كتاب : أحكام القرآن ج2.
المؤلف:ابن العربي
الْأُولَى
، وَخَمْسًا فِي الْآخِرَةِ ، وَيُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ ،
ثَلَاثًا فِي الْأُولَى وَثِنْتَيْنِ فِي الثَّانِيَةِ " .
وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ،
سَبْعًا فِي الْأُولَى ، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ ، سِوَى تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ وَتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ
" .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ : " ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً مِثْلَهُ " وَرُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ؛ سَبْعًا
فِي الْأُولَى وَسِتًّا فِي الثَّانِيَةِ " .
وَرُوِيَ عَنْهُ : " إنْ شِئْت سَبْعًا ، أَوْ
إحْدَى عَشْرَةَ ، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ " وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ :
" يُكَبِّرُ تِسْعًا : خَمْسًا فِي الْأُولَى ، وَأَرْبَعًا فِي الثَّانِيَةِ
" وَمِثْلُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي مُوسَى ؛ وَرُوِيَ عَنْهُمَا : "
يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ أَرْبَعًا كَتَكْبِيرِ الْجَنَائِزِ " .
وَقَدْ أَرْسَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ
الْمَدِينَةِ إلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ ، سَأَلَهُمْ عَنْ
التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ ، فَقَالُوا : ثَمَانِي تَكْبِيرَاتٍ ، فَذَكَرَهُ
لِابْنِ سِيرِينَ ، فَقَالَ : صَدَقَ ، وَلَكِنَّهُ أَغْفَلَ تَكْبِيرَةَ
فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ .
وَاخْتَلَفَ رَأْيُ الْفُقَهَاءِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ : سَبْعًا
فِي الْأُولَى ، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ .
إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : سَبْعًا فِي الْأُولَى
بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : سِوَى تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ .
قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ : سِوَى تَكْبِيرَةِ
الْقِيَامِ ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُكَبِّرُ خَمْسًا فِي الْأُولَى ،
وَأَرْبَعًا فِي الثَّانِيَةِ ، سِتٌّ فِيهَا زَوَائِدُ ، وَثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ
بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ ، لَكِنْ يُوَالِي بَيْنَ
الْقِرَاءَتَيْنِ ، وَيُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ فِي الْأُولَى قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ،
وَيُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ فِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ
التَّكْبِيرِ .
وَرَوَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ الصَّحَابَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى مَذْهَبِهِمْ .
وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا كَأَعْدَادِ الْوُضُوءِ
وَرَكَعَاتِ صَلَاةِ اللَّيْلِ ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ قَائِلِهِ لَيْسَ فِي
الْوُضُوءِ أَعْدَادٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا ، وَلَا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ
رَكَعَاتٌ مُقَدَّرَةٌ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ رِوَايَاتٍ فِي صَلَاةِ
جَمَاعَاتٍ ، فَهِيَ كَاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ؛
وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ فِيهَا عِنْدَ النَّظَرِ إلَيْهَا : أَحَدُهَا : أَنْ
يُقَالَ : إنَّ الْمَرْءَ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ رِوَايَةٍ ، فَمَنْ فَعَلَ مِنْهَا شَيْئًا
تَمَّ لَهُ الْمُرَادُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ نَفْسُ التَّكْبِيرِ لَا قَدْرُهُ .
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ رِوَايَةَ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ أَرْجَحُ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ بِالدِّينِ أَقْعَدُ فَإِنَّهُمْ
شَاهَدُوهَا ، فَصَارَ نَقْلُهُمْ كَالتَّوَاتُرِ لَهَا .
وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ مَالِكٍ عَلَى قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَأَى تَكْبِيرًا يَتَأَلَّفُ مِنْ مَجْمُوعِهِ
وِتْرٌ ، وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ [ وَإِلَيْهِ أَمِيلُ ] .
وَقَدْ يُمْكِنُ تَلْخِيصُ بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ
بِأَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَدَّ الْأُصُولَ وَالزَّوَائِدَ
مَرَّةً وَأَخْبَرَ عَنْهَا ، فَيَأْتِيَ مِنْ مَجْمُوعِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ ،
أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى الزَّوَائِدِ فِي الذِّكْرِ وَيَحْذِفَ الْأَصْلِيَّاتِ الثَّلَاثَ
فَيَظْهَرُ هَاهُنَا التَّبَايُنُ أَكْثَرَ ، وَلَكِنْ يَفْضُلُ الْكُلُّ مَا
قَدَّمْنَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى أَعْمَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ ، فَرَوَى
أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَمَّارٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ مِنْ
صَلَاةِ الْفَجْرِ غَدَاةَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ آخِرَ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ يَوْمَ دَفْعَةِ النَّاسِ الْعُظْمَى } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ ، وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ
يَقُولُ : عَلَى مَكَانِكُمْ ، وَيَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ } .
وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ : " أَنَّهُمْ
كَانُوا يُكَبِّرُونَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَلَا يُكَبِّرُونَ فِي صَلَاةِ
الصُّبْحِ " كَذَلِكَ فَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ
مَحْصُورٌ .
وَرَوَى رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : سَمِعْته يُكَبِّرُ فِي الصَّلَوَاتِ
أَيَّامَ التَّشْرِيقِ : اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا .
وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ أَبِي جَعْفَرٍ [ عَنْ جَابِرٍ ] ،
أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ، وَذَكَرَهَا
ابْنُ الْجَلَّابِ مِنْ أَصْحَابِنَا
.
وَاخْتَارَ عُلَمَاؤُنَا التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ ،
وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ
عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْإِقْبَالَ عَلَى التَّكْبِيرِ
وَالتَّهْلِيلِ ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَنَاسِكِ
شُكْرًا عَلَى مَا أَوْلَى مِنْ الْهِدَايَةِ وَأَنْقَذَ بِهِ مِنْ الْغَوَايَةِ ،
وَبَدَلًا عَمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِنْ التَّفَاخُرِ
بِالْآبَاءِ ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْأَحْسَابِ ، وَتَعْدِيدِ الْمَنَاقِبِ ، عَلَى
مَا يَأْتِي تِبْيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ
وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ
إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا
عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ
مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ } .
فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْأَئِمَّةُ : الْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُ عَنْ الْبَرَاءِ : { أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إذَا حَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ
قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ ،
وَأَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا ، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ
أَتَى امْرَأَتَهُ ، فَقَالَ : أَعِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قَالَتْ : لَا ، وَلَكِنِّي أَنْطَلِقُ
فَأَطْلُبُ ، وَكَانَ يَعْمَلُ يَوْمَهُ ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ ، فَجَاءَتْهُ
امْرَأَتُهُ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَدْ نَامَ قَالَتْ : خَيْبَةً لَك ؛ فَلَمَّا
انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ ، { وَأَنَّ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَدْ سَمَرَ عِنْدَهُ لَيْلَةً ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ نَامَتْ
فَأَرَادَهَا فَقَالَتْ : قَدْ نِمْتُ ، فَقَالَ : مَا نِمْت ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا ،
وَصَنَعَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِثْلَهُ
.
فَغَدَا عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَعْتَذِرُ إلَى اللَّهِ وَإِلَيْك ؟ فَإِنَّ
نَفْسِي زَيَّنَتْ لِي مُوَاقَعَةَ أَهْلِي ، فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ
رُخْصَةٍ
؟ فَقَالَ لَهُ : لَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ حَقِيقًا يَا عُمَرُ ، فَلَمَّا بَلَغَ
بَيْتَهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَنْبَأَهُ بِعُذْرِهِ فِي آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ } .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ
قَالَ : " جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَرَادَ أَهْلَهُ ،
فَقَالَتْ : إنِّي قَدْ نِمْت : فَظَنَّ أَنَّهَا تَعْتَلُّ ، فَأَتَاهَا ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ " .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي " الرَّفَثِ " : الرَّفَثُ يَكُونُ الْإِفْحَاشَ فِي
الْمَنْطِقِ ، وَيَكُونُ حَدِيثَ النِّسَاءِ ، وَيَكُونُ مُبَاشَرَتَهُنَّ ، وَالْمُرَادُ
بِهِ هَاهُنَا الْمُبَاشَرَةُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : الْمُبَاشَرَةُ
الْجَمْعُ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ يَكُنِّي ، وَهَذَا يَعْضُدُ
قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ يَصُومُونَ
، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } : الْمَعْنَى هُنَّ [
سِتْرٌ ] لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَيُفْضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ إلَى
صَاحِبِهِ ، وَيَسْتَتِرُ بِهِ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ .
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَا
يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ صَاحِبِهِ لِمُخَالَطَتِهِ إيَّاهُ
وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ .
وَقِيلَ :
الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مُتَعَفِّفٌ
بِصَاحِبِهِ مُسْتَتِرٌ بِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ التَّعَرِّي مَعَ
غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ رِوَايَةِ عُمَرَ وَكَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلِمَ الْخِيَانَةَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا عَلِمَ مَوْجُودًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَتَقْدِيرُهُ : عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَرَخَّصَ لَكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } قَدْ بَيَّنَّا فِي
كِتَابِ الْأَمْرِ تَوْبَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَمَعْنَى وَصْفِهِ
بِأَنَّهُ التَّوَّابُ ، وَقَدْ تَابَ عَلَيْنَا رَبُّنَا هَاهُنَا بِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : قَبُولُهُ تَوْبَةَ مَنْ اخْتَانَ نَفْسَهُ .
وَالثَّانِي : تَخْفِيفُ مَا ثَقُلَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
: { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أَيْ رَجَعَ إلَى
التَّخْفِيفِ .
قَالَ عُلَمَاءُ الزُّهْدِ : وَكَذَا فَلْتَكُنْ الْعِنَايَةُ
وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ ، خَانَ نَفْسَهُ عُمَرُ فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى
شَرِيعَةً ، وَخَفَّفَ لِأَجْلِهِ عَنْ الْأُمَّةِ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَأَرْضَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } : مَعْنَاهُ : قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ جِمَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا جُوعُ قَيْسٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ جُوعَ قَيْسٍ لَقَالَ : فَالْآنَ كُلُوا ، ابْتَدَأَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَةُ لِأَجْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ
الْحَلَالِ .
الثَّانِي : مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْوَلَدِ .
الثَّالِثُ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ .
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَامٌّ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ
قَيْسٍ ، وَالثَّانِي خَاصٌّ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ عُمَرَ ، وَالثَّالِثُ عَامٌّ
فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } : هَذَا جَوَابُ نَازِلَةِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ ، وَالْأَوَّلُ جَوَابُ نَازِلَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَبَدَأَ بِنَازِلَةِ عُمَرَ ؛ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ
مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } : رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ
: { قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَمَدْت إلَى
عِقَالَيْنِ لِي أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي ،
وَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ إلَيْهِمَا فَلَا يَسْتَبِينُ لِي فَعَمَدْت
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ ،
فَقَالَ : إنَّمَا
ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { مِنْ
الْفَجْرِ } } .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَمْنَعَنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سُحُورِكُمْ ،
فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، لِيُرْجِعَ قَائِمَكُمْ ، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ ،
وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَصَوَّبَ يَدَهُ وَرَفَعَهَا حَتَّى يَقُولَ :
هَكَذَا وَضَرَبَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ
} .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ }
: فَشَرَطَ رَبُّنَا تَعَالَى إتْمَامَ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ اللَّيْلُ ، كَمَا
جَوَّزَ الْأَكْلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ النَّهَارُ ، وَلَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ
اللَّيْلُ فَالسُّنَّةُ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ { : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ؛ فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى ، فَقَالَ
لِرَجُلٍ : انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي
.
قَالَ : لَوْ انْتَظَرْت حَتَّى تُمْسِيَ .
قَالَ :
انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي إذَا رَأَيْت اللَّيْلَ قَدْ
أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ } .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ مُخَالَفَةً
لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ السُّنَّةُ تَقْدِيمُ الْإِمْسَاكِ إذَا قَرُبَ
الْفَجْرُ عَنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الْأَكْلَ مَعَ
الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالشَّافِعِيُّ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ } وَلِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ } ، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ : أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ .
وَتَأَوَّلَهُ عُلَمَاؤُنَا : قَارَبْت الصَّبَاحَ ،
وَقَارَبْت تَبَيُّنَ الْخَيْطِ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ
وَحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
يُوشِكُ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ } .
وَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَأَكَلْت لَمْ تَخَفْ
مُوَاقَعَةَ مَحْظُورٍ ، وَإِذَا دَنَا الصَّبَاحُ لَمْ يَحِلَّ لَك الْأَكْلُ ؛
لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَك فِي الْمَحْظُورِ غَالِبًا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ سُنَّ الْفِطْرُ شَرْعًا ، أَكَلَ
أَوْ لَمْ يَأْكُلْ ؛ فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ لِعُذْرٍ أَوْ لِشُغْلٍ جَازَ ،
وَإِنْ تَرَكَهُ قَصْدًا لِمُوَالَاةِ الصِّيَامِ قُرْبَةً اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
؛ فَمِمَّنْ رَآهُ جَائِزًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، كَانَ يَصُومُ الْأُسْبُوعَ
وَيُفْطِرُ عَلَى الصَّبْرِ ، وَرَآهُ الْأَكْثَرُ حَرَامًا لِمَا فِيهِ مِنْ
مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ وَالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ
تَحْرِيمِهِ مَعْرُوفَةٌ ، وَهِيَ ضَعْفُ الْقُوَى وَإِنْهَاكُ الْأَبْدَانِ .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ : فَإِنَّك تُوَاصِلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَيُّكُمْ مِثْلِي ؟ إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي
وَيَسْقِينِي .
فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ
وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا وَيَوْمًا ، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ ، فَقَالَ : لَوْ
تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ } ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ، وَإِنَّمَا كَانَ
شَفَقَةً عَلَيْهِمْ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلُوهُ ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا
فَعَلُوهُ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُوَاصِلُوا ؛
فَأَيُّكُمْ أَرَادَ الْوِصَالَ فَلْيُوَاصِلْ ، حَتَّى السَّحَرِ } ، وَهَذِهِ
إبَاحَةٌ لِتَأْخِيرِ الْفِطْرِ ، وَمَنْعٌ مِنْ إيصَالِ يَوْمٍ بِيَوْمٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } :
بَيَّنَ بِذَلِكَ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ ؛ وَهِيَ الْأَكْلُ ، وَالشُّرْبُ ، وَالْجِمَاعُ .
فَأَمَّا ظَاهِرُ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ اتِّصَالُ
الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا حَرَامٌ
.
الثَّانِي : أَنَّهَا مُبَاحَةٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ بَيْنَ مَنْ يَخَافُ عَلَى
نَفْسِهِ التَّعَرُّضَ لِفَسَادِ الصَّوْمِ وَبَيْنَ مَنْ يَأْمَنُ ذَلِكَ عَلَى
نَفْسِهِ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهَا : أَنَّهَا سَبَبٌ
وَدَاعِيَّةٌ إلَى الْجِمَاعِ ، وَذَرِيعَةٌ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، فَيُخْتَلَفُ فِي
حُكْمِهَا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْرِيمِ الذَّرَائِعِ الَّتِي تَدْعُو إلَى الْمَحْظُورَاتِ
؛ فَأَمَّا عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فَاعْتَبَرُوا حَالَ الرَّجُلِ وَخَوْفَهُ
عَلَى صَوْمِهِ وَأَمْنَهُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ : { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ أَزْوَاجَهُ
عَائِشَةَ وَغَيْرَهَا ، وَهُوَ صَائِمٌ ، وَيَأْمُرُ بِالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ } ؛
لَكِنَّ النَّبِيَّ كَانَ أَمْلَكَنَا لِإِرْبِهِ .
وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْتَى عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ بِجَوَازِهَا
وَهُوَ شَابٌّ } ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهَا مَا اعْتَبَرَ عُلَمَاؤُنَا
مِنْ حَالِ الْمُقَبِّلِ ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ تَجَاوَزَ فِي التَّفْصِيلِ حَدَّ
الْفُتْيَا ، وَنَحْنُ نَضْبِطُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَنَقُولُ : أَمَّا إنْ أَفْضَى التَّقْبِيلُ وَالْمُبَاشَرَةُ
إلَى الْمَذْيِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي الطَّهَارَةِ
الصُّغْرَى ، وَأَمَّا إنْ خِيفَ إفْضَاؤُهُ إلَى الْمَنِيِّ فَذَلِكَ الْمَمْنُوعُ
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ إنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ } الْفَجْرَ وَيَتَأَخَّرُ
الْبَيَانُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ؟ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ
الْحَاجَةِ إلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ حَتَّى يَقَعَ الْخَطَأُ عَنْ
الْمَقْصُودِ لَا يَجُوزُ .
فَالْجَوَابُ
: أَنَّ الْبَيَانَ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ ، لَكِنْ
عَلَى وَجْهٍ لَا يُدْرِكُهُ جَمِيعُ النَّاسِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ
يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ
مَكْشُوفًا فِي دَرَجَةٍ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لَمْ يَقَعْ فِيهِ إلَّا عَدِيٌّ وَحْدَهُ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَنِّفْ عَدِيًّا ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى الْبَيَانَ فِيهِ جَلِيًّا
.
وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : { إنَّك لَعَرِيضُ الْقَفَا } ،
وَضَحِكَ ؛ وَلَا يَضْحَكُ إلَّا عَلَى جَائِزٍ ، وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ لَهُ
إلَّا تَعْرِيضُهُ لِلْغَبَاوَةِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْوَطْءَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ جُنُبٌ ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ إجْمَاعًا ؛ وَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ كَلَامٌ ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَإِنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ ، وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ ، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَهُ بِاسْتِنْبَاطِهِ ، وَغَوْصِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } : الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ هُوَ اللُّبْثُ ،
وَهُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَقَلُّهُ لَحْظَةٌ ، وَلَا حَدَّ
لِأَكْثَرِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ مُقَدَّرٌ
بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، لِأَنَّ الصَّوْمَ عِنْدَهُمَا مِنْ شَرْطِهِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ
الصَّائِمِينَ ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ فِي الْوَجْهَيْنِ : أَمَّا اشْتِرَاطُ
الصَّوْمِ فِيهِ بِخِطَابِهِ تَعَالَى لِمَنْ صَامَ فَلَا يَلْزَمُ بِظَاهِرِهِ
وَلَا بَاطِنِهِ ؛ لِأَنَّهَا حَالٌ وَاقِعَةٌ لَا مُشْتَرَطَةٌ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ؛ لِأَنَّ
الصَّوْمَ مِنْ شَرْطِهِ فَضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ
مُقَدَّرَةً بِشَرْطِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ
، وَتَنْقَضِي الصَّلَاةُ وَتَبْقَى الطَّهَارَةُ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ دَلِيلَ وُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهِ ، وَيُغْنِي الْآنَ لَكُمْ عَنْ
ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِعُمَرَ : اعْتَكِفْ وَصُمْ }
.
وَكَانَ شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّاشِيُّ إذَا دَخَلْنَا مَعَهُ مَسْجِدًا بِمَدِينَةِ
السَّلَامِ لِإِقَامَةِ سَاعَةٍ يَقُولُ : انْوُوا الِاعْتِكَافَ تَرْبَحُوهُ .
وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ اسْمٌ
لُغَوِيٌّ شَرْعِيٌّ ، فَجَاءَ الشَّرْعُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ بِتَقْدِيرِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَقَلَّهُ ، وَجَاءَ
فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِكَافِ عَشَرَةِ
أَيَّامٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبَّ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فِي الْمَسَاجِدِ } : مَذْهَبُ مَالِكٍ
الصَّرِيحُ الَّذِي لَا مَذْهَبَ لَهُ سِوَاهُ جَوَازُ الِاعْتِكَافِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ
؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فَعَمَّ
الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا ؛ لَكِنَّهُ إذَا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ لَا جُمُعَةَ
فِيهِ لِلْجُمُعَةِ ، فَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ : يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ ،
وَلَا نَقُولُ بِهِ ؛ بَلْ يَشْرُفُ الِاعْتِكَافُ وَيَعْظُمُ .
وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الِاعْتِكَافِ مِنْ مَسْجِدٍ إلَى
مَسْجِدٍ لَجَازَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إجْمَاعًا ،
فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ أَوْ إلَى سِوَاهُ ؟ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : وَهِيَ بَدِيعَةٌ : فَإِنْ قِيلَ : قُلْتُمْ فِي قَوْله تَعَالَى
: { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ ، وَقُلْتُمْ فِي
قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ } : إنَّهُ اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ ،
فَكَيْفَ هَذَا التَّنَاقُضُ ؟ قُلْنَا : كَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى
: { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } :
إنَّهَا الْمُبَاشَرَةُ بِأَسْرِهَا صَغِيرِهَا
وَكَبِيرِهَا ؛ وَلَوْلَا أَنَّ السُّنَّةَ قَضَتْ عَلَى عُمُومِهَا مَا رَوَتْ
عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ فِي جَوَازِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ مِنْ فِعْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ ، وَبِإِذْنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فِي الْقُبْلَةِ
وَهُوَ صَائِمٌ فَخَصَصْنَاهَا
.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ } فَقَدْ
بَقِيَتْ عَلَى عُمُومِهَا وَعَضَّدَتْهَا أَدِلَّةٌ سِوَاهَا ؛ وَهِيَ أَنَّ
الِاعْتِكَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى رُكْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَرْكُ الْأَعْمَالِ
الْمُبَاحَةِ بِإِجْمَاعٍ .
الثَّانِي : تَرْكُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ سِوَاهُ
مِمَّا يَقْطَعُهُ وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ بَابِهِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَاتُ تُؤَثِّرُ
فِيهِ ، وَالْمُبَاحَاتُ لَا تَجُوزُ مَعَهُ فَالشَّهَوَاتُ أَحْرَى أَنْ تُمْنَعَ
فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } : فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ يَحْرُمُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ مُلْتَزِمُونَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَقِدُونَ لَهُ ، فَهُوَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِلِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَقِدٌ لَهُ رَخَّصَ لَهُ فِي حَاجَةِ الْإِنْسَانِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ ، وَبَقِيَ سَائِرُ أَفْعَالِ الِاعْتِكَافِ كُلِّهَا عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ .
الْآيَةُ
الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ
الْآيَةُ ، مِنْ قَوَاعِدِ الْمُعَامَلَاتِ ، وَأَسَاسِ الْمُعَاوَضَاتِ يَنْبَنِي
عَلَيْهَا ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : هَذِهِ الْآيَةُ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَأَحَادِيثُ الْغَرَرِ ، وَاعْتِبَارُ
الْمَقَاصِدِ وَالْمَصَالِحِ ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ
الْفُرُوعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ
اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقُ كُلِّ مُؤَالِفٍ وَمُخَالِفٍ فِي كُلِّ
حُكْمٍ يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، فَيُسْتَدَلُّ
عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ } فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ
حَتَّى تُبَيِّنَهُ بِالدَّلِيلِ ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومُ ؛
فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يَجُوزُ ، وَلَيْسَ
فِيهَا تَعْيِينُ الْبَاطِلِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ } : الْمَعْنَى : لَا يَأْكُلُ
بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } :
الْمَعْنَى : لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .
وَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَوَجْهُ هَذَا الِامْتِزَاجِ أَنَّ أَخَا الْمُسْلِمِ
كَنَفْسِهِ فِي الْحُرْمَةِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ ؛
أَمَّا الْأَثَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ
وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ
تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } .
وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ رِقَّةَ الْجِنْسِيَّةَ
تَقْتَضِيهِ وَشَفَقَةَ الْآدَمِيَّةِ تَسْتَدْعِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا } : مَعْنَاهُ : وَلَا
تَأْخُذُوا وَلَا تَتَعَاطَوْا .
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ
التَّمَتُّعَ بِهِ فِي شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا
تَأْكُلُوا } فَخَصَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ ؛ لِأَنَّهَا الْأُولَى الْمُثِيرَةُ لِشَهْوَةِ
الْفَرْجِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِالْبَاطِلِ } : يَعْنِي : بِمَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يُفِيدُ مَقْصُودًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ ، وَمَنَعَ مِنْهُ ، وَحَرَّمَ تَعَاطِيَهُ ، كَالرِّبَا وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهِمَا ، وَالْبَاطِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، فَفِي الْمَعْقُولِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْدُومِ ، وَفِي الْمَشْرُوعِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُفِيدُ مَقْصُودًا .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ
} : أَيْ : تُورِدُونَ كَلَامَكُمْ فِيهَا : ضَرَبَ لِلْكَلَامِ الْمَوْرُودِ
عَلَى السَّامِعِ مَثَلًا بِالدَّلْوِ الْمَوْرُودَةِ عَلَى الْمَاءِ ، لِيَأْخُذَ
الْمَاءَ وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ : وَتُدْلُوا كَلَامَكُمْ .
أَوْ يَكُونُ الْكَلَامِ مُمَثَّلًا بِالْحَبْلِ ،
وَالْمَالُ الْمَذْكُورُ مُمَثَّلًا بِالدَّلْوِ ؛ لِتَقْطَعُوا قِطْعَةً مِنْ
أَمْوَالِ غَيْرِكُمْ ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُخَاصِمُ .
{ بِالْإِثْمِ } : أَيْ مَقْرُونَةً بِالْإِثْمِ {
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : تَحْرِيمَ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ
قَطْعًا غَيْرُ جَائِزٍ إجْمَاعًا ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ
بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ ،
فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ ، فَإِنَّمَا
أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ
مَدَارَ حُكْمِ الْحَاكِمِ [ هُوَ فِي الظَّاهِرِ ] عَلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ
لَا حَظَّ لَهُ فِي الْبَاطِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُ عِلْمُهُ ، فَلَا
يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُهُ ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ
الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ سُبْحَانَهُ وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصْطَفَى لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ يَتَبَرَّأُ مِنْ
الْبَاطِنِ ، وَيَتَنَصَّلُ مِنْ تَعَدِّي حُكْمِهِ إلَيْهِ ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ
مِنْ الْخَلْقِ ؟ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْحَاكِمَ مُصِيبٌ فِي حُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ أَخْطَأَ الصَّوَابَ
عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : {
وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا } بِحُكْمِهِمْ { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
} بُطْلَانَ ذَلِكَ ، وَالْحَاكِمُ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ ، وَالظَّالِمُ
فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ .
الْآيَةُ
التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى { : يَسْأَلُونَك
عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى
وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
نَاسًا سَأَلُوا عَنْ زِيَادَةِ الْأَهِلَّةِ وَنُقْصَانِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ .
الثَّانِي :
رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ لِمَ جُعِلَتْ الْأَهِلَّةُ ؟ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ } .
وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَيْنِ
.
وَفِي الْأَثَرِ أَنَّهُ وَكَّلَ بِهِمَا مَلَكَيْنِ ؛
وَرَتَّبَ لَهُمَا مَطْلَعَيْنِ ، وَصَرَّفَهُمَا بَيْنَهُمَا لِمَصْلَحَتَيْنِ :
إحْدَاهُمَا دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِالشَّمْسِ ، وَالْأُخْرَى
دِينِيَّةٌ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَمَرِ ؛ وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ جَعَلَ أَهْلُ
تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا الشَّمْسَ مَلَكًا أَعْجَمِيًّا وَالْقَمَرَ مَلَكًا
عَرَبِيًّا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { : قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } : يَعْنِي : فِي صَوْمِهِمْ وَإِفْطَارِهِمْ وَآجَالِهِمْ
فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَمَنَافِعَ كَثِيرَةٍ لَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْحَجِّ } : مَا فَائِدَةُ
تَخْصِيصِ الْحَجِّ آخِرًا مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ ؟
وَهِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحُجُّ بِالْعَدَدِ وَتُبَدِّلُ الشُّهُورَ ؛
فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلَهُمْ وَقَوْلَهُمْ ، وَجَعَلَهُ مَقْرُونًا
بِالرُّؤْيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ
مِيقَاتٌ فَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } ، فَإِنْ لَمْ يُرَ
فَلْيُرْجَعْ إلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ جُهِلَ أَوَّلُ
الشَّهْرِ عُوِّلَ عَلَى عَدَدِ الْهِلَالِ قَبْلَهُ ، وَإِنْ عُلِمَ أَوَّلُهُ بِالرُّؤْيَةِ
بُنِيَ آخِرُهُ عَلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَى رُؤْيَتِهِ ، لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا
عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ }
.
وَرُوِيَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا
ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا }
.
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : إذَا رَأَى أَحَدٌ الْهِلَالَ كَبِيرًا : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا
يُعَوَّلُ عَلَى كِبَرِهِ وَلَا عَلَى صِغَرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَيْلَتِهِ
، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ
الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ مَا
تَزُولُ الشَّمْسُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ " .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ : أَنَّ هِلَالَ شَوَّالٍ رُئِيَ
بِعَشِيٍّ فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَمْسَى .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ : قَدِمْنَا
حُجَّاجًا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالصِّفَاحِ رَأَيْنَا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ
كَأَنَّهُ ابْنُ خَمْسِ لَيَالٍ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
سَأَلْنَاهُ فَقَالَ : جَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ يُصَامُ
لِرُؤْيَتِهَا وَيُفْطَرُ لِرُؤْيَتِهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا رُئِيَ قَبْلَ
الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ : وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ ،
وَابْنُ وَهْبٍ ، وَغَيْرُهُمَا : هُوَ لِلْمَاضِيَةِ .
وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ضَعِيفٌ عَنْ عُمَرَ ،
وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ :
" أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ
بَعْضٍ ، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ " .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْمَنَاسِكَ مِنْ صَوْمٍ وَحَجٍّ تَنْبَنِي عَلَى حِسَابِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ
قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ
بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَتَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ } فَجَعَلَ جَمِيعَهَا مِيقَاتًا لِلْحَجِّ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛
لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَفَادَتْ بَيَانَ حِكْمَةِ الْأَهِلَّةِ فِي الْجُمْلَةِ
، فَأَمَّا تَخْصِيصُ الْفَوَائِدِ بِالْأَهِلَّةِ وَتَعْيِينُهَا فَإِنَّمَا
تُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ لِجَمِيعِهَا ، فَكَذَلِكَ
لَا يُحَجُّ لِجَمِيعِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي آيَةٍ
أُخْرَى ، فَقَالَ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } فَبَيَّنَ أَنَّ أَهِلَّتَهُ
مَعْلُومَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأَهِلَّةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ
مِنْ ظُهُورِهَا } : كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ : { أَنَّ
أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا إذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ ، فَإِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِهِ فَرَجَعَ لِحَاجَةٍ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ
الْحُجْرَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْفِ الْبَيْتِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
السَّمَاءِ ؛ فَيَقْتَحِمَ الْجِدَارَ مِنْ وَرَائِهِ ؛ ثُمَّ يَقُومَ فِي
حُجْرَتِهِ فَيَأْمُرَ بِحَاجَتِهِ ، فَتَخْرُجَ إلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ ، حَتَّى
بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ
بِالْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ عَلَى أَثَرِهِ كَانَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي أَحْمَسِيٌّ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَكَانَتْ الْحُمْسُ لَا
يُبَالُونَ ذَلِكَ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : وَأَنَا أَحْمَسِيٌّ يَعْنِي عَلَى
دِينِك فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي تَأْوِيلِهَا
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا بُيُوتُ الْمَنَازِلِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا النِّسَاءُ أَمَرَنَا
بِإِتْيَانِهِنَّ مِنْ الْقُبُلِ لَا مِنْ الدُّبُرِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا مَثَلٌ ؛ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ
يَأْتُوا الْأُمُورَ مِنْ وُجُوهِهَا
.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَحْقِيقِ
هَذِهِ الْأَقْوَالِ : أَمَّا الْقَوْلُ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا النِّسَاءُ :
فَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ ، فَلَمْ يُوجَدْ
وَلَا دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ مَثَلًا فِي إتْيَانِ الْأُمُورِ مِنْ
وُجُوهِهَا : فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ آيَةٍ ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ
مَثَلًا مِنْهَا مَا يَقْرَبُ وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ .
وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْآيَةِ الْبُيُوتُ الْمَعْرُوفَةُ
، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ
ذَكَرْنَا أَوْعَبَهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ ، فَحَقَّقَ أَنَّهَا الْمُرَادُ
بِالْآيَةِ ،
ثُمَّ رَكَّبَ مِنْ الْأَمْثَالِ مَا يَحْمِلُهُ اللَّفْظُ وَيَقْرَبُ ، وَلَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ
مِنْ الْفِقْهِ ، وَهِيَ أَنَّ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ
إلَّا فِي الْمَنْدُوبَاتِ خَاصَّةً دُونَ الْمُبَاحِ وَدُونَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
وَاقْتِحَامُ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا عِنْدَ
التَّلَبُّسِ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ نَدْبًا فَيُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ
الْقُرْبَةِ ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ النَّذْرُ بِمُبَاحٍ وَلَا مَنْهِيٍّ
عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَنْدُوبٍ ؛ وَهَذَا أَصْلٌ حَسَنٌ .
الْآيَةُ
الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ : قَوْله تَعَالَى { : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي مُقَدَّمَةٍ
لَهَا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ ، وَأَوْعَزَ إلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ
بِالْمُعْجِزَةِ وَالتَّذْكِرَةِ ، وَفَسَّحَ لَهُمْ فِي الْمَهْلِ ، وَأَرْخَى
لَهُمْ فِي الطِّيَلِ مَا شَاءَ مِنْ الْمُدَّةِ بِمَا اقْتَضَتْهُ الْمَقَادِيرُ
الَّتِي أَنْفَذهَا ، وَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ ، وَالْكُفَّارُ
يُقَابِلُونَهُ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ ، وَيَتَعَمَّدُونَهُ وَأَصْحَابَهُ بِالْعَدَاوَةِ
وَالْإِذَايَةِ ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ بِاحْتِمَالِ الْأَذَى وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ ،
وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِعْرَاضِ تَارَةً وَبِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ أُخْرَى ،
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، إلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ
فِي الْقِتَالِ .
فَقِيلَ
: إنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ : { أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَاتَلَ ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أُذِنَ لِلَّذِينَ
يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ قِتَالَهُمْ وَقَتْلَهُمْ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ
عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضًا ، فَقَالَ
تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } .
ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُلِّ ، فَقَالَ : {
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } الْآيَةَ ، وَقِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ
آيَةٍ نَزَلَتْ .
وَالصَّحِيحُ مَا رَتَّبْنَاهُ ؛ لِأَنَّ آيَةَ
الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ مَكِّيَّةٌ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ
مُتَأَخِّرَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إلَى الْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا ، فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ ، فَبَايَعَ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ إلَى أَمْرٍ رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ
جَمَاعَةٌ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ بَرَاءَةَ ، وَهَذَا لَا
يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ هَاهُنَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ
بِذَا بَعْدَهُ ، فَقَالَ تَعَالَى { : وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } بَيْدَ أَنَّ أَشْهَبَ رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ
الْمُرَادَ هَاهُنَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، أُمِرُوا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ ، وَهُوَ
الْأَصَحُّ ؛ أَمَرَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ ، إذْ لَا
يُمْكِنُ سِوَاهُ ؛ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي سُورَةِ
بَرَاءَةِ بِقَوْلِهِ { : قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ } ؛
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فَتَعَيَّنَتْ
الْبِدَايَةُ بِهِمْ ، وَبِكُلِّ مَنْ دُونَهُمْ أَوْ عَاوَنَهُمْ ؛ فَلَمَّا
فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَّةَ كَانَ الْقِتَالُ لِمَنْ يَلِي مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي
، حَتَّى تَعُمَّ الدَّعْوَةُ وَتَبْلُغَ الْكَلِمَةُ جَمِيعَ الْآفَاقِ ، وَلَا
يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ الْكَفَرَةِ ، وَذَلِكَ مُتَمَادٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ،
مُمْتَدٌّ إلَى غَايَةٍ هِيَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ :
الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ } .
وَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْقِتَالِ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ } وَقِيلَ غَايَتُهُ نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَنْزِلُ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ
حَكَمًا مُقْسِطًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعُ
الْجِزْيَةَ } .
وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ
نُزُولَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، وَسَيُقَاتِلُ
الدَّجَّالَ ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَهُوَ آخِرُ الْأَمْرِ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الْجِهَادَ
بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ لَيْسَ بِفَرْضٍ إلَّا أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْإِمَامُ
أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَهُ
سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ : وَمَالَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ ، وَظَنَّهُ قَوْمٌ بِابْنِ عُمَرَ
حِينَ رَأَوْهُ مُوَاظِبًا عَلَى الْحَجِّ تَارِكًا لِلْجِهَادِ ، وَقَدْ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ
، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } .
ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَهَذَا هُوَ دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ
الْجِهَادَ بَاقٍ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَإِنَّمَا رَفَعَ الْفَتْحُ الْهِجْرَةَ ،
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؛
يَعْنِي كُفْرًا { وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } .
وَمُوَاظَبَةُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى
الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ الْحَقَّ ، وَهُوَ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّهُ لَا يُجَاهِدُ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي
زَمَانِهِ عُدُولٌ وَجَائِرُونَ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُؤْثِرٌ لِلْحَجِّ
مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : لَمَّا أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدْعُو عَشَرَةَ أَعْوَامٍ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ
عَامًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ ، ثُمَّ
تَعَيَّنَ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ ، سَقَطَ فَرْضُ الدَّعْوَةِ إلَّا عَلَى
الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ ، وَبَقِيَتْ مُسْتَحَبَّةً .
فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ بَلَغَتْ الدَّعْوَةُ وَعَمَّتْ
، وَظَهَرَ الْعِنَادُ ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ لَا يَنْقَطِعُ .
رَوَى مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اُدْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ، فَإِنْ
أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ } ، فَذَكَرَ الدُّعَاءَ إلَى
الشَّهَادَةِ ، ثُمَّ إلَى الْهِجْرَةِ أَوْ إلَى الْجِزْيَةِ ، وَهَذَا إنَّمَا
كَانَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ .
وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُمْ غَارُّونَ فَقَتَلَ
وَسَبَى ، فَعَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَائِزَ
وَالْمُسْتَحَبَّ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تَعْتَدُوا } : فِيهَا ثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : لَا تَقْتُلُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ
الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ
كَافَّةً } وَ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
الثَّانِي :
أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تَعْتَدُوا }
أَيْ لَا تُقَاتِلُوا عَلَى غَيْرِ الدِّينِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } يَعْنِي دِينًا .
الثَّالِثُ :
أَلَّا يُقَاتَلَ إلَّا مَنْ قَاتَلَ ، وَهُمْ
الرِّجَالُ الْبَالِغُونَ ؛ فَأَمَّا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ وَالرُّهْبَانُ
فَلَا يُقْتَلُونَ ؛ وَبِذَلِكَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ أَرْسَلَهُ إلَى الشَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ
لِهَؤُلَاءِ إذَايَةٌ .
وَفِيهِ سِتُّ صُوَرٍ : الْأُولَى : النِّسَاءُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلْنَ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِنَّ ؛ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ ، وَهَذَا مَا لَمْ يُقَاتِلْنَ ، فَإِنْ قَاتَلْنَ
قُتِلْنَ .
قَالَ سَحْنُونٌ : فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ قَتْلُهُنَّ ، إذَا قَاتَلْنَ
عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ وَبَعْدَهَا لِعُمُومِ قَوْله
تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ }
وقَوْله تَعَالَى { : وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } وَلِلْمَرْأَةِ
آثَارٌ عَظِيمَةٌ فِي الْقِتَالِ ؛ مِنْهَا الْإِمْدَادُ بِالْأَمْوَالِ ،
وَمِنْهَا التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ ، فَقَدْ كُنَّ يَخْرُجْنَ نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ
، نَادِبَاتٍ ، مُثِيرَاتٍ لِلثَّأْرِ ، مُعَيِّرَاتٍ بِالْفِرَارِ ، وَذَلِكَ
يُبِيحُ قَتْلَهُنَّ .
الثَّانِيَةُ
: الصِّبْيَانُ ؛ فَلَا يُقْتَلُ الصَّبِيُّ لِنَهْيِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ ،
خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ ، فَإِنْ قَاتَلَ قُتِلَ حَالَةَ الْقِتَالِ ، فَإِذَا
زَالَ الْقِتَالُ فَفِي سَمَاعِ يَحْيَى فِي
الْعُتْبِيَّةِ
يُقْتَلُ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ، فَإِنَّهُ لَا
تَكْلِيفَ عَلَيْهِ ، وَفِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ : لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ
وَلَا الصَّبِيُّ إذَا قَاتَلَا ، وَأُخِذَا بَعْدَ ذَلِكَ أَسِيرَيْنِ إلَّا أَنْ
يَكُونَا قَتَلَا ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ قِصَاصًا
، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءٌ وَحَدٌّ ، وَاَلَّذِي يُقَوِّي عِنْدِي قَتْلَ
الْمَرْأَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمِنَّةِ ، وَالْعَفْوِ عَنْ الصَّبِيِّ لِعَفْوِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُ فِي مَسَائِلِ الذُّنُوبِ .
الثَّالِثَةُ : الرُّهْبَانُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا
يُقْتَلُونَ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ ؛ بَلْ يُتْرَكُ لَهُمْ مَا يَعِيشُونَ بِهِ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَهَذَا إذَا انْفَرَدُوا عَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ ، لِقَوْلِ
أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ : "
وَسَتَجِدُ أَقْوَامًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا
أَنْفُسَهُمْ لَهُ ، فَإِنْ كَانُوا مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْكَنَائِسِ قُتِلُوا " .
وَلَوْ تَرَهَّبَتْ الْمَرْأَةُ رَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ
أَنَّهَا لَا تُهَاجُ ، وَقَالَ سَحْنُونٌ : لَا يُغَيِّرُ التَّرَهُّبُ حُكْمَهَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي رِوَايَةُ أَشْهَبَ ؛ لِأَنَّهَا
دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ : فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ .
الرَّابِعَةُ : الزَّمْنَى : قَالَ سَحْنُونٌ :
يُقْتَلُونَ ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يُقْتَلُونَ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنْ تُعْتَبَرَ أَحْوَالُهُمْ ؛
فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ إذَايَةٌ قُتِلُوا ، وَإِلَّا تُرِكُوا وَمَا هُمْ
بِسَبِيلِهِ مِنْ الزَّمَانَةِ ، وَصَارُوا مَالًا عَلَى حَالِهِمْ .
الْخَامِسَةُ : الشُّيُوخُ : قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ
مُحَمَّدٍ : لَا يُقْتَلُونَ ، وَرَأْيِي قَتْلُهُمْ ؛ لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { اُقْتُلُوا الشُّيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ } .
وَهَذَا نَصٌّ ، وَيَعْضُدُهُ عُمُومُ الْقُرْآنِ
وَوُجُودُ الْمَعْنَى فِيهِمْ مِنْ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ ، إلَّا أَنْ
يُدْخِلَهُمْ التَّشَيُّخُ وَالْكِبَرُ فِي حَدِّ
الْهَرَمِ
وَالْفَنَدِ ، فَتَعُودُ زَمَانَةً ، وَيَلْحَقُونَ بِالصُّورَةِ الرَّابِعَةِ
وَهِيَ الزَّمْنَى ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْكُلِّ إذَايَةٌ بِالرَّأْيِ ،
وَنِكَايَةٌ بِالتَّدْبِيرِ فَيُقْتَلُونَ أَجْمَعُونَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّادِسَةُ : الْعُسَفَاءُ : وَهُمْ الْأُجَرَاءُ
وَالْفَلَّاحُونَ ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ حَشْوَةٌ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ فِي
كِتَابِ مُحَمَّدٍ : لَا يُقْتَلُونَ ، وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ : " لَا تَقْتُلَنَّ
عَسِيفًا " .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي قَتْلُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ
يُقَاتِلُوا فَهُمْ رِدْءٌ لِلْمُقَاتِلِينَ ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ يُحْكَمُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمُقَاتِلِ ،
وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا الدَّلِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ
، وَأَوْضَحْنَا وُجُوبَ قَتْلِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا فِيهِ غُنْيَةً
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى { : وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ
وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنْ
انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الْمَعْنَى حَيْثُ أَخَذْتُمُوهُمْ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قَتْلِ
الْأَسِيرِ ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَقَالَ : خَيِّرْهُمْ يَعْنِي أَصْحَابَك فِي أَسْرَى بَدْرٍ : الْقَتْلَ أَوْ
الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ مِنْهُمْ قَاتِلًا مِثْلَهُمْ .
قَالُوا : الْفِدَاءَ ، وَيُقْتَلُ مِنَّا } .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ
الْمِغْفَرُ ؛ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ
الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ
} .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } : فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُحْكَمٌ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ
مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ :
وَقَدْ حَضَرْت فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ طَهَّرَهُ اللَّهُ بِمَدْرَسَةِ أَبِي
عُتْبَةَ الْحَنَفِيِّ وَالْقَاضِي الرَّيْحَانِيِّ يُلْقِي عَلَيْنَا الدَّرْسَ
فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ
بَهِيُّ الْمَنْظَرِ عَلَى ظَهْرِهِ أَطْمَارٌ ، فَسَلَّمَ سَلَامَ الْعُلَمَاءِ ،
وَتَصَدَّرَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ بِمَدَارِعِ الرِّعَاءِ ، فَقَالَ لَهُ الرَّيْحَانِيُّ
: مَنْ السَّيِّدُ ؟ فَقَالَ لَهُ : رَجُلٌ سَلَبَهُ الشُّطَّارُ أَمْسِ ، وَكَانَ
مَقْصِدِي هَذَا الْحَرَمَ الْمُقَدَّسَ ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَاغَانَ
مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فَقَالَ الْقَاضِي مُبَادِرًا : سَلُوهُ ، عَلَى
الْعَادَةِ فِي إكْرَامِ الْعُلَمَاءِ بِمُبَادَرَةِ سُؤَالِهِمْ .
وَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَافِرِ
إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ ، هَلْ يُقْتَلُ فِيهِ أَمْ لَا ؟ فَأَفْتَى
بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ، فَسُئِلَ عَنْ الدَّلِيلِ ، فَقَالَ : قَوْله تَعَالَى {
: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ
فِيهِ } .
قُرِئَ : وَلَا تَقْتُلُوهُمْ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ ،
فَإِنْ قُرِئَ وَلَا تَقْتُلُوهُمْ فَالْمَسْأَلَةُ نَصٌّ ، وَإِنْ قُرِئَ وَلَا
تُقَاتِلُوهُمْ فَهُوَ تَنْبِيهٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقِتَالِ الَّذِي
هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ كَانَ دَلِيلًا بَيِّنًا ظَاهِرًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْقَتْلِ .
فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ مُنْتَصِرًا
لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَإِنْ لَمْ يَرَ مَذْهَبَهُمَا عَلَى الْعَادَةِ ،
فَقَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } .
فَقَالَ لَهُ الصَّاغَانِيُّ : هَذَا لَا يَلِيقُ
بِمَنْصِبِ الْقَاضِي وَعِلْمِهِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي اعْتَرَضْت
بِهَا عَلَيَّ عَامَّةٌ فِي الْأَمَاكِنِ ، وَالْآيَةَ الَّتِي احْتَجَجْت بِهَا
خَاصَّةٌ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ
الْخَاصَّ ، فَأَبَهَتْ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ
الْكَلَامِ .
وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ
أَصْحَابِنَا أَهْلَ بِلَادِنَا ، فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ الْعَامَّ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ ، وَهَذَا الْبَائِسُ لَيْتَهُ سَكَتَ عَمَّا لَا
يَعْلَمُ ، وَأَمْسَكَ عَمَّا لَا يَفْهَمُ ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَسَائِلَ
مُجَرَّدَةٍ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : إنَّ
هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ،
وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ
لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } .
فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا
قُرْآنًا وَسُنَّةً ؛ فَإِنْ لَجَأَ إلَيْهَا كَافِرٌ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ،
وَأَمَّا الزَّانِي وَالْقَاتِلُ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ؛
إلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الْكَافِرُ بِالْقِتَالِ فِيهَا فَيُقْتَلُ بِنَصِّ
الْقُرْآنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { : فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } : هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا قَاتَلَ قُتِلَ بِكُلِّ حَالٍ ، بِخِلَافِ الْبَاغِي الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ إذَا قَاتَلَ يُقَاتَلُ بِنِيَّةِ الدَّفْعِ ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } : يَعْنِي انْتَهَوْا بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ
جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ .
وَهَذَا مَا لَمْ يُؤْسَرْ ، فَإِنْ أُسِرَ مَنَعَهُ
الْإِسْلَامُ عَنْ الْقَتْلِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الرِّقُّ ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ
وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، { أَنَّ ثَقِيفًا كَانَتْ حُلَفَاءَ
لِبَنِي عَقِيلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ
بَنِي عَقِيلٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ؛ بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْت
سَابِقَةَ الْحَاجِّ ؟ قَالَ : أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ وَقَدْ
كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ،
إنِّي مُسْلِمٌ .
قَالَ : لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ
أَمْرَك أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ
لِنَفْسِهِ } .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله
تَعَالَى { : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } : يَعْنِي كُفْرٌ ،
بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { : وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ } يَعْنِي الْكُفْرَ ،
فَإِذَا كَفَرُوا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَعَبَدُوا فِيهِ الْأَصْنَامَ ، وَعَذَّبُوا
فِيهِ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، فَكُلُّ ذَلِكَ
فِتْنَةٌ ؛ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الِابْتِلَاءُ
وَالِاخْتِبَارُ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْكُفْرُ فِتْنَةً ؛ لِأَنَّ مَآلَ
الِابْتِلَاءِ كَانَ إلَيْهِ ، فَلَا تُنْكِرُوا قَتْلَهُمْ وَقِتَالَهُمْ ؛ فَمَا
فَعَلُوا مِنْ الْكُفْرِ أَشَدُّ مِمَّا عَابُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { : وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } : قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى
يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي
دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَإِنْ
لَمْ يَفْعَلُوا قُوتِلُوا وَهُمْ الظَّالِمُونَ لَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَيْهِمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ
هُوَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ { : حَتَّى لَا
تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؛ فَجَعَلَ الْغَايَةَ عَدَمَ الْكُفْرِ نَصًّا ، وَأَبَانَ
فِيهَا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ الْكُفْرُ .
وَقَدْ ضَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا ،
وَزَعَمُوا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ هِيَ الْخَرْبَةُ ،
وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي عَلَيْهَا الَّتِي بَعْدَهَا ؛
لِأَنَّهُ أَمَرَ أَوَّلًا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ قِتَالِهِ
وَقَتْلِهِ كُفْرُهُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْقِتَالِ ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِ
مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِابْتِدَاءِ قِتَالٍ مِنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْمُبِيحُ لِلْقَتْلِ هُوَ الْكُفْرُ
لَقُتِلَ كُلُّ كَافِرٍ وَأَنْتَ تَتْرُكُ مِنْهُمْ النِّسَاءَ وَالرُّهْبَانَ
وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَهُمْ
.
فَالْجَوَابُ
: أَنَّا إنَّمَا تَرَكْنَاهُمْ مَعَ قِيَامِ الْمُبِيحِ
بِهِمْ لِأَجْلِ مَا عَارَضَ الْأَمْرَ مِنْ مَنْفَعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ : أَمَّا الْمَنْفَعَةُ
فَالِاسْتِرْقَاقُ فِيمَنْ يُسْتَرَقُّ ؛ فَيَكُونُ مَالًا وَخَدَمًا ، وَهِيَ
الْغَنِيمَةُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ .
وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَإِنَّ فِي اسْتِبْقَاءِ
الرُّهْبَانِ بَاعِثًا عَلَى تَخَلِّي رِجَالِهِمْ عَنْ الْقِتَالِ فَيُضْعِفُ
حَرْبَهُمْ وَيُقِلُّ حِزْبَهُمْ فَيَنْتَشِرُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } :
إبَاحَةٌ لِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ إلَى غَايَةٍ هِيَ الْإِيمَانُ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ
ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ وَهْبٍ : لَا تُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ
جِزْيَةٌ .
وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَائِنَا : تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ
مِنْ كُلِّ كَافِرٍ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَسَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا
عَلِيٍّ الْوَفَاءَ بْنَ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيَّ إمَامَهُمْ بِبَغْدَادَ يَقُولُ
فِي قَوْله تَعَالَى { : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
إنَّ قَوْله تَعَالَى { : قَاتِلُوا } أَمْرٌ
بِالْقَتْلِ .
وقَوْله تَعَالَى { : الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاَللَّهِ } سَبَبٌ لِلْقِتَالِ وقَوْله تَعَالَى { : وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
} إلْزَامٌ لِلْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ } بَيَانُ أَنَّ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ كَأُصُولِهَا
وَأَحْكَامَهَا كَعَقَائِدِهَا
.
وقَوْله تَعَالَى { : وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ }
أَمْرٌ بِخَلْعِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إلَّا دَيْنَ الْإِسْلَامِ .
وقَوْله تَعَالَى : { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
} تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ ، ثُمَّ بَيَّنَ الْغَايَةَ وَبَيَّنَ إعْطَاءَ
الْجِزْيَةِ ، وَثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ
الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ
} .
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ .
{ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي قِتَالِهِ
لِفَارِسَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ
حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَوْ تُؤَدُّوا
الْجِزْيَةَ } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبُرَيْدَةَ
: اُدْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ، وَذَكَرَ الْجِزْيَةَ } ، وَذَلِكَ كُلُّهُ
صَحِيحٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَكُونُ هَذَا نَسْخًا أَوْ
تَخْصِيصًا ؟
فَلَنَا : هُوَ تَخْصِيصٌ ؛
لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ قِتَالَهُمْ وَأَمَرَ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ
كُفْرٌ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : [ { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } ] ؛
فَخَصَّصَ مِنْ الْحَالَةِ الْعَامَّةِ حَالَةً أُخْرَى خَاصَّةً ، وَزَادَ إلَى
الْغَايَةِ الْأُولَى غَايَةً أُخْرَى ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ
حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ } .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي حَدِيثِ آخَرَ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ ،
وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيَانًا وَكَمَالًا .
وَكَذَلِكَ :
{ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى
ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلُ
نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } ، ثُمَّ بَيَّنَ الْقَتْلَ فِي مَوَاضِعَ لِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ
سَنُبَيِّنُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سَبْعٍ حِينَ قَضَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَتَهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ
عَنْ الَّتِي صَدَّهُ عَنْهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ سَنَةَ سِتٍّ فِي الْحُدَيْبِيَةِ
فِي ذِي الْقِعْدَةِ ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ
، وَقَدْ أَخْلَتْهَا قُرَيْشٌ ، وَقَضَى نُسُكَهُ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
الْمَعْنَى
: شَهْرٌ بِشَهْرٍ وَحُرْمَةٌ بِحُرْمَةٍ ، وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي كُلِّ
مُكَلَّفٍ قَطَعَ بِهِ عُذْرٌ أَوْ عَدُوٌّ عَنْ عِبَادَةٍ ثُمَّ قَضَاهَا أَنَّ
الْحُرْمَةَ وَاحِدَةٌ وَالْمَثُوبَةَ سَوَاءٌ .
وَقِيلَ : إنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : أَنُهِيتَ يَا
مُحَمَّدُ عَنْ الْقِتَالِ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَرَادُوا
قِتَالَهُ فِيهِ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ
.
الْمَعْنَى إنْ اسْتَحَلُّوا ذَلِكَ فِيهِ فَقَاتِلْهُمْ
عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ بِالْحُرْمَةِ قِصَاصٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَك
أَنْ تُبِيحَ دَمَ مَنْ أَبَاحَ دَمَك ، وَتَحِلَّ مَالُ مَنْ اسْتَحَلَّ مَالَك ،
وَمَنْ أَخَذَ عِرْضَك فَخُذْ عِرْضَهُ بِمِقْدَارِ مَا قَالَ فِيك ، وَلِذَلِكَ
كُلِّهِ تَفْصِيلٌ : أَمَّا مَنْ أَبَاحَ دَمَك فَمُبَاحٌ دَمُهُ لَك ، لَكِنْ بِحُكْمِ
الْحَاكِمِ لَا بِاسْتِطَالَتِك وَأَخْذٍ لِثَأْرِك بِيَدِك ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ مَالَك فَخُذْ مَالَهُ إذَا تَمَكَّنْت
مِنْهُ ، إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَالِك : طَعَامًا بِطَعَامٍ ، وَذَهَبًا
بِذَهَبٍ ، وَقَدْ أَمِنْت مِنْ أَنْ تُعَدَّ سَارِقًا .
وَأَمَّا إنْ تَمَكَّنْت مِنْ مَالِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ
جِنْسِ مَالِك فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُؤْخَذُ
إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَتَحَرَّى قِيمَتَهُ
وَيَأْخُذُ مِقْدَارَ ذَلِكَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي .
وَأَمَّا إنْ أَخَذَ عِرْضَك فَخُذْ عِرْضَهُ لَا
تَتَعَدَّاهُ إلَى أَبَوَيْهِ وَلَا إلَى ابْنِهِ أَوْ قَرِيبِهِ .
لَكِنْ لَيْسَ لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ
كَذَبَ عَلَيْك ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَابَلُ بِالْمَعْصِيَةِ ؛ فَلَوْ
قَالَ لَك مَثَلًا : يَا كَافِرُ ، جَازَ لَك أَنْ تَقُولَ لَهُ : أَنْتَ
الْكَافِرُ ؛ وَإِنْ قَالَ لَك : يَا زَانٍ ، فَقِصَاصُك أَنْ تَقُولَ : يَا
كَذَّابُ ، يَا شَاهِدَ زُورٍ .
وَلَوْ قُلْت لَهُ : يَا زَانٍ ، كُنْت كَاذِبًا فَأَثِمْت
فِي الْكَذِبِ ، وَأَخَذْت فِيمَا نُسِبَ إلَيْك مِنْ ذَلِكَ ، فَلَمْ تَرْبَحْ
شَيْئًا ، وَرُبَّمَا خَسِرْت .
وَإِنْ مَطَلَك وَهُوَ غَنِيٌّ دُونَ عُذْرٍ قُلْ : يَا
ظَالِمُ ، يَا آكِلَ أَمْوَالِ النَّاسِ .
قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { لَيُّ
الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } .
أَمَّا عِرْضُهُ فَبِمَا فَسَّرْنَاهُ ، وَأَمَّا
عُقُوبَتُهُ فَبِالسَّجْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ .
وَعِنْدِي أَنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ أَخْذُ الْمَالِ
كَمَا أَخَذَ مَالَهُ ، وَأَمَّا إنْ جَحَدَك وَدِيعَةً وَقَدْ اسْتَوْدَعَك
أُخْرَى فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اصْبِرْ عَلَى
ظُلْمِهِ ، وَأَدِّ إلَيْهِ أَمَانَتَهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك ، وَلَا تَخُنْ مَنْ
خَانَك } .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اجْحَدْهُ ، كَمَا جَحَدَك ؛
لَكِنْ هَذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ ، وَلَوْ صَحَّ فَلَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ ،
وَهُوَ إذَا أَوْدَعَك مِائَةً وَأَوْدَعْته خَمْسِينَ فَجَحَدَ الْخَمْسِينَ
فَاجْحَدْهُ خَمْسِينَ مِثْلَهَا ، فَإِنْ جَحَدْت الْمِائَةَ كُنْت قَدْ خُنْت
مَنْ خَانَك فِيمَا لَمْ يَخُنْك فِيهِ ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ ، وَبِهَذَا
الْأَخِيرِ أَقُولُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
} : هَذِهِ الْآيَةُ عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعُمْدَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ وَفِيمَا جَانَسَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ } : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ بِكْرٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ :
إنَّمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ الثَّانِي اعْتِدَاءً ، وَهُوَ مَفْعُولٌ بِحَقٍّ ،
حَمْلًا لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ .
قَالُوا : وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى : {
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } .
وَاَلَّذِي أَقُولُ فِيهِ : إنَّ الثَّانِيَ
كَالْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ فِي
اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَوْجُودٌ فِي
الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَلِّقُ مِنْ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ ؛ فَالْأَوَّلُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالثَّانِي مَأْمُورٌ بِهِ ،
وَتَعَلُّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ وَلَا يَقْلِبُ الْمَعَانِيَ
؛ بَلْ إنَّهُ يُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ وَصْفَ الطَّاعَةِ
وَالْحُسْنِ ، وَيُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ وَصْفَ الْمَعْصِيَةِ
وَالْقُبْحِ ؛ وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَكِلَا
الْفِعْلَيْنِ يَسُوءُ الْوَاقِعُ بِهِ : وَأَحَدُهُمَا حَقٌّ وَالْآخَرُ بَاطِلٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ
مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ ، وَهُوَ
مُتَعَلِّقٌ صَحِيحٌ وَعُمُومٌ صَرِيحٌ ؛ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ ؛
قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ ، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ : أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ وَلَا
قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِكُلِّ مَا
قَتَلَ ، إلَّا الْخَمْرَ وَآلَةَ اللِّوَاطِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
الثَّالِثُ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقْتَلُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ إلَّا
فِي وَجْهَيْنِ وَصِفَتَيْنِ : أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَالْمَعْصِيَةُ كَالْخَمْرِ
وَاللِّوَاطُ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَالسُّمُّ وَالنَّارُ
لَا يُقْتَلُ بِهِمَا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّهُ مِنْ الْمِثْلِ ؛
وَلَسْت أَقُولُهُ ؛ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ الْعَذَابِ .
وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ
نَاسًا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمْ أَكُنْ
لِأُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } ، وَلَقَتَلْتهمْ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ
} ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَالسُّمُّ نَارٌ بَاطِنَةٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
النَّارَيْنِ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِهِ .
وَأَمَّا الْوَصْفَانِ فَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ
مَالِكٍ : إنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ بِالْحَجَرِ مُجْهِزَةً قُتِلَ بِهَا ، وَإِنْ
كَانَتْ ضَرَبَاتٍ فَلَا ، وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا : ذَلِكَ إلَى الْوَلِيِّ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ يُضْرَبُ بِالْعَصَا حَتَّى
يَمُوتَ ، وَلَا يُطَوَّلُ عَلَيْهِ
.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : إنْ رُجِيَ أَنْ يَمُوتَ بِالضَّرْبِ
ضُرِبَ ، وَإِلَّا أُقِيدَ مِنْهُ بِالسَّيْفِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : لَا يُقْتَلُ بِالنَّبْلِ
وَلَا بِالرَّمْيِ
بِالْحِجَارَةِ
؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْذِيبِ .
وَاتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ
يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَفَقَأَ عَيْنَهُ قَصْدَ التَّعْذِيبَ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ ،
كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ الرِّعَاءَ
حَسْبَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مُدَافَعَةٍ وَمُضَارَبَةٍ
قُتِلَ بِالسَّيْفِ .
وَالصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا أَنَّ
الْمُمَاثَلَةَ وَاجِبَةٌ ، إلَّا أَنْ تَدْخُلَ فِي حَدِّ التَّعْذِيبِ
فَلْتُتْرَكْ إلَى السَّيْفِ ، وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَهُوَ عَنْ الْحَسَنِ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلَا
يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ،
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شِبْهِ
الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ ،
{ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : إنِّي لَقَاعِدٌ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ
بِنِسْعَةٍ .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَذَا قَتَلَ أَخِي .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَقَتَلْته ؟ فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَأَقَمْت
عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ .
قَالَ : نَعَمْ ، قَتَلْته .
قَالَ :
كَيْفَ قَتَلْته ؟ قَالَ : كُنْت أَنَا وَهُوَ
نَحْتَطِبُ مِنْ شَجَرَةٍ فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْته بِالْفَأْسِ عَلَى
قَرْنِهِ فَقَتَلْته .
} وَرَوَى أَبُو دَاوُد : { وَلَمْ أُرِدْ قَتْلَهُ .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : هَلْ لَك مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّي عَنْ نَفْسِك ؟ فَقَالَ : مَا لِي
مَالٌ إلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي
.
قَالَ : فَتَرَى قَوْمَك يَشْتَرُونَك ؟ قَالَ : أَنَا
أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ هَذَا
.
قَالَ :
فَرَمَى إلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ ، وَقَالَ : دُونَكَ
صَاحِبَكَ ، فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ ؛ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فَرَجَعَ ، فَقَالَ :
يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، بَلَغَنِي أَنَّك قُلْت كَذَا وَأَخَذْته بِأَمْرِك قَالَ :
أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِك وَإِثْمِ صَاحِبِك ؟ قَالَ : لَعَلَّهُ .
قَالَ : بَلَى .
قَالَ : فَإِنَّ ذَاكَ كَذَلِكَ .
قَالَ : فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ } .
وَالْحَدِيثُ مُشْكِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسْأَلَتِنَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ ،
وَقَدْ قَتَلَ بِالْفَأْسِ .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ { أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ
جَارِيَةٍ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ فَرَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ } اعْتِمَادًا
لِلْمُمَاثَلَةِ وَحُكْمًا بِهَا
.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ : كُنَّا
بِمَدِينَةِ الرُّومِ ، فَأَخْرَجُوا إلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ ،
فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ ، وَعَلَى
أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ
عُبَيْدٍ ، فَحَمَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى
دَخَلَ فِيهِمْ ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا : سُبْحَانَ اللَّهِ ، يُلْقِي بِيَدِهِ
إلَى التَّهْلُكَةِ ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ : يَأَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّكُمْ
لَتَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ
الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ
ضَاعَتْ ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ
أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا : { وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَكَانَتْ
التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا ، وَتَرَكْنَا
الْغَزْوَ ؛ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى
دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ
نَدَبَهُمْ إلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ
أَيْ هَلُمَّ } .
الثَّانِي : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ
زَادٍ تَوَكُّلًا وَاتِّكَالًا
.
وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي
مَوْضِعِهَا ، وَالِاتِّكَالُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ دَائِمٌ ،
وَالثَّانِي : قَدْ يُتَصَوَّرُ إذَا وَجَبَ الْجِهَادُ ، وَالثَّالِثُ صَحِيحٌ
لِأَنَّ إعْدَادَ الزَّادِ فَرْضٌ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي تَفْسِيرِ التَّهْلُكَةِ : فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : لَا تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ .
الثَّانِي :
لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ ، يَشْهَدُ لَهُ قَوْله
تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .
الثَّالِثُ : لَا تَتْرُكُوا الْجِهَادَ .
الرَّابِعُ : لَا تَدْخُلُوا عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي
لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهَا .
الْخَامِسُ : لَا تَيْأَسُوا مِنْ الْمَغْفِرَةِ ؛
قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ
.
قَالَ الطَّبَرِيُّ : هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهَا لَا
تَنَاقُضَ فِيهِ ، وَقَدْ أَصَابَ إلَّا فِي اقْتِحَامِ الْعَسَاكِرِ ؛ فَإِنَّ
الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ
.
فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ ، وَالْقَاسِمُ
بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ عُلَمَائِنَا : لَا بَأْسَ أَنْ
يَحْمِلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ عَلَى الْجَيْشِ الْعَظِيمِ إذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ
وَكَانَ لِلَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ فَذَلِكَ
مِنْ التَّهْلُكَةِ .
وَقِيلَ : إذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ وَخَلَصَتْ
النِّيَّةُ فَلْيَحْمِلْ ؛ لِأَنَّ مَقْصِدَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَذَلِكَ
بَيِّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مِنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ
أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : طَلَبُ الشَّهَادَةِ .
الثَّانِي : وُجُودُ النِّكَايَةِ .
الثَّالِثُ : تَجْرِيَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ :
ضَعْفُ نُفُوسِهِمْ لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ
وَاحِدٍ ، فَمَا ظَنَّك بِالْجَمِيعِ ، وَالْفَرْضُ لِقَاءُ وَاحِدٍ اثْنَيْنِ ،
وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَحْسِنُوا } .
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَحْسِنُوا
الظَّنَّ بِاَللَّهِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ .
الثَّانِي : فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، قَالَهُ
الضَّحَّاكُ .
الثَّالِثُ : أَحْسِنُوا إلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ
شَيْءٌ .
قَالَ الْقَاضِي : الْإِحْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ
الْحُسْنِ ، وَهُوَ كُلُّ مَا مُدِحَ فَاعِلُهُ .
وَلَيْسَ الْحُسْنُ صِفَةً لِلشَّيْءِ ؛ وَإِنَّمَا
الْحُسْنُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ بِمَدْحِ فَاعِلِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلَهُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ : { مَا
الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك } .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ
وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ
أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ
ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
فِيهَا اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا } : فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَحْرِمُوا بِهِمَا مِنْ دِيَارِكُمْ ؛ قَالَهُ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ،
وَسُفْيَانُ .
الثَّانِي : أَتِمُّوهُمَا إلَى الْبَيْتِ [ قَالَهُ
ابْنُ مَسْعُودٍ ] .
الثَّالِثُ : بِحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا ؛ قَالَهُ
مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ : أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ؛ قَالَهُ
ابْنُ جُبَيْرٍ .
الْخَامِسُ : أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ
.
السَّادِسُ : إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا ؛
قَالَهُ مَسْرُوقٌ .
السَّابِعُ : أَلَا يَتَّجِرَ مَعَهُمَا .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَقِيقَةُ
الْإِتْمَامِ لِلشَّيْءِ اسْتِيفَاؤُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَشُرُوطِهِ ،
وَحِفْظُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُنْقِصَاتِهِ ، وَكُلُّ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ
فِي مَعْنَى الْآيَةِ ؛ إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
أَمَّا قَوْلُهُ : أَحْرِمْ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ
أَهْلِك ، فَإِنَّهَا مَشَقَّةٌ رَفَعَهَا الشَّرْعُ وَهَدَمَتْهَا السُّنَّةُ
بِمَا وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَوَاقِيتِ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إلَى الْبَيْتِ ،
فَذَلِكَ وَاجِبٌ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ ، وَلَهُ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِي
مَوْضِعِهَا .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَصَحِيحٌ .
وَأَمَّا أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَالسُّنَّةُ
الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا ، كَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ
الْحَجِّ فَهُوَ التَّمَتُّعُ .
وَأَمَّا إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا فَلَا
خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِمَا حَتَّى بَالَغُوا فَقَالُوا : يَلْزَمُهُ
إتْمَامُهُمَا ، وَإِنْ أَفْسَدَهُمَا
.
وَأَمَّا أَلَّا يَتَّجِرَ فِيهِمَا فَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَرَاءِ
أَلَّا تَمْتَزِجَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ، وَهُوَ أَخْلَصُ فِي النِّيَّةِ
وَأَعْظَمُ لِلْأَجْرِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَرَامٍ ؛ وَالْكُلُّ يُبَيَّنُ فِي
مَوْضِعِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْحَجُّ : وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ ، وَخَصَّهُ الشَّرْعُ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَبِمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ، وَقَدْ كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ ، لَكِنَّهَا غَيَّرَتْهُ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَتَهُ ، وَأَعَادَ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صِفَتَهُ ، وَحَثَّ عَلَى تَعَلُّمِهِ ، فَقَالَ : { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : الْعُمْرَةُ : وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَارَةِ ،
وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ ، خَصَّصَتْهُ
الشَّرِيعَةُ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ ، وَقَصَرَتْهُ عَلَى مَعْنًى مِنْ مُطْلَقِهِ
، عَلَى عَادَتِهَا فِي أَلْفَاظِهَا عَلَى سِيرَةِ الْعَرَبِ فِي لُغَاتِهَا ،
وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وُجُوبُ الْعُمْرَةِ :
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ
وَاجِبَةٌ ، وَيُؤْثَرُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : هِيَ تَطَوُّعٌ ،
وَإِلَيْهِ مَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْوُجُوبِ ؛
لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَرَنَهَا بِالْحَجِّ فِي وُجُوبِ
الْإِتْمَامِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ ، فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ إيجَابَ الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } .
وَابْتَدَأَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ فَقَالَ تَعَالَى : {
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
وَلَمَّا ذَكَرَ الْعُمْرَةَ أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا لَا
بِابْتِدَائِهَا ، فَلَوْ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ أَوْ اعْتَمَرَ عَشْرَ عُمَرَ
لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ فِي جَمِيعِهَا ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِإِلْزَامِ
الْإِتْمَامِ لَا لِإِلْزَامِ الِابْتِدَاءِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا
فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِلَّهِ } : الْأَعْمَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ ، خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ ، وَعِلْمٌ وَإِرَادَةٌ ، وَمَصْدَرٌ وَمَوْرِدٌ ، وَتَصْرِيفٌ وَتَكْلِيفٌ ؛ وَفَائِدَةُ هَذَا التَّخْصِيصِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقْصِدُ الْحَجَّ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّظَاهُرِ ، وَالتَّنَاضُلِ وَالتَّنَافُرِ ، وَالتَّفَاخُرِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ ، وَحُضُورِ الْأَسْوَاقِ ؛ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَظٌّ يُقْصَدُ ، وَلَا قُرْبَةٌ تُعْتَقَدُ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ وَقَضَاءِ حَقِّهِ ، ثُمَّ سَامَحَ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ
: { الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ "
وَالْعُمْرَةُ " بِالرَّفْعِ لِلْهَاءِ ، وَحَكَى قَوْمٌ أَنَّهُ إنَّمَا
فَرَّ مِنْ فَرْضِ الْعُمْرَةِ ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: أَنَّ الْقِرَاءَةَ يَنْبَنِي عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ ، وَلَا يُقْرَأُ بِحُكْمِ
الْمَذْهَبِ .
الثَّانِي
: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّصْبَ لَا يَقْتَضِي
ابْتِدَاءَ الْفَرْضِ ، فَلَا مَعْنَى لِقِرَاءَةِ الرَّفْعِ إلَّا عَلَى رَأْيِ
مَنْ يَقُولُ : يُقْرَأُ بِكُلِّ لُغَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِهِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } : هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ
عُضْلَةٌ مِنْ الْعُضْلِ ، فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مُنِعْتُمْ بِأَيِّ
عُذْرٍ كَانَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّانِي : [ مُنِعْتُمْ ] بِالْعَدُوِّ خَاصَّةً ؛ قَالَهُ
ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ وَهُوَ
اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا ، وَرَأْيُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُحَصِّلِيهَا
عَلَى أَنَّ أُحْصِرَ عُرِّضَ لِلْمَرَضِ ، وَحُصِرَ نَزَلَ بِهِ الْحَصْرُ .
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ
الْآيَةَ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّ
الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَكَّةَ ،
وَمَا كَانُوا حَبَسُوهُ وَلَكِنْ حَبَسُوا الْبَيْتَ وَمَنَعُوهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ
اللَّهُ تَعَالَى الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ فَقَالَ : { وَالْهَدْيَ
مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ
} .
وَقَدْ تَأْتِي أَفْعَالٌ يَكُونُ فِيهَا فَعَلَ
وَأَفْعَلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ، وَمَعْنَاهَا : فَإِنْ مُنِعْتُمْ .
وَيُقَالُ : مُنِعَ الرَّجُلُ عَنْ كَذَا ؟ فَإِنَّ
الْمَنْعَ مُضَافٌ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْمَمْنُوعِ عَنْهُ .
وَحَقِيقَةُ الْمَنْعِ عِنْدَنَا الْعَجْزُ الَّذِي
يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْفِعْلُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ،
وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَمْنُوعِ بِعُذْرٍ ، وَأَنَّ
لَفْظَهَا فِي كُلِّ مَمْنُوعٍ ، وَمَعْنَاهَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : فِي تَحْقِيقِ جَوَابِ الشَّرْطِ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ }
وَظَاهِرُهُ قَوْلُهُ : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } وَبِهَذَا قَالَ
أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ
لَا هَدْيَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ ؛ وَإِنَّمَا
الْهَدْيُ عَلَى ذِي التَّفْرِيطِ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ
} ؛ فَهُوَ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَتَعَلُّقٌ بِالْمَعْنَى .
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَهْدَى عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ،
وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ .
وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ الْهَدْيَ تَطَوُّعًا ، وَكَذَلِكَ كَانَ ؛
فَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ
الْبَارِي تَعَالَى الْهَدْيَ وَاجِبًا مَعَ التَّفْرِيطِ وَمَعَ عَدَمِهِ
عِبَادَةً مِنْهُ لِسَبَبٍ وَلِغَيْرِ سَبَبٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا .
وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ ، وَهُوَ ابْنُ
الْقَاسِمِ : إنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْهَدْيُ مَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ فَإِنَّهُ
يَتَحَلَّلُ بِالْعُمْرَةِ وَيُهْدِي
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ فِي
مَوْضِعِهِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا
مَعْنَى لِلْآيَةِ إلَّا حَصْرَ الْعَدُوِّ ، أَوْ الْحَصْرَ مُطْلَقًا ، فَكَيْفَ
يَرْجِعُ الْجَوَابُ إلَى مُقْتَضَى الشَّرْطِ ، أَمَّا أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى بَعْضِهِ
كَانَ جَائِزًا لِدَلِيلٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
} : قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : {
خَرَجْنَا مُعْتَمِرِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَةً وَحَلَقَ رَأْسَهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ
عَلَى النَّحْرِ لَمْ يَكُنْ مُسِيئًا ؛ لِمَا رَوَى الْأَئِمَّةُ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : حَلَقْت
قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ .
قَالَ : انْحَرْ وَلَا حَرَجَ } .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : الْحِلَاقُ نُسُكٌ مَقْصُودٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ إلْقَاءُ تَفَثٍ ، وَمَا
قُلْنَاهُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ وَرَتَّبَهُ عَلَى نُسُكٍ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فِي الصَّحِيحِ مَمْدُوحٌ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ .
قِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ
: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ
.
قِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ
: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ
.
قِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ
: وَالْمُقَصِّرِينَ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَأْكِيدِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ }
وَتَتْمِيمُهُ : وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { أُحْصِرْتُمْ
} مُنِعْتُمْ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ بِعَدُوٍّ فَفِيهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَهُوَ يَحِلُّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ ، وَيَنْحَرُ
هَدْيًا إنْ كَانَ مَعَهُ ، أَوْ يَسْتَأْنِفُ هَدْيًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ بِمَرَضٍ لَمْ يَحِلَّهُ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا إلَّا الْبَيْتُ ، فَخِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، حَيْثُ أَجْرَى
الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا أَخْذًا بِمُطْلَقِ الْمَنْعِ .
وَزَادَ أَصْحَابُهُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ عَنْ
أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ : حَصَرَهُ الْعَدُوُّ وَأَحْصَرَهُ الْمَرَضُ ؛
قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَالْكِسَائِيُّ .
قُلْنَا : قَالَ غَيْرُهُمَا عَكْسَهُ ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهَا فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
وَحَقِيقَتُهُ هَاهُنَا مَنْعُ الْعَدُوِّ ؛ فَإِنَّهُ
مَنَعَهُمْ ، وَلَمْ يَحْبِسْهُمْ ، وَالْمَنْعُ كَانَ مُضَافًا إلَى الْبَيْتِ ،
فَلِذَلِكَ حَلَّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَهَذَا الْمَرِيضُ الْمَنْعُ مُضَافٌ إلَيْهِ
، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَصِيرَ إلَى مَوْضِعِ الْحِلِّ .
وَلِلْقَوْمِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ ، وَآثَارٌ عَنْ
السَّلَفِ أَكْثَرُهَا مُعَنْعَنٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْإِحْصَارَ
عَامٌّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : لَا إحْصَارَ فِي
الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ .
قُلْنَا :
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ ، لَكِنْ فِي الصَّبْرِ
إلَى زَوَالِ الْعَدُوِّ ضَرَرٌ ؛ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ ، وَبِهِ
جَاءَتْ السُّنَّةُ فَلَا مَعْدَلَ عَنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا مَنَعَهُ الْعَدُوُّ يَحِلُّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا
قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؛
لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ
خَاصَّةً ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً
.
وَمُتَعَلِّقُهُمْ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْعَامِ
الْآخَرِ .
قُلْنَا : إنَّمَا قَضَاهَا ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ
عَلَى ذَلِكَ إرْغَامًا لِلْمُشْرِكِينَ ، وَإِتْمَامًا لِلرُّؤْيَا ،
وَتَحْقِيقًا لِلْمَوْعِدِ ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءُ عُمْرَةٍ أُخْرَى
؛ وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ، مِنْ الْمُقَاضَاةِ لَا مِنْ الْقَضَاءِ .
الثَّانِي
: الْمَعْنَى قَالُوا : تَحَلَّلَ مِنْ نُسُكِهِ قَبْلَ
تَمَامِهِ ؛ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قَضَائِهِ كَالْفَائِتِ وَالْمُفْسَدِ .
قُلْنَا
: الْفَاسِدُ هُوَ فِيهِ مَلُومٌ ، وَالْفَائِتُ هُوَ
فِيهِ مَنْسُوبٌ إلَى التَّقْصِيرِ ؛ وَهَذَا مَغْلُوبٌ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي
اتِّبَاعِ الْمَعْنَى مَعَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحَاصِرُ كَافِرًا أَوْ
مُسْلِمًا ؛ فَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ ، وَلَوْ وَثِقَ
بِالظُّهُورِ ؛ وَيَتَحَلَّلُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَوْ سَأَلَ الْكَافِرُ جُعْلًا
لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَهْنٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَاصِرُ
مُسْلِمًا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ بِحَالٍ ، وَوَجَبَ التَّحَلُّلُ ، فَإِنْ طَلَبَ
شَيْئًا وَيَتَخَلَّى عَنْ الطَّرِيقِ جَازَ دَفْعُهُ ، وَلَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ
؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ الْمُهَجِ ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ فِي أَدَاءِ
الْعِبَادَاتِ ، فَإِنَّ الدِّينَ أَسْمَحُ .
وَأَمَّا بَذْلُ الْجُعْلِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ
أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَهْوَنِهِمَا ؛ وَلِأَنَّ الْحَجَّ مِمَّا يُنْفَقُ
فِيهِ الْمَالُ ، فَيُعَدُّ هَذَا مِنْ النَّفَقَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا حَلَّ الْمُحْصَرُ نَحَرَ هَدْيَهُ حَيْثُ حَلَّ ؛
كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ ؛
لِأَنَّ الْهَدْيَ تَابِعٌ لِلْمُهْدِي ، وَالْمُهْدِي حَلَّ بِمَوْضِعِهِ ،
فَالْهَدْيُ أَيْضًا يَحِلُّ مَعَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَمَحِلُّهُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ :
{ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } .
قُلْنَا :
كَذَلِكَ كَانَ صَاحِبُ الْهَدْيِ ، وَهُوَ الْمُهْدِي
مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَنْسَكَهُ ، وَلَكِنْ حَلَّ فِي مَوْضِعِهِ ، كَذَلِكَ
هَدْيُهُ يَجِبُ أَنْ يَحِلَّ مَعَهُ
.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ
جُنْدُبٍ صَاحِبَ بُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْعَثْ مَعِي الْهَدْيَ
أَنْحَرْهُ فِي الْحَرَمِ .
قَالَ : فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : أُخْرِجُهُ
فِي أَوْدِيَةٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ؛ فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى نَحَرَهُ فِي
الْحَرَمِ } .
قُلْنَا هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا عَقَدَ الْإِحْرَامَ فَصَدَّهُ الْعَدُوُّ ، فَلَا
يَخْلُو أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ أَوْ لَا يَعْلَمَ ، فَإِنْ
تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْبَيْتِ فَإِحْرَامُهُ مُلْزِمٌ لَهُ أَلَّا
يَحِلَّ إلَّا بِالْبَيْتِ أَبَدًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَلَّ بِمَنْعِهِمْ
لَهُ ، فَإِنْ شَكَّ لَمْ يَحِلَّ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ .
وَقَدْ أَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَجِّ ، ثُمَّ قِيلَ
لَهُ : إنَّهُ كَائِنٌ هَذَا الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ ، فَقَالَ : إنْ
صُدِدْنَا عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْرَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، فَحَلَّ حِينَ مُنِعَ ، وَأَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ
عَلَى الشَّكِّ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : إنْ مُنِعَ مِنْ الطَّرِيقِ
خَاصَّةً فَلْيَأْخُذْ فِي أُخْرَى إنْ كَانَتْ آمِنَةً ، وَكَانَ الْمَنْعُ
مُتَطَاوِلًا ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا صَبَرَ حَتَّى يَنْجَلِيَ ، وَإِنْ كَانَ
حَاجًّا فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْحَجَّ قَدْ فَاتَ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : يَحِلُّ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَهَذَا
فِيمَنْ كَانَ فِي الْمَنَاسِكِ ، وَأَمَّا الْيَائِسُ فَيَحِلُّ إذَا تَحَقَّقَ
يَأْسُهُ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا صُدَّ عَنْ عَرَفَةَ فِي الْحَجِّ لَزِمَهُ أَنْ يَصِلَ
إلَى الْبَيْتِ وَيَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ، وَلَوْ صُدَّ عَنْ الْبَيْتِ وَمُكِّنَ
مِنْ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ ، وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَدْيٌ فِي مَشْهُورِ
الْقَوْلَيْنِ .
وَقِيلَ : الْحَجُّ بَاطِلٌ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ
حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ الْحَجُّ مَضْمُونًا ، فَأَمَّا إنْ كَانَ
التَّطَوُّعُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : إذَا كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ وَمَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ
فِي مَوْضِعِهِ حِينَئِذٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ
، وَسُفْيَانُ : لَا يَنْحَرُ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ قَوْله
تَعَالَى : { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } بِكَسْرِ الْحَاءِ ، وَهُوَ
وَقْتُ الْحِلِّ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ وَقْتَهُ وَقْتُ حَلِّ
الْمُهْدِي ، وَقَدْ حَلَّ بِالْيَأْسِ عَنْ الْبُلُوغِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { ثُمَّ
مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ،
وَإِذَا سَقَطَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فَسُقُوطُ الِاسْتِقْرَاءِ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا
أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } : هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ
بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : { مَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي وَالْقَمْلُ
يَتَنَاثَرُ مِنْ رَأْسِي فَقَالَ : أَيُؤْذِيك هَوَامُّك ؟ قُلْت : نَعَمْ .
فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِقَ وَلَمْ يَأْمُرْ غَيْرَهُ } ، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ
دُخُولِ مَكَّةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ .
فَكُلُّ مَنْ كَانَ مَرِيضًا وَاحْتَاجَ إلَى فِعْلِ
مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَعَلَهُ وَافْتَدَى ، كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ؛ وَهُوَ
حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ : { أَطْعِمْ
فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، أَوْ اهْدِ شَاةً ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ } ، وَفِي الْحَدِيثِ خِلَافٌ وَكَلَامٌ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ
الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ
الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ : هُوَ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ .
قَالُوا :
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الصِّيَامَ هَاهُنَا
مُطْلَقًا ، وَقَيَّدَهُ فِي التَّمَتُّعِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ
عَلَى الْمُقَيَّدِ .
قُلْنَا : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إلَّا بِدَلِيلٍ
فِي نَازِلَةٍ وَاحِدَةٍ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛
وَهَاتَانِ نَازِلَتَانِ .
الثَّانِي :
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَدْرَ الصِّيَامِ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُجْزِئُ [ الطَّعَامِ ] فِي
كُلِّ مَوْضِعٍ .
وَقِيلَ : لَا يَخْتَصُّ مِنْهَا بِمَكَّةَ إلَّا
الْهَدْيُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الطَّعَامُ كَالْهَدْيِ ؛
لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْهَدْيِ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ ؛ فَالطَّعَامُ الَّذِي هُوَ
عِوَضُهُ كَذَلِكَ .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَخْتَصُّ
بِمَكَّةَ ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَيَأْتِي بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ ؛
وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّمَا جَاءَ الْقُرْآنُ فِيهِ بِلَفْظِ
النُّسُكِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَذْبَحَ حَيْثُ شَاءَ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ
النُّسُكِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْأَثَرِ : { مَنْ وُلِدَ لَهُ فَأَحَبَّ أَنْ يُنْسَكَ عَنْهُ
فَلْيَفْعَلْ } .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَوْ اُنْسُكْ بِشَاةٍ } ،
فَحُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ هَاهُنَا وَهُوَ الْهَدْيُ عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَنْ
يَجْعَلَ هَذَا النُّسُكَ هَدْيًا جَعَلَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَدْيَ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ نُسُكًا ، وَالنُّسُكُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَدْيًا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } : قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا :
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ : { فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ } إنَّهُ إحْصَارُ الْعَدُوِّ ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ يَكُونُ مِنْ
خَوْفِ الْعَدُوِّ ، وَالْبُرْءُ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَنْ
احْتَجَّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَلَا نَقُولُ هَكَذَا ، بَلْ زَوَالُ كُلِّ أَلَمٍ مِنْ
مَرَضٍ ، وَهُوَ أَمْنٌ ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْنِ ، وَهُوَ عَامٌّ ، كَمَا
جَاءَ بِلَفْظِ " أُحْصِرَ " وَهُوَ عَامٌّ فِي الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ ؛
لِيَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى نِظَامِ أَوَّلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } : الْمَعْنَى أَكْمِلُوا مَا بَدَأْتُمْ بِهِ مِنْ
عِبَادَةٍ ، مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَكُمْ مَانِعٌ ؛ فَإِنْ
كَانَ مَانِعٌ حَلَلْتُمْ حَيْثُ حُبِسْتُمْ وَتَرَكْتُمْ مَا مُنِعْتُمْ مِنْهُ ،
وَيَجْزِيكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ بَعْدَ حَلْقِ رُءُوسِكُمْ ؛ فَإِذَا
أَمِنْتُمْ أَيْ زَالَ الْمَانِعُ ، وَقَدْ كُنْتُمْ حَلَلْتُمْ عَنْ عُمْرَةٍ
فَحَجَجْتُمْ ، فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ .
وَالتَّمَتُّعُ يَكُونُ بِشُرُوطٍ ثَمَانِيَةٍ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ .
الثَّانِي : فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ .
الثَّالِثُ : فِي عَامٍ وَاحِدٍ .
الرَّابِعُ : فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
الْخَامِسُ : تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ .
السَّادِسُ : أَلَّا يَجْمَعَهُمَا ؛ بَلْ يَكُونُ
إحْرَامُ الْحَجِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ .
السَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ عَنْ
شَخْصٍ وَاحِدٍ .
الثَّامِنُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ .
وَمِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ مَا هُوَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ
، وَمِنْهَا مُسْتَنْبَطٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ } يَعْنِي : مَنْ
انْتَفَعَ بِضَمِّ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ
يَأْتِيَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَرَّتَيْنِ بِقَصْدَيْنِ
مُتَغَايِرَيْنِ ، فَإِذَا انْتَفَعَ بِاتِّحَادِهِمَا ، وَذَلِكَ فِي سَفَرٍ
وَاحِدٍ ؛ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا انْتِفَاعٌ إلَّا قَوْله تَعَالَى : {
ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فَإِنَّهُ
نَصٌّ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ
فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ بَدَنَةٌ ، مِنْهُمْ عَائِشَةُ ، وَابْنُ عُمَرَ ،
وَمُجَاهِدٌ ، وَعُرْوَةُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ شَاةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ
أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ شَاةٌ أَوْ بَدَنَةٌ أَوْ
شِرْكٌ فِي دَمٍ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّافِعِيُّ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ بَدَنَةٌ فَاحْتَجَّ
بِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِلْإِبِلِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : كَمْ
هَدْيُ فُلَانٍ ، أَيْ إبِلُهُ
.
وَيُقَالُ فِي وَصْفِ السَّنَةِ : هَلَكَ الْهَدْيُ
وَجَفَّ الْوَادِي .
فَيُقَالُ لَهُ : إنْ كُنْت تَجْعَلُ أَيْسَرَ الْهَدْيِ
بَدَنَةً وَأَكْثَرَهُ مَا زَادَ مِنْ الْعَدَدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ
فَيَلْزَمُك أَلَّا يَجُوزَ هَدْيٌ بِشَاةٍ .
وَقَدْ أَهْدَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْغَنَمَ ، وَأَهْدَى أَصْحَابُهُ ، وَلَوْ كَانَ أَيْسَرُهُ بَدَنَةً
مَا جَازَتْ شَاةٌ .
وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا سَمَّتْ
الْإِبِلَ هَدْيًا ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ يَكُونُ مِنْهَا فِي الْأَغْلَبِ أَوْ
لِأَنَّهَا أَعْلَاهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ أَيْسَرَ الْهَدْيِ شِرْكٌ
فِي دَمٍ ، فَاحْتَجَّ { بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ
عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ } .
رَوَاهُ جَابِرٌ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { خَرَجْنَا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ ،
فَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرَةِ ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا
فِي بَدَنَةٍ } ، وَهَذَا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَا مَطْمَعَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ } : يَعْنِي انْتَفَعَ ، وَقَدْ رُوِيَتْ مُتْعَتَانِ : إحْدَاهُمَا
: مَا كَانَ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : مَا كَانَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ
الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي إحْرَامٍ أَوْ سَفَرٍ وَاحِدٍ .
فَأَمَّا فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ فَرَوَى
الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي
أَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ، وَيَقُولُونَ : إذَا بَرَأَ
الدَّبَرُ ، وَعَفَا الْأَثَرُ ، وَانْسَلَخَ صَفَرُ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ .
{ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صُبْحَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً ؛
فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ ، وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ
الْحِلِّ ؟ قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ
} .
وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ قَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى
تَرْكِهَا بَعْدَ خِلَافٍ يَسِيرٍ كَانَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ زَالَ .
وَأَمَّا مُتْعَةُ الْقِرَانِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَيْهَا فِي حَجِّهِ
وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ السُّنَّةُ ، وَقَالَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ : لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَّا مُفْرِدًا ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهِ وَلَا
انْتِفَاعَ بِإِسْقَاطِ عَمَلٍ وَلَا سَفَرٍ .
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَدِلَّةٍ
مِنْهَا : أَنَّ عَلِيًّا شَاهَدَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَنْهَى
عَنْ الْمُتْعَةِ ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ
أَهَلَّ بِهِمَا ، وَقَالَ : مَا كُنْت أَدَعُ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ
.
وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : مَا تُرِيدُ أَنْ تَنْهَى عَنْ
أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ .
وَتَعَلَّقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ
وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ } .
وَمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ ، أَيْ أَمَرَ بِفِعْلِهِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا
الْمَسْأَلَةَ فِي كُتُبِ شَرْحِ الْحَدِيثِ .
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ، وَهِيَ الْجَمْعُ
بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فَقَالَ أَحْمَدُ : إنَّهَا
الْأَفْضَلُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ
أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً } .
رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا أَشْفَقَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ الْأَرْفَقِ لَا عَلَى تَرْكِ
الْأَوْلَى ، وَالْأَرْفَقِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً شَقَّ عَلَيْهِمْ خِلَافُهُمْ لَهُ فِي
الْفِعْلِ ، فَقَالَ { : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي ، وَقَلَّدْت هَدْيِي ، فَلَا
أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الْهَدْيَ } ؛ مُعْتَذِرًا إلَيْهِمْ مُبَيِّنًا
عِنْدَهُمْ .
وَقَالَ ، لَمَّا رَأَى مَنْ شَفَقَتِهِمْ وَلِمَا
رَجَاهُ مِنْ امْتِثَالِهِمْ وَاقْتِدَائِهِمْ ، وَسَلِّ سَخِيمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ
عَنْ أَهْوَائِهِمْ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا
سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً كَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ } .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ
الْأَقْسَامِ إضَافَةُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَلَا يَصْلُحُ هَذَا اللَّفْظُ لِفَسْخِ
الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا فِي الْآيَةِ لَمْ يَبْقَ
إلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَالْآيَةُ بَعْدُ مُحْتَمِلَةٌ
لِلْقِرَانِ ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إمَّا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي سَفَرٍ
وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَمِرِينَ فَصَدَّهُمْ الْعَدُوُّ فَحَلُّوا ؛ وَذَلِكَ
فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ الَّتِي مَنْ اعْتَمَرَ فِيهَا ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ
فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الشُّرُوطِ ؛ فَيَكُونُ
مُتَمَتِّعًا ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَهُ .
وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنْتُمْ
قَدْ اعْتَمَرْتُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَلَوْ حَجَجْتُمْ فِي هَذَا الْعَامِ لَكُنْتُمْ مُتَمَتِّعِينَ ، وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ صُدِدْتُمْ ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَكُمْ مَعَ حِلِّكُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَى الْبَيْتِ عُمْرَةٌ صَحِيحَةٌ كَامِلَةٌ تَكُونُ إضَافَةُ الْحَجِّ إلَيْهَا مُتْعَةً .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَلْزَمُ الْمَكِّيَّ
دَمُ مُتْعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّهْ بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ ،
فَإِنَّ ذَلِكَ بَلَدُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَتَمَتَّعُ وَلَا
يَقْرِنُ مَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَإِنْ تَمَتَّعَ
أَوْ قَرَنَ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَعَلَيْهِ دَمٌ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } : الْمَعْنَى :
أَنَّ جَمْعَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ،
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّمَ لَقَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا
قَدَّمْنَاهُ .
[ وَمَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَشْرُوعٌ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ] .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ
الْهَدْيُ إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ حِينَئِذٍ يَتِمُّ
وَيَصِحُّ مِنْهُ وَصْفُ التَّمَتُّعِ ، وَمَا لَمْ يُتِمَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ
مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ يَخْلُصُ بِهِ أَوْ يَقْطَعُ دُونَهُ
قَاطِعٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ
عَلَيْهِ الْهَدْيُ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ وَجَبَ عَلَيْهِ
بِضَمِّ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَأَوَّلُ
الْحَجِّ كَآخِرِهِ ، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ، وَقَدْ
قَدَّمْنَا فَسَادَهَا ، وَلَوْ ذَبَحَهُ قَبْلَ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَبِهِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْزِيهِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ
، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَلَا يَجُوزُ الْحَلْقُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْيَ
وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } .
وَلَوْ كَانَ ذَبْحُ الْهَدْيِ جَائِزًا قَبْلَ يَوْمِ
النَّحْرِ لَذَبَحَهُ وَجَعَلَهَا حِينَئِذٍ عُمْرَةً .
وَقَالَ : { إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي
فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ
} .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَذَلِكَ بِأَنْ يَصُومَ مِنْ
إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ ، هَذِهِ حَقِيقَتُهُ ، وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : يَصُومُهُ فِي إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ إحْرَامَيْ الْمُتَمَتِّعِ
، فَجَازَ صَوْمُ الْأَيَّامِ فِيهِ كَإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ .
وَدَلِيلُنَا { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ } فَإِذَا صَامَهُ فِي الْعُمْرَةِ فَقَدْ أَدَّاهُ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَمْ
يُجْزِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : إذَا ثَبَتَ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا
: يَصُومُهَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِيَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْطِرًا ، فَذَلِكَ
اتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ .
وَلَا يَخْلُو الْمُتَمَتِّعُ أَنْ يَجِدَ الْهَدْيَ أَوْ
لَا يَجِدَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ وَعَلِمَ اسْتِمْرَارَ الْعَدَمِ إلَى آخِرِ
الْحَجِّ صَامَ مِنْ أَوَّلِهِ ؛ وَإِنْ رَجَاهُ آخِرَهُ إلَى مِقْدَارِ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ قَبْلَ عَرَفَةَ فَيَصُومُهُ حِينَئِذٍ لِتَقَعَ الْأَيَّامُ مُصَوَّمَةً
فِي الْحَجِّ ، وَيَخْلُوَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَنْ الصَّوْمِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عِنْدِي عَلَى أَصْلٍ
؛ وَهُوَ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي الْحَجِّ } فَإِنَّهُ
يَحْتَمِلُ أَيَّامَ الْحَجِّ ، وَيَحْتَمِلُ مَوْضِعَ الْحَجِّ ؛ فَإِنْ كَانَ
الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامَ الْحَجِّ فَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ آخِرَ
أَيَّامِ الْحَجِّ يَوْمُ النَّحْرِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ أَيَّامِ
الْحَجِّ أَيَّامَ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ خَالِصًا ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْكَانِهِ
.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعَ الْحَجِّ صَامَهُ
مَا دَامَ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ مِنًى ، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ ، وَيَقْوَى جِدًّا
، وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ : "
كَانَتْ عَائِشَةُ تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى ، وَكَانَ أَبِي يَصُومُهَا " ،
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ قَالَا : " لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ
إلَّا
لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ " .
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ إقَامَتِهِ إلَّا بِمِقْدَارِهَا ؛ يُؤَكِّدُهُ قَوْله
تَعَالَى : { وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامَ الْحَجِّ
لَقَالَ : إذَا أَحْلَلْتُمْ أَوْ فَرَغْتُمْ ، فَكَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :
{ إذَا رَجَعْتُمْ } أَيْ : عَنْ مَوْضِعِ الْحَجِّ بِإِتْمَامِ أَفْعَالِهِ .
وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ
الْهَدْيِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي
أَنَّ أَيَّامَ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } .
قُلْنَا : إنْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَامًّا فَقَدْ جَاءَ
الْخَبَرُ الصَّحِيحُ بِالتَّخْصِيصِ لِلْمُتَمَتِّعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا رَجَعْتُمْ } : يَعْنِي إلَى
بِلَادِكُمْ فِي قَوْلِ مَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْكِتَابِ : إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى .
قَالَ الْقَاضِي : وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْله
تَعَالَى : { إذَا رَجَعْتُمْ } إنْ كَانَ تَخْفِيفًا وَرُخْصَةً فَيَجُوزُ
تَقْدِيمُ الرُّخَصِ وَتَرْكُ الرِّفْقِ فِيهَا إلَى الْعَزِيمَةِ إجْمَاعًا ،
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَوْقِيتًا فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا ظَاهِرٌ أَنَّهُ
أَرَادَ الْبِلَادَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي الْأَغْلَبِ وَالْأَظْهَرِ فِيهِ
أَنَّهُ الْحَجُّ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : مَنْ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؟ فِيهِ
خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَهْلُ الْحَرَمِ .
الثَّانِي : مَكَّةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا كَذِي طُوًى .
الثَّالِثُ : أَهْلُ عَرَفَةَ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .
الرَّابِعُ : مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ قَالَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ .
الْخَامِسُ : مَنْ هُوَ فِي مَسَافَةِ لَا تُقْصَرُ
الصَّلَاةُ فِيهَا ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَلِكُلٍّ وَجْهٌ سَرَدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
وَالْفُرُوعِ .
وَالصَّحِيحُ فِيهِ مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ فَهُوَ
مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ
فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
تَعْدِيدِ أَشْهُرِ الْحَجِّ : وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا :
شَوَّالٌ ، وَذُو الْقِعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ
، وَقَتَادَةُ ، وَطَاوُسٌ ، وَمَالِكٌ
.
الثَّانِي : وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ؛
قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ : وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّافِعِيُّ
.
الرَّابِعُ : إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛
قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا .
فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ ذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ أَخَذَ
بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالتَّعْدِيدُ لِلثَّلَاثَةِ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ قَالَ : إنَّ
الطَّوَافَ وَالرَّمْيَ فِي الْعَقَبَةِ رُكْنَانِ يُفْعَلَانِ فِي الْيَوْمِ
الْعَاشِرِ .
وَمَنْ قَالَ : عَشْرُ لَيَالٍ قَالَ : إنَّ الْحَجَّ
يَكْمُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ لِصِحَّةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
وَهُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ .
وَمَنْ قَالَ : آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَأَى أَنَّ
الرَّمْيَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَشَعَائِرِهِ ، وَبَعْضُ الشَّهْرِ يُسَمَّى
شَهْرًا لُغَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَائِدَةُ مَنْ جَعَلَهُ ذَا
الْحِجَّةِ كُلَّهُ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ إلَى آخِرِهِ لَمْ
يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ
أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ عَلَى
التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا
وَتَنْصِيصِهِ عَلَيْهَا أَمْرَانِ
: أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهَا
كَذَلِكَ فِي مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ
الْحَالُ إلَى أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ ،
فَبَقِيَتْ
كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ الْعَرَبُ تَرَى أَنَّ الْعُمْرَةَ فِيهَا مِنْ أَفْجَرِ
الْفُجُورِ ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُغَيِّرُهَا فَتُنْسِئُهَا وَتُقَدِّمُهَا
حَتَّى عَادَتْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَى حَدِّهَا .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْمَأْثُورِ الْمُنْتَقَى { : إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ
كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، السَّنَةُ اثْنَا
عَشَرَ شَهْرًا } الْحَدِيثَ .
الثَّانِي :
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ
التَّمَتُّعَ ، وَهُوَ ضَمُّ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
بَيَّنَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ لَيْسَتْ جَمِيعَ الشُّهُورِ فِي الْعَامِ ، وَإِنَّمَا
هِيَ الْمَعْلُومَاتُ مِنْ لَدُنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَّنَ
قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } .
أَنَّ جَمِيعَهَا لَيْسَ الْحَجُّ تَفْصِيلًا لِهَذِهِ
الْجُمْلَةِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِهَا بِذَلِكَ ، وَهِيَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ
وَجَمِيعُ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ،
وَصَحِيحُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَحْرَمَ
بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْعَامِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ
أَتَى بِالْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمَخْصُوصَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَسِوَاهُ :
تَقْدِيرُهَا الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مِنْ
الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْإِحْرَامَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ
كَمَا لَا يَرَى أَحَدٌ الْإِحْرَامَ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِهَا .
[ وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : أَشْهُرُ الْحَجِّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ] ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ لُغَةً فِي مُلْجِئَةِ
الْمُتَفَقِّهِينَ وَعَيَّنَّاهُ فِقْهًا [ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ
النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ ] .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } : الْمَعْنَى
الْتَزَمَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ قَصْدًا
بَاطِنًا ، وَبِالْإِحْرَامِ فِعْلًا ظَاهِرًا ، وَبِالتَّلْبِيَةِ نُطْقًا
مَسْمُوعًا ؛ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي التَّلْبِيَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ
النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ عَنْ فِعْلٍ أَوْ نُطْقٍ ، وَقَدْ
قَالَ جَمَاعَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ
يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ ، فَلَا يُقَدَّمُ
عَلَيْهَا ، وَأَبَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ .
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ مُعْضِلَةٌ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا
الْبَيَانَ فِيهَا ، وَأَوْضَحْنَا لُبَابَهُ فِي كِتَابِ التَّلْخِيصِ ، وَأَنَّ
الْقَوْلَ فِيهَا دَائِرٌ مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ
رُكْنٌ مِنْ الْحَجِّ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِهِ ، وَمُعَوَّلُنَا عَلَى أَنَّهُ
شَرْطٌ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ، وَهُنَاكَ تَبَيَّنَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ
النَّظَرَيْنِ ، وَظَهَرَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْآيَةِ مِنْ
الْقَوْلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } : الرَّفَثُ : كُلُّ
قَوْلٍ يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ ؛ يُقَالُ : رَفَثَ يَرْفُثُ بِكَسْرِ الْفَاءِ
وَضَمِّهَا .
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ الْجِمَاعِ
وَالْمُبَاشَرَةِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَرَيَانِ أَنَّ
ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ إلَّا إذَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ ، وَأَمَّا إذَا
ذَكَرَهُ الرَّجُلُ مُفْرِدًا عَنْهُنَّ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ مُنِعَ فِيهِ مِنْ
التَّلَفُّظِ بِالنِّكَاحِ ، وَهِيَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَكَيْفَ
بِالِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْقَوْلِ يُذْكَرُ كُلُّهُ ، وَهَذِهِ بَدِيعَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا
رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } : أَرَادَ نَفْيَهُ مَشْرُوعًا لَا مَوْجُودًا ، فَإِنَّا
نَجِدُ الرَّفَثَ فِيهِ وَنُشَاهِدُهُ
.
وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَجُوزُ
أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إلَى وُجُودِهِ
مَشْرُوعًا لَا إلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .
مَعْنَاهُ شَرْعًا لَا حِسًّا ، فَإِنَّا نَجِدُ
الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَتَرَبَّصْنَ ، فَعَادَ النَّفْيُ إلَى الْحُكْمِ
الشَّرْعِيِّ ، لَا إلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ .
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ
} إذَا قُلْنَا : إنَّهُ وَارِدٌ فِي الْآدَمِيِّينَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ
مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَرْعٍ ؛ فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ
فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ هِيَ الَّتِي فَاتَتْ
الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا : إنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ ،
وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ فَإِنَّهُمَا
يَخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً وَيَتَضَادَّانِ وَصْفًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا وَقَعَ الْوَطْءُ فِي الْحَجِّ أَفْسَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ أَوْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ؛ فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ لَمْ تُفْسِدْهُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لِكَوْنِهَا دَاعِيَةً إلَى الْجِمَاعِ ، كَمَا حَرَّمَ الطِّيبَ وَالنِّكَاحَ ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ } ، وَلَوْ وُجِدَ الطِّيبُ وَالنِّكَاحُ لَمْ يَفْسُدْ الْحَجُّ ، فَكَذَلِكَ بِالْمُبَاشَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا فُسُوقَ } : فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ
؛ أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثٌ : الْأَوَّلُ : جَمِيعُ الْمَعَاصِي قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ
كُفْرٌ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَتْلُ الصَّيْدِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهُ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ
الْحَجَّ لَا يَخْلُو عَنْ ذَبْحٍ ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ
لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا ، فَشَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوَجْهِهِ نُسُكًا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ جَمِيعُهَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { مَنْ حَجَّ
فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
وَقَالَ : { الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ
إلَّا الْجَنَّةُ } .
فَقَالَ الْفُقَهَاءُ : الْحَجُّ الْمَبْرُورُ ، هُوَ
الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ :
الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهُ بَعْدَهُ .
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ { : مَنْ حَجّ ثُمَّ لَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ }
بِقَوْلِهِ : ثُمَّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } : أَرَادَ لَا
جِدَالَ فِي وَقْتِهِ ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَعَادَ بِذَلِكَ إلَى يَوْمِهِ
وَوَقْتِهِ .
وَقِيلَ
: لَا جِدَالَ فِي مَوْضِعِهِ ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ
بِعَرَفَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَانَ مِنْ الْحُمْسِ أَوْ مِنْ
غَيْرِهِمْ ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ .
وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِدَالَ فِي
الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ الْخَلْقِ ، فَلَا يَكُونُ إلَى الْقِيَامَةِ ؛ وَلِهَذَا
قَرَأَهُ الْعَامَّةُ وَحْدَهُ بِنَصَبِ اللَّامِ عَلَى التَّبْرِئَةِ دُونَ
الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ
الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَى } .
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّزَوُّدِ مَنْ كَانَ لَهُ
مَالٌ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ؛ فَإِنْ كَانَ ذَا حِرْفَةٍ تَنْفُقُ فِي
الطَّرِيقِ ، أَوْ سَائِلًا فَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى
أَهْلَ الْأَمْوَالِ الَّذِينَ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَخْرُجُونَ
بِغَيْرِ زَادٍ ، وَيَقُولُونَ : نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ ؛ وَالتَّوَكُّلُ لَهُ
شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا يَخْرُجُ مَنْ قَامَ بِهَا بِغَيْرِ زَادٍ
وَلَا يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ
.
[ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ] فَإِنَّهُ خَرَجَ
عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ الْخَلْقِ وَهُمْ الْمُقَصِّرُونَ عَنْ دَرَجَةِ
التَّوَكُّلِ الْغَافِلُونَ عَنْ حَقَائِقِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لِمَنْ الضَّالِّينَ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّجِرُوا فِيهَا ،
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ } يَعْنِي : فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذَا
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَعَ أَدَاءِ
الْعِبَادَةِ ، وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ شِرْكًا ، وَلَا
يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ عَنْ رَسْمِ الْإِخْلَاصِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ ،
خِلَافًا لِلْفُقَرَاءِ أَنَّ الْحَجَّ دُونَ تِجَارَةٍ أَفْضَلُ أَجْرًا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } : الْإِفَاضَةُ : السُّرْعَةُ بِالدَّفْعِ
، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا دَفْعٌ ،
وَهِيَ حَقِيقَةُ الْإِفَاضَةِ ، وَالْإِسْرَاعُ هَيْئَةٌ فِي الْإِفَاضَةِ لَا
حَقِيقَةَ لَهَا ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ { كَانَ إذَا دَفَعَ يَسِيرُ الْعَنَقَ ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ } .
وَرُوِيَ {
عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَفَعَ مِنْ
عَرَفَةَ فَسَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِبْضَاعِ ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ عَرَفَاتٍ } : مَوْضِعٌ مَعْلُومُ
الْحُدُودِ ، مَشْهُورٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ .
رَوَى التِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَجُّ عَرَفَةَ ثَلَاثًا
، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ } .
وَرَوَيَا وَمَعَهُمَا أَبُو دَاوُد أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ
مُضَرِّسٍ الطَّائِيَّ قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْمَوْقِفِ يَعْنِي بِجَمْعٍ فَقُلْت : جِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ
مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ ، أَكَلَلْت مَطِيَّتِي ، وَأَتْعَبْت نَفْسِي ، وَاَللَّهِ مَا
تَرَكْت مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا
هَذِهِ الصَّلَاةَ ، وَأَتَى عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ
تَمَّ حَجُّهُ ، وَقَضَى تَفَثَهُ
} .
وَهَذَا صَحِيحٌ يَلْزَمُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا
إخْرَاجُهُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ ، وَسَتَرَوْنَهُ
هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يَقْتَضِي جَوَازَ عُمُومِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
كُلِّهَا وَإِجْزَاءَهُ ، وَقَدْ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وَقَفْت هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ .
وَنَحَرْت هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ ،
وَوَقَفْت هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى النَّسَائِيّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ
عَلَى قُزَحَ ، فَقَالَ : هَذَا قُزَحُ ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ ، وَجَمْعٌ ،
كُلُّهَا مَوْقِفٌ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ قُبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا
زَاغَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ ، فَرُحِلَتْ لَهُ ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ
النَّاسَ .
الْحَدِيثَ
} .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ
وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ } .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : لَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ { وَقْتَ الْإِفَاضَةِ ،
وَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ ، فَإِنَّهُ
وَقَفَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَلِيلًا ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ ، وَغَابَ
الْقُرْصُ } .
خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ ؛
فَكَانَ بَيَانًا لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ :
الْفَرْضُ الْوُقُوفُ بِاللَّيْلِ
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : الْوُقُوفُ
بِالنَّهَارِ .
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ : لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَلَى
حَدِيثِ عُرْوَةَ .
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
وَغَيْرِهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاذْكُرُوا اللَّهَ } : رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الصَّحِيحِ ، {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى
غَابَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ دَفَعَ فَأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى فِيهَا
الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ لَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا
، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
طَلَعَ الْفَجْرُ ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ
وَإِقَامَةٍ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ
فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَوَحَّدَ ، فَلَمْ يَزَلْ
وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا ، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ }
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَالَ قَوْمٌ : قَوْله تَعَالَى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } : إشَارَةٌ إلَى الصَّلَاةِ بِهِ دُونَ أَنْ تُفْعَلَ
فِي الطَّرِيقِ ؛ فَإِنْ الْوَقْتُ أَخَذَهُ بِعَرَفَةَ وَتَمَادَى عَلَيْهِ
الْوُجُوبُ فِي الطَّرِيقِ ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُصَلِّيَ ، وَكَذَلِكَ {
قَالَ أُسَامَةُ : الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : الصَّلَاةُ أَمَامَك حَتَّى نَزَلَ الْمُزْدَلِفَةَ فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ
فِيهَا } ، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ
: إنْ صَلَّاهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّلَاةُ أَمَامَك } ، فَجَعَلَهُ لَهَا حَدًّا .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ رُكْنًا
فِي الْحَجِّ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ : هُوَ رُكْنٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } ؛
وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَبِيتِ
، وَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ الذِّكْرِ .
الثَّانِي
: { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيَّنَ لِعُرْوَةِ بْنِ مُضَرِّسٍ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إجْزَاءَ
الْحَجِّ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ كُلُّهُ مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ ،
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفُ ،
وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ
} .
رَوَاهُ مَالِكٌ بَلَاغًا ، وَأَسْنَدَهُ جَمَاعَةٌ
مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ
بَطْنِ عُرَنَةَ ، وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ
، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ } .
قَوْله
تَعَالَى : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } فِيهَا
مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى
الْأَئِمَّةُ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ
تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى ، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ
وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ
الشَّمْسُ ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ ، فَسَارَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إلَّا أَنَّهُ
وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ
فَنَزَلَ بِهَا .
.
} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْإِفَاضَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْمُرَادَ بِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ مُخَالَفَةً لِقُرَيْشٍ ؛ قَالَهُ الْجَمَاعَةُ .
الثَّانِي : الْمُرَادُ بِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إلَى
مِنًى ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
وَإِنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى اللَّهَ
تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ ، وَالْإِفَاضَةُ الَّتِي بَعْدَ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ
هِيَ الْإِفَاضَةُ إلَى مِنًى .
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَرْبَعَةِ
أَجْوِبَةً : الْأَوَّلُ : أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ،
التَّقْدِيرُ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، فَإِذَا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفَاتٍ مَعَ النَّاسِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ .
وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛
قَالَهُ الطَّبَرِيُّ .
الثَّانِي :
أَنْ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
{ ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ : ثُمَّ ذَكَرْنَا لَكُمْ
أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ ، فَيَرْجِعُ التَّعْقِيبُ إلَى ذِكْرِ وُجُودِ الشَّيْءِ لَا إلَى
نَفْسِ وُجُودِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } .
الْمَعْنَى : ثُمَّ أَخْبَرْنَاكُمْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ ؛ فَيَكُونُ التَّعْقِيبُ فِي الْإِخْبَارِ لَا فِي الْإِيتَاءِ .
الرَّابِعُ :
وَهُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَعْنَى فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ :
يَا مَعْشَرَ مَنْ حَلَّ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ .
وَأَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْخِطَابَ إلَى الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ لِيَعُمَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَمَنْ لَمْ يَقِفْ حَتَّى
يَمْتَثِلَهُ مَعَ مَنْ وَقَفَ
.
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ
وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ ، وَخُصُوصًا فِي
رِسَالَةِ نُزُولِ الْوَافِدِ ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدَاءِ ؛ وَهُوَ مَا
كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتِهَا ، وَهِيَ حَقِيقَتُهُ الَّتِي خَفِيَتْ
عَلَى النَّاسِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي الْمُرَادِ بِالْمَنَاسِكِ هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ
الذَّبْحُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا شَعَائِرُ الْحَجِّ .
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا الرَّمْي أَوْ جَمِيعُ
مَعَانِي الْحَجِّ ، { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوا
عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } .
وَالْمَعْنَى بِالْآيَةِ كُلِّهَا : إذَا فَعَلْتُمْ
مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَاذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى : كَالتَّلْبِيَةِ
عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ ، وَالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ
الذَّبْحِ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ
خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ }
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَا خِلَافَ أَنَّ
الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا التَّكْبِيرُ .
وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فَاعْلَمُوا أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ
إلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ بِالْعَقَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ
الْأَيَّامِ وَتَعْيِينِهَا ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
أَيَّامُ الرَّمْيِ مَعْدُودَاتٌ ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ مَعْلُومَاتٌ ؛
فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ ، وَالْيَوْمَانِ بَعْدَ
يَوْمِ النَّحْرِ مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مَعْدُودٌ غَيْرُ
مَعْلُومٍ ؛ وَاَلَّذِي أَصَارَهُمْ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } بَعْدَ
قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أَنَّهَا
أَيَّامُ مِنًى ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرَّمْيِ
فِيهَا .
وَاعْلَمُوا أَنَّ أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ ، رَوَى
التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ
الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ .
أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } ،
فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ }
وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ
عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَذَلِكَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، كَمَا
فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ
أَفِيضُوا يَعْنِي : إلَى مِنًى عَلَى التَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ
الثَّانِيَةِ مِنْ الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوَّلُهُ
لِلْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَآخِرُهُ لِمِنًى ،
فَلَمَّا
لَمْ يَخْتَصَّ بِمِنًى لَمْ يُعَدَّ فِيهَا ، وَصَارَتْ أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةً
سِوَى يَوْمِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدً
الْإِطْلَاقِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَرْفَعُ
الْإِشْكَالَ قَالَ حِينَئِذٍ عُلَمَاؤُنَا : الْيَوْمُ الْأَوَّلُ غَيْرُ
مَعْدُودٍ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَيَّامِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِمِنًى فِي
قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَلَا مِنْ الَّتِي
عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { أَيَّامُ مِنًى
ثَلَاثَةٌ } ، وَكَانَ مَعْلُومًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : {
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّحْرُ ،
وَكَانَ النَّحْرُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَالثَّانِي
وَالثَّالِثُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّابِعِ نَحْرٌ ؛ فَكَانَ الرَّابِعُ غَيْرَ
مُرَادٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَعْلُومَاتٍ } ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْحَرُ فِيهِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَكَانَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ ؛ فَصَارَ
مَعْدُودًا فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ الرَّمْيِ ، غَيْرَ مَعْلُومٍ لِعَدَمِ النَّحْرِ
فِيهِ .
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مَعْدُودٌ
بِالرَّمْيِ مَعْلُومٌ بِالذَّبْحِ ، لَكِنَّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا لَيْسَ
مُرَادًا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَكُونُ كَمَا قُلْتُمْ
يَوْمُ النَّحْرِ مُرَادًا فِي الْمَعْدُودَاتِ وَتَكُونُ الْمَعْدُودَاتُ
أَرْبَعَةً وَالْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةً ؟ وَكَمَا يُعْطِي ذِكْرُ الْأَيَّامِ
ثَلَاثَةً كَذَلِكَ يَقْتَضِي أَرْبَعَةً .
فَالْجَوَابُ : أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى
بِمَعْدُودٍ وَلَا بِمَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَعْدُودٍ مَعْلُومٌ ، وَكُلَّ
مَعْلُومٍ مَعْدُودٌ ، لَكِنْ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِذِكْرِ
الْمَعْدُودَاتِ هَاهُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ
كَمَا قَدَّمْنَا قَدْ
اسْتَحَقَّ
أَوَّلُهُ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَمِنْهُ تَكُونُ الْإِفَاضَةُ
إلَى مِنًى ؛ فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْإِفَاضَةِ ، وَبَعْدَهُ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } الثَّانِي
: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيَّامُ مِنًى
ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } .
وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ مَعْدُودًا مِنْهَا
لَاقْتَضَى مُطْلَقُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَنْ نَفَرَ فِي يَوْمِ ثَانِي النَّحْرِ
أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ ، فَتَبَيَّنَ
أَنَّهُ غَيْرُ مَعْدُودٍ فِيهَا لَا قُرْآنًا وَلَا سُنَّةً ، وَهَذَا مُنْتَهَى
بَدِيعٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : الْأَيَّامُ
الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ ، وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ،
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدْفَعُهُ ؛ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي الْمُرَادِ بِهَذَا
الذِّكْرِ : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُوَ الْحَاجُّ ، خُوطِبَ بِالتَّكْبِيرِ
عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْحَاجِّ فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ أَمْ
لَا ؟ وَهَلْ هُوَ أَيْضًا خِطَابٌ لِلْحَاجِّ بِغَيْرِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ
؟ فَنَقُولُ : أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَالْمَشَاهِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ
التَّكْبِيرُ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَخُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ؛
فَيُكَبِّرُ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ ، كَانَ الْمُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ
أَوْ وَحْدَهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرًا ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ .
لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ
عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
صَاحِبُهُ [ وَالْمُزَنِيُّ ] .
وَالثَّانِي :
مِثْلُهُ فِي الْأَوَّلِ ، وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ مِنْ
يَوْمِ النَّحْرِ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ
:
يُكَبِّرُ
مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ
زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ .
الرَّابِعُ :
يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى
بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ قَالَهُ ابْنُ
عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُكَبِّرُ عَرَفَةَ وَيَقْطَعُ
الْعَصْرَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ : { فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ ، وَقَدْ
قَالَ هَؤُلَاءِ : يُكَبِّرُ فِي يَوْمَيْنِ ؛ فَتَرَكُوا الظَّاهِرَ لِغَيْرِ
دَلِيلٍ ظَاهِرٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَيَّامُ
التَّشْرِيقِ فَقَالَ : إنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } فَذِكْرُ عَرَفَاتٍ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ
الْأَيَّامِ ، وَهَذَا كَانَ يَصِحُّ لَوْ قَالَ يُكَبِّرُ مِنْ الْمَغْرِبِ
يَوْمَ عَرَفَةَ ، لِأَنَّ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ حِينَئِذٍ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ
فَلَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : يُكَبِّرُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ الظُّهْرِ
، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مُتَعَلِّقِ قَوْله تَعَالَى : { فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ
} لَكِنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ الْحُلُولِ بِمِنًى .
وَمِنْ قَصَرَهُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ
الرَّابِعِ فَقَدْ بَيَّنَّا مَأْخَذَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَالتَّحْقِيقِ أَنَّ التَّحْدِيدَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
ظَاهِرٌ ، وَأَنَّ تَعَيُّنَهَا ظَاهِرٌ أَيْضًا بِالرَّمْيِ ، وَأَنَّ سَائِرَ
أَهْلِ الْآفَاقِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ فِيهَا ، وَلَوْلَا الِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ
لَضَعُفَ مُتَابَعَةُ الْحَاجِّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ الْآفَاقِ إلَّا فِي التَّكْبِيرِ
عِنْدَ الذَّبْحِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ
وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ
الْخِصَامِ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : قَالَ قَوْمٌ : نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ
بَنِي زُهْرَةَ : وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ
، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، وَقَالَ : اللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ ،
ثُمَّ خَرَجَ وَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ وَحُمُرٍ ، فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَعَقَرَ
الْحُمُرَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ ، وَهُوَ
أَقْوَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ
الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ ، وَمَا يَبْدُو مِنْ إيمَانِهِمْ
وَصَلَاحِهِمْ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ بَاطِنِهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
بَيَّنَ أَنَّ مَنْ الْخَلْقِ مَنْ يُظْهِرُ قَوْلًا جَمِيلًا وَهُوَ يَنْوِي
قَبِيحًا .
وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهُ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ كُلَّ
أَحَدٍ مِنْ حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَلَّا يُقْبِلُ
أَحَدٌ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ أَحَدٍ حَتَّى يَتَحَقَّقَ بِالتَّجْرِبَةِ ،
وَيَخْتَبِرُ بِالْمُخَالَطَةِ أَمْرَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَه إلَّا
اللَّهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّمَا أُمِرْت بِالظَّاهِرِ
وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ
} .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ
فِي حَقِّ الْكَفِّ عَنْهُ وَعِصْمَتِهِ ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ
مِنْهُ فِي حَالَتِهِ ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ : { فَإِذَا قَالُوهَا
عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } .
وَأَمَّا فِي
[ حَدِيثِ ] حَقِّ ثُبُوتِ الْمَنْزِلَةِ بِإِمْضَاءِ
قَوْلِهِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِهِ حَتَّى يَقَعَ الْبَحْثُ
عَنْهُ ، وَيُخْتَبَرُ فِي تَقَلُّبَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ
هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ إسْلَامُهُمْ سَلَامَتَهُمْ ؛
فَأَمَّا وَقَدْ عَمَّ النَّاسَ الْفَسَادُ فَلَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } :
يَعْنِي : ذَا جِدَالٍ إذَا كَلَّمَك وَرَاجَعَك رَأَيْت لِكَلَامِهِ طَلَاوَةً
وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا
بِمَا ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ سَوَاءٌ
.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ
الْأَلَدُّ الْخَصِمُ } .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } فِيهَا
مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ .
الثَّانِي : فِيمَنْ يَقْتَحِمُ الْقِتَالَ ؛ أَرْسَلَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَيْشًا فَحَاصَرُوا حِصْنًا فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ عَلَيْهِ
فَقَاتَلَ فَقُتِلَ ، فَقَالَ النَّاسُ : أَلْقَى بِيَدِهِ لِلتَّهْلُكَةِ ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ فَقَالَ : كَذَبُوا ؛ أَوْ لَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ
} وَحَمَلَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ عَلَى الصَّفِّ حَتَّى شَقَّهُ ، فَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ
اللَّهِ } .
الثَّالِثُ :
نَزَلَتْ فِي الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ الْمَالِ
وَالدِّيَارِ لِأَجْلِهَا ؛ رُوِيَ أَنْ صُهَيْبًا أَخَذَهُ أَهْلُهُ وَهُوَ
قَاصِدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَافْتَدَى مِنْهُمْ
بِمَالِهِ ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ آخَرُ فَافْتَدَى مِنْهُ بِبَقِيَّةِ مَالِهِ ،
وَغَيْرُهُ عَمِلَ عَمَلَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ قَالَهُ عُمَرُ ، وَقَرَأَ هَذِهِ
الْآيَةَ وَاسْتَرْجَعَ ، وَقَالَ : قَامَ رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ
.
وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ
إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مِرْبَدًا لَهُ ، فَأَرْسَلَ إلَى فِتْيَانٍ قَدْ
قَرَءُوا الْقُرْآنَ ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَخِي عَنْبَسَةَ
فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ ، فَإِذَا كَانَتْ الْقَائِلَةُ انْصَرَفُوا .
قَالَ : فَمَرُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ : { وَإِذَا قِيلَ
لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ
وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
لِبَعْضِ مَنْ كَانَ إلَى جَانِبِهِ : اقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ .
فَسَمِعَ
عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ ، فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ قُلْت ؟ قَالَ : لَا
شَيْءَ .
قَالَ :
مَاذَا قُلْت ؟ قَالَ : فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ
عَبَّاسٍ قَالَ : أَرَى هَذَا أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ مِنْ أَمْرِهِ
بِتَقْوَى اللَّهِ ، فَيَقُولُ هَذَا : وَأَنَا أَشْرِي نَفْسِي ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ فَيُقَاتِلُهُ ، فَاقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ .
فَقَالَ عُمَرُ : لِلَّهِ تِلَادُك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : هَذَا كُلُّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ ، لَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ
يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ ، دَاخِلًا فِي عُمُومِهَا ، إلَّا أَنَّ مِنْهُ
مُتَّفَقًا عَلَيْهِ ، وَمِنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ؛ أَمَّا الْقَوْلُ : إنَّهَا
فِي الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا اقْتِحَامُ الْقِتَالِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ
تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُهُ ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا خَافَ مِنْهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ سَقَطَ
فَرْضُهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ اقْتِحَامُ الْغَرَرِ فِيهِ وَتَعْرِيضُ
النَّفْسِ لِلْإِذَايَةِ أَوْ الْهَلَكَةِ ؟ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَسَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا
أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
بِهِ عَلِيمٌ } فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ
بِآيَةِ الزَّكَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ [ كَانَتْ
] مَوْضُوعَةً أَوَّلًا فِي الْأَقْرَبِينَ ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ مَصْرِفَهَا
فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ
.
الثَّانِي : أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ مَصَارِفَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ
، وَهُوَ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ دَعْوَى ، وَشُرُوطُهُ مَعْدُومَةٌ هُنَا
؛ وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فِي الْأَقْرَبِينَ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِمْ ،
يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ؛ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ .
فَقَالَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ لِزَوْجِهَا
: أَرَاك خَفِيفَ ذَاتِ الْيَدِ ، فَإِنْ أَجْزَأَتْ عَنِّي فِيك صَرَفْتهَا
إلَيْك .
فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَأَلَتْهُ ، فَقَالَتْ : أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ مِنِّي عَلَى زَوْجِي
وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : لَك أَجْرَانِ : أَجْرُ الصَّدَقَةِ ، وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ
تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ } .
وَرَوَى النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا :
أُمَّكَ وَأَبَاكَ ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ، وَأَدْنَاك أَدْنَاك } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا } وَلَا
شَكَّ أَنَّ الْحُنُوَّ عَلَى الْقَرَابَةِ أَبْلَغُ ، وَمُرَاعَاةُ ذِي الرَّحِمِ
الْكَاشِحِ أَوْقَعُ فِي الْإِخْلَاصِ
.
وَتَمَامُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَة الرَّابِعَة
وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ
لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ
تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ :
إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّحَابَةِ وَهُمْ الْمُخَاطَبُونَ وَالْمَكْتُوبُ
عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ
، لَكِنْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ ظَاهِرًا فَهُوَ
فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ ظَاهِرًا عَلَى مَوْضِعٍ ؛
كَانَ الْقِتَالُ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ ، حَتَّى يَكْشِفَ اللَّهُ تَعَالَى
مَا بِهِمْ ؛ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاشِعٍ
قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَخِي
فَقُلْت : بَايِعْنِي عَلَى الْهِجْرَةِ .
فَقَالَ : مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا .
قُلْت : عَلَامَ تُبَايِعُنَا ؟ قَالَ : عَلَى
الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ } .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ،
وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ فِي الدَّرَجَةِ
الثَّانِيَةِ مِنْ إبَاحَةِ الْقِتَالِ وَالْإِذْنِ فِيهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنْ اسْتَطَاعُوا } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ هَذِهِ
الْآيَةِ ؛ فَكَانَ عَطَاءٌ يَحْلِفُ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ
الَّتِي بَعْدَهَا عَامَّةٌ فِي الْأَزْمِنَةِ وَهَذَا خَاصٌّ ؛ وَالْعَامُّ لَا
يُنْسَخُ بِالْخَاصِّ بِاتِّفَاقٍ
.
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ ؛ وَاخْتَلَفُوا
فِي النَّاسِخِ ؛ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ : نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى : {
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } وَقَالَ
غَيْرُهُ : نَسَخَتْهَا : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَهَا { غَزْوُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيفًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَإِغْزَاؤُهُ
أَبَا عَامِرٍ إلَى أَوْطَاسَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ } ؛ وَهَذِهِ أَخْبَارٌ
ضَعِيفَةٌ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : نَسَخَتْهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ
عَلَى الْقِتَالِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ
بِمَكَّةَ ، وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى حَرْبِهِ ، فَبَايَعَ عَلَى دَفْعِهِمْ
لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ .
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ : نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى :
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } يَعْنِي أَشْهُرَ التَّسْيِيرِ ، فَلَمْ يَجْعَلْ حُرْمَةً
إلَّا لِزَمَانِ التَّسْيِيرِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رَدٌّ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَعْظَمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْقِتَالَ وَالْحِمَايَةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ } وَهِيَ الْكُفْرُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ ؛ فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ تَعَيَّنَ قِتَالُكُمْ فِيهِ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُرْتَدِّ ، هَلْ يُحْبِطُ
عَمَلَهُ نَفْسُ الرِّدَّةِ أَمْ لَا يَحْبَطُ إلَّا عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى
الْكُفْرِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَحْبَطُ لَهُ عَمَلٌ إلَّا
بِالْمُوَافَاةِ كَافِرًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْبَطُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ .
وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الْمُسْلِمِ إذَا حَجَّ ثُمَّ
ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ، فَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ الْحَجُّ لِأَنَّ
الْأَوَّلَ قَدْ حَبَطَ بِالرِّدَّةِ
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ
عَمَلَهُ بَاقٍ .
وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } وَقَالُوا هُوَ خِطَابٌ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ
لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ
شَرْعًا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : بَلْ هُوَ خِطَابٌ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ عَلَى
الْأَمَةِ ، وَبَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَفِ
مَنْزِلَتِهِ لَوْ أَشْرَكَ لَحَبِطَ عَمَلُهُ ، فَكَيْف أَنْتُمْ ؟ لَكِنَّهُ لَا
يُشْرِكُ لِفَضْلِ مَرْتَبَتِهِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا نِسَاءَ
النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا
الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } ؛ وَذَلِكَ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ وَإِلَّا فَلَا
يُتَصَوَّرُ إتْيَانُ فَاحِشَةٍ مِنْهُنَّ ، صِيَانَةً لِصَاحِبِهِنَّ
الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، حِينَ قَرَأَ : { ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ
عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } ؛ وَاَللَّهِ مَا
بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ ، وَلَكِنَّهُمَا كَفَرَتَا .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا ذَكَرَ
الْمُوَافَاةَ شَرْطًا هَاهُنَا ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهَا الْخُلُودَ فِي النَّارِ جَزَاءً ، فَمَنْ وَافَى كَافِرًا خَلَّدَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَمَنْ أَشْرَكَ حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى ، فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ ، وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لِأَمَتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ ، وَمَا وَرَدَ فِي أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكًا لِحُرْمَةِ الدِّينِ وَحُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِكُلِّ هَتْكٍ حُرْمَةُ عِقَابٍ ، وَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ عَصَى فِي شَهْرٍ حَرَامٍ ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يُضَاعَفُ عَلَيْهِ بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنْ الْحُرُمَاتِ ، وَاَللَّهُ الْوَاقِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالٌ : الْأَوَّلُ : مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عُمَرَ وَالصَّحِيحُ مُرْسَلٌ دُونَ ذِكْرِ " عَنْ " وَقَالَ بَدَلَهَا : عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاءِ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فَدُعِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي الْمَائِدَة : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } فَدُعِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : انْتَهَيْنَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي
تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهُ : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَمْرَ شَرَابٌ يُعْتَصَرُ مِنْ
الْعِنَبِ خَاصَّةً ، وَمَا اُعْتُصِرَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ كَالزَّبِيبِ
وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا يُقَالُ لَهُمَا نَبِيذٌ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ،
وَأَهْلُ الْكُوفَةِ .
الثَّانِي
: أَنَّ الْخَمْرَ كُلُّ شَرَابٍ مَلَذٌّ مُطْرِبٌ ،
قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ ؛ وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ
بِأَحَادِيثَ لَيْسَ لَهَا خَطْمٌ وَلَا أَزْمَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِ
الْحَدِيثِ ، وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ أَنَسًا
قَالَ : " حُرِّمَتْ الْخَمْرُ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ
الْأَعْنَابِ إلَّا قَلِيلٌ ، وَعَامَّةُ خَمْرِهَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ " .
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ
عَلَى رِوَايَةٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ إذْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ خَمْرُ عِنَبٍ ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يَشْرَبُونَ خَمْرَ
النَّبِيذِ ، فَكَسَرُوا دِنَانَهُمْ ، وَبَادَرُوا الِامْتِثَالَ
لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَمْرٌ .
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ : " إنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ نَزَلَ ، وَهِيَ مِنْ
خَمْسَةٍ : الْعِنَبِ ، وَالتَّمْرِ ، وَالْعَسَلِ ، وَالْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ " .
وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ ، وَقَدْ
اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ اشْتِقَاقًا
وَأُصُولًا وَقُرْآنًا وَأَخْبَارًا
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمَيْسِرُ : مَا كُنَّا
نَشْتَغِلُ بِهِ بَعْدَ أَنْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَمَا حَرَّمَ اللَّهُ
فِعْلَهُ وَجَهِلْنَاهُ حَمِدْنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَشَكَرْنَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَلْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ
بِهَذِهِ الْآيَةِ أَمْ لَا ؟ قَالَ الْحَسَنُ : حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِهَذِهِ
الْآيَةِ .
وَقَالَتْ الْجَمَاعَةُ : حُرِّمَتْ بِآيَةِ
الْمَائِدَةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ حَرَّمَتْهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } : وَقَدْ احْتَجَّ
بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ : {
قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْإِثْمَ } فَلَمَّا تَنَاوَلَ التَّحْرِيمُ الْإِثْمَ ، وَكَانَ الْإِثْمُ
مِنْ صِفَاتِ الْخَمْرِ وَجَبَ تَحْرِيمُهَا .
وَهَذَا إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ لَوْ
كَانَ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ }
فَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِتَحْرِيمٍ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : مَا هَذَا الْإِثْمُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْإِثْمَ مَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ ، وَالْمَنْفَعَةُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ .
الثَّانِي : أَنَّ إثْمَهَا كَانُوا إذَا شَرِبُوا
سَكِرُوا فَسَبُّوا وَجَرَحُوا وَقَتَلُوا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إثْمٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ،
وَتَمَامُهَا فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } : فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهَا رِبْحُ التِّجَارَةِ .
وَالثَّانِي : السُّرُورُ وَاللَّذَّةُ .
وَالثَّالِثُ : قَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ :
مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَدَنِ ؛ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ الْقَائِمَةِ أَوْ
جَلْبِ الصِّحَّةِ الْفَانِيَةِ بِمَا تَفْعَلُهُ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ
وَسَرَيَانِهَا فِي الْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ ، وَتَوَصُّلِهَا إلَى الْأَعْضَاءِ
الْبَاطِنَةِ الرَّئِيسِيَّةِ ، وَتَجْفِيفِ الرُّطُوبَةِ ، وَهَضْمِ الْأَطْعِمَةِ
الثِّقَالِ وَتَلْطِيفِهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ الرِّبْحُ ؛
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنْ الشَّامِ بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي
الْحِجَازِ بِرِبْحٍ كَثِيرٍ .
وَأَمَّا اللَّذَّةُ : فَهِيَ مُضِرَّةٌ عِنْدَ
الْعُقَلَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ اللَّذَّةِ لَا يَفِي بِمَا
تُذْهِبُهُ مِنْ التَّحْصِيلِ وَالْعَقْلِ ، حَتَّى إنَّ الْعَبِيدَ
الْأَدْنِيَاءَ وَأَهْلَ النَّقْصِ كَانُوا يَتَنَزَّهُونَ عَنْ شُرْبِهَا لِمَا
فِيهَا مِنْ إذْهَابِ شَرِيفِ الْعَقْلِ ، وَإِعْدَامُهَا فَائِدَةُ التَّحْصِيلِ
وَالتَّمْيِيزِ .
وَأَمَّا مَنْفَعَةُ إصْلَاحِ الْبَدَنِ : فَقَدْ
بَالَغَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ حَتَّى إنِّي تَكَلَّمَتْ يَوْمًا مَعَ بَعْضِهِمْ
فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ لِي : لَوْ جُمِعَ سَبْعُونَ عَقَارًا مَا وَفَى بِالْخَمْرِ
فِي مَنَافِعِهَا ، وَلَا قَامَ فِي إصْلَاحِ الْبَدَنِ مَقَامَهَا .
وَهَذَا مِمَّا لَا نَشْتَغِلُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عَلَيْهِمْ لَمْ
يَكُونُوا يَقْصِدُونَ بِهِ التَّدَاوِيَ حَتَّى نَعْتَذِرَ عَنْ ذَلِكَ لَهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي نَزَلَ أَصْلُ
تَحْرِيمِ الْخَمْرِ
فِيهَا كَانَتْ
بِلَادَ جُفُوفٍ وَحَرٍّ ؛ وَضَرَرُ الْخَمْرِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا
؛ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الْخَمْرُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ لِلْأَرْيَافِ وَالْبِطَاحِ
وَالْمَوَاضِعِ الرَّطْبَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مِنْ طَرِيقِ
الْبَدَنِ فَفِيهَا مَضَرَّةٌ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ ، وَالْبَارِي تَعَالَى قَدْ
حَرَّمَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا فَقَدِّرْهَا كَيْفَ شِئْت ، فَإِنَّ خَالِقَهَا
وَمَصْرِفَهَا قَدْ حَرَّمَهَا .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ { طَارِقِ بْنِ سُوَيْد الْجُعْفِيِّ
أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ
فَنَهَاهُ وَكَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا
.
قَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ .
قَالَ : لَيْسَ بِدَوَاءٍ ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ } .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ الْخَمْرِ : أَتُتَّخَذُ خَلًّا ؟ قَالَ :
لَا .
} وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْف يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ
بِتَحْرِيمِ مَا لَا غِنَى عَنْهُ وَلَا عِوَضَ مِنْهُ ؟ هَذَا مُنَاقِضٌ
لِلْحِكْمَةِ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّهُ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا ؛
بَلْ لِلْمَرِيضِ عَنْهَا أَلْفُ غِنًى ، وَلِلصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ مِنْهَا
عِوَضٌ مِنْ الْخَلِّ وَنَحْوِهِ
.
الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : لَوْ كَانَتْ لَا غِنَى عَنْهَا
وَلَا عِوَضَ مِنْهَا لَامْتَنَعَ تَحْرِيمُهَا ، وَلَا اسْتَحَالَ أَنْ يَمْنَعَ
الْبَارِي تَعَالَى الْخَلْقَ مِنْهَا لِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
لِلْبَارِي تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَ الْمَرَافِقَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا ، وَأَنْ
يُبِيحَهَا ، وَقَدْ آلَمَ الْحَيَوَانَ وَأَمْرَضَ الْإِنْسَانَ .
الثَّانِي : أَنَّ التَّطَبُّبَ غَيْرُ وَاجِبٍ
بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ : { يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي
سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ ، وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا
يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ
كَانَ فِيهَا صَلَاحُ بَدَنٍ لَكَانَتْ فِيهَا ضَرَاوَةٌ وَذَرِيعَةٌ إلَى فَسَادِ الْعَقْلِ ، فَتَقَابَلَ الْأَمْرَانِ ، فَغَلَبَ الْمَنْعُ لِمَا لَنَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا لَوْ اُسْتُهْلِكَتْ فِي
الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ؛ هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الطَّعَامِ
أَوْ ذَلِكَ الدَّوَاءِ أَمْ لَا ؟ فَأَجَازَهُ ابْنُ شِهَابٍ ، وَمَنَعَهُ
غَيْرُهُ ، وَتَرَدَّدَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ } .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله
تَعَالَى { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } : وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ
قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِثْمَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْإِثْمَ فِيمَا يَكُونُ عَنْهَا مِنْ
فَسَادِ الْعَمَلِ عِنْدَ ذَهَابِ الْعَقْلِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ اللَّذَّةِ
وَالرِّبْحِ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَزَادَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا
نَزَلَ تَوَرَّعَ عَنْهَا قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَشَرِبَهَا آخَرُونَ
لِلْمَنْفَعَةِ يَعْنِي لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا لَا
لِمَنْفَعَةِ الْبَدَنِ كَمَا قَدَّمْنَا ، حَتَّى نَزَلَتْ : { لَا تَقْرَبُوا
الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فَإِنْ قِيلَ : كَيْف شُرِبَتْ بَعْدَ قَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى : { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } وَبَعْدَ قَوْلِهِ : { وَإِثْمُهُمَا
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَكَيْف تَعَاطَى مُسْلِمٌ مَا فِيهِ مَأْثَمٌ ؟ فَالْجَوَابُ
مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرَادَ
بِالْإِثْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ شُرْبُهَا لَا نَفْسُ
شُرْبِهَا .
فَمَنْ فَعَلَ حِينَئِذٍ ذَلِكَ الَّذِي يُؤَوَّلُ
إلَيْهِ فَقَدْ أَثِمَ بِمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ لَا بِنَفْسِ الشُّرْبِ ، وَإِنْ
لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الَّذِي يُؤَوَّلُ إلَيْهِ لَمَا كَانَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ
إثْمٌ ؛ فَكَانَ هَذَا مَقْصَدَ الْقَوْلِ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ لَا عَلَى
وَجْهِ التَّحْرِيمِ ؛ فَقَبِلَهُ قَوْمٌ فَتَوَرَّعُوا ، وَأَقْدَمَ آخَرُونَ
عَلَى الشُّرْبِ حَتَّى حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى التَّحْرِيمَ ، فَامْتَنَعَ
الْكُلُّ ، وَلَوْ أَرَادَ رَبُّك التَّحْرِيمَ لَقَالَ لِعُمَرَ أَوَّلًا مَا
قَالَ لَهُ آخِرًا حَتَّى قَالَ : انْتَهَيْنَا .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ
مَا فِيهَا مِنْ الْإِثْمِ الْمُوجِبِ لِلِامْتِنَاعِ وَقَرَنَهُ بِمَا فِيهَا
مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِقْدَامِ فَهِمَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ
التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ، وَلَوْ تَدَبَّرُوا قَوْله تَعَالَى : { وَإِثْمُهُمَا
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } لَغَلَبَ الْوَرَعُ ؛ فَأَقْدَمَ مَنْ
أَقْدَمَ ، وَتَوَرَّعَ مَنْ تَوَرَّعَ ، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ التَّحْرِيمِ الْبَاحِثَةِ الْكَاشِفَةِ لِتَحْقِيقِهِ ، فَفَهِمَهَا النَّاسُ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : انْتَهَيْنَا ، { وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ } .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ
وَالْخَمْسُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ
الْعَفْوَ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: أَنَّهُ مَا فَضَلَ عَنْ الْأَهْلِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : الْوَسَطُ مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ وَلَا
إسْرَافٍ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : مَا سَمَحَتْ بِهِ النَّفْسُ ؛ قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا .
الرَّابِعُ : الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ؛ قَالَهُ
مُجَاهِدٌ .
الْخَامِسُ : صَدَقَةُ الْفَرْضِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ
أَيْضًا .
السَّادِسُ : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ ؛
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا
.
التَّنْقِيحُ : قَدْ بَيَّنَّا أَقْسَامَ الْعَفْوِ
فِي مَوْرِدِ اللُّغَةِ عِنْدَمَا فَسَّرْنَا قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ
لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
وَأَسْعَدُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ [ بِالتَّحْقِيقِ ] وَبِالصِّحَّةِ مَا
عَضَّدَتْهُ اللُّغَةُ ، وَأَقْوَاهَا عِنْدِي الْفَضْلُ ، لِلْأَثَرِ
الْمُتَقَدِّمِ .
[ وَلِلنَّظَرِ ] ،
وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَصَدَّقَ بِالْكَثِيرِ نَدِمَ وَاحْتَاجَ ، فَكِلَاهُمَا
مَكْرُوهٌ شَرْعًا ، فَإِعْطَاءُ الْيَسِيرِ حَالَةً بَعْدَ حَالَةٍ أَوْقَعُ فِي
الدِّينِ وَأَنْفَعُ فِي الْمَالِ ؛ وَقَدْ { جَاءَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ
كَعْبٌ ، فَقَالَ لَهُمَا : الثُّلُثُ
} .
الْآيَة التَّاسِعَة وَالْخَمْسُونَ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } الْآيَةَ تَحَرَّجَ النَّاسُ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ فِي الْأَمْوَالِ وَاعْتَزَلُوهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } يَعْنِي : قَصْدُ إصْلَاحِ أَمْوَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْ اعْتِزَالِهِمْ : فَكَانَ إذْنًا فِي ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ الْقَصْدِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصِدُ رِفْقَ الْيَتِيمِ لَا أَنْ يَقْصِدَ رِفْقَ نَفْسِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي الْبَحْثِ عَنْ الْيَتِيمِ : هُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ
عَنْ الْمُنْفَرِدِ مِنْ أَبِيهِ ، وَقَدْ يُطْلَقُ فِيهَا عَلَى الْمُنْفَرِدِ
مِنْ أُمِّهِ .
وَالْأَوَّلُ : أَظْهَرُ لُغَةً ، وَعَلَيْهِ وَرَدَتْ
الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ ، وَلِأَنَّ الَّذِي فَقَدَ أَبَاهُ عَدِمَ النُّصْرَةَ
، وَاَلَّذِي فَقَدَ أُمَّهُ عَدِمَ الْحَضَانَةَ ، وَقَدْ تَنْصُرُ الْأُمُّ
لَكِنَّ نُصْرَةَ الْأَبِ أَكْثَرُ ، وَقَدْ يَحْضُنُ الْأَبُ لَكِنَّ الْأُمُّ
أَرْفَقُ حَضَانَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا بَلَغَ الْيَتِيمُ
زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ لُغَةً ، وَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْيُتْمِ فِي
عَدَمِ الِاسْتِبْدَادِ بِالتَّصَرُّفِ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ ؛
وَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ فِي مُخَالَطَةِ
الْأَيْتَامِ مَعَ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ بِالنَّظَرِ لَهُمْ وَفِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ
دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ لِلْأَيْتَامِ كَمَا يُتَصَرَّفُ
لِلْأَبْنَاءِ ، وَفِي الْأَثَرِ : " مَا كُنْت تُؤَدِّبُ مِنْهُ وَلَدَك
فَأَدِّبْ مِنْهُ يَتِيمَك " وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا :
إنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاضِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ
فِي الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ
الْفُرُوعِ ، وَبِهِ أَقُولُ وَأَحْكُمُ ، فَيَنْفُذُ بِنُفُوذِ فِعْلِهِ لَهُ فِي
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : إذَا كَفَلَ الرَّجُلُ الْيَتِيمَ وَحَازَهُ وَكَانَ فِي نَظَرِهِ
، جَازَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْهُ وَالٍ
عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ ، وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ وِلَايَةٌ
عَامَّةٌ .
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ
الْخُلَفَاءِ أَنَّهُ قَدَّمَ أَحَدًا عَلَى يَتِيمٍ مَعَ وُجُودِهِمْ فِي
أَزْمِنَتِهِمْ ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَوْنِهِمْ عِنْدَهُمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ فِي اللَّقِيطِ هُوَ حُرٌّ ، لَك وَلَاؤُهُ ، وَعَلَيْنَا
نَفَقَتُهُ " يَعْنِي بِالْوَلَاءِ الْوِلَايَةَ ، لَيْسَ الْمِيرَاثَ ،
كَمَا تَوَهَّمَهُ قَوْمٌ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جَعَلْتُمْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ
فِي مَالِ الْيَتِيمِ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ بِوِلَايَةِ الْكَفَالَةِ
كَمَا قَدَّمْتُمْ بَيَانَهُ إنْ كَانَ بِتَقْدِيمِ وَالٍ عَلَيْهِ ، فَهَلْ
يُنْكِحُ نَفْسَهُ مِنْ يَتِيمَتِهِ أَوْ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ يَتِيمَتِهِ ؟ قُلْنَا
: إنَّ مَالِكًا جَعَلَ وِلَايَةَ النِّكَاحِ بِالْكَفَالَةِ وَالْحَضَانَةُ
أَقْوَى مِنْهَا بِالْقَرَابَةِ ، حَتَّى قَالَ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ
يُسَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي أَعْوَامِ الْمَجَاعَةِ إلَى الْكَفَلَةِ :
إنَّهُمْ يُنْكِحُونَهُمْ إنْكَاحَهُمْ .
فَأَمَّا إنْكَاحُ الْكَافِلِ مِنْ نَفْسِهِ فَسَيَأْتِي
فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الشِّرَاءُ مِنْهُ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو
حَنِيفَةَ : يَشْتَرِي فِي مَشْهُورِ الْأَقْوَالِ إذَا كَانَ نَظَرًا لَهُ ،
وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِصْلَاحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي
الْآيَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي
النِّكَاحِ وَلَا فِي الْبَيْعِ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
فَأَمَّا مَا نَزَعَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَنْعِ
النِّكَاحِ فَلَهُ فِيهَا طُرُقٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا هُنَالِكَ ؛ وَأَمَّا
الشِّرَاءُ فَطَرِيقُهُ فِيهَا ضَعِيفٌ جِدًّا إلَّا أَنْ يَدْخُلَ مَعَنَا فِي
مُرَاعَاةِ الذَّرَائِعِ وَالتُّهَمِ فَيَنْقُضُ أَصْلَهُ فِي تَرْكِهَا .
فَإِنَّ قِيلَ : فَلِمَ تَرَكَ مَالِكٌ أَصْلَهُ فِي
التُّهْمَةِ وَالذَّرَائِعِ ، وَجَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ
يَتِيمَتِهِ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا نَقُولُ يَكُونُ ذَرِيعَةً لِمَا يُؤَدِّي مِنْ
الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ إلَى مَحْظُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا هَاهُنَا
فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي صُورَةِ الْمُخَالَطَةِ ، وَوَكَّلَ
الْحَاضِنِينَ فِي ذَلِكَ إلَى أَمَانَتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ } وَكُلُّ أَمْرٍ مَخُوفٍ وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِيهِ الْمُكَلَّفَ إلَى أَمَانَتِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَتَذَرَّعُ إلَى
مَحْظُورٍ فَيُمْنَعُ مِنْهُ ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ
مُؤْتَمَنَاتٍ
عَلَى فُرُوجِهِنَّ ، مَعَ عِظَمِ مَا يَتَرَكَّبُ عَلَى قَوْلِهِنَّ فِي ذَلِكَ
مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْسَابِ
، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ .
وَهَذَا فَنٌّ بَدِيعٌ فَتَأْمُلُوهُ وَاِتَّخِذُوهُ
دُسْتُورًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَمِّلُوهُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
بِرَحْمَتِهِ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ
سِتِّينَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا
تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَاَللَّهُ
يَدْعُو إلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِنِكَاحٍ عَلَى مُشْرِكَةٍ كَانَتْ
كِتَابِيَّةً أَوْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ ؛ قَالَهُ عُمَرُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ
، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إذَا كَانَتْ أَمَةً .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَطْءُ مَنْ لَا
كِتَابَ لَهُ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْعَرَبِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَدَرَسَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ
فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ الْحَسَنِ
الشَّاشِيُّ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ قَالَ : احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى
جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ } ؛ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى خَايَرَ بَيْنَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْمُشْرِكَةِ ،
فَلَوْلَا أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ جَائِزٌ لَمَا خَايَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُخَايَرَةَ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْجَائِزَيْنِ ، لَا
بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْمُمْتَنَعِ ، وَلَا بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ ؛ أَلَا تَرَى
أَنَّك لَا تَقُولُ : الْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَجُوزُ الْمُخَايَرَةُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ لُغَةً
وَقُرْآنًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ
خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا } وَلَا خَيْرَ عِنْدَ
أَهْلِ
النَّارِ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِسَالَتِهِ
إلَى أَبِي مُوسَى : " الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي
الْبَاطِلِ " .
الثَّانِي :
أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكٍ } ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْعَبْدِ الْمُشْرِكِ
لِلْمُؤْمِنَةِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ لِلْمُشْرِكَةِ ؛ إذْ
لَوْ دَلَّ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَلَى الْمُرَادِ لَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى
مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا سِيقَتَا فِي الْبَيَانِ مَسَاقًا وَاحِدًا .
الثَّالِثُ :
قَوْله تَعَالَى : { وَلَأَمَةٌ } لَمْ يُرِدْ بِهِ
الرَّقِيقَ الْمَمْلُوكَ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ : الْآدَمِيَّةُ
وَالْآدَمِيَّاتُ ، وَالْآدَمِيُّونَ بِأَجْمَعِهِمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ
؛ قَالَهُ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ .
التَّنْقِيحُ : كُلُّ كَافِرٍ بِالْحَقِيقَةِ مُشْرِكٌ
؛ وَلِذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَرِهَ
نِكَاحَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة ، وَقَالَ : أَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ
مِمَّنْ يَقُولُ : عِيسَى هُوَ اللَّهُ أَوْ وَلَدُهُ ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا
يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَإِنْ حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ
عَامٌّ خَصَّصَتْهُ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ وَلَمْ تَنْسَخْهُ ؛ وَإِنْ
حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُرْفِ فَالْعُرْفُ إنَّمَا يَنْطَلِقُ فِيهِ لَفْظُ
الْمُشْرِكِ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْوَثَنِيِّينَ
مِنْ الْعَرَبِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَالَ : { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ } فَلَفْظُ الْكُفْرِ يَجْمَعُهُمْ ، وَيَخُصُّهُمْ
ذَلِكَ التَّقْسِيمُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا كَمَا
قُلْتُمْ فَالْعِلَّةُ تَجْمَعُهُمْ ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : {
أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ } ؛ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكِتَابِيِّ
وَالْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ
.
قُلْنَا : لَا
نَمْنَعُ فِي
الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَامَّةً وَالْحُكْمُ خَاصًّا أَوْ أَزَيْدُ
مِنْ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ وَأَمَارَاتٌ ، وَلَيْسَتْ
بِمُوجِبَاتٍ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : {
أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ } يَرْجِعُ إلَى الرِّجَالِ فِي قَوْله
تَعَالَى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } لَا إلَى النِّسَاءِ ؛
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَوْ تَزَوَّجَتْ كَافِرًا حُكِمَ عَلَيْهَا
حُكْمُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا وَدَعَاهَا إلَى
الْكُفْرِ ، وَلَا حُكْمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا
فِيهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } : قَالَ
بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ وَإِنْ أَعْجَبَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ
عِلْمُهُ بِأَنْ " لَوْ
" تَفْتَقِرُ إلَى جَوَابٍ ، وَنَسِيَ أَنَّ "
إنْ " أَيْضًا تَفْتَقِرُ إلَى جَزَاءٍ .
وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ : لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
ابْتِدَاءً وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ حُسْنُهُنَّ ، كَمَا تَقُولُ ، لَا تُكَلِّمَ
زَيْدًا وَإِنْ أَعْجَبَك مَنْطِقُهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ : النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ ثُمَّ قَرَأَ : وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ بِضَمِّ التَّاءِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ وَدَلَالَةٌ صَحِيحَةٌ .
الْآيَةُ
الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ
قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ
إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فِيهَا اثْنَتَانِ
وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : سَبَبُ السُّؤَالِ : وَقَدْ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
فَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : { كَانَتْ الْيَهُودُ
إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُشَارِبُوهَا
وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ
قُلْ هُوَ أَذًى } فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُؤَاكِلُوهُنَّ وَيُشَارِبُوهُنَّ ، وَأَنْ يَكُونُوا فِي
الْبَيْتِ مَعَهُنَّ ، وَأَنْ يَفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلَا النِّكَاحَ .
فَقَالَتْ الْيَهُودُ : مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ يَدَعَ
مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ
الْحُضَيْرِ ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ ، فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَا
نُخَالِفُ الْيَهُودَ فَنَطَأُ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ
وَجَدَ عَلَيْهِمَا .
قَالَ : فَقَامَا فَخَرَجَا عَنْهُ فَاسْتَقْبَلَتْهُمْ
ا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ
فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا ، فَعَلِمَا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا .
} وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ
الْأَئِمَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَانَ غَضَبُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ؛ إمَّا
كَرَاهِيَةٌ مِنْ كَثْرَةِ الْأَسْئِلَةِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
يَقُولُ : { ذَرُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ
سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ } .
وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ كَرِهَ
الْأَطْمَاعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرَّذَائِلِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُقْتَرِنَةً
بِاللَّذَّاتِ ؛ وَالْوَطْءُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ رَذِيلَةٌ يَسْتَدْعِي عُزُوفَ
النَّفْسِ .
وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ الِانْكِفَافَ عَنْهُ لَوْ كَانَ
مُبَاحًا ، كَيْفَ وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا مِمَّنْ تَحَقَّقَ
فِي الدِّينِ عِلْمُهُ ، وَثَبَتَ فِي الْمُرُوءَةِ قَدَمُهُ كَأُسَيْدٍ
وَعَبَّادٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : { كَانُوا
يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ فِي الْمَحِيضِ فَسَأَلُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ
} وَهَذَا ضَعِيفٌ يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي
تَفْسِيرِ الْمَحِيضِ وَهُوَ مَفْعَلُ ، مِنْ حَاضَ يَحِيضُ إذَا سَالَ حَيْضًا ،
تَقُولُ الْعَرَبُ : حَاضَتْ الشَّجَرَةُ وَالسَّمُرَةُ : إذَا سَالَتْ رُطُوبَتُهَا
، وَحَاضَ السَّيْلُ : إذَا سَالَ قَالَ الشَّاعِرُ : أَجَالَتْ حَصَاهُنَّ الذَّوَارِي
وَحَيَّضَتْ عَلَيْهِنَّ حَيْضَاتُ السُّيُولِ الطَّوَاحِمِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ
الدَّمِ الَّذِي يُرْخِيهِ الرَّحِمُ فَيَفِيضُ ، وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ :
الْأَوَّلُ : حَائِضٌ .
الثَّانِي : عَارِكٌ .
الثَّالِثُ : فَارِكٌ .
الرَّابِعُ : طَامِسٌ .
الْخَامِسُ : دَارِسٌ .
السَّادِسُ : كَابِرٌ .
السَّابِعُ : ضَاحِكٌ .
الثَّامِنُ : طَامِثٌ .
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَضَحِكَتْ }
يَعْنِي حَاضَتْ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَيَهْجُرُهَا يَوْمًا إذَا هِيَ
ضَاحِكٌ وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ }
يَعْنِي حِضْنَ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ : يَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى
أَطْهَارِهِنَّ وَلَا يَأْتِي النِّسَاءَ إذَا أَكْبَرْنَ إكْبَارًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْمَحِيضُ ، مَفْعَلُ ،
مِنْ حَاضَ ، فَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَوْنُ .
عِبَارَةٌ عَنْ الزَّمَانِ أَمْ عَنْ الْمَكَانِ أَمْ
عَنْ الْمَصْدَرِ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ ؟ وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ
زَمَانِ الْحَيْضِ وَعَنْ مَكَانِهِ ، وَعَنْ الْحَيْضِ نَفْسِهِ .
وَتَحْقِيقُهُ عِنْدَ مَشْيَخَةِ الصَّنْعَةِ قَالُوا :
إنَّ الِاسْمَ الْمَبْنِيَّ مِنْ فَعَلَ يَفْعِلُ لِلْمَوْضِعِ مَفْعَلُ بِكَسْرِ
الْعَيْنِ كَالْمَبِيتِ وَالْمَقِيلِ ، وَالِاسْمُ الْمَبْنِيُّ مِنْهُ عَلَى
مَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَصْدَرِ كَالْمَضْرَبِ ،
تَقُولُ : إنَّ فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمَضْرَبًا ، أَيْ ضَرْبًا وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } أَيْ عَيْشًا .
وَقَدْ يَأْتِي الْمَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ لِلزَّمَانِ
، كَقَوْلِنَا : مَضْرِبُ النَّاقَةِ أَيْ زَمَانُ ضِرَابِهَا .
وَقَدْ يُبْنَى الْمَصْدَرُ أَيْضًا عَلَيْهِ ، إلَّا
أَنَّ الْأَصْلَ مَا تَقَدَّمَ
.
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ } أَيْ رُجُوعُكُمْ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ
عَنْ
الْمَحِيضِ } أَيْ عَنْ الْحَيْضِ .
وَإِذَا عَلِمْت هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ ، فَالصَّحِيحُ
عِنْدِي أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُتَعَلِّقٍ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ
مِنْ بِنَاءٍ يَخْتَصُّ بِهِ قَصْدًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي
بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا ، وَهِيَ سَبْعَةٌ : الْفَاعِلُ ،
وَالْمَفْعُولُ ، وَالزَّمَانُ ، وَالْمَكَانُ ، وَأَحْوَالُ الْفِعْلِ
الثَّلَاثَةِ مِنْ مَاضٍ ، وَمُسْتَقْبَلٍ ، وَحَالٍ ، وَيَتَدَاخَلَانِ ، ثُمَّ
يَتَفَرَّعُ إلَى عَشَرَةٍ وَإِلَى أَكْثَرَ مِنْهَا بِحَسَبِ تَزَايُدِ الْمُتَعَلِّقَاتِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ يَتَمَيَّزُ
بِخُصُصِيَّتِهِ اللَّفْظِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تُمَيِّزُهُ بِمَعْنَاهُ ، وَقَدْ
يَتَمَيَّزُ بِبِنَائِهِ فِي حَرَكَاتِهِ وَتَرَدُّدَاتِهِ الْمُتَّصِلَةِ
وَتَرَدُّدَاتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ ، كَقَوْلِك : مَعَهُ ، وَلَهُ ، وَبِهِ ،
وَغَيْرُ ذَلِكَ .
فَإِذَا وَضَعَ الْعَرَبِيُّ أَحَدَهُمَا مَوْضِعَ
الْآخَرِ جَازَ ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ ، وَهَذَا بَيِّنٌ
لِلْمُنْصِفِ اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنْ كِتَابِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى
مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَقُلْت
مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ } زَمَانِ الْحَيْضِ صَحَّ ، وَيَكُونُ
حِينَئِذٍ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السَّبَبُ الَّذِي
كَانَ السُّؤَالُ بِسَبَبِهِ ، تَقْدِيرُهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْوَطْءِ فِي
زَمَانِ الْحَيْضِ .
وَإِنْ قُلْت
: إنَّ مَعْنَاهُ مَوْضِعُ الْحَيْضِ كَانَ مَجَازًا فِي
مَجَازٍ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفَيْنِ تَقْدِيرُهُ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ
الْمَحِيضِ } أَيْ : عَنْ الْوَطْءِ فِي مَوْضِعِ الْحَيْضِ حَالَةَ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّ
أَصْلَ اسْمِ الْمَوْضِعِ يَبْقَى عَلَيْهِ وَإِنْ زَالَ الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَ
بِهِ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ تَحْقِيقٍ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ ، لِظُهُورِ
الْمَجَازِ فِيهِ .
وَإِنْ قُلْت مَعْنَاهُ : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْحَيْضِ ،
كَانَ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ وَاحِدٍ ، تَقْدِيرُهُ : وَيَسْأَلُونَك
عَنْ مَنْعِ الْحَيْضِ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ مُتَصَوَّرٌ مُتَقَرِّرٌ
عَلَى رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَثَابِتِ بْنِ الدَّحْدَاحَةِ ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ مُتَقَدِّرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا تَقْدِيرًا صَحِيحًا ؛ فَيَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّنْزِيلِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَسْطِهِ بِتَطْوِيلٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي اعْتِبَارِهِ شَرْعًا الدِّمَاءُ الَّتِي تُرْخِيهَا الرَّحِمُ دَمُ عَادَةٍ ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ ، وَدَمُ عِلَّةٍ يُعْتَبَرُ غَالِبًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَفِيهِ خِلَافٌ ؛ وَكِلَاهُمَا مَعْرُوفٌ ؛ وَالْأَرْحَامُ الَّتِي تُرْخِيهَا ثِنْتَانِ : حَامِلٌ ، وَحَائِلٌ [ وَالْحَائِلُ ] تَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةٍ : مُبْتَدَأَةٌ ، وَمُعْتَادَةٌ ، وَمُخْتَلِطَةٌ ، وَمُسْتَحَاضَةٌ ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ بِالْأَحْوَالِ وَالزَّمَانِ إلَى ثَلَاثِينَ قِسْمًا ، بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْمَسَائِلِ ، وَلِكُلِّ حَالٍ مِنْهَا حُكْمٌ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ أَذًى } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : قَذِرٌ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ .
الثَّانِي : دَمٌ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِث : نَجِسٌ .
الرَّابِعُ : مَكْرُوهٌ يُتَأَذَّى بِرِيحِهِ وَضَرَرِهِ
أَوْ نَجَاسَتِهِ .
وَالصَّحِيحُ هَذَا الرَّابِعُ ، بِدَلِيلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَعُمُّهَا
.
الثَّانِي :
قَوْله تَعَالَى : { إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ
} وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ إلَى الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَتَقْدِيرُهُ
: يَسْأَلُونَك عَنْ مَوْضِعِ الْحَيْضِ ، قُلْ : هُوَ أَذًى ؛ فَيَكُونُ
رُجُوعُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْمَحِيضِ مَجَازًا ، وَيَكُونُ رُجُوعُهُ إلَى
مَجَازِهِ حَقِيقَةً ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّقْدِيرِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي دَمِ الْحَيْضِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ :
هُوَ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ
فِي التَّحْرِيمِ ، رَوَاهُ أَبُو ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ
وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ مَالِكٍ ، وَجْهُ الْأَوَّلِ عُمُومٌ قَوْله تَعَالَى : {
أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ .
وَوَجْهُ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ أَذًى
} وَهَذَا يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْعُمُومُ
عَلَى الْآخَرِ بِأَنَّهُ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ عَيْنٍ .
وَذَلِكَ الْأَوَّلُ هُوَ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ حَالٍ ،
وَحَالُ الْمُعَيَّنِ أَرْجَحُ مِنْ حَالِ الْحَالِ ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ
فُنُونِ التَّرْجِيحِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهُوَ مِمَّا
لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ وَلَمْ نُزَاحَمْ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : جُمْلَةُ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْحَيْضُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ خَمْسَةٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ
يَمْنَعُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِهِ الطَّهَارَةُ .
الثَّانِي : دُخُولُ الْمَسْجِدِ .
الثَّالِثُ : الصَّوْمُ .
الرَّابِعُ : الْوَطْءُ .
الْخَامِسُ : إيقَاعُ الطَّلَاقِ .
وَيَنْتَهِي بِالتَّفْصِيلِ إلَى سِتَّةَ عَشْرَ حُكْمًا
تَفْسِيرُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ
.
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } :
مَعْنَاهُ افْعَلُوا الْعَزْلَ أَيْ اكْتَسَبُوهُ ، وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ
الْمُجْتَمِعَيْنِ عَارِضًا لَا أَصْلًا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي مَوْرِدِ الْعَزْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: جَمِيعُ بَدَنِهَا .
فَلَا يُبَاشِرُهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ ؛ قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ فِي قَوْلٍ ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ .
الثَّالِثُ : الْفَرْجُ ؛ قَالَتْهُ حَفْصَةُ ،
وَعِكْرِمَةُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْبَغُ .
الرَّابِعُ : الدُّبُرُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَرُوِيَ
عَنْ عَائِشَةَ مَعْنَاهُ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ جَمِيعُ بَدَنِهَا
فَتَعَلَّقَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { النِّسَاءَ } ؛ وَهَذَا عَامُّ
فِيهِنَّ فِي جَمِيعِ أَبْدَانِهِنَّ ، وَالْمَرْوِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ مَعِي وَأَنَا حَائِضٌ وَبَيْنِي
وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ } .
وَقَالَتْ أَيْضًا : { كَانَتْ إحْدَانَا إذَا كَانَتْ حَائِضًا
، أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَأْتَزِرَ
فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرَهَا } .
قَالَتْ :
{ وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إرْبَهُ } ؟ وَهَذَا
يَقْتَضِي خُصُوصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ
الْحَالَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { بَدْرَةَ مَوْلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَتْ : بَعَثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ إلَى
امْرَأَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ
مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ .
فَوَجَدَتْ فِرَاشَهُ مُعْتَزِلًا فِرَاشَهَا ،
فَظَنَنْت أَنَّ ذَلِكَ عَنْ الْهُجْرَانِ ، فَسَأَلْتهَا فَقَالَتْ : إذَا
طَمَثْت اعْتَزَلَ فِرَاشِي ؛ فَرَجَعْت فَأَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ فَرَدَّتْنِي
إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَتْ : تَقُولُ لَك أُمُّك : أَرَغِبْت عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ مَعَ
الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ وَإِنَّهَا حَائِضٌ ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ
إلَّا ثَوْبٌ مَا يُجَاوِزُ الرُّكْبَتَيْنِ } .
وَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّمَا كَانَ
ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الرَّاحَةِ مِنْ مُضَاجَعَةِ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ
فَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَدَلِيلُهُ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي جَوَابِ السَّائِلِ عَمَّا يَحِلُّ مِنْ الْحَائِضِ .
فَقَالَ : لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إزَارَهَا ثُمَّ شَأْنُهُ
بِأَعْلَاهَا } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْفَرْجُ خَاصَّةً
فَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ : { افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ } .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى حِمَايَةِ
الذَّرَائِعِ ، وَخَصَّ الْحُكْمَ وَهُوَ التَّحْرِيمُ بِمَوْضِعِ الْعِلَّةِ
وَهُوَ الْفَرْجُ ؛ لِيَكُونَ الْحُكْمُ طِبْقًا لِلْعِلَّةِ يَتَقَرَّرُ
بِتَقَرُّرِ الْعِلَّةِ إذَا أَوْجَبَتْهُ خَاصَّةً ، فَإِذَا أَثَارَتْ
الْعِلَّةُ نُطْقًا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالنُّطْقِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ
الْعِلَّةِ ، كَمَا بَيَّنَّا فِي السَّعْيِ مِنْ قَبْلُ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ
الرَّمَلُ فِيهِ لِعِلَّةِ إظْهَارِ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكَيْنِ ؛ ثُمَّ زَالَتْ ،
وَلَكِنْ شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِبًا يَثْبُتُ
بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مُسْتَمِرًّا ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ فِي الْفُرُوعِ
وَأَدِلَّةٌ فِي الْأُصُولِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الدُّبُرُ ، فَرَوَى الْمُقَصِّرُونَ
الْغَافِلُونَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " إذَا حَاضَتْ
الْمَرْأَةُ حَرُمَ حِجْرُهَا
" ، وَهَذَا
بَاطِلٌ ذَكَرْنَاهُ لِنُبَيِّن حَاله
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : { افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا
النِّكَاحَ } ، فَمَعْنَاهُ الْإِذْنُ فِي الْجِمَاعِ ؛ وَلَمْ يُبَيِّنْ
مَحِلَّهُ ، وَقَوْلُهُ : { شَأْنُك بِأَعْلَاهَا } ، بَيَانٌ لِمَحِلِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { النِّسَاءَ } : فَذَكَرَهُنَّ
بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْجِنْسِ وَالْعَهْدِ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا حُكْمَهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، فَإِنَّ حَمَلْتهَا عَلَى الْعَهْدِ صَحَّ
؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ مَعْهُودٍ مِنْ الْأَزْوَاجِ ، فَعَادَ
الْجَوَابُ عَلَيْهِ طِبْقًا ، وَإِنْ حَمَلْتهَا عَلَى الْجِنْسِ جَازَ وَيَكُونُ
الْجَوَابُ أَعَمُّ مِنْ السُّؤَالِ ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى : {
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ } عَامًّا فِي كُلِّ امْرَأَةٍ زَوْجًا أَوْ غَيْرَ
زَوْجٍ ، خَاصًّا فِي حَالِ الْحَيْضِ ، وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ مُحَرَّمَةً فِي
حَالِ الْحَيْضِ بِالْحَيْضِ ، وَتَكُونُ الْأَجْنَبِيَّاتُ مُحَرَّمَاتٍ فِي
حَالِ الْحَيْضِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَبِالْحَيْضِ جَمِيعًا ، وَيَتَعَلَّقُ
التَّحْرِيمُ بِالْعِلَّتَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ
الْخِلَافِ جَوَازَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَّتَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : { فِي الْمَحِيضِ
} : وَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهِ ، فَاعْتَبِرْهُ
بِمَا فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ } : سَمِعْت فَخْرَ
الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ
النَّظَرِ يَقُولُ : إذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ بِفَتْحِ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ
لَا تَلَبَّسَ بِالْفِعْلِ ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا
تَدْنُ مِنْهُ .
وَأَمَّا مَوْرِدُهُ فَهُوَ مَوْرِدُ { فَاعْتَزِلُوا
النِّسَاءَ } وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهِ ، لَكِنْ
بِإِضْمَارٍ بَعْدَ إضْمَارٍ ، كَقَوْلِك مَثَلًا : فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ ، أَيْ فِي مَكَانِ الْحَيْضِ ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ فِيهِ ،
وَرَكَّبُوا عَلَيْهَا بَاقِيَهَا
.
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } : حَتَّى
بِمَعْنَى الْغَايَةِ ، وَهُوَ انْتِهَاءُ الشَّيْءِ وَتَمَامُهُ ، وَفَرْقٌ
بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَاطِعِ لِلشَّيْءِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَثِيرٌ ، مِثَالُهُ
أَنَّ اللَّيْلَ يَنْتَهِي بِإِقْبَالِهِ الصَّوْمُ ، وَبِالسَّلَامِ تَنْتَهِي الصَّلَاةُ
، وَبِوَطْءِ الزَّوْجِ الثَّانِي يَنْتَهِي تَحْرِيمُ النِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ
الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَتَحْقِيقُهُ
فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : فِي حُكْمِ
الْغَايَةِ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا ،
وَقَدْ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا ، وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ جِدًّا ،
وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } : وَالْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } : وَهُمَا
مُلْتَزِمَتَانِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا
نُطِيلُ النَّفَسَ فِيهِ قَلِيلًا ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :
{ حَتَّى يَطْهُرْنَ } ؛ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ ؛
قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَلَكِنَّهُ نَاقَضَ فِي مَوْضِعَيْنِ ؛ قَالَ : إذَا انْقَطَعَ
دَمُهَا لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ حِينَئِذٍ تَحِلُّ ، وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا
لِأَقَلِّ الْحَيْضِ لَمْ تَحِلَّ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ .
الثَّانِي : لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ
غُسْلَ الْجَنَابَةِ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ وَمَالِكٌ
وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ
.
الثَّالِثُ : تَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ؛ قَالَهُ طَاوُسٌ
وَمُجَاهِدٌ .
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُنْقَضُ قَوْلُهُ بِمَا
نَاقَضَ فِيهِ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ بِأَنَّ الدَّمَ إذَا انْقَطَعَ لِأَقَلِّ
الْحَيْضِ لَمْ يُؤْمَنْ عَوْدَتُهُ
.
قُلْنَا : وَلَا تُؤْمَنُ عَوْدَتُهُ إذَا مَضَى وَقْتُ
صَلَاةٍ ، فَبَطَلَ مَا قُلْته
.
وَالتَّعَلُّقُ بِالْآيَةِ يُدْفَعُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ } مُخَفَّفًا .
وَقُرِئَ " حَتَّى يَطَّهَّرْنَّ " مُشَدَّدًا .
وَالتَّخْفِيفُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي اسْتِعْمَالِ
الْمَاءِ فَإِنَّ التَّشْدِيدَ فِيهِ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ
وَغَايَةً لِلتَّحْرِيمِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى
يَطْهُرْنَ } حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهُنَّ الدَّمُ ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ
التَّشْدِيدُ مَوْضِعَ التَّخْفِيفِ ، فَيُقَالُ : تَطَهَّرَ بِمَعْنَى طَهُرَ ،
كَمَا يُقَالُ : قَطَعَ وَقَطَّعَ ، وَيَكُونُ هَذَا أَوْلَى ، لِأَنَّهُ لَا
يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارٍ ، وَمَذْهَبُكُمْ يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارِ قَوْلِك
بِالْمَاءِ .
قُلْنَا : لَا يُقَالُ اطَّهَرَتْ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى
انْقَطَعَ
دَمُهَا ، وَلَا يُقَالُ قَطَّعَ مُشَدَّدًا بِمَعْنَى قَطَعَ مُخَفَّفًا ، وَإِنَّمَا
التَّشْدِيدُ [ بِمَعْنَى ] تَكْثِيرُ التَّخْفِيفِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ
مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ ، فَقَالَ : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ "
وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ فِي الشَّرْطِ
هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ قَبْلَهَا ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى : {
حَتَّى يَطْهُرْنَ } مُخَفَّفًا ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " يَطَّهَّرْنَ
" مُشَدَّدًا بِعَيْنِهِ ، وَلَكِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فِي
الْآيَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا
وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } وَقَالَ الْكُمَيْتُ : وَمَا كَانَتْ
الْأَبْصَارُ فِيهَا أَذِلَّةً وَلَا غُيَّبًا فِيهَا إذَا النَّاسُ غُيَّبُ
وَقِيلَ : إنَّ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَا إعَادَةٌ
لِمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ كَانَ إعَادَةً لَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ :
حَتَّى يَطْهُرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ خَاصَّةً ،
فَلَمَّا زَادَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ آخَرَ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ ؛
فَإِنَّ الْمَعَادَ فِي الشَّرْطِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ ، بِدَلِيلِ
ذِكْرِهِ بِالْفَاءِ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَهُ لِذِكْرِهِ بِالْوَاوِ .
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ فَلَا تُخْرِجُهُ عَنْ
أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لَا تُعْطِ هَذَا الثَّوْبَ زَيْدًا
حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَإِذَا دَخَلَ فَأَعْطِهِ الثَّوْبَ وَمِائَةَ
دِرْهَمٍ ، لَكَانَ هُوَ بِعَيْنِهِ ، وَلَوْ أَرَادَ غَيْرَهُ لَقَالَ : لَا
تُعْطِهِ حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَإِذَا دَخَلَ وَجَلَسَ فَافْعَلْ كَذَا
وَكَذَا ؛ هَذَا طَرِيقُ النَّظْمِ فِي اللِّسَانِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ : إنَّا لَا
نَفْتَقِرُ فِي تَأْوِيلِنَا إلَى إضْمَارٍ ؛ وَأَنْتُمْ تَفْتَقِرُونَ إلَى
إضْمَارٍ .
قُلْنَا : لَا يَقَعُ بِمِثْلِ هَذَا تَرْجِيحٌ ؛
فَإِنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ مِنْ ضَرُورَةِ الْكَلَامِ ، فَهَذَا كَالْمَنْطُوقِ
بِهِ .
جَوَابٌ
ثَالِثٌ : وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ
الثَّانِي مِنْ الْآيَةِ : إنَّا نَقُولُ : نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : {
حَتَّى يَطْهُرْنَ } أَنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ ، لَكِنَّهُ
لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ، مَعْنَاهُ فَإِذَا اغْتَسَلْنَ
بِالْمَاءِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : انْقِطَاعُ
الدَّمِ .
الثَّانِي : الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ .
فَوَقَفَ الْحُكْمُ وَهُوَ جَوَازُ الْوَطْءِ عَلَى
الشَّرْطَيْنِ ، وَصَارَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى
حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا
إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فَعَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ دَفْعِ الْمَالِ
عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بُلُوغُ النِّكَاحِ ، وَالثَّانِي : إينَاسُ الرُّشْدِ .
فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُ بِأَحَدِهِمَا
، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
} ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِاشْتِرَاطِ الْوَطْءِ ؛
فَوَقَفَ التَّحْلِيلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُمَا انْعِقَادُ
النِّكَاحِ ، وَوُقُوعُ الْوَطْءِ ، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ الْجُوَيْنِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ
: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ مَدَّ
التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ ، وَهِيَ انْقِطَاعُ الدَّمِ ، وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ
مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الْجَوَازُ بَعْدَ انْقِطَاعِ
الدَّمِ لِسَبَبِ حُكْمِ الْغَايَةِ
.
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ حُكْمُ الْغَايَةِ مُخَالِفًا
لِمَا قَبْلَهَا إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً ، فَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا
شَرْطٌ آخَرُ فَإِنَّمَا يَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِمَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ
مِنْ الشَّرْطِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
: { حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } ؛ وَلِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَكَمَا بَيَّنَّاهُ .
فَإِنْ قِيلَ
: لَيْسَ هَذَا تَجْدِيدَ شَرْطٍ زَائِدٍ ، وَإِنَّمَا
هُوَ إعَادَةٌ لِلْكَلَامِ ، كَمَا تَقُولُ : لَا تُعْطِ زَيْدًا شَيْئًا حَتَّى
يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَإِذَا دَخَلَ فَأَعْطِهِ ؛ وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ
وَجْهَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَحْفَظُ حُكْمَ الْغَايَةِ وَيُقِرُّهَا عَلَى أَصْلِهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ لَفْظِ الشَّرْطِ
أَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ
.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا
: أَنَّا نَقُولُ : رَوَى عَطِيَّةُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : "
فَإِذَا تَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ " ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ .
الثَّانِي
: أَنَّ تَطَهَّرَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا
يَكْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ ، فَأَمَّا انْقِطَاعُ
الدَّمِ فَلَيْسَ بِمُكْتَسَبٍ
.
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ يُسْتَعْمَلُ تَفَعَّلَ فِي غَيْرِ الِاكْتِسَابِ
، كَمَا يُقَالُ : تُقَطَّعَ الْحَبْلُ ، وَكَمَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ : تَجَبُّرٌ وَتَكَبُّرٌ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ اكْتِسَابٌ وَلَا
تَكَلُّفٌ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا :
أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ اللُّغَةِ مَا قُلْنَاهُ ، وَقَوْلُهُ : تَقَطَّعَ
الْحَبْلُ نَادِرٌ ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ حُكْمٌ .
جَوَابٌ آخَرُ : هَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنَّهُ
مُسْتَعْمَلٌ ، فَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يُسْتَعْمَلُ ، فَلَا يُقَالُ تَطَهَّرَتْ
الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى انْقَطَعَ دَمُهَا .
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا
لَمْ يَقَعْ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِهَا ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ
الْمَجَازِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الشَّيْءِ إذَا
كَانَ مُسْتَعْمَلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ .
وَأَمَّا مَجَازٌ اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ طَرِيقًا إلَى تَأْوِيلِ اللَّفْظِ فِيمَا لَمْ
يُسْتَعْمَلْ فِيهِ ؛ وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ
لِلضَّرُورَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمَادَاتِ لَا تُوصَفُ بِالِاكْتِسَابِ
لِلْأَفْعَالِ وَتَكَلُّفِهَا ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِيلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ
تَعَالَى وَفِي أَفْعَالِهِ التَّكَلُّفُ ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ
مِنْ أَجْلِ الضَّرُورَةِ ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ
لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ .
وَهَذَا جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيِّ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : قَالَ
تَعَالَى فِي
آخِرِ الْآيَةِ : { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فَمَدَحَهُنَّ وَأَثْنَى
عَلَيْهِنَّ ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ انْقِطَاعَ الدَّمِ مَا كَانَ فِيهِ
مَدْحٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِنَّ ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ ذَمَّ
عَلَى مِثْلِ هَذَا فَقَالَ : { وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ
يَفْعَلُوا } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ ، وَلَيْسَ
بِرَاجِعٍ إلَى مَا تَقَدَّمَ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ } ؛ وَلَمْ يَجْرِ لِلتَّوْبَةِ ذِكْرٌ .
قُلْنَا : سَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ .
جَوَابٌ رَابِعٌ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ : وَهُوَ
قَوْلُهُمْ : إنَّمَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا كَمَا قَدْ حَفِظْنَا
مُوجِبَ الْغَايَةِ وَمُقْتَضَاهَا ، فَهَذَا لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْغَايَةِ ،
فَأَمَّا إذَا قُرِنَ بِهَا الشَّرْطُ فَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ كَمَا تَقَدَّمَ .
جَوَابٌ خَامِسٌ : وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ : إنْ كُنَّا
نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا مُوجَبَ الْغَايَةِ فَقَدْ حَمَلْتُمْ أَنْتُمْ اللَّفْظَ
عَلَى التَّكْرَارِ ، فَتَرَكْتُمْ فَائِدَةَ عَوْدِهِ ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ
عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّكْرَارِ فِي كَلَامِ
النَّاسِ ، فَكَيْف كَلَامُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ ؟ جَوَابٌ سَادِسٌ : لَيْسَ
حَمْلُكُمْ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } عَلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ
} بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِنَا قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } عَلَى
قَوْلِهِ : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
} ؛ فَوَجَبَ
أَنْ يُقْرَنَ كُلُّ لَفْظٍ مِنْهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ ؛ هَذَا جَوَابُ أَبِي
إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ .
جَوَابٌ سَابِعٌ : وَذَلِكَ أَنَّا إذَا حَمَلْنَا
اللَّفْظَ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ كُنَّا قَدْ حَفِظْنَا الْآيَةَ مِنْ
التَّخْصِيصِ وَالْأَدِلَّةَ مِنْ التَّنَاقُضِ ؛ وَإِذَا حَمَلْنَا { تَطَهَّرْنَ
} عَلَى انْقِطَاعِ الدَّمِ كُنَّا قَدْ خَصَّصْنَا الْآيَةَ وَتَحَكَّمْنَا عَلَى
مَعْنَى لَفْظِهَا بِمَا لَا يَقْتَضِيه وَلَا يَشْهَدُ لَهُ فَرْقٌ فِيهِ ، وَتَنَاقَضْنَا
فِي الْأَدِلَّةِ ؛ وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى .
هَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
الْعَرَبِيِّ
.
وَجَوَابٌ ثَامِنٌ : وَهُوَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ ؛
فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُنَا جَوَابُ الطُّوسِيِّ وَهُوَ أَضْعَفُهَا ؛ وَقَدْ
كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُ ضَعِيفَةً عِنْدَ لِقَائِنَا لَهُ ، وَقَدْ حَصَّلْنَا
فِيهَا الْقُوَّةَ وَالنُّصْرَةَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ إمَامٍ
وَفِي كُلِّ طَرِيقٍ .
جَوَابٌ تَاسِعٌ : قَوْلُهُمْ : إنَّ الظَّاهِرَ مِنْ اللَّفْظِ
الْمَعَادِ فِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ إنَّمَا ذَلِكَ إذَا
كَانَ مَعَادًا بِلَفْظِ الْأَوَّلِ ؛ أَمَّا إذَا كَانَ مَعَادًا بِغَيْرِ
لَفْظِهِ فَلَا ، وَهُوَ قَدْ قَالَ هَاهُنَا : حَتَّى " يَطْهُرْنَ "
مُخَفَّفًا ، ثُمَّ قَالَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
" مُشَدَّدًا ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَانَ كَلَامُنَا ، فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ كَمَا فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ .
فَإِنْ قِيلَ وَهُوَ آخِرُ أَسْئِلَةِ الْقَوْمِ ،
وَأَعْمَدُهَا : الْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا
، وَنَحْنُ نَحْمِلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مَعْنًى فَتُحْمَلُ
الْمُشَدَّدَةُ عَلَى مَا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِلْأَقَلِّ ، فَإِنَّا لَا
نُجَوِّزُ وَطْأَهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ ، وَتُحْمَلُ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى
عَلَى مَا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِلْأَكْثَرِ ، فَنُجَوِّزُ وَطْأَهَا وَإِنْ
لَمْ تَغْتَسِلْ .
قُلْنَا :
قَدْ جَعَلْنَا الْقِرَاءَتَيْنِ حُجَّةً لَنَا ،
وَبَيَّنَّا وَجْهَ الدَّلِيلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ؛ فَإِنَّ
قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ تَقْتَضِي التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ
أَيْضًا مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ .
جَوَابٌ ثَانٍ : وَذَلِكَ أَنَّ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ
أَوْجَبَتْ انْقِطَاعَ الدَّمِ ، وَالْأُخْرَى أَوْجَبَتْ الِاغْتِسَالَ
بِالْمَاءِ ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ اقْتَضَى تَحْلِيلَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا
لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِالنِّكَاحِ ، وَاقْتَضَتْ السُّنَّةُ التَّحْلِيلَ بِالْوَطْءِ
، فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا اعْتَبَرْتُمْ الْقِرَاءَتَيْنِ
هَكَذَا كُنْتُمْ قَدْ حَمَلْتُمُوهَا عَلَى فَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ ،
وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهَا
نَحْنُ كَمَا قُلْنَا حَمَلْنَاهَا عَلَى فَائِدَتَيْنِ مُتَجَدِّدَتَيْنِ ،
وَهِيَ اعْتِبَارُ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِي قَوْله تَعَالَى : { تَطَهَّرْنَ } فِي
أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، وَاعْتِبَارُ قَوْلِهِ : يَطْهُرُ فِي الْأَقَلِّ .
قُلْنَا : نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا قَدْ حَمَلْنَاهُمَا
عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَقَدْ وَجَدْنَا لِذَلِكَ مِثَالًا فِي الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ ، وَحَفِظْنَا نُطْقَ الْآيَةِ وَلَمْ نَخُصَّهُ ، وَحَفِظْنَا
الْأَدِلَّةَ فَلَمْ نَنْقُضْهَا ؛ فَكَانَ تَأْوِيلُنَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ
الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ ؛ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلٍ آخَرَ يَخْرُجُ عَنْهَا .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ
مِنْ الْجَمْعِ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْوَطْءِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ
لِلْأَكْثَرِ ، وَمَا قُلْنَا يَقْتَضِي الْحَظْرَ ؛ وَإِذَا تَعَارَضَ بَاعِثُ
الْحَظْرِ وَبَاعِثُ الْإِبَاحَةِ غَلَبَ بَاعِثُ الْحَظْرِ ، كَمَا قَالَ
عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ : " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ، وَالتَّحْرِيمُ
أَوْلَى " .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ }
ثُمَّ قَالَ : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } وَهُوَ زَمَانُ
الْحَيْضِ ، وَمَتَى انْقَطَعَ الدَّمُ لِدُونِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَالزَّمَانُ
بَاقٍ ، فَبَقِيَ النَّهْيُ ، وَهَذَا اعْتِرَاضُ أَبِي الْحَسَنِ الْقُدُورِيِّ .
أَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ
فَقَالَ : [ الْمَحِيضُ ] هُوَ الْحَيْضُ بِعَيْنِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ
: حَاضَتْ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ حَيْضًا وَمَحِيضًا ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ
حُجَّةٌ .
وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنْ
قَالَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ :
" الْمَحِيضِ " نَفْسَ الْحَيْضِ ، بِدَلِيلِ
قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ أَذًى } فَإِنْ قِيلَ : بِهَذَا نَحْتَجُّ
فَإِنَّهُ إذَا زَالَ الدَّمُ زَالَ الْأَذَى ؛ فَجَازَ الْوَطْءُ ؛ فَإِنَّ
الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا .
قُلْنَا : هَذَا يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا انْقَطَعَ
الدَّمُ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ ؛ فَإِنْ زَالَتْ الْعِلَّةُ
وَلَمْ يَزُلْ
الْحُكْمُ ؛ وَذَلِكَ لِفِقْهٍ ؛ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ عِلَّةَ
التَّحْرِيمِ ، وَهُوَ وُجُودُ الْأَذَى ، ثُمَّ لَمْ يَرْبِطْ زَوَالَ الْحُكْمِ
بِزَوَالِ الْعِلَّةِ حَتَّى ضَمَّ إلَيْهِ شَرْطًا آخَرَ ، وَهُوَ الْغُسْلُ
بِالْمَاءِ ؛ وَذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرٌ .
وَأَمَّا طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ فَالْكَلَامُ مَعَهُمَا
سَهْلٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُمَا
تَفْسِيرُ الطُّهْرِ بِالِانْقِطَاعِ أَوْ الِاغْتِسَالِ ؛ وَلِذَلِكَ حَمَلْنَا
قَوْله تَعَالَى : { فَاطَّهَّرُوا } عَلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْجُمْلَةِ ؛
فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَوْ الْمَسْأَلَتَيْنِ ؟ وَيَدُلُّ
عَلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنْ نَقُولَ : الْحَيْضُ مَعْنًى يَمْنَعُ
الصَّوْمَ ؛ فَكَانَ الطُّهْرُ الْوَارِدُ فِيهِ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ
الْجَسَدِ أَصْلُهُ الْجَنَابَةُ
.
وَأَمَّا دَاوُد فَإِنَّا لَمْ نُرَاعِ خِلَافَهُ ؛ لِأَنَّهُ
إنْ كَانَ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَيُضَلِّلُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فِي
اسْتِعْمَالِهِمْ الْقِيَاسَ كَفَّرْنَاهُ ؛ فَإِنْ رَاعِينَا إشْكَالَ سُؤَالِهِ
، قُلْنَا : هَذَا الْكَلَامُ هُوَ عَكْسُ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } وَهَذَا ضَمِيرُ النِّسَاءِ ؛ فَكَيْف يَصِحُّ أَنْ يَسْمَعَ
اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } فَيَقُولُ : إنَّ وَطْأَهَا جَائِزٌ
، مَعَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ ؛ فَيُبِيحُ الْوَطْءَ قَبْلَ
وُجُودِ غَايَتِهِ الَّتِي عَلَّقَ جَوَازَ الْوَطْءِ عَلَيْهَا .
وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِعِطْفٍ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ
} ؛ عَلَى قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ } تَجِدُهُ صَحِيحًا ؛ فَإِنْ كَانَ
الْمُرَادُ اعْتَزِلُوا جُمْلَةَ الْمَرْأَةِ كَانَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَقْرَبُوهُنَّ } عَامًّا فِيهَا ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى
يَطْهُرْنَ } رَاجِعًا إلَى جُمْلَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا } أَسْفَلَهَا مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ
أَنْ يَقُولَ : حَتَّى يَطْهُرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ كُلُّهُ ؛ وَلَا يَصِحُّ لَهُ
؛
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23