْتَنَزَهُ عَنْ الزَّكَاةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ ، يُطَوِّفُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشَدْقَيْهِ يَقُولُ : أَنَا مَالُك ، أَنَا كَنْزُك .
ثُمَّ قَرَأَ : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
قَالَ الْقَاضِي : قَوْلُهُ : مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ ، يُرِيدُ أَوْ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ ، كَفَّكِ الْأَسِيرِ ، وَحَقِّ الْجَائِعِ ، وَالْعَطْشَانِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُقُوقَ الْعَارِضَةَ كَالْحُقُوقِ الْأَصْلِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ : مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا يَعْنِي حَيَّةً .
وَهَذَا تَمْثِيلُ حَقِيقَةٍ ؛ لِأَنَّ الشُّجَاعَ جِسْمٌ وَالْمَالَ جِسْمٌ ، فَتَغَيُّرُ الصِّفَاتِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَاحِدَةٌ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فَإِنَّ تِلْكَ طَرِيقَةٌ أُخْرَى .
وَإِنَّمَا خَصَّ الشُّجَاعَ ؛ لِأَنَّهُ الْعَدُوُّ الثَّانِي لِلْخَلْقِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِنَّ : { مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ } .
وَقَوْلُهُ : أَقْرَعُ ، يَعْنِي الَّذِي ابْيَضَّ رَأْسُهُ مِنْ السُّمِّ .
وَالزَّبِيبَتَانِ : زُبْدَتَانِ فِي شِدْقَيْ الْإِنْسَانِ إذَا غَضِبَ وَأَكْثَرَ مِنْ الْكَلَامِ ، قَالَتْ أُمُّ غَيْلَانَ بِنْتُ جَرِيرٍ : رُبَّمَا أَنْشَدْت أَبِي حَتَّى تَزَبَّبَ شَدْقَايَ .
ضَرَبَ مَثَلًا لِلشُّجَاعِ الَّذِي يَتَمَثَّلُ كَهَيْئَةِ الْمَالِ ، فَيَلْقَى صَاحِبَهُ غَضْبَانَ .

وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ : هُمَا نُقْطَتَانِ سَوْدَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ .
وَقِيلَ : هُوَ الشُّجَاعُ الَّذِي كَثُرَ سُمُّهُ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى شَدْقَيْهِ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزَّبِيبَتَيْنِ .
وَكَتَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ شُجَاعٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ كَتَبُوهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ ، وَقَرَءُوهُ مَنْصُوبًا لِئَلَّا يُشْكِلَ بِالْمَمْدُودِ ، وَكَذَلِكَ نُظَرَاؤُهُ .
وَاللِّهْزِمَةُ : الشَّدْقَانِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ .
وَقِيلَ : هُمَا فِي أَصْلِ الْحَنَكِ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إنَّهُ يَمْثُلُ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا يَتَّبِعُهُ فَيَضْطَرُّهُ فَيُعْطِيهِ يَدَهُ فَيَقْضِمَهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ } .
فَأَمَّا حَبْسُهُ لِيَدِهِ فَلِأَنَّهُ شَحَّ بِالْمَالِ وَقَبَضَ بِهَا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا أَخْذُهُ بِفَمِهِ فَلِأَنَّهُ أَكَلَهُ ، وَأَمَّا خُرُوجُهُ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ إلَى نُغْضِ كَتِفِهِ فَلِتَعْذِيبِ قَلْبِهِ وَبَاطِنِهِ حِينَ امْتَلَأَ بِالْفَرَحِ بِالْكَثْرَةِ فِي الْمَالِ وَالسُّرُورِ فِي الدُّنْيَا ؛ فَعُوقِبَ فِي الْآخِرَةِ بِالْهَمِّ وَالْعَذَابِ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَمَنْ لَمْ يَكْنِزْ وَلَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلَيْسَ يَكُونُ هَذَا حُكْمَهُ ؟ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ الْكَنْزِ ؟ قُلْنَا : إذَا لَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَكْنِزْ ، وَلَكِنَّهُ بَذَّرَ مَالِهِ فِي السَّرَفِ وَالْمَعَاصِي فَهَذَا يَعْلَمُ أَنَّ يَكُونُ مِثْلَ هَذَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى .

فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ ، وَفَقْرِ الصَّحَابَةِ ، وَفَرَاغِ خِزَانَةِ بَيْتِ الْمَالِ .
قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ قَدْ كَانَتْ شُرِعَتْ ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَغْنِيَاءً ، وَبَعْضُهُمْ فُقَرَاءً ، وَقَدْ كَانَ الْفَقِيرُ مِنْهُمْ يَرْبِطُ بَطْنَهُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ الْجُوعِ ، وَبُيُوتُ الصَّحَابَةِ الْأَغْنِيَاءِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الرِّزْقِ ، يَشْبَعُ أُولَئِكَ ، وَيَجُوعُ هَؤُلَاءِ ، فَيَنْدُبَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصَّدَقَةِ ، وَيُرَغِّبَهُمْ فِي الْمُوَاسَاةِ ، وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجَ عَنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ .

الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجَنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " مَنْ تَرَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ جُعِلَتْ صَفَائِحَ يُعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ " .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " وَاَللَّهِ لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ رَجُلًا بِكَنْزٍ فَيَمَسُّ دِرْهَمٌ دِرْهَمًا ، وَلَا دِينَارٌ دِينَارًا ، وَلَكِنْ يُوَسِّعُ جِلْدَهُ حَتَّى يُوضَعُ كُلُّ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ عَلَى حِدَتِهِ " .
وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ وَعِنْدَهُ أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ إلَّا جُعِلَ لَهُ بِكُلِّ قِيرَاطٍ صَفِيحَةٌ مِنْ نَارٍ فَيُكْوَى بِهَا مِنْ فَرْقِهِ إلَى قِدَمِهِ ، مَغْفُورٌ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ مُعَذَّبٌ } .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا ، وَهِيَ بَعْدُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ ، فَمَاتَ فَوَجَدُوا لَهُ عِشْرِينَ أَلْفًا ، فَقَالَ النَّاسُ : كَنْزٌ .
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَعَلَّهُ كَانَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَمَا أَدَّى زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ .
وَمِثْلُهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّهُ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ فَهَذَا إنَّمَا صَحَّ فِي الْكَافِرِ أَنَّهُ تَعْظُمُ جُثَّتُهُ زِيَادَةً فِي عَذَابِهِ ، وَيَغْلُظُ جِلْدُهُ ، وَيَكْبُرُ ضِرْسُهُ ، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ .
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لَهُ بِحَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا كُوِيَتْ جَبْهَتُهُ أَوَّلًا لَعَلَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَزْوِيهَا لِلسَّائِلِ كَرَاهِيَةً لِسُؤَالِهِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : يَزِيدُ يَغُضُّ الطَّرْفَ عَنِّي كَأَنَّمَا زَوَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَلَيَّ الْمَحَاجِمَ فَلَا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْك مَا انْزَوَى

وَلَا تَلْقَنِي إلَّا وَأَنْفُك رَاغِمُ ثُمَّ يَلْوِي عَنْ وَجْهِهِ ، وَيُعْطِيهِ جَنْبَهُ إذَا زَادَهُ فِي السُّؤَالِ ؛ فَإِنْ أَكْثَرَ عَلَيْهِ وَلَّاهُ ظَهْرَهُ ؛ فَرَتَّبَ اللَّهُ الْعُقُوبَةَ عَلَى حَالِ الْمَعْصِيَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : " مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ طَوَّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَنْقُرُ رَأْسَهُ " .
فَلَعَلَّهُ إنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْكَيُّ مِنْ خَارِجٍ ، وَالنَّقْرُ مِنْ دَاخِلٍ .
وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ : لَمَّا طَلَبُوا بِكَثْرَةِ الْمَالِ الْجَاهَ شَانَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ ، وَلَمَّا طَوَوْا كَشْحًا عَنْ الْفَقِيرِ إذَا جَالَسَهُمْ كُوِيَتْ جَنُوبُهُمْ ، وَلَمَّا أَسْنَدُوا بِظُهُورِهِمْ إلَى أَمْوَالِهِمْ ثِقَةً بِهَا وَاعْتِمَادًا عَلَيْهَا دُونَ اللَّهِ كُوِيَتْ ظُهُورُهُمْ ، هَذَا وَالْكُلُّ مَعْنًى صَحِيحٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنْ كَانَ الْمُكْتَنِزُ كَافِرًا فَهَذِهِ بَعْضُ عُقُوبَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَهَذِهِ عُقُوبَتُهُ إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا عَظُمَ الْوَعِيدُ فِي هَذَا الْبَابِ لِمَا فِي اخْتِلَافِ الْعِبَادِ مِنْ الشُّحِّ عَلَى الْمَالِ وَالْبُخْلِ بِهِ ؛ فَإِذَا خَافُوا مِنْ عَظِيمِ الْوَعِيدِ لَانُوا فِي أَدَاءِ الطَّاعَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدَّيْنُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } .
فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمُوا أَنَارَ اللَّهُ أَفْئِدَتَكُمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَزَيَّنَهَا بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَرَتَّبَ فِيهَا النُّورَ وَالظُّلْمَةَ ، وَرَكَّبَ عَلَيْهَا الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةَ ، وَأَحْكَمَ الشُّهُورَ وَالْأَعْوَامَ ، وَنَظَّمَ بِالْكُلِّ مِنْ ذَلِكَ مَا خَلَقَ مِنْ مَصْلَحَةٍ وَمَنْفَعَةٍ ، وَعِبَادَةٍ وَطَاعَةٍ ، وَعَلِمَ ذَلِكَ النَّاسُ أَوَّلًا وَآخِرًا ، ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ؛ فَقَالَ : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلَى : الْأَلْبَابِ .
وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً } إلَى : بِالْحَقِّ .
فَأَخَذَ كُلُّ فَرِيقٍ ذَلِكَ فَاضْطَرَبُوا فِي تَفْصِيلِهِ ، فَقَالَ الرُّومُ : السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، وَالشُّهُورُ مُخْتَلِفَةٌ ؛ شَهْرٌ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا ، وَشَهْرٌ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، وَشَهْرٌ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا .
وَقَالَ الْفُرْسُ : الشُّهُورُ كُلُّهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، إلَّا شَهْرًا وَاحِدًا ، فَإِنَّهُ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا .
وَقَالَتْ الْقِبْطُ بِقَوْلِهَا : إنَّ الشَّهْرَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَمُلَ الْعَامُ أَلْغَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ تُنْسِئَهَا بِزَعْمِهَا .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ رُبْعِ يَوْمٍ مَزِيدًا عَلَى الْعَامِ ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ مِنْهُ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ يَوْمٌ فَيُكْبَسُ أَيْ يُلْغَى ، وَيُزَادُ فِي الْعَدَدِ ، وَيُسْتَأْنَفُ الْعَامُ بَعْدَهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ قَصْدًا لِتَرْتِيبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : تَحْقِيقُ الْقَوْلِ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ

شَهْرًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبُرُوجَ فِي السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ بُرْجًا ، وَرَتَّبَ فِيهَا سَيْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَجَعَلَ مَسِيرَ الْقَمَرِ ، وَقَطْعَهُ لَلْفَلَكِ فِي كُلِّ شَهْرٍ ، وَجَعَلَ سَيْرَ الشَّمْسِ فِيهَا ، وَقَطْعَهُ فِي كُلِّ عَامٍ ، وَيَتَقَابَلَانِ فِي الِاسْتِعْلَاءِ فَيَعْلُو الْقَمَرُ إلَى الِاسْتِوَاءِ ، وَتَسْفُلُ الشَّمْسُ ، وَتَعْلُو الشَّمْسُ ، وَيَسْفُلُ الْقَمَرُ ، وَهَكَذَا عَلَى الْأَزْمِنَةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَفِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ ، وَجَعَلَ عَدَدَ أَيَّامِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ رُبْعَ يَوْمٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَثَلَاثَمِائَةِ يَوْمٍ ، وَجَعَلَ أَيَّامَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ رُبْعَ يَوْمٍ وَخَمْسَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا وَثَلَاثَمِائَةِ يَوْمٍ ؛ فَرَكَّبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةً ، وَهِيَ إذَا قَالَ : لَا أُكَلِّمُهُ الشُّهُورَ ، فَلَا يُكَلِّمُهُ حَوْلًا مُجْرِمًا : كَامِلًا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ } .
وَقِيلَ : لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا .
وَأَرَى إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُهُورٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ بِيَقِينِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ فُعُولٍ فِي جَمْعِ فَعْلٍ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ سَنَةً مِنْ السَّنِينِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِقْدَارَ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْكَسْرِ فِي الزِّيَادَةِ فَيَلْغُونَ مِنْهُ شَهْرًا فِي سَنَةٍ ، وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ أَلَّا تَغَيَّرَ الشُّهُورُ عَنْ أَوْقَاتِهَا الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْأَرْبَعَةِ : الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، وَالْقَيْظِ وَالْخَرِيفِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مِمَّا ضَلَّ فِيهِ جُهَّالُ الْأُمَمِ أَنَّهُمْ وَضَعُوا صَوْمَهُمْ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، وَكَانَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ أَنْ يَكُونَ بِالْأَهِلَّةِ حَتَّى يَخِفَّ تَارَةً وَيَثْقُلَ أُخْرَى ، حَتَّى يَعُمَّ الِابْتِلَاءُ الْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ فَيَخْتَلِفَ الْحَالُ فِيهِ عَلَى الْوَاحِدِ .
وَالنَّفْسُ كَثِيرًا مَا تَسْكُنُ إلَى ذَلِكَ أَوْ يَخْتَلِفُ فِيهِ

الْحَالُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْأَمَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْضًا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { فِي كِتَابِ اللَّهِ } : يُرِيدُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ .
فَقَالَ لَهُ : اُكْتُبْ فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ ؛ فَعَلِمَ اللَّهُ مَا يَكُونُ فِي الْأَزَلِ ، ثُمَّ كَتَبَهُ ، ثُمَّ خَلَقَهُ كَمَا عَلِمَ وَكَتَبَ } .
؛ فَانْتَظَمَ الْعِلْمُ وَالْكِتَابُ وَالْخَلْقُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } : مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { كِتَابِ اللَّهِ } ، كَمَا أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ مِنْ قَوْلِهِ : فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَهُوَ : فِي ، لَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ عِدَّةَ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ حَالَ بَيْنَهُمَا ، وَلَكِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٍ لِلْخَبَرِ ، كَأَنَّهُ قَالَ مَعْدُودَةً أَوْ مُؤَدَّاةً أَوْ مَكْتُوبَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِك : زَيْدٌ فِي الدَّارِ ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } : وَهِيَ : رَجَبٌ الْفَرْدُ ، وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ .
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ : ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ ؛ وَرَجَبٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ } .
وَقَوْلُهُ : { حُرُمٌ } جَمْعُ حَرَامٍ ، كَأَنَّهُ يُوجِدُ احْتِرَامَهَا بِمَا مَنَعَ فِيهَا مِنْ الْقِتَالِ ، وَأَوْقَعَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ لَهَا مِنْ التَّعْظِيمِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " رَجَبُ مُضَرَ " فَبِمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ بَعْضَ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ، وَأَحْسِبُهُ مِنْ رَبِيعَةَ ، كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَيُسَمُّونَهُ رَجَبَ ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْصِيصَهُ بِالْبَيَانِ بِاقْتِصَارِ مُضَرَ عَلَى تَحْرِيمِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ } .
وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيَانٌ لِتَحْقِيقِ الْحَالِ ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى رَفْعِ مَا كَانَ وَقَعَ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَالِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا .
وَقِيلَ فِي الثَّانِي : الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ .
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالظُّلْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِتَحْلِيلِهِنَّ .
وَقِيلَ : بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ فِيهِنَّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ صَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِذَا عَظَّمَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ مِنْ جِهَاتٍ صَارَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَدِّدَةً بِعَدَدِ جِهَاتِ التَّحْرِيمِ ، وَيَتَضَاعَفُ الْعِقَابُ بِالْعَمَلِ السُّوءِ فِيهَا ، كَمَا ضَاعَفَ الثَّوَابَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا ؛ فَإِنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْسَ كَمَنْ أَطَاعَهُ فِي شَهْرٍ حَلَالٍ فِي بَلَدٍ حَلَالٍ فِي بُقْعَةٍ حَلَالٍ .
وَكَذَلِكَ الْعِصْيَانُ وَالْعَذَابُ مِثْلُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْحَالَيْنِ وَالصِّفَتَيْنِ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ .
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } لِعِظَمِهِنَّ وَشَرَفِهِنَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فَإِنْ قِيلَ : و كَيْفَ جَعَلَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ بَعْضٍ ؟ قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ، لَيْسَ عَلَيْهِ حَجْرٌ ، وَلَا لِعَمَلِهِ عِلَّةٌ ؛ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ بِحِكْمَةٍ ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِلْخَلْقِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ ، وَقَدْ يَخْفَى .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ ، فَلَمَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ تَكَالِيفُ الْمُحَرَّمَاتِ جَعَلَ بَعْضَهَا أَغْلَظَ مِنْ بَعْضٍ ، لِيُعْتَادَ بِكَفِّهَا عَنْ الْأَخَفِّ ، الْكَفُّ عَنْ الْأَغْلَظِ ، وَيَجْعَلُ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ بَعْضٍ ؛ لِيُعْتَادَ فِي الْخَفِيفِ الِامْتِثَالُ ، فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ فِي الْغَلِيظِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ [ الْحُرُمِ ] ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ وَآخِرُهَا ذُو الْحِجَّةِ ، لِأَنَّهُ عَلَى تَقْرِيرِ شُهُورِ الْعَامِ ، الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ .
الثَّانِي : أَنَّ أَوَّلَهَا رَجَبٌ ، وَآخِرُهَا الْمُحَرَّمُ مَعْدُودَةً مِنْ عَامَيْنِ ؛ لِأَنَّ رَجَبًا لَهُ فَضْلُ الْإِفْرَادِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ أَوَّلَهَا ذُو الْقَعْدَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ التَّوَالِيَ دُونَ التَّقْطِيعِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْدَادِهَا : { ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ ؛ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ } .
وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ الصَّحِيحِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } .
وَقَالَ هَاهُنَا : { قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } : يَعْنِي مُحِيطِينَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَحَالَةٍ ، فَمَنَعَهُمْ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِرْسَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { كَافَّةً } : مَصْدَرُ حَالٍ ، وَوَزْنُهُ فَاعِلَةً ، وَهُوَ غَرِيبٌ فِي الْمَصَادِرِ ، كَالْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ ، اُشْتُقَّ مِنْ كِفَّةِ الشَّيْءِ ، وَهُوَ حَرْفُهُ الَّذِي لَا يَبْقَى بَعْدَهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ ، وَمِثْلُهُ عَامَّةً وَخَاصَّةً ، وَلَا يُثَنَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُجْمَعُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الطَّبَرِيُّ : مَعْنَاهُ مُؤْتَلِفِينَ غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ ، فَرُدَّ ذَلِكَ إلَى الِاعْتِقَادِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } : يَعْنِي بِالنَّصْرِ وَعْدًا مَرْبُوطًا بِالتَّقْوَى ، فَإِنَّمَا تَنْصُرُونَ بِأَعْمَالِكُمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { النَّسِيءُ } : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ الزِّيَادَةُ ، يُقَالُ : نَسَأَ يَنْسَأُ ، إذَا زَادَ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ التَّأْخِيرُ .
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : يُقَالُ أَنْسَأْت الشَّيْءَ إنْسَاءً ، وَنَسَاءَ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ ، وَلَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ .
أَمَّا الطَّبَرِيُّ فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ ، فَيُقَالُ : أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِك ، كَمَا تَقُولُ : زَادَ اللَّهُ فِي أَجَلِك ، وَتَقُولُ : أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِك أَيْ زَادَهُ مُدَّةً ، وَاكْتَفَى بِأَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ عَنْ الثَّانِي ، وَمَنَعَ مِنْ قِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ الْهَمْزِ ، وَرَدَّ عَلَى نَافِعٍ ، وَقَالَ : لَا يَكُونُ بِتَرْكِ الْهَمْزِ إلَّا مِنْ النِّسْيَانِ ، كَمَا قَالَ : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } .
وَاحْتَجَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ التَّأْخِيرُ بِنَقْلِ الْعَرَبِ لِهَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ أَوَائِلِهَا ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ عَنْهُمْ مَشْيَخَةُ الْعَرَبِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا ، أَيْ نُؤَخِّرْهَا ، مَهْمُوزَةٌ ، وَقَدْ تُخَفَّفُ الْهَمْزُ ، كَمَا يُقَالُ خَطِيَّةٌ وَخَطِيئَةٌ ، وَالصَّابِيُونَ وَالصَّابِئُونَ ، وَتَخْفِيفُ الْهَمْزِ أَصْلٌ ، وَنَقْلُ الْحَرَكَةِ أَصْلٌ ، وَالْبَدَلُ وَالْقَلْبُ أَصْلٌ كُلُّهُ لُغَوِيٌّ ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى هَذَا عَلَى الطَّبَرِيِّ .
وَأَمَّا فَصْلُ التَّعَدِّي فَضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْأَفْعَالَ الْمُتَعَدِّيَةَ بِالْوَجْهَيْنِ مِنْ وُجُوهِ حَرْفِ الْجَرِّ ، وَفِي تَعَدِّيهَا بِهِ ، وَعَدَمِهِ كَثِيرَةٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَيْفِيَّةُ النَّسِيءِ : ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُنَادَةَ بْنَ عَوْفِ بْنِ أُمَيَّةَ الْكِنَانِيَّ كَانَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلَّ عَامٍ ، فَيُنَادِي : أَلَا إنَّ أَبَا ثُمَامَةَ لَا يُعَابُ وَلَا يُجَابُ ، أَلَا وَإِنَّ صَفَرًا الْعَامَ الْأَوَّلَ حَلَالٌ ، فَنُحَرِّمُهُ عَامًا ، وَنُحِلُّهُ عَامًا ، وَكَانُوا مَعَ هَوَازِنَ وَغَطَفَانَ وَبَنِي سُلَيْمٍ .
وَفِي لَفْظَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنَّا قَدَّمْنَا الْمُحَرَّمَ وَأَخَّرْنَا صَفَرًا ، ثُمَّ يَأْتِي الْعَامُ الثَّانِي فَيَقُولُ : إنَّا حَرَّمْنَا صَفَرًا وَأَخَّرْنَا الْمُحَرَّمَ ؛ فَهُوَ هَذَا التَّأْخِيرُ .
الثَّانِي : الزِّيَادَةُ ؛ قَالَ قَتَادَةُ : عَمَدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَزَادُوا صَفَرًا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، فَكَانَ يَقُومُ قَائِمُهُمْ فِي الْمَوْسِمِ فَيَقُولُ : أَلَا إنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتْ الْعَامَ الْمُحَرَّمَ ، فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ ، ثُمَّ يَقُومُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَقُولُ : أَلَا إنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتْ صَفَرًا فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ ، وَيَقُولُونَ : الصَّفَرَانِ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ نَحْوَهُ قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَهُ صَفَرَيْنِ ، فَلِذُلِّك قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا صَفَرَ } .
وَكَذَلِكَ رَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ .
الثَّالِثُ : تَبْدِيلُ الْحَجِّ ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ بِإِسْنَادٍ آخَرَ : إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ .
قَالَ : حَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّةِ عَامَيْنِ ، ثُمَّ حَجُّوا فِي الْمُحَرَّمِ عَامَيْنِ ، ثُمَّ حَجُّوا فِي صَفَرَ عَامَيْنِ ، فَكَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ حَتَّى وَافَتْ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ ، فَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي خُطْبَتِهِ : { إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } .
رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ ، وَاللَّفْظُ لَهُ

قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّهَا النَّاسُ ، اسْمَعُوا قَوْلِي ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ .
وَقَدْ بَلَّغْت ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا ، وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ ، وَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ، لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ، قَضَى اللَّهُ أَنْ لَا رِبَا ، وَإِنَّ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ، وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَإِنَّ أَوَّلَ دِمَائِكُمْ أَضَعُ دَمَ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ .
أَمَّا بَعْدُ ، أَيُّهَا النَّاسُ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ ، وَلَكِنَّهُ إنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ ، فَاحْذَرُوهُ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى دِينِكُمْ ، وَإِنَّ النَّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى قَوْلِهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ .
وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْهَا أَرْبَعَةُ حُرُمٌ ؛ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ .
} وَذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي أَوَّلِ مَنْ أَنْسَأَ : فِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ لُبَابُهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ حَيًّا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ ، ثُمَّ مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمَّسُ ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ فُقَيْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَكَانَ مَلِكًا ، فَكَانَ يُحِلُّ الْمُحَرَّمَ عَامًا وَيُحَرِّمُهُ عَامًا ، فَكَانَ إذَا حَرَّمَهُ كَانَتْ ثَلَاثَةُ حُرُمٍ مُتَوَالِيَاتٌ ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فِي عَهْدِ إبْرَاهِيمَ ، فَإِذَا أَحَلَّهُ أَدْخَلَ مَكَانَهُ صَفَرًا ، لِيُوَاطِئَ الْعِدَّةَ ، يَقُولُ : قَدْ أَكْمَلْت الْأَرْبَعَةَ كَمَا كَانَتْ ؛ لِأَنِّي لَمْ أُحِلَّ شَهْرًا إلَّا حَرَّمْت مَكَانَهُ آخَرَ ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ كَذَلِكَ مِمَّنْ كَانَتْ تَدِينُ بِدِينِ الْقَلَمَّسِ ، فَكَانَ يَخْطُبُ بِعَرَفَةَ فَيَقُولُ : " اللَّهُمَّ إنِّي لَا أُعَابُ وَلَا أُجَابُ ، وَلَا مَرَدَّ لِمَا قَضَيْت ، اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ أَحْلَلْت دِمَاءَ الْمُحِلِّينَ مِنْ طَيِّئٍ وَخَثْعَمَ ، فَمَنْ لَقِيَهُمَا فَلْيَقْتُلْهُمَا " فَرَجَعَ النَّاسُ وَقَدْ أَخَذُوا بِقَوْلِهِ .
وَإِنَّمَا أَحَلَّ دِمَاءَ طَيِّئٍ وَخَثْعَمَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَحُجُّونَ مَعَ الْعَرَبِ ، وَلَا يُحَرِّمُونَ الْحُرُمَ ، وَكَانُوا يَسْتَحِلُّونَهَا ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يُحَرِّمُونَ الْحُرُمَ .
ثُمَّ كَانَ ابْنُهُ عَلَى النَّاسِ كَمَا كَانَ الْقَلَمَّسُ وَاسْمُهُ عَبَّادٌ ، ثُمَّ ابْنُهُ أَقْلَعُ ، ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ بْنُ أَقْلَعَ بْنُ عَبَّادٍ ، ثُمَّ ابْنُهُ عَوْفُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ ابْنُهُ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَحَجَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ ، وَجُنَادَةُ صَاحِبُ ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ، وَأَكْمَلَ الْحُرُمَ ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَاتٍ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : الْعَرَبُ كَانَتْ إذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ فَحَرَّمَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ

شَيْئًا مِنْهَا لِغَنِيمَةٍ أَوْ لِغَارَةٍ أَحَلَّ الْمُحَرَّمَ وَحَرَّمَ مَكَانَهُ صَفَرًا ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَذْلٍ الطَّعَّانُ : لَقَدْ عَلِمَتْ مَعْدٌ أَنَّ قَوْمِي كِرَامُ النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامَا فَأَيُّ النَّاسِ فَاتُونَا بِوِتْرٍ وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ تَعْلِك لِجَامَا أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعْدٍ شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ هَذَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْإِنْسَاءَ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ زِيَادَةً وَتَأْخِيرًا وَتَبْدِيلًا ، وَأَقَلُّهُ صِحَّةً الزِّيَادَةُ ، لِقَوْلِهِ : { لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْإِنْسَاءِ مَا كَانَ تَبْدِيلًا [ أَوْ تَأْخِيرًا ] ، وَأَقَلُّهُ الزِّيَادَةُ .
وَالْمُوَاطَأَةُ هِيَ الْمُوَافَقَةُ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : وَاطَأْتُك عَلَى الْأَمْرِ ، أَيْ وَافَقْتُك عَلَيْهِ ، فَكَانُوا يَحْفَظُونَ عِدَّةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي هِيَ أَرْبَعَةٌ ، لَكِنَّهُمْ يُبَدِّلُونَ وَيُؤَخِّرُونَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُوَاطَأَةَ عَلَى الْعِدَّةِ تَكْفِي ، وَإِنْ خَالَفَتْ فِي أَعْيَانِ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَاءُ عِنْدَهُمْ بِالثَّلَاثَةِ الْأَوْجُهِ ، فَذَكَرَ اللَّهُ مِنْهَا الْوَجْهَيْنِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ ، وَعِظَمَ التَّبْدِيلِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْمُوَافَقَةُ فِي الْعَدَدِ ، فَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي وَجْهٍ أَزْيَدُ فِي الْكُفْرِ ، وَأَعْظَمُ فِي الْإِثْمِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } : قَدْ بَيَّنَّا الْكُفْرَ وَحَقِيقَتَهُ ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْإِنْكَارِ ، فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ وَلِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَالزِّيَادَةُ [ فِيهِ ] وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ [ وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْإِيمَانِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ ] ، وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِمَا وَالْحَقَّ مِنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى وَجْهٍ مُسْتَوْفًى ؛ لُبَابُهُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِيمَانِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ الْمَعْرِفَةُ قَالَهُ شَيْخُ السَّنَةِ ، وَاخْتَارَهُ لِسَانُ الْأُمَّةِ فِي مَوَاضِعَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ التَّصْدِيقُ ؛ قَالَهُ لِسَانُ الْأُمَّةِ أَيْضًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ الِاعْتِقَادُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ .
فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ الْمَعْرِفَةُ مِنْهُمْ فَقَدْ خَالَفَ اللُّغَةَ ، وَتَجَوَّزَ ظَاهِرَهَا إلَى وَجْهٍ مِنْ التَّأْوِيلِ فِيهَا .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ التَّصْدِيقُ فَقَدْ وَافَقَ مُطْلَقَ اللُّغَةِ ، لَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْأَمَانِ قَالَ النَّابِغَةُ : وَالْمُؤْمِنُ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرَ يَمْسَحُهَا رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الْغَيْلِ وَالسِّنْدِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الِاعْتِقَادُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ فَقَدْ جَمَعَ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا ، وَرَكَّبَ تَحْتَ اللَّفْظِ مُخْتَلِفَاتٍ كَثِيرَةً ، وَلَمْ يَبْعُدْ مِنْ طَرِيقِ التَّحْقِيقِ فِي جِهَةِ الْأُصُولِ وَلَا فِي جِهَةِ اللُّغَةِ ؛ أَمَّا فِي جِهَةِ اللُّغَةِ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ يُصَدِّقُ الْقَوْلَ أَوْ يُكَذِّبُهُ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالنَّفْسُ تُمَنَّى وَتَشْتَهِي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } .
فَإِذَا عَلِمَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلْيَتَكَلَّمْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ

بِمَا عَلِمَ فَلْيَعْمَلْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ ، فَيَطَّرِدُ الْفِعْلُ وَالْقَوْلُ وَالْعِلْمُ ، فَيَقَعُ إيمَانًا لُغَوِيًّا شَرْعِيًّا ؛ أَمَّا لُغَةً فَلِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْفِعْلَ تَصْدِيقًا قَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } وَصِدْقُ الْوَعْدِ اتِّصَالُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَجَازٌ .
قُلْنَا : هَذِهِ حَقِيقَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } .
وَعَلَى ضِدِّهِ جَاءَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ } .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الزِّيَادَةِ فِيهِمَا وَالنُّقْصَانِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْمَعْرِفَةُ أَوْ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ فَأَبْعَدَ الزِّيَادَةَ فِيهِ وَالنُّقْصَانَ ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ ؛ وَزَعَمُوا أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْ النَّقْصَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَعْرَاضِ ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى فِي الْأَجْسَامِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْأَعْمَالُ فَتَصَوَّرَ فِيهَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ : هَلْ يَزِيدُ الْإِيمَانُ وَيَنْقُصُ ؟ فَقَالَ : يَزِيدُ ، وَلَمْ يَقُلْ يَنْقُصُ .
وَأَطْلَقَ غَيْرُهُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ عَلَيْهِ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ ، وَالْكُلُّ بَأْجٌ وَاحِدٌ وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَخْرُجُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا أَعْرَاضًا كَمَا بَيَّنَّا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَزِيدُ بِذَاتِهِ وَلَا يَنْقُصُ بِهَا ، وَإِنَّمَا لَهُ وُجُودٌ أَوَّلُ ، فَلِذَلِكَ الْوُجُودُ أَصْلٌ ، ثُمَّ إذَا انْضَافَ إلَيْهِ وُجُودٌ مِثْلُهُ وَأَمْثَالُهُ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهِ ، وَإِنْ عُدِمْت تِلْكَ الزِّيَادَةُ فَهُوَ النَّقْصُ ، وَإِنْ عُدِمَ الْوُجُودُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ الْمِثْلُ لَمْ يَكُنْ

زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ ؛ وَقَدْرُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمُ أَوْ فِي الْحَرَكَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ عِلْمًا فَرْدًا ، وَخَلَقَ مَعَهُ مِثْلَهُ أَوْ أَمْثَالَهُ بِمَعْلُومَاتٍ مُقَدَّرَةٍ فَقَدْ زَادَ عِلْمُهُ ، فَإِنْ أَعْدَمَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فَقَدْ نَقَصَ أَيْ زَالَتْ الزِّيَادَةُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَقَ حَرَكَةً وَخَلَقَ مَعَهَا مِثْلَهَا أَوْ أَمْثَالَهَا ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ الْعِلْمَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ وَخَلَقَ لَهُ التَّصْدِيقَ بِهِ بِالْقَوْلِ النَّفْسِيِّ ، أَوْ الظَّاهِرِ ، وَخَلَقَ لَهُ الْهُدَى لِلْعَمَلِ بِهِ [ وَلَيْسَ الْعَمَلُ ] ، ثُمَّ خَلَقَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَمْثَالَهُ فَقَدْ زَادَ إيمَانُهُ .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فُضِّلَ الْأَنْبِيَاءِ [ عَلَى ] الْخَلْقِ ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوهُ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ أَكْثَرَ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي عَلِمَهُ الْخَلْقُ بِهَا ، فَمَنْ عَذِيرِي مِمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الْأَعْمَالَ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ وَلَا تَزِيدُ الْمَعْرِفَةُ وَلَا تَنْقُصُ ؛ لِأَنَّهَا عَرَضٌ ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَعْرَاضٌ وَالْحَالَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ ؛ وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ ، فَقَالَ : { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا } .
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } .
وَقَالَ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا } .
وَقَالَ فِي جِهَةِ الْكُفَّارِ : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ } .
فَأَطْلَق الزِّيَادَةَ فِي الْوَجْهَيْنِ : وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ مَالِكًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ امْتَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ النَّقْصِ فِي الْإِيمَانِ لِوُجُوهٍ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، مِنْهَا : أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَنَاوَلُ إيمَانَ اللَّهِ وَإِيمَانَ الْعَبْدِ ؛ فَإِذَا أُطْلِقَ إضَافَةُ النَّقْصِ إلَى مُطْلَقِ الْإِيمَانِ دَخَلَ فِي ذَلِكَ إيمَانُ اللَّهِ ، وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ لِاسْتِحَالَتِهِ فِيهِ عَقْلًا ، وَامْتِنَاعِهِ شَرَعَا .
وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إضَافَةُ ذَلِكَ إلَى إيمَانِ الْعَبْدِ عَلَى التَّخْصِيصِ

، بِأَنْ يَقُولَ : إيمَانُ الْخَلْقِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَجِبُ مَدْحُهَا ، وَيَحْرُمُ ذَمُّهَا شَرْعًا ، وَالنَّقْصُ صِفَةُ ذَمٍّ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ فِيهِ ، وَيَحْرُمُ الذَّمُّ ، فَإِذَا تَحَرَّرَ لَكُمْ هَذَا وَيَسَّرَ اللَّهُ قَبُولَ أَفْئِدَتِكُمْ لَهُ فَإِنَّهُ مُقَلِّبُ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ .
.

فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } : بَيَانٌ لِمَا فَعَلَتْهُ الْعَرَبُ مِنْ جَمْعِهَا بَيْنَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ ، فَإِنَّهَا أَنْكَرَتْ وُجُودَ الْبَارِي ، فَقَالَتْ : وَمَا الرَّحْمَنُ ؟ فِي أَصَحِّ الْوُجُوهِ .
وَأَنْكَرَتْ الْبَعْثَ ، فَقَالَتْ : { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } .
وَأَنْكَرَتْ بَعْثَةَ الرُّسُلِ ، فَقَالَتْ : { أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ } .
وَزَعَمَتْ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إلَيْهَا ، فَابْتَدَعَتْ مِنْ ذَاتِهَا مُقْتَفِيَةً لِشَهَوَاتِهَا التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ ، ثُمَّ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنْ غَيَّرَتْ دَيْنَ اللَّهِ ، وَأَحَلَّتْ مَا حَرَّمَ ، وَحَرَّمَتْ مَا أَحَلَّ تَبْدِيلًا وَتَحْرِيفًا ، وَاَللَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ مَا فَعَلَتْ مِنْ تَغْيِيرِ الدَّيْنِ وَتَبْدِيلِ الشَّرْعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } : أَيْ خَلَقَ لَهُمْ اعْتِقَادَ الْحُسْنِ فِيهَا ، وَهِيَ قَبِيحَةٌ ، فَنَظَرُوا فِيهَا بِالْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ ؛ لِطَمْسِ أَعْيُنِهِمْ وَفَسَادِ بَصَائِرَهُمْ ؛ وَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ فِي عَدَمِ الْهُدَى لِلْكَافِرِينَ .
.

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { مَا لَكُمْ } : مَا : حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ ، التَّقْدِيرُ : أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ عَنْ كَذَا ؟ كَمَا تَقُولُ مَا لَك عَنْ فُلَانٍ مُعْرِضًا .
وَنِظَامُهُ الصِّنَاعِيُّ مَا حَصَّلَ لَك مَانِعًا لِكَذَا أَوْ كَذَا .
وَكَذَا تَقُولُ : مَا لَك تَقُومُ وَتَقْعُدُ ؟ التَّقْدِيرُ : أَيُّ شَيْءٍ حَصَّلَ لَك مَانِعًا مِنْ الِاسْتِقْرَارِ ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } : يُقَالُ : نَفَرَ إذَا زَالَ عَنْ الشَّيْءِ .
وَتَصْرِيفُهُ نَفَرَ يَنْفِرُ نَفِيرًا ، وَنَفَرَتْ الدَّابَّةُ تَنْفِرُ نُفُورًا ، وَكَأَنَّ النُّفُورَ فِي الْإِبَايَةِ ، وَالنَّفِيرَ فِي الْإِقْبَالِ وَالسِّعَايَةِ .
وَقَدْ يُؤَلَّفَانِ عَلَى رَأْيِ مِنْ يَرَى تَأْلِيفَ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِوَجْهٍ يَبْعُدُ تَارَةً وَيَقْرُبُ أُخْرَى ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ هَاهُنَا : زُولُوا عَنْ أَرْضِيكُمْ وَأَهْلِيكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

أقسام الكتاب

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق