ج3 التجويد
كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي
لِأَنَّهُ
كَانَ نِظَامُ الْكَلَامِ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ حَتَّى يُطَهِّرْنَهُ ، وَكَذَلِكَ
لَوْ كَانَ الْمُرَادُ فَاعْتَزِلُوا الْفَرْجَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ
أَذًى } فَإِذَا زَالَ الْأَذَى جَازَ الْوَطْءُ .
قُلْنَا :
عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ
الِاعْتِبَارُ بِزَوَالِ الْأَذَى مَا وَجَبَ غَسْلُ الْفَرْجِ عِنْدَك ، لِأَنَّ الْأَذَى
قَدْ زَالَ بِالْجُفُوفِ أَوْ الْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ ، فَغَسْلُ الْفَرْجِ إذْ
ذَاكَ يَكُونُ وَقَدْ زَالَتْ الْعِلَّةُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ ، فَلَا
فَائِدَةَ فِيهِ ، فَدَلَّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحُكْمِ الْحَيْضِ لَا
بِوُجُودِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ عَلَّلَ بِكَوْنِهِ أَذًى ، ثُمَّ
مَنَعَ الْقُرْبَانَ حَتَّى تَكُونَ الطَّهَارَةُ مِنْ الْأَذَى ، وَهَذَا بَيِّنٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَأْتُوهُنَّ } : مَعْنَاهُ
فَجِيئُوهُنَّ ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْوَطْءِ ، كَمَا كَنَّى
عَنْهُ بِالْمُلَامَسَةِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ
كَرِيمٌ يَعْفُو وَيُكَنِّي ، كَنَّى بِاللَّمْسِ عَنْ الْجِمَاعِ " .
وَأَمَّا مَوْرِدُهُ فَقَدْ كَانَ يَتَرَكَّبُ عَلَى
قَوْله تَعَالَى : { فَاعْتَزِلُوا } لَوْلَا قَوْلُهُ : " مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمْ اللَّهُ " فَإِنَّهُ خَصَّصَهُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ
عَشْرَةَ : وَفِيهَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مِنْ حَيْثُ نُهُوا عَنْهُنَّ .
الثَّانِي : الْقُبُلُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ
.
الثَّالِثُ : مِنْ جَمِيعِ بَدَنِهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ أَيْضًا .
الرَّابِعُ : مِنْ قَبْلِ طُهْرِهِنَّ ؛ قَالَهُ
عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ .
الْخَامِسُ : مِنْ قَبْلِ النِّكَاحِ ؛ قَالَهُ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ .
السَّادِسُ :
مِنْ حَيْثُ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ
الْإِتْيَانَ ، لَا صَائِمَاتٍ وَلَا مُحْرِمَاتٍ وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ ؛ قَالَهُ
الْأَصَمُّ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ قَوْلٌ مُجْمَلٌ ؛ لِأَنَّ
النَّهْيَ عَنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَكَيْفَمَا كَانَ النَّهْيُ جَاءَتْ
الْإِبَاحَةُ عَلَيْهِ ؛ فَبَقِيَ تَحْقِيقُ مَوْرِدِ النَّهْيِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : الْقُبُلُ ، فَهُوَ مَذْهَبُ أَصْبَغَ
وَغَيْرِهِ ؛ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ أَذًى } وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ : وَهُوَ جَمِيعُ بُدْنِهَا
فَالشَّاهِدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى :
{ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ } ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُهُ : مِنْ قَبْلِ
طُهْرِهِنَّ ؛ فَيَعْنِي بِهِ إذَا طَهُرْنَ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ
بِالْفَرْجِ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْفَرْجِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ الْأَقْوَالِ ، وَإِنْ شِئْت فَرَكِّبْهُ عَلَى الْأَقْوَالِ
كُلِّهَا يَتَرَكَّبْ ؛ فَمَا صَحَّ فِيهَا صَحَّ فِيهِ .
وَأَمَّا الْخَامِسُ : وَهُوَ النِّكَاحُ ، فَضَعِيفٌ لِمَا
قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { النِّسَاءَ } إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ
الْأَزْوَاجَ
اللَّوَاتِي
يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ فِيهِنَّ بِحَالَةِ الْحَيْضِ .
وَأَمَّا السَّادِسُ : فَصَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ ،
لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ وَطْئِهِ ، وَلَكِنْ
عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَدِلَّتِهَا ؛ وَإِنَّمَا
اخْتَصَّتْ الْآيَةُ بِحَالِ الطُّهْرِ ، كَمَا اخْتَصَّ قَوْله تَعَالَى : {
وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ } يَعْنِي : فِي حَالَةِ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ ، وَلَا
يُقَالُ : إنَّ هَذَا كُلَّهُ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَإِنَّهَا
مُرَادَةٌ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَهُ ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مُحْتَمَلٍ فِي
اللَّفْظِ مُرَادًا بِهِ فِيهِ ، وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ عِلْمِ الْأُصُولِ ،
فَافْهَمْهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { يُحِبُّ } : مَحَبَّةُ اللَّهِ هِيَ
إرَادَتُهُ ثَوَابَ الْعَبْدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { التَّوَّابِينَ } : التَّوْبَةُ : هِيَ رُجُوعُ الْعَبْدِ عَنْ حَالَةِ
الْمَعْصِيَةِ إلَى حَالَةِ الطَّاعَةِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ
الْأُصُولِ بِشُرُوطِهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { الْمُتَطَهِّرِينَ } : وَفِيهَا ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ لِلصَّلَاةِ .
الثَّانِي : الَّذِينَ لَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي
أَدْبَارِهِنَّ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ
.
الثَّالِثُ :
الَّذِينَ لَا يَنْقُضُونَ التَّوْبَةَ ، طَهَّرُوا
أَنْفُسَهُمْ عَنْ الْعَوْدِ إلَى مَا رَجَعُوا عَنْهُ مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي
كَانُوا فِيهِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ
.
وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ
فَالْأَوَّلُ بِهِ أَخَصُّ ، وَهُوَ فِيهِ أَظْهَرُ ، وَعَلَيْهِ حَمَلَهُ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ ، وَهُوَ الْمُنْعَطِفُ عَلَى سَابِقِ الْآيَةِ الْمُنْتَظِمُ
مَعَهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ } فِيهَا
مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ
رِوَايَاتٌ : قَالَ جَابِرٌ : " كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ : مَنْ أَتَى
امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ ، فَنَزَلَتْ
الْآيَةُ " .
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ .
الثَّانِيَةُ : قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ، { عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى : {
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } قَالَ
: يَأْتِيهَا مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً إذَا كَانَتْ فِي
صِمَامٍ وَاحِدٍ } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
الثَّالِثَةُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ ، { أَنَّ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ لَهُ : هَلَكْت .
قَالَ : وَمَا أَهْلَكَك ؟ قَالَ : حَوَّلْت رَحْلِي
الْبَارِحَةَ .
فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } :
فَقَالَ : أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ ، وَاتَّقِ الدُّبُرَ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا ؛ فَجَوَّزَهُ
طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِ جِمَاعُ
النِّسْوَانِ وَأَحْكَامُ الْقُرْآنِ " وَأَسْنَدَ جَوَازَهُ إلَى زُمْرَةٍ
كَرِيمَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَإِلَى مَالِكٍ مِنْ رِوَايَاتٍ
كَثِيرَةٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ :
" كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ
يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ ، فَأَخَذْت عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَرَأَ سُورَةَ
الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إلَى مَكَان قَالَ : أَتَدْرِي فِيمَ نَزَلَتْ ؟
قُلْت : لَا .
قَالَ :
أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ مَضَى ، ثُمَّ
أَتْبَعَهُ بِحَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ } .
قَالَ : يَأْتِيهَا فِي .
.
وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ شَيْئًا .
وَيُرْوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : "
وَهَلَ الْعَبْدُ " فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ النَّسَائِيّ ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ أَنَّهُ
قَالَ لِنَافِعِ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ : " قَدْ أُكْثِرُ عَلَيْك الْقَوْلَ ،
إنَّك تَقُولُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنَّهُ أَفْتَى بِأَنْ يَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ .
قَالَ نَافِعٌ : لَقَدْ كَذَبُوا عَلَيَّ ، وَلَكِنْ سَأُخْبِرُك
كَيْف كَانَ الْأَمْرُ ؛ إنَّ ابْنَ عُمَرَ عَرَضَ الْمُصْحَفَ يَوْمًا وَأَنَا
عِنْدَهُ حَتَّى بَلَغَ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ } قَالَ : يَا نَافِعُ ، هَلْ تَعْلَمُ مَا أَمْرُ هَذِهِ الْآيَةِ ؟
قُلْت : لَا .
قَالَ لَنَا
: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَجِيءُ النِّسَاءَ ، فَلَمَّا
دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَنَكَحْنَا نِسَاءَ الْأَنْصَارِ أَرَدْنَا مِنْهُنَّ مَا
كُنَّا نُرِيدُ مِنْ نِسَائِنَا وَإِذَا هُنَّ قَدْ كَرِهْنَ ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَهُ
، وَكَانَتْ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ إنَّمَا يُؤْتَيْنَ عَلَى جُنُوبِهِنَّ ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَسَأَلْت الْإِمَامَ الْقَاضِيَ
الطُّوسِيَّ عَنْ
الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْفَرْجَ حَالَ الْحَيْضِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْعَارِضَةِ ، فَأَوْلَى أَنْ يُحَرِّمَ الدُّبُرَ بِالنَّجَاسَةِ اللَّازِمَةِ .
الْآيَةُ
الثَّالِثَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا
اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي شَرْحِ الْعُرْضَةِ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ " عُرْضَ
" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَتَصَرَّفُ عَلَى مَعَانٍ ، مَرْجِعُهَا إلَى
الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ اعْتَرَضَ فَقَدْ مَنَعَ ، وَيُقَالُ لِمَا
عَرَضَ فِي السَّمَاءِ مِنْ السَّحَابِ عَارِضٌ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ
رُؤْيَتِهَا ، وَمِنْ رُؤْيَةِ الْبَدْرَيْنِ وَالْكَوَاكِبِ .
وَقَدْ يُقَالُ هَذَا عُرْضَةٌ لَك أَيْ عُدَّةٌ
تَبْتَذِلُهُ فِي كُلِّ مَا يَعِنُّ لَك .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : "
الصَّمَدْ لِأَيَّامِ الْحُرُوبِ ، وَهَذِهِ لِلْهَوَى ، وَهَذِهِ عُرْضَةٌ
لِارْتِحَالِنَا " .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي الْمَعْنَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ
أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ : لَا تَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاَللَّهِ عِلَّةً يَعْتَلُّ
بِهَا الْحَالِفُ فِي بِرٍّ أَوْ حِنْثٍ ؛ وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ
بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُعْطِيَ
عَنْهَا كَفَّارَةً } قَالَ ذَلِكَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ .
الثَّانِي : لَا يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ خَيْرٍ بِأَنْ
يَقُولَ : عَلَيَّ يَمِينٌ أَنْ لَا يَكُونَ .
الثَّالِثُ :
لَا تُكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ
عُرْضٍ يَعْرِضُ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ }
فَذَمَّ كَثْرَةَ الْحَلِفِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَنْ تَبَرُّوا } : وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : لَا تَجْعَلُوا الْيَمِينَ مَانِعًا مِنْ الْبِرِّ ، وَهُوَ مَعْنَى
الْحَدِيثِ : { لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ عِنْدَ
اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَةً عَنْهَا } وَتَحْقِيقُ الْمَعْنَى
أَنَّهُ إنْ حَلَفَ أَوَّلًا كَانَ الْمَعْنَى أَنْ تَبَرُّوا بِالْيَمِينِ ،
وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ كَانَ الْمَعْنَى أَنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا ، وَيَدْخُلُ أَحَدُ
الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَيَجْتَمِعَانِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ يَأْتِي فِي
سُورَةِ النُّورِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ
مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنْ
تَبَرُّوا ، أَيْ إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ كَثْرَةِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاَللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيمٌ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
اللَّغْوُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَخْصُوصٌ بِكُلِّ كَلَامٍ لَا يُفِيدُ ، وَقَدْ
يَنْطَلِقُ عَلَى مَا لَا يَضُرُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ : وَفِيهِ
سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ
قَصْدٍ ، كَقَوْلِهِ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ
، وَالشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : مَا يَحْلِفُ فِيهِ عَلَى الظَّنِّ ،
فَيَكُونُ بِخِلَافِهِ قَالَهُ مَالِكٌ
.
الثَّالِثُ : يَمِينُ الْغَضَبِ .
الرَّابِعُ : يَمِينُ الْمَعْصِيَةِ .
الْخَامِسُ : دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ ،
كَقَوْلِهِ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَيَلْحَقُ بِي كَذَا وَنَحْوُهُ .
وَالسَّادِسُ : الْيَمِينُ الْمُكَفِّرُ .
السَّابِعُ : يَمِينُ النَّاسِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ
الْأَقْوَالِ : اعْلَمُوا أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ السَّبْعَةِ الْأَقْوَالِ لَا
تَخْلُو مِنْ قِسْمَيْ اللَّغْوِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا ، وَحَمْلُ الْآيَةِ
عَلَى جَمِيعِهَا مُمْتَنِعٌ ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ
بِبَعْضِهَا ، وَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ وَأَخْبَارٌ وَآثَارٌ لَوْ تَتَبَّعْنَاهَا
لَخَرَجْنَا عَنْ مَقْصُودِ الِاخْتِصَارِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ
الْإِكْثَارِ وَاَلَّذِي يَقْطَعُ بِهِ اللَّبِيبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ
يَكُونَ تَقْدِيرِ الْآيَةِ : لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِمَا لَا مَضَرَّةَ
فِيهِ عَلَيْكُمْ ، إذْ قَدْ قَصَدَ هُوَ الْإِضْرَارَ بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ
بَيَّنَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْقَصْدِ ، وَهُوَ كَسْبُ الْقَلْبِ ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ اللَّغْوَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَخَرَجَ مِنْ اللَّفْظِ يَمِينُ
الْغَضَبِ وَيَمِينُ الْمَعْصِيَةِ ، وَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ
كَسَبَهُ الْقَلْبُ ، فَهُوَ الْمُؤَاخَذُ بِهِ ، وَقِسْمٌ لَا يَكْسِبُهُ
الْقَلْبُ ، فَهُوَ الَّذِي لَا يُؤَاخَذُ بِهِ ، وَخَرَجَ مِنْ قِسْمِ الْكَسْبِ يَمِينُ
الْحَالِفِ نَاسِيًا ، فَأَمَّا الْحَانِثُ نَاسِيًا فَهُوَ بَابٌ آخَرَ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، كَمَا خَرَجَ مِنْ قِسْمِ الْكَسْبِ أَيْضًا الْيَمِينُ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ ، فَخَرَجَ بِخِلَافِهِ ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْهُ ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ طَوِيلٌ بَيَانُهُ فِي الْمَسَائِلِ .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فِيهَا سِتَّ
عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَهِيَ آيَةٌ
عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ جِدًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ كَبِيرٌ اخْتَلَفَ
فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ ، وَدَقَّتْ
مَدَارِكُهَا حَسْبَمَا تَرَوْنَهَا مِنْ جُمْلَتِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : " كَانَ
إيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
، فَوَفَّتْ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ " ؛ فَمَنْ آلَى أَقَلَّ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ حُكْمِيٍّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْإِيلَاءُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ
هُوَ الْحَلِفُ ، وَالْفَيْءُ هُوَ الرُّجُوعُ ، وَالْعَزْمُ هُوَ تَجْرِيدُ
الْقَلْبِ عَنْ الْخَوَاطِرِ الْمُتَعَارِضَةِ فِيهِ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : نَظْمُ الْآيَةِ :
لِلَّذِينَ يَعْتَزِلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ بِالْأَلِيَّةِ ، فَكَانَ مِنْ عَظِيمِ
الْفَصَاحَةِ أَنْ اُخْتُصِرَ ، وَحُمِّلَ آلَى مَعْنَى اعْتَزَلَ النِّسَاءَ
بِالْأَلِيَّةِ حَتَّى سَاغَ لُغَةَ أَنْ يَتَّصِلَ آلَى بِقَوْلِك مِنْ ،
وَنَظْمُهُ فِي الْإِطْلَاقِ أَنْ يَتَّصِلَ بِآلَى قَوْلُك عَلَى ، تَقُولُ الْعَرَبُ : اعْتَزَلْت مِنْ
كَذَا وَعَنْ كَذَا ، وَآلَيْت وَحَلَفَتْ عَلَى كَذَا ، وَكَذَلِكَ عَادَةُ
الْعَرَبِ أَنْ تَحْمِلَ مَعَانِيَ الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَفْعَالِ لِمَا
بَيْنَهُمَا مِنْ الِارْتِبَاطِ وَالِاتِّصَالِ ، وَجَهِلَتْ النَّحْوِيَّةُ هَذَا
فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ : إنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يُبْدَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
، وَيَحْمِلُ بَعْضُهَا مَعَانِيَ الْبَعْضِ ، فَخَفِيَ عَلَيْهِمْ وَضْعُ فِعْلٍ
مَكَانَ فِعْلٍ ، وَهُوَ أَوْسَعُ وَأَقْيَسُ ، وَلَجُّوا بِجَهْلِهِمْ إلَى
الْحُرُوفِ الَّتِي يَضِيقُ فِيهَا نِطَاقُ [ الْكَلَامِ ] وَالِاحْتِمَالِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِيمَا يَقَعُ بِهِ الْإِيلَاءُ : قَالَ قَوْمٌ : لَا يَقَعُ
الْإِيلَاءُ إلَّا بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ ، وَبِهِ يَقُولُ
الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْإِيلَاءَ يَقَعُ بِكُلِّ يَمِينٍ
عَقَدَ الْحَالِفُ بِهَا قَوْلَهُ ، وَذَلِكَ بِالْتِزَامِ مَا لَمْ يَكُنْ
لَازِمًا قَبْلَ ذَلِكَ .
وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بَنَوْهُ عَلَى
الْحَدِيثِ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ }
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا جَاءَ
لِبَيَانِ الْأَوْلَى ، لَا لِإِسْقَاطِ سِوَاهُ مِنْ الْأَيْمَانِ ؛ بَلْ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ نَصِّ كَلَامِنَا مَا يُوجِبُ أَنَّهَا كُلَّهَا أَيْمَانٌ
؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا } .
ثُمَّ إذَا كَانَ حَالِفًا وَجَبَ أَنْ تَنْعَقِدَ
يَمِينُهُ .
وَأَمَّا أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ ، فَيَقُولُونَ : كُلُّ يَمِينٍ أَلْزَمَهَا نَفْسَهُ مِمَّا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ
ذَلِكَ لَازِمَةً لَهُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ ، فَهُوَ بِهَا مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ
حَالِفٌ ، وَذَلِكَ لَازِمٌ صَحِيحٌ شَرِيعَةً وَلُغَةً .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِيلَاءُ وَذَلِكَ هُوَ تَرْكُ الْوَطْءِ
، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الرِّضَا أَوْ الْغَضَبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .
وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّعْبِيُّ : لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ
الْغَضَبِ ؛ وَالْقُرْآنُ عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ ، فَتَخْصِيصُهُ دُونَ دَلِيلٍ
لَا يَجُوزُ .
وَهَذَا الْخِلَافُ انْبَنَى عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ
أَنَّ مَفْهُومَ الْآيَةِ قَصْدُ الْمُضَارَّةِ بِالزَّوْجَةِ وَإِسْقَاطُ
حَقِّهَا مِنْ الْوَطْءِ ، فَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْوَطْءِ
قَصْدًا لِلْإِضْرَارِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ : مَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ وَإِنْ لَمْ
يَحْلِفْ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُولِي ، وَتَرْفَعُهُ إلَى الْحَاكِمِ إنْ
شَاءَتْ ، وَيُضْرَبُ لَهُ الْأَجَلُ مِنْ يَوْمِ رَفْعِهِ ، لِوُجُودِ مَعْنَى
الْإِيلَاءِ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْإِيلَاءَ لَمْ يَرِدْ لَعَيْنِهِ ،
وَإِنَّمَا وَرَدَ لِمَعْنَاهُ ؛ وَهُوَ الْمُضَارَّةُ وَتَرْكُ الْوَطْءِ ،
حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَقْرَبَهَا لِأَجَلِ
الرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، لِأَنَّهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ لَا إضْرَارَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : إذَا حَلَفَ عَلَى مَنْعِ الْكَلَامِ أَوْ الْإِنْفَاقِ ،
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُولٍ ؛ لِوُجُودِ الْمَعْنَى
السَّابِقِ بَيَانُهُ مِنْ الْمُضَارَّةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَلَّا يَطَأهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ : يَكُونُ مُولِيًا .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ : لَيْسَ
بِمُولٍ .
وَهَذَا الْخِلَافُ يَنُبْنِي عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ
مَعْرِفَةُ فَائِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ ؛ فَرَأَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَحِلُّ الْيَمِينَ ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ مِنْ
الْكَفَّارَةِ ، وَرَأَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يَحِلُّهَا ، وَهُوَ
مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ
بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَازِمٍ عَلَى الْفِعْلِ ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ قَالَ
مَالِكٌ : إنَّهُ إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : " إنْ شَاءَ اللَّهُ "
مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَمَوْرِدُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ
تَعَالَى فَلَا ثُنْيَا لَهُ ، لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ ،
وَإِنْ أَرَادَ وَقَصَدَ بِهَذَا الْقَوْلِ حَلَّ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا تَنْحَلُّ
عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى
قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: قَالَ الْأَكْثَرُ : الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فُسْحَةٌ لِلزَّوْجِ ، لَا
حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا كَلَامَ مَعَهُ لَأَجَلِهَا ؛ فَإِنْ زَادَ
عَلَيْهَا حِينَئِذٍ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ، وَيُوَقَّتُ لَهُ الْأَمَدُ ،
وَتُعْتَبَرُ حَالُهُ عِنْدَ انْقِضَائِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَمِينُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُوجِبٌ
الْحُكْمَ .
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لِمَنْ آلَى
أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ
تَقْدِيرَاتٍ : الْأَوَّلُ : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ أَكْثَرَ
مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ؛ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
الثَّانِي : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
الثَّالِثُ : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
فَالثَّالِثُ بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَالْأَوَّلُ مُرَادٌ
قَطْعًا ، وَالثَّانِي مُحْتَمِلٌ لِلْمُرَادِ احْتِمَالًا بَعِيدًا ؛ وَالْأَصْلُ
عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهِ ؛ فَلَا يُقْضَى بِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ،
وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَقُول : حَلَفْت عَلَى مُدَّةٍ هِيَ لِي ، فَلَا كَلَامَ مَعِي
، وَلَيْسَ عَنْ هَذَا جَوَابٌ
.
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ فَاءُوا } : وَالْمَعْنَى : إنْ
رَجَعُوا ، وَالرُّجُوعُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مَرْجُوعٍ عَنْهُ ، وَقَدْ كَانَ تَقَدَّمَ
مِنْهُ يَمِينٌ وَاعْتِقَادٌ ؛ فَأَمَّا الْيَمِينُ فَيَكُونُ الرُّجُوعُ عَنْهَا
بِالْكَفَّارَةِ ، لِأَنَّهَا تَحِلُّهَا ، وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ فَيَكُونُ
الرُّجُوعُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ مُسْتَتِرٌ لَا يَظْهَرُ
إلَّا بِمَا يُكْشَفُ عَنْهُ مِنْ فِعْلٍ يَتَبَيَّنُ بِهِ ؛ كَحِلِّ الْيَمِينِ
بِالْكَفَّارَةِ أَوْ إتْيَانِ مَا امْتَنَعَ مِنْهُ ؛ فَأَمَّا مُجَرَّدُ
قَوْلِهِ : رَجَعْت فَلَا يُعَدُّ فَيْئًا ؛ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا التَّحْقِيقُ
فَلَا مَعْنَى بَعْدَهُ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي قِلَابَةَ : إنَّ الْفَيْءَ قَوْلُهُ
رَجَعْت .
أَمَّا أَنَّهُ تَبْقَى هُنَا نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ
فَيَقُولُ : وَاَللَّهِ لَقَدْ رَجَعْت فَهَلْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ الَّتِي
قَبْلَهَا أَمْ لَا ؟ قُلْنَا : لَا يَكُونُ فَيْئًا ، لِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ
تُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى فِي الذِّمَّةِ ، وَتَجْتَمِعُ مَعَ الْيَمِينِ
الْأَوَّلِ ، وَلَا يُرْفَعُ الشَّيْءُ إلَّا بِمَا يُضَادُّهُ وَهَذَا تَحْقِيقٌ
بَالِغٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا كَانَ ذَا عُذْرٍ
مِنْ مَرَضٍ أَوْ مَغِيبٍ فَقَوْلُهُ :
رَجَعْت فَيْءٌ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُقَالُ لَهُ كَفِّرْ أَوْ أَوْقِعْ
مَا حَلَفْت عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ فَعَلَ ، وَإِلَّا طَلُقَتْ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ قَوْلُهُ : رَجَعْت ، ثُمَّ إذَا أَمْكَنَهُ الْوَطْءُ ، فَلَمْ يَطَأْ
طُلِّقَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَفَّرَ ثُمَّ أَمْكَنَهُ الْوَطْءُ لِزَوَالِ
الْعُذْرِ لَمْ تَطْلُقْ عَلَيْهِ
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُسْتَأْنَفُ لَهُ الْمُدَّةُ
إذَا انْقَضَتْ ، وَهُوَ مَغِيبٌ أَوْ مَرِيضٌ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ .
قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ : لَا تُسْتَأْنَفُ لَهُ
مُدَّةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعُذْرَ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ فَإِنْ
كَانَ فِعْلًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْخُرُوجِ فَيَفْعَلُهُ عِنْدَ
خُرُوجِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ " الْمَسَائِلِ "
مُسْتَوْفَاةَ
الْحُجَجِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا تَرَكَ
الْوَطْءَ مُضَارًّا بِغَيْرِ يَمِينٍ فَلَا تَظْهَرُ فَيْئَتُهُ عِنْدَنَا إلَّا
بِالْفِعْلِ ، لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْكَرَاهَةِ قَدْ ظَهَرَ بِالِامْتِنَاعِ ،
فَلَا يَظْهَرُ اعْتِقَادُهُ لِلْإِرَادَةِ إلَّا بِالْإِقْدَامِ ؛ وَهَذَا
تَحْقِيقٌ بَالِغٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } :
اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ
الْمُدَّةِ ، هَذَا وَهُمْ الْقُدْوَةُ الْفُصَحَاءُ اللُّسْنُ الْبُلَغَاءُ مِنْ
الْعَرَبِ الْعُرْبِ ، فَإِذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي
تَتَّضِحُ لَهُ مِنَّا بِالْأَفْهَامِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاللُّغَةِ الْمُعْتَلَّةِ
، وَلَكِنْ إنْ أَلْقَيْنَا الدَّلْوَ فِي الدِّلَاءِ لَمْ نَعْدَمْ بِعَوْنِ
اللَّهِ الدَّوَاءَ ، وَلَمْ نُحْرَمْ الِاهْتِدَاءَ فِي الِاقْتِدَاءِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ
عَزَمُوا الطَّلَاقَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لَا يُوقِعُ
فُرْقَةً ؛ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ قَصْدِهِ وَاعْتِبَارِ عَزْمِهِ .
وَقَالَ الْمُخَالِفُ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ : إنَّ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ تُعْلَمُ مِنْهُ بِتَرْكِ الْفَيْئَةِ
مَدَى التَّرَبُّصِ .
أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَاضِي
مُحَالٌ ، وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاقِعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا يَصِحُّ
أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ عَزِيمَةٌ مِنَّا .
وَتَحْقِيقُ الْأَمْرُ أَنَّ تَقْرِيرَ الْآيَةَ
عِنْدَنَا : " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ ، فَإِنْ فَاءُوا بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " .
وَتَقْرِيرُهَا عِنْدَهُمْ : " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ فَاءُوا فِيهَا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ بِتَرْكِ الْفَيْئَةِ
فِيهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " .
وَهَذَا احْتِمَالٌ مُتَسَاوٍ ، وَلِأَجَلِ تَسَاوِيهِ
تَوَقَّفَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِ ، فَوَجَبَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ اعْتِبَارُ الْمَسْأَلَةِ
مِنْ غَيْرِهِ ، وَهُوَ بَحْرٌ مُتَلَاطِمُ الْأَمْوَاجِ ، وَلَقَدْ كُنْت أَقَمْت
بِالْمَدْرَسَةِ التَّاجِيَّةِ مُدَّةً لِكَشْفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
بِالْمُنَاظَرَةِ ، ثُمَّ تَرَدَّدْت فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ آخِرًا
لِأَجْلِهَا .
فَاَلَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ النَّظَرُ بَيْنَ
الْأَئِمَّةِ
أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالُوا : كَانَ الْإِيلَاءُ طَلَاقًا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ ، فَزَادَ فِيهِ الشَّرْعُ الْمُدَّةَ وَالْمُهْلَةَ ، فَأَقَرَّهُ
طَلَاقًا بَعْدَ انْقِضَائِهَا .
قُلْنَا : هَذِهِ دَعْوَى .
قَالُوا : وَتَغْيِيرُهَا دَعْوَى .
قُلْنَا :
أَمَّا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا فَرُبَّمَا قُلْنَا إنَّهُ
شَرْعٌ لَنَا مَعَكُمْ أَوْ وَحْدَنَا وَأَمَّا أَحْكَامُ الْجَاهِلِيَّةِ
فَلَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةِ ، وَهَذَا مَوْقِفٌ مُشْكِلٌ جِدًّا ، وَعَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ
عَظِيمٌ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، الِاعْتِرَاضُ حَدِيثُ عَائِشَةَ : {
كَانَ النِّكَاحُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ ، فَأَقَرَّ الْإِسْلَامُ وَاحِدًا } .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَرَأَوْا أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى
تَرْكِ الْوَطْءِ ضَرَرٌ حَادِثٌ بِالزَّوْجَةِ ؛ فَضُرِبَتْ لَهُ فِي رَفْعِهِ
مُدَّةٌ ، فَإِنْ رُفِعَ الضَّرَرُ وَإِلَّا رَفَعَهُ الشَّرْعُ عَنْهَا ؛
وَذَلِكَ يَكُونُ بِالطَّلَاقِ كَمَا يَحْكُمُ فِي كُلِّ ضَرَرِ يَتَعَلَّقُ
بِالْوَطْءِ كَالْجُبِّ وَالْعُنَّةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَهَذَا غَايَةُ مَا وَقَفَ
عَلَيْهِ الْبَيَانُ هَاهُنَا ؛ وَاسْتِيفَاؤُهُ فِي الْمَسَائِلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : هَذِهِ الْآيَةُ
بِعُمُومِهَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إيلَاءِ الْكَافِرِ .
قُلْنَا : نَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ
بِفُرُوعِ الشَّرْعِ بِلَا خِلَافٍ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَلَكِنْ لَا
عِبْرَةَ بِهِ عِنْدَنَا بِفِعْلِ الْكَافِرِ حَتَّى يُقَدِّمَ عَلَى فِعْلِهِ
شَرْطَ اعْتِبَارِ الْأَفْعَالِ ، وَهُوَ الْإِيمَانُ ، كَمَا لَا يُنْظَرُ فِي
صَلَاتِهِ حَتَّى يُقَدِّمَ شَرْطَهَا ؛ لِأَنَّ زَوْجَتَهُ إنْ قُدِّرَتْ
مُسْلِمَةً لَمْ يَصِحَّ بِحَالٍ ، وَإِنْ قُدِّرَتْ كَافِرَةً فَمَا لَنَا
وَلَهُمْ ؟ وَكَيْفَ نَنْظُرُ فِي أَنْكِحَتِهِمْ ؟ وَلَعَلَّ الْمُولَى فِيهَا
هِيَ الْخَامِسَةُ أَوْ بِنْتُ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ ؛ فَهَذَا لَغْوٌ مِنْ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا كَفَّرَ الْمُولِي سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْمَذْهَبِ ، وَذَلِكَ إجْمَاعٌ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيلَاءِ ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةِ الْإِيلَاءِ ؛ إذْ لَا يَرَى جَوَازَ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا ، وَصَارَ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ ،
فَلَمَّا أَكْمَلَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نَزَلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ صَبِيحَةَ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : إنَّك آلَيْتَ
شَهْرًا .
فَقَالَ : إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } أَخْبَرَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ غَيْرَ مَرَّةٍ : وَصَلْت الْفُسْطَاطَ مَرَّةً ،
فَجِئْت مَجْلِسَ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ ، وَحَضَرْت كَلَامَهُ
عَلَى النَّاسِ ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ فِي أَوَّلِ مَجْلِسٍ جَلَسْت إلَيْهِ :
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ وَظَاهَرَ وَآلَى ،
فَلَمَّا خَرَجَ تَبِعْته حَتَّى بَلَغْت مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فِي جَمَاعَةٍ ، فَجَلَسَ
مَعَنَا فِي الدِّهْلِيزِ ، وَعَرَّفَهُمْ أَمْرِي ، فَإِنَّهُ رَأَى إشَارَةَ
الْغُرْبَةِ وَلَمْ يَعْرِفْ الشَّخْصَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ
، فَلَمَّا انْفَضَّ عَنْهُ أَكْثَرُهُمْ قَالَ لِي : أَرَاك غَرِيبًا ، هَلْ لَك مِنْ
كَلَامٍ ؟ قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ لِجُلَسَائِهِ : أَفْرِجُوا لَهُ عَنْ كَلَامِهِ .
فَقَامُوا وَبَقِيت وَحْدِي مَعَهُ .
فَقُلْت لَهُ : حَضَرْت الْمَجْلِسَ الْيَوْمَ
مُتَبَرِّكًا بِك ، وَسَمِعْتُك تَقُولُ : آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَقْت ، وَطَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَقْت .
وَقُلْت : وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهَذَا لَمْ يَكُنْ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ
مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ وَقَبَّلَ رَأْسِي ، وَقَالَ
لِي : أَنَا تَائِبٌ مِنْ ذَلِكَ ، جَزَاك اللَّهُ عَنِّي مِنْ مُعَلِّمٍ خَيْرًا .
ثُمَّ انْقَلَبْت عَنْهُ ، وَبَكَّرْت إلَى مَجْلِسِهِ
فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، فَأَلْفَيْته قَدْ سَبَقَنِي إلَى الْجَامِعِ ،
وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمَّا دَخَلْت مِنْ بَابِ الْجَامِعِ وَرَآنِي
نَادَى
بِأَعْلَى
صَوْتِهِ : مَرْحَبًا بِمُعَلِّمِي ؛ أَفْسِحُوا لِمُعَلِّمِي ، فَتَطَاوَلَتْ
الْأَعْنَاقُ إلَيَّ ، وَحَدَّقَتْ الْأَبْصَارُ نَحْوِي ، وَتَعْرِفنِي : يَا
أَبَا بَكْرٍ يُشِيرُ إلَى عَظِيمِ حَيَائِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا سَلَّمَ
عَلَيْهِ أَحَدٌ أَوْ فَاجَأَهُ خَجِلَ لِعَظِيمِ حَيَائِهِ ، وَاحْمَرَّ حَتَّى
كَأَنَّ وَجْهَهُ طُلِيَ بِجُلَّنَارٍ قَالَ : وَتَبَادَرَ النَّاسُ إلَيَّ
يَرْفَعُونَنِي عَلَى الْأَيْدِي وَيَتَدَافَعُونِي حَتَّى بَلَغْت الْمِنْبَرَ ،
وَأَنَا لِعَظْمِ الْحَيَاءِ لَا أَعْرِفُ فِي أَيْ بُقْعَةٍ أَنَا مِنْ الْأَرْضِ
، وَالْجَامِعُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ ، وَأَسَالَ الْحَيَاءُ بَدَنِي عَرَقًا ، وَأَقْبَلَ
الشَّيْخُ عَلَى الْخَلْقِ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَنَا مُعَلِّمُكُمْ ، وَهَذَا
مُعَلِّمِي ؛ لَمَّا كَانَ بِالْأَمْسِ قُلْت لَكُمْ : آلَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَّقَ ، وَظَاهَرَ ؛ فَمَا كَانَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ فَقُهَ عَنِّي وَلَا رَدَّ عَلَيَّ ، فَاتَّبَعَنِي إلَى مَنْزِلِي ،
وَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا ؛ وَأَعَادَ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، وَأَنَا
تَائِبٌ عَنْ قَوْلِي بِالْأَمْسِ ، وَرَاجِعٌ عَنْهُ إلَى الْحَقِّ ؛ فَمَنْ
سَمِعَهُ مِمَّنْ حَضَرَ فَلَا يُعَوِّلْ عَلَيْهِ .
وَمَنْ غَابَ فَلْيُبَلِّغْهُ مَنْ حَضَرَ ؛ فَجَزَاهُ
اللَّهُ خَيْرًا ؛ وَجَعَلَ يَحْفُلُ فِي الدُّعَاءِ ، وَالْخَلْقُ يُؤَمِّنُونَ .
فَانْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى هَذَا الدِّينِ
الْمَتِينِ ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْعِلْمِ لِأَهْلِهِ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَإِ
مِنْ رَجُلٍ ظَهَرَتْ رِيَاسَتُهُ ، وَاشْتُهِرَتْ نَفَاسَتُهُ ، لِغَرِيبٍ
مَجْهُولِ الْعَيْنِ لَا يُعْرَفُ مَنْ وَلَا مِنْ أَيْنَ ، فَاقْتَدُوا بِهِ
تَرْشُدُوا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } : يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ
تَقَدَّمَ ذَنْبٌ ، وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِالْمَرْأَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ
الْوَطْءِ ، وَلِأَجَلِ هَذَا قُلْنَا : إنَّ الْمُضَارَّةَ دُونَ يَمِينٍ تُوجِبُ
مِنْ الْحُكْمِ مَا يُوجِبُ الْيَمِينُ إلَّا فِي أَحْكَامِ الْمَرْأَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَشْكَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَحْكَامِ ، تَرَدَّدَ فِيهَا عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ ، وَاخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَبَيَّنَ طَرِيقَهَا وَأَوْضَحَ تَحْقِيقَهَا ، وَلَكِنَّهُ وَكَّلَ دَرْكَ الْبَيَانِ إلَى اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ لِيَظْهَرَ فَضْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي الدَّرَجَاتِ الْمَوْعُودِ بِالرَّفْعِ فِيهَا ؛ وَقَدْ أَطَالَ الْخَلْقُ فِيهَا النَّفْسَ ، فَمَا اسْتَضَاءُوا بِقَبَسٍ ، وَلَا حَلُّوا عُقْدَةَ الْجَلْسِ ؛ وَالضَّابِطُ لِأَطْرَافِهَا يَنْحَصِرُ فِي إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : يَنْظِمُهَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : كَلِمَةُ الْقُرْءِ كَلِمَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ احْتِمَالًا وَاحِدًا ، وَبِهِ تَشَاغَلَ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ فُقَهَاءٍ وَلُغَوِيِّينَ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ؛ وَأُوصِيكُمْ أَلَّا تَشْتَغِلُوا الْآنَ بِذَلِكَ لِوُجُوهٍ ؛ أَقْرَبُهَا أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ الْوَقْتُ ، يَكْفِيك هَذَا فَيْصَلًا بَيْنَ الْمُتَشَعِّبِينَ وَحَسْمًا لِدَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ ؛ فَإِذَا أَرَحْت نَفْسَك مِنْ هَذَا وَقُلْت : الْمَعْنَى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ ، صَارَتْ الْآيَةُ مُفَسَّرَةً فِي الْعَدَدِ مُحْتَمِلَةٌ فِي الْمَعْدُودِ ، فَوَجَبَ طَلَبُ بَيَانِ الْمَعْدُودِ مِنْ غَيْرِهَا ، وَقَدْ اخْتَلَفْنَا فِيهَا ؛ وَلَنَا أَدِلَّةٌ وَلَهُمْ أَدِلَّةٌ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي تَلْخِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ ، وَخَلَصْنَا بِالسَّبْكِ مِنْهَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ مَا
يُغْنِي عَنْ
جَمْعِهِ اللَّبِيبَ ؛ وَأَقْرَبُهَا الْآنَ إلَى الْغَرَضِ أَنْ تُعْرِضَ عَنْ
الْمَعَانِي لِأَنَّهَا بِحَارٌ تَتَقَامَسُ أَمْوَاجُهَا ، وَتُقْبِلُ عَلَى
الْأَخْبَارِ فَإِنَّهَا أَوَّلٌ وَأَوْلَى ، وَلَهُمْ خَبَرٌ وَلَنَا خَبَرٌ .
فَأَمَّا خَبَرُهُمْ ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ
حَتَّى تَضَعَ ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ } .
وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْحُرَّةِ فِي اسْتِبْرَاءِ
الرَّحِمِ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْأَمَةِ بِعَيْنِهِ ؛ فَنَصَّ الشَّارِعُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ الْحَيْضُ ،
وَبِهِ يَقَعُ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْوَاحِدِ فِي الْأَمَةِ ، فَكَذَلِكَ
فَلْيَكُنْ بِالثَّلَاثَةِ فِي الْحُرَّةِ .
وَأَمَّا خَبَرُنَا فَالصَّحِيحُ الثَّابِتُ فِي كُلِّ
أَمْرٍ { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ
حَائِضٌ ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُرَاجِعَهَا ، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ ، ثُمَّ تَحِيضَ
وَتَطْهُرَ ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ ، فَتِلْكَ
الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا
النِّسَاءُ } ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِدَّةِ طُهْرٌ
فَمَجْمُوعُهَا أَطْهَارٌ .
[ وَالتَّنْقِيحُ ] وَالتَّرْجِيحُ : خَبَرُنَا أَوْلَى مِنْ
خَبَرِهِمْ ؛ لِأَنَّ خَبَرَنَا ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ الطُّهْرَ قَبْلَ
الْعِدَّةِ وَاحِدُ أَعْدَادِهَا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إشْكَالُ
خَبَرِهِمْ فَيَرْفَعُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَالِكَ أَيْضًا هُوَ الطُّهْرُ ،
لَكِنَّ الطُّهْرَ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِالْحَيْضِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا
: إنَّهَا تَحِلُّ بِالدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ .
الْفَصْلُ الثَّانِي : مِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ زَاحَمَ
عَلَى الْآيَةِ بِعَدَدٍ ، وَاسْتَنَدَ فِيهَا إلَى رُكْنٍ ، وَتَعَلَّقَ مِنْهَا
بِسَبَبٍ مَتِينٍ ؛ قَالُوا : يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْقُرْءَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْحَيْضِ
وَالطُّهْرِ جَمِيعًا ، وَالْمُرَادُ
أَحَدُهُمَا
، فَيَجِبُ إذَا قَعَدَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْمُ
أَنْ يَصِحَّ لَهَا قَضَاءُ التَّرَبُّصِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ
كَمَا قُلْنَا فِي الشَّفَقَيْنِ وَاللَّمْسَيْنِ وَالْأَبَوَيْنِ : إنَّ
الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّفَقِ الْأَوَّلِ ، وَالْوُضُوءُ يَجِبُ بِاللَّمْسِ
الْأَوَّلِ قَبْلَ الْوَطْءِ ، وَإِنَّ الْحَجْبَ يَكُونُ لِلْأَبِ الْأَوَّلِ
دُونَ الثَّانِي وَهُوَ الْجَدُّ ؛ وَهُمْ مُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ،
وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ أَجْمَعِهِ فِي مَوْضِعِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ } فَذَكَرَهُ وَأَثْبَتَ الْهَاءَ فِي الْعَدَدِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ
أَرَادَ الطُّهْرَ الْمُذَكَّرَ ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَيْضَةَ الْمُؤَنَّثَةَ
لَأَسْقَطَ الْهَاءَ ، وَقَالَ : ثَلَاثَ قُرُوءٍ ؛ فَإِنَّ الْهَاءَ تَثْبُتُ فِي
عَدَدِ الْمُذَكَّرِ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَتَسْقُطُ فِي عَدَدِ
الْمُؤَنَّثِ .
الرَّابِعُ :
أَنَّ مُطَلَّقَ الْأَمْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى رَأَيْنَا
فِي أَنَّ الْقُرْءَ الطُّهْرُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُطَلِّقُ فِي الطُّهْرِ لَا
فِي الْحَيْضِ ، فَلَوْ طَلَّقَ فِي الطُّهْرِ وَلَمْ تَعْتَدَّ إلَّا بِالْحَيْضِ
الْآتِي بَعْدَهُ لَكَانَ ذَلِكَ تَرَاخِيًا عَنْ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ ؛
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَإِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً فَإِنَّهَا تَفْتَحُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ
أَبْوَابًا رُبَّمَا عَسُرَ إغْلَاقُهَا ، فَأَوْلَى لَكُمْ التَّمَسُّكُ بِمَا
تَقَدَّمَ .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ : قَالُوا : إذَا جَعَلْتُمْ
الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ فَقَدْ تَرَكْتُمْ نَصَّ الْآيَةِ فِي جَعْلِهَا
ثَلَاثَةً ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ قَبْل
الْحَيْضِ بِلَيْلَةٍ لَكَانَ عِنْدَكُمْ قُرْءًا مُعْتَدًّا بِهِ وَلَيْسَ
بِعَدَدٍ .
قُلْنَا لَهُ : أَمَا إذَا بَلَغْنَا لِهَذَا
الْمُنْتَهَى فَالْمَسْأَلَةُ لَنَا ، وَمَأْخَذُ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ
سَهْلٌ ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ فِي
إطْلَاقِ الْعَدَدِ وَغَيْرِهِ
لُغَةً
مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَقُرْآنًا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وَهِيَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ شَوَّالٌ وَذُو
الْقَعْدَةِ وَبَعْضُ ذِي الْحِجَّةِ ، فَالْمُخَالِفُ إنْ رَاعَى ظَاهِرَ
الْعَدَدِ فَمُرَاعَاةُ ظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ
مُطَلَّقَةٍ ، لَكِنَّ الْقُرْآنَ خَصَّ مِنْهَا الْآيِسَةَ وَالصَّغِيرَةَ فِي
سُورَةِ الطَّلَاقِ بِالْأَشْهُرِ ، وَخَصَّ مِنْهَا الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } وَعُرِضَتْ
هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ الْأَمَةُ ، فَإِنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَتَانِ
، خَرَجَتْ بِالْإِجْمَاعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : قَوْله
تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ
} : خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ بَلْ هُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ
الشَّرْعِ ؛ فَإِنْ وُجِدَتْ مُطَلَّقَةٌ لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ
، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافَ مَخْبَرَهُ
، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بَيَانًا شَافِيًا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْحَيْضُ .
الثَّانِي : الْحَمْلُ .
الثَّالِثُ : مَجْمُوعُهُمَا .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا
أَمِينَةً عَلَى رَحِمِهَا ، فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ ؛ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى
عِلْمِهِ إلَّا بِخَبَرِهَا ، وَقَدْ شَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ لِقُصُورِ فَهْمِهِ
، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى قَوْلِهَا فِي دَعْوَى
الشَّغْلِ لِلرَّحِمِ أَوْ الْبَرَاءَةِ ، مَا لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهَا ، وَقَدْ
اخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا حِضْت أَوْ حَمَلْتِ فَأَنْتِ
طَالِقٌ ؛ فَقَالَتْ : حِضْت أَوْ حَمَلْت ، هَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ
أَمْ لَا ؟ فَمَنْ قَالَ مِنْ عُلَمَائِنَا بِوُقُوفِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ
اخْتَلَفَ قَوْلُهُ : هَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَالْعِدَّةُ
لَا خِلَافَ فِيهَا ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنْ كُنَّ
يُؤْمِنَّ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } : هَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ شَدِيدٌ
لِتَأْكِيدِ تَحْرِيمِ الْكِتْمَانِ وَإِيجَابِ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي
الْإِخْبَارِ عَنْ الرَّحِمِ بِحَقِيقَةِ مَا فِيهِ ، وَخَرَجَ مَخْرَجَ قَوْله
تَعَالَى : { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ } فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
وَفَائِدَةُ تَأْكِيدِ الْوَعِيدِ هَاهُنَا أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : حَقُّ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ بِوُجُوبِ ذَلِكَ لَهُ فِي
الْعِدَّةِ أَوْ سُقُوطِهِ عِنْدَ انْقِضَائِهَا .
[ الثَّانِي : ] مُرَاعَاةُ حَقِّ الْفِرَاشِ بِصِيَانَةِ
الْأَنْسَابِ عَنْ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } فِيهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ
: الْفَائِدَةُ الْأُولَى : أَنَّ
: { وَالْمُطَلَّقَاتُ } عَامٌّ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ
فِيهَا رَجْعَةٌ أَوْ لَا رَجْعَةَ فِيهَا .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ قَوْله تَعَالَى : {
وَبُعُولَتُهُنَّ } يَقْتَضِي أَنَّهُنَّ أَزْوَاجٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ .
وقَوْله تَعَالَى : { بِرَدِّهِنَّ } يَقْتَضِي زَوَالَ
الزَّوْجِيَّةِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَسِيرٌ ، إلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا
قَالُوا : إنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرِّمَةٌ لِلْوَطْءِ ، فَيَكُونُ الرَّدُّ
عَائِدًا إلَى الْحِلِّ .
وَأَمَّا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ
يَقُولُ بِقَوْلِهِمَا فِي أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَلَّلَةُ الْوَطْءِ فَيَرَوْنَ
أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَائِدَتُهُ تَنْقِيصُ الْعَدَدِ الَّذِي جُعِلَ لَهُ ،
وَهُوَ الثَّلَاثَةُ خَاصَّةً ، وَأَنَّ أَحْكَامَ الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يَنْحَلَّ
مِنْهَا شَيْءٌ وَلَا اخْتَلَّ ، فَيَعْسُرُ عَلَيْهِ بَيَانُ فَائِدَةِ الرَّدِّ
؛ لِكَوْنِهِمْ قَالُوا : إنَّ أَحْكَامَ الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً
فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ سَائِرَةٌ فِي سَبِيلِ الرَّدِّ ،
وَلَكِنْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالرَّجْعَةُ رَدٌّ عَنْ هَذِهِ السَّبِيلِ
الَّتِي أَخَذْت فِي سُلُوكِهَا وَهُوَ رَدٌّ مَجَازِيٌّ ، وَالرَّدُّ الَّذِي
حَكَمْنَا بِهِ رَدٌّ حَقِيقِيٌّ ؛ إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ زَوَالٌ
مُنْجَزٌ يَقَعُ الرَّدُّ عَنْهُ حَقِيقَةً .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { فِي
ذَلِكَ } : يَعْنِي فِي وَقْتِ التَّرَبُّصِ ، وَهُوَ أَمَدُ الْعِدَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : يَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ : انْقَضَتْ عِدَّتِي
قُبِلَ قَوْلُهَا فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ عَادَةً مِنْ
غَيْرِ خِلَافٍ .
فَإِنْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَائِهَا فِي مُدَّةِ تَقَعُ
نَادِرًا فَقَوْلَانِ : قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ : إذَا قَالَتْ : حِضْت ثَلَاثَ
حِيَضٍ فِي شَهْرٍ صُدِّقَتْ إذَا صَدَّقَهَا النِّسَاءُ .
وَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : لَا تُصَدَّقُ فِي شَهْرٍ وَلَا فِي
شَهْرٍ وَنِصْفٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ طَوَّلَتْ ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ،
فِي الْمُطَلَّقَةِ تُقِيمُ سَنَةً لِتَقُولَ لَمْ أَحِضْ إلَّا حَيْضَةً : لَمْ
تُصَدَّقْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكَرَتْ ذَلِكَ وَكَانَتْ غَيْرَ مُرْضِعٍ .
قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ : إذَا ادَّعَتْ تَأَخُّرَ
حَيْضِهَا بَعْدَ الْفِطَامِ سَنَةً حَلَفَتْ بِاَللَّهِ مَا حَاضَتْ ، وَهَذَا
إذَا لَمْ تُعْلَمْ لَهَا عَادَةٌ
.
قَالَ الْقَاضِي : وَعَادَةُ النِّسَاءِ عِنْدَنَا
مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الشَّهْرِ ، وَقَدْ قَلَّتْ الْأَدْيَانُ فِي الذُّكْرَانِ فَكَيْفَ
بِالنِّسْوَانِ ؟ ، فَلَا أَرَى أَنْ تُمَكَّنَ الْمُطَلَّقَةُ مِنْ الزَّوَاجِ
إلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ
الطَّلَاقِ كَانَ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ أَوْ آخِرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : إذَا قَالَ : أَخْبَرَتْنِي بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَكَذَّبَتْهُ
حَلَفَتْ وَبَقِيَتْ الْعِدَّةُ ، فَإِنْ قَالَ : رَاجَعْتهَا فَقَالَتْ : قَدْ
انْقَضَتْ عِدَّتِي لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهَا بَعْدَ الْقَوْلِ .
وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَهَذَا تَفْسِيرُ عُلَمَائِنَا .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا } : الْمَعْنَى إنْ قَصَدَ
بِالرَّجْعَةِ إصْلَاحَ حَالِهِ مَعَهَا ، وَإِزَالَةَ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمَا ،
لَا عَلَى وَجْهِ الْإِضْرَارِ وَالْقَطْعِ بِهَا عَنْ الْخَلَاصِ مِنْ رِبْقَةِ
النِّكَاحِ ، فَذَلِكَ لَهُ حَلَالٌ ، وَإِلَّا لَمْ تَحِلَّ لَهُ .
وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا بَاطِنًا جَعَلَ اللَّهُ
تَعَالَى الثَّلَاثَ عَلَمًا عَلَيْهِ ، وَلَوْ تَحَقَّقْنَا نَحْنُ ذَلِكَ
الْمَقْصِدَ مِنْهُ لَطَلَّقَنَا عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } : يَعْنِي : مِنْ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ وَمُعَاشَرَةِ
النِّكَاحِ .
الْمَعْنَى : أَنَّ بُعُولَتَهُنَّ لَمَّا كَانَ لَهُمْ
عَلَيْهِنَّ حَقُّ الرَّدِّ كَانَ لَهُنَّ عَلَيْهِمْ إجْمَالُ الصُّحْبَةِ ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } بِذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِهَذَا الْمُجْمَلِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } : هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ مُفَضَّلٌ
عَلَيْهَا مُقَدَّمٌ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ فَوْقَهَا ، لَكِنَّ الدَّرَجَةَ
هَاهُنَا مُجْمَلَةٌ غَيْرُ مُبَيَّنٍ مَا الْمُرَادُ بِهَا مِنْهَا ؟ وَإِنَّمَا
أُخِذَتْ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى سِوَى هَذِهِ الْآيَةِ ، وَأَعْلَمَ اللَّهُ
تَعَالَى النِّسَاءَ هَاهُنَا أَنَّ الرِّجَالَ فَوْقَهُنَّ ، ثُمَّ بَيَّنَ عَلَى
لِسَانِ رَسُولِهِ ذَلِكَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ
الدَّرَجَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ ؛ فَقِيلَ : هُوَ الْمِيرَاثُ ، وَقِيلَ : هُوَ الْجِهَادُ
، وَقِيلَ : هُوَ اللِّحْيَةُ ؛ فَطُوبَى لِعَبْدٍ أَمْسَكَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ ،
وَخُصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَظِيمِ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ فَضْلُ الرِّجَالِ عَلَى
النِّسَاءِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ الرَّجُلِ
فَهُوَ أَصْلُهَا .
لَكِنَّ الْآيَةَ لَمْ تَأْتِ لِبَيَانِ دَرَجَةٍ
مُطْلَقَةٍ حَتَّى يُتَصَرَّفَ فِيهَا بِتَعْدِيدِ فَضَائِلِ الرِّجَالِ عَلَى
النِّسَاءِ ؛ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ بِالْحَقِّ فِي تَقَدُّمِهِنَّ فِي
النِّكَاحِ ؛ فَوَجَدْنَاهَا عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : وُجُوبُ
الطَّاعَةِ ، وَهُوَ حَقٌّ عَامٌّ
.
الثَّانِي : حَقُّ الْخِدْمَةِ ، وَهُوَ حَقٌّ خَاصٌّ ،
وَلَهُ تَفْصِيلٌ ، بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ .
الثَّالِثُ : حَجْرُ التَّصَرُّفِ إلَّا بِإِذْنِهِ .
الرَّابِعُ :
أَنْ تُقَدِّمَ طَاعَتَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ
تَعَالَى فِي النَّوَافِلِ ، فَلَا تَصُومُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا تَحُجُّ
إلَّا مَعَهُ .
الْخَامِسُ : بَذْلُ
الصَّدَاقِ .
السَّادِسُ : إدْرَارُ الْإِنْفَاقِ .
السَّابِعُ : جَوَازُ الْأَدَبِ لَهُ فِيهَا .
وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى : { الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ
وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا
مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } فِيهَا
ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِهَا : ثَبَتَ
أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ لِلطَّلَاقِ عَدَدٌ ،
وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ الْعِدَّةُ مَعْلُومَةً مُقَدَّرَةً ، فَرَوَى عُرْوَةُ
قَالَ : { كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ أَنْ
تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ، فَغَضِبَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى امْرَأَتِهِ ، فَقَالَ
: لَا أَقْرَبُك وَلَا تَحِلِّينَ مِنِّي .
قَالَتْ لَهُ
: كَيْفَ ؟ قَالَ : أُطَلِّقُك حَتَّى إذَا جَاءَ
أَجَلُك رَاجَعْتُك ، فَشَكَتْ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } }
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَقْصُودِ الْآيَةِ : قَالَ الْبُخَارِيُّ :
بَابُ جَوَازِ الثَّلَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } إشَارَةٌ إلَى
أَنَّ هَذَا التَّعْدِيدَ إنَّمَا هُوَ فُسْحَةٌ لَهُمْ ، فَمَنْ ضَيَّقَ عَلَى
نَفْسِهِ لَزِمَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ بَعْضُهُمْ : جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِبَيَانِ عَدَدِ
الطَّلَاقِ ؛ وَقِيلَ : جَاءَتْ لِبَيَانِ سُنَّةِ الطَّلَاقِ .
وَالْقَوْلَانِ صَحِيحَانِ ؛ فَإِنَّ بَيَانَ الْعَدَدِ
بَيَانُ السُّنَّةِ فِي الرَّدِّ ، وَبَيَانَ سُنَّةِ الْوُقُوعِ بَيَانُ
الْعَدَدِ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فِعْلًا مُهْمَلًا كَسَائِرِ أَفْعَالِهَا ، فَشَرَعَ اللَّهُ
تَعَالَى أَمَدَهُ ، وَبَيَّنَ حَدَّهُ ، وَأَوْضَحَ فِي كِتَابِهِ حُكْمَهُ ،
وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ تَمَامَهُ وَشَرْحَهُ ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا [
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ] : طَلَاقُ السُّنَّةِ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ
ثَمَانِيَةُ شُرُوطٍ ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ : أَحَدُهَا : تَفْرِيقُ الْإِيقَاعِ
وَمَنْعُ الِاجْتِمَاعِ ، تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَانَهُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ طَلْقَتَيْنِ مُتَفَرِّقَتَيْنِ ؛
لِأَنَّهُمَا إنْ كَانَتَا مُجْتَمَعَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مَرَّتَيْنِ .
وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثَةِ
مُبَاحٌ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ
اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } .
وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ
الْمُتَقَدِّمُ سِيَاقُهُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَفْرِيقُ الْإِيقَاعِ .
وَالثَّانِي :
كَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْرَاكِ بِالِارْتِجَاعِ ، وَهِيَ
أَيْضًا تَفْسِيرُ الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ لِقَوْلِهِ : فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
عُرِّفَ فِيهَا الطَّلَاقُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ ؛ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
تَأْوِيلِ التَّعْرِيفِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَعْنَاهُ
الطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ [ مَرَّتَانِ ] ، فَمَا جَاءَ عَلَى غَيْرِ هَذَا
فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ ؛ يُرْوَى عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَالرَّافِضَةِ قَالُوا
: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا بُعِثَ لِبَيَانِ
الشَّرْعِ ، فَمَا جَاءَ عَلَى غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ .
الثَّانِي : مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الَّذِي فِيهِ
الرَّجْعَةُ
مَرَّتَانِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تُطَلِّقُ وَتَرُدُّ
أَبَدًا ، فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا يَكُونُ فِي
طَلْقَتَيْنِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الْمَسْنُونُ
مَرَّتَانِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ .
الرَّابِعُ : مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الْجَائِزُ
مَرَّتَانِ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ
الْمَشْرُوعُ فَصَحِيحٌ ؛ لَكِنَّ الشَّرْعَ يَتَضَمَّنُ الْفَرْضَ وَالسُّنَّةَ
وَالْجَائِزَ وَالْحَرَامَ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى بِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا أَحَدُ
أَقْسَامِ الْمَشْرُوعِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَهُوَ الْمَسْنُونُ ؛ وَقَدْ
كُنَّا نَقُولُ بِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ ، لَوْلَا تَظَاهُرُ
الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مِنْ الْأُمَّةِ بِأَنَّ مَنْ
طَلَّقَ طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ ، وَلَا احْتِفَالَ
بِالْحَجَّاجِ وَإِخْوَانِهِ مِنْ الرَّافِضَةِ ، فَالْحَقُّ كَائِنٌ قَبْلَهُمْ .
فَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ
فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ هَاهُنَا فَإِنَّهُ مُتَّفِقٌ مَعَنَا عَلَى
لُزُومِهِ إذَا وَقَعَ .
وَقَدْ حَقَقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ : ( مَرَّةٌ ) : وَهِيَ عِبَارَةٌ فِي اللُّغَةِ عَنْ الْفَعْلَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْأَصْلِ ، لَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَتْ ظَرْفًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ } : قِيلَ : الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ الرَّجْعَةُ الثَّانِيَةُ
بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالتَّسْرِيحُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ .
وَقِيلَ : التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانِ الْإِمْسَاكُ حَتَّى
تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ، وَكِلَاهُمَا مُمْكِنٌ مُرَادٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ } يَعْنِي : إذَا قَارَبْنَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فَرَاجِعُوهُنَّ أَوْ
فَارِقُوهُنَّ .
وَقَدْ يَكُونُ الْفِرَاقُ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ
الَّذِي قَالَهُ حِينَئِذٍ .
وَقَدْ يَكُونُ إذَا رَاجَعَهَا وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ ،
وَقَدْ يَكُونُ بِالسُّكُوتِ عَنْ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ؛
فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ
.
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : إنَّ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ
هِيَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ هِيَ
الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ } وَلَمْ يَصِحَّ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ ثَلَاثٌ فِي كُلِّ
زَوْجَيْنِ ، إلَّا أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إنْ كَانَا مَمْلُوكَيْنِ فَذَلِكَ مِنْ
هَذِهِ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ طَلَاقَ الرَّقِيقِ طَلْقَتَانِ
؛ فَالْأُولَى فِي حَقِّهِ مَرَّةٌ ، وَالثَّانِيَةُ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ،
لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُعْتَبَرُ عَدَدُهُ بِرِقِّ الزَّوْجِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْتَبَرُ عَدَدُهُ بِرِقِّ
الزَّوْجَةِ .
وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : ثَبَتَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ
وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ } .
وَالتَّقْدِيرُ : الطَّلَاقُ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ ، وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ مَوْجُودٌ بِالرِّجَالِ ، لِأَنَّ
ذَلِكَ مُشَاهَدٌ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيَانِ
.
فَإِنْ قِيلَ
: فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ
، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ .
} قُلْنَا : يَرْوِيه مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَهُوَ
ضَعِيفٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ فِيهِ اعْتِبَارَ الْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ
بِالنِّسَاءِ جَمِيعًا ، وَلَا يَقُولُ السَّلَفُ بِهَذَا ؛ فَقَدْ رَوَى
النَّسَائِيّ ، وَأَبُو دَاوُد عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
مَمْلُوكٍ كَانَتْ تَحْتَهُ مَمْلُوكَةٌ فَطَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ
أُعْتِقَا : أَيَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَضَى
بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَلِأَنَّ كُلَّ مِلْكٍ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِحَالٍ
الْمَالِكِ لَا بِحَالِ الْمَمْلُوكِ
.
وَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ
السَّرَاحَ مِنْ صَرِيحِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى
نِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ
الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا .
وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
: { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ كَمَا بَيَّنَّا ، وَيَكُونُ
قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } بَيَانًا لِحُكْمِ [
الْحُرَّةِ ] الْوَاقِعِ عَلَيْهَا ، وَهُوَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِنَا وَتَفْسِيرِ الشَّافِعِيِّ مِنْ
أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الثَّانِي
.
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } : ظَنَّ جَهَلَةٌ
مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْفَاءَ هُنَا لِلتَّعْقِيبِ ، وَفَسَّرَ أَنَّ الَّذِي
يَعْقُبُ الطَّلَاقَ مِنْ الْإِمْسَاكِ الرَّجْعَةُ ؛ وَهَذَا جَهْلٌ بِالْمَعْنَى
وَاللِّسَانِ : أَمَّا جَهْلُ الْمَعْنَى فَلَيْسَتْ الرَّجْعَةُ عَقِيبَ
الطَّلْقَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا هِيَ عَقِيبُ الْوَاحِدَةِ كَمَا هِيَ عَقِيبُ
الثَّانِيَةُ ، وَلَوْ لَزِمَتْ حُكْمَ التَّعْقِيبِ فِي الْآيَةِ لَاخْتَصَّتْ
بِالطَّلْقَتَيْنِ .
وَأَمَّا الْإِعْرَابُ فَلَيْسَتْ الْفَاءُ
لِلتَّعْقِيبِ هُنَا ، وَلَكِنْ ذَكَرَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ فِيهَا مَعَانِيَ ،
أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ ، وَذَلِكَ فِي الْعَطْفِ
، تَقُولُ : خَرَجَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو
.
الثَّانِي : السَّبَبُ ، وَذَلِكَ فِي الْجَزَاءِ ،
تَقُولُ : إنْ تَفْعَلْ خَيْرًا فَاَللَّهُ يُجْزِيك ؛ فَهُوَ بَعْدَهُ ؛ لَكِنْ
لَيْسَ مُعَقِّبًا عَلَيْهِ .
الثَّالِثَةُ
: زَائِدَةٌ ، كَقَوْلِك : زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ ، كَمَا
قَالَ الشَّاعِرُ : وَقَائِلَةٍ خَوْلَانَ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ وَأُكْرُومَةُ
الْحَيَّيْنِ خُلْوٌ كَمَا هِيَا وَهَذَا لَمْ يُصَحِّحْهُ سِيبَوَيْهِ .
وَاَلَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ مِنْ أَنَّ الْفَاءَ
هَاهُنَا لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي مَعْنَى الْجَوَابِ
لِلْجُمْلَةِ ، كَأَنَّهُ قَالَ
: هَذِهِ خَوْلَانَ فَانْكِحْ فَتَاتهمْ .
كَمَا تَقُولُ : هَذَا زَيْدٌ فَقُمْ إلَيْهِ ،
وَيَرْجِعُ عِنْدِي إلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ ، فَيَكُونُ مَعْنَيَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا
وَطِئَ بِنِيَّةِ الرَّجْعَةِ جَازَ ، وَكَانَ مِنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ ؛
لِأَنَّهُ إذَا قَالَ : قَدْ رَاجَعْتُك كَانَ مَعْرُوفًا جَائِزًا ، فَالْوَطْءُ
أَجْوَزُ .
فَإِنْ قِيلَ : هِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالطَّلَاقِ ،
فَكَيْفَ يُبَاحُ لَهُ الْوَطْءُ ؟ قُلْنَا : الْإِبَاحَةُ تَحْصُلُ بِنِيَّةِ
الرَّجْعَةِ ، كَمَا تَحْصُلُ بِقَوْلِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } ؛ وَالْإِشْهَادُ يُتَصَوَّرُ عَلَى الْقَوْلِ وَلَا
يُتَصَوَّرُ عَلَى الْوَطْءِ .
قُلْنَا : بِتَصَوُّرِ
الْإِشْهَادِ
عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْوَطْءِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى الْإِقْرَارِ
بِفِعْلِهِ بَعْدَ فِعْلِهِ ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ
إلَّا بَعْدَ الْإِشْهَادِ .
قُلْنَا : لَيْسَ فِي الْآيَةِ إيقَافُ الْحِلِّ عَلَى الْإِشْهَادِ
، إنَّمَا فِيهِ إلْزَامُ الْإِشْهَادِ ، وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ عِنْدَ ذِكْرِ
الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئًا } : قَالَ قَوْمٌ : يَعْنِي مِنْ الصَّدَاقِ ؛ وَعِنْدِي أَنَّهُ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ أَعْطَاهَا ؛ فَإِنَّ الصَّدَاقَ وَإِنْ كَانَ نِحْلَةً شَرْطِيَّةً
فَمَا نَحَلَهَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ ؛ لِكَوْنِهِ نِحْلَةً عَنْ نِيَّةٍ ، عَامٌّ
فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ ، عَامٌّ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنْ
ابْتِدَاءِ أَخْذِ الزَّوْجِ لَهُ أَوْ إعْطَائِهَا هِيَ إيَّاهُ لَهُ عَلَى
الْخَلَاصِ مِنْ نِكَاحِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وَفِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٌ
كُلُّهَا أَبَاطِيلُ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَظُنَّ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ أَلَّا يُقِيمَ حَقَّ النِّكَاحِ لِصَاحِبِهِ حَسْبَمَا
يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ لِكَرَاهِيَةٍ يَعْتَقِدُهَا ، فَلَا حَرَجَ عَلَى
الْمَرْأَةِ أَنْ تَفْتَدِيَ وَلَا عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ .
وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَنْعَ حَالَةَ
الْفِرَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ
مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ
شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } وَذَلِكَ لِأَنَّهَا
حَالَةٌ تَشْرَهُ النُّفُوسَ فِيهَا إلَى أَنْ يَأْخُذَ الزَّوْجُ مَا نَحَلَهُ
الزَّوْجَةَ فِي حَالَةِ النِّكَاحِ ؛ إذْ يَخْطُرُ لَهُ أَنَّك إنَّمَا كُنْت
أُعْطِيت عَلَى النِّكَاحِ ، وَقَدْ فَارَقْت فَأَنْتَ مَعْذُورٌ فِي أَخْذِك ؛
فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } وَجَوَّزَهُ عِنْدَ مُسَامَحَةِ الْمَرْأَةِ
بِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا
فَكُلُوهُ } وَحَلَّلَ أَخْذَ النِّصْفِ بِوُقُوعِ الْفِرَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } وَطِيبُهُ عِنْدَ
عَفْوِهَا أَوْ عَفْوِ صَاحِبِ الْعُقْدَةِ عَنْ جَمِيعِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { إلَّا أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : تُعَلَّقُ مَنْ رَأَى اخْتِصَاصَ الْخُلْعِ بِحَالَةِ
الشِّقَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ } فَشُرِطَ ذَلِكَ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَمْ يَذْكُرْهُ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ
مِنْ أَحْوَالِ الْخُلْعِ ؛ فَخَرَجَ الْقَوْلُ عَلَى الْغَالِبِ وَلَحِقَ
النَّادِرُ بِهِ ، كَالْعِدَّةِ وُضِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، ثُمَّ لَحِقَ
بِهَا الْبَرِيَّةُ الرَّحِمِ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ وَالْيَائِسَةُ ، وَاَلَّذِي
يَقْطَعُ الْعُذْرَ وَيُوجِبُ الْعِلْمَ قَوْلُهُ : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ
شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } فَإِذَا أَعْطَتْك مَالَهَا
بِرِضَاهَا مِنْ صَدَاقٍ وَغَيْرِهِ فَخُذْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : هَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ ، خِلَافًا لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ
إنَّهُ فَسْخٌ .
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فَسْخًا لَمْ
يُعَدَّ طَلْقَةً .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ
الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ ، وَذَكَرَ الْخُلْعَ بَعْدَهُ ، وَذَكَرَ الثَّالِثَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ
مَذْكُورٍ فِي مَعْرِضِ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يُعَدُّ طَلَاقًا لِوُقُوعِ الزِّيَادَةِ
عَلَى الثَّلَاثِ لَمَا كَانَ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
طَلَاقًا ، لِأَنَّهُ يَزِيدُ بِهِ عَلَى الثَّلَاثِ ، وَلَا يَفْهَمُ هَذَا إلَّا
غَبِيٌّ أَوْ مُتَغَابٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { الطَّلَاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَإِنْ وَقَعَ
شَيْءٌ مِنْ هَذَا الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ
دُونَ الثَّالِثَةِ الَّتِي هِيَ { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ ؛ فَلَا جُنَاح عَلَيْهِ فِيهِ ، فَإِنَّ طَلَّقَهَا ثَالِثَةً فَلَا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْره كَانَ بِفِدْيَةٍ أَوْ
بِغَيْرِ فِدْيَةٍ ،
وَقَدْ
بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : { تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : قِيلَ : هِيَ فِي النِّكَاحِ
خَاصَّةً ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ
.
الثَّانِي : أَنَّهَا الطَّاعَةُ ، يُرْوَى عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ .
وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ لَا يُطِيعُ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يُطِيعُ صَاحِبَهُ فِي اللَّهِ
فَلَا خَيْرَ لَهُمَا فِي الِاجْتِمَاعِ ، وَبِهِ أَقُولُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَالَ مَالِكٌ : الْمُبَارِئَةُ الْمُخَالِعَةُ بِمَالِهَا
قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَالْمُخَالِعَةُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ ،
وَالْمُفْتَدِيَةُ الْمُخَالِعَةُ بِبَعْضِ مَالِهَا ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ
يَدْخُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ فَالْأَكْثَرُ
أَنَّهُ يَجُوزُ الْخُلْعُ بِالْبَعْضِ مِنْ مَالِهَا ، وَبِالْكُلِّ بِأَنْ
تَزِيدَهُ عَلَى مَا لَهَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهَا الْمُخْتَصُّ بِهَا مَا شَاءَتْ
إذَا كَانَ الضَّرَرُ مِنْ جِهَتِهَا
.
وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا
أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا ، مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ ،
وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ
قَيْسٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ بِجَمِيعِ مَا أَعْطَاهَا ، وَعُمُومُ
الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
{ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } فَكُلُّ مَا كَانَ فِدَاءً
فَجَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَلَا تَعْتَدُوهَا } بَيَّنَ تَعَالَى أَحْكَامَ النِّكَاحِ وَالْفِرَاقِ ، ثُمَّ
قَالَ تَعَالَى : تِلْكَ حُدُودِي الَّتِي أَمَرْت بِامْتِثَالِهَا فَلَا تَعْتَدُوهَا
، كَمَا بَيَّنَ تَحْرِيمَاتِ الصِّيَامِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ قَالَ :
تِلْكَ حُدُودِي فَلَا تَقْرَبُوهَا ، فَقَسَّمَ الْحُدُودَ قِسْمَيْنِ : مِنْهَا
حُدُودُ الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ ، وَحُدُودُ النَّهْيِ بِالِاجْتِنَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : احْتَجَّ
مَشْيَخَةُ خُرَاسَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ
يَلْحَقَهَا الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ
لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } قَالُوا : فَشَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى صَرِيحَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْمُفَادَاةِ بِالطَّلَاقِ ؛ وَإِنَّمَا
قُلْنَا بَعْدَهَا لِأَنَّ الْفَاءَ حَرْفُ تَعْقِيبٍ .
قُلْنَا : مَعْنَاهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ تَعْتَدَّ
، لِأَنَّهُ شَرَعَ قَبْلَ الِابْتِدَاءِ بِطَلَاقَيْنِ فَيَكُونُ الِابْتِدَاءُ
ثَالِثَةً
، وَلَا طَلَاقَ بَعْدَهَا لِيَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَيْهَا ، وَيَكُونُ مُعَقِّبًا
بِهِ ، فَالصَّرِيحُ الْمَذْكُورُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاقَبَةِ مَعْنَاهُ إنْ
لَمْ يَكُنْ فِدَاءً وَلَكِنْ كَانَ صَرِيحًا ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى شَرَعَ طَلْقَتَيْنِ صَرِيحَتَيْنِ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُمَا إمْسَاكًا
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ ، إمَّا بِالتَّرْكِ لِتَبِينَ ، وَإِمَّا
بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ ، فَيَكُونُ تَمْلِيكًا لِلثَّالِثَةِ ؛ فَإِنْ
افْتَدَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ تَفْتَدِ وَطَلَّقَهَا
كَانَ كَذَا ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ ، فَيَكُونُ بَيَانًا لِكَيْفِيَّةِ
التَّصَرُّفِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مِلْكِ الثَّالِثَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : حَرْفُ الْفَاءِ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ
وَقَدْ رُتِّبَ الصَّرِيحُ عَلَى الْفِدَاءِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } ثُمَّ قَالَ : { فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أَيْ فِيمَا فَدَتْ بِهِ نَفْسَهَا مِنْ
نِكَاحِهَا بِمَالِهَا ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ طَلَاقٍ فَتَكُونُ
الْمُفَادَاةُ طَلَاقًا بِمَالٍ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى
: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } حَتَّى لَا يَلْزَمَنَا تَرْكُ الْقَوْلِ
بِالتَّرْتِيبِ الَّذِي يَقْتَضِيه حَرْفُ الْفَاءِ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَسَاقُ
الْآيَةِ ، لِأَنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ عَدَدِ الطَّلَاقِ وَأَحْكَامِ
الْوَاقِعِ مِنْهُ ؛ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْعَدَدَ ثَلَاثٌ ، وَأَنَّ
الصَّرِيحُ لَا يَمْنَعَ وُقُوعَ آخَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَرَّتَانِ }
وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الرَّجْعَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ } وَلَا إيقَاعَ الثَّالِثَةِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ : {
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْوُقُوعَ بِبَدَلٍ وَلَا
حُكْمِ مَا بَعْدَهُ ، فَتَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أَنَّ الِافْتِدَاءَ بِالْمَالِ عَنْ النِّكَاحِ جَائِزٌ
، وَطَلَاقٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ بَعْدَهُ ، فَإِنَّهُ لَمْ
يَذْكُرْ بَعْدَهُ رَجْعَةً ؛ فَالْآيَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ
جُمْلَةٍ
، فَيَكُونُ التَّرْكُ بَيَانًا .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } فَبَيَّنَ
أَنَّ الصَّرِيحَ يَقَعُ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِمَالٍ .
قُلْنَا :
هَذَا تَطْوِيلٌ لَيْسَ وَرَاءَهُ تَحْصِيلٌ ؛ إنَّمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } بِمَا قَدْ تَرَدَّدَ فِي كَلَامِنَا .
جُمْلَتُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ مَحْصُورٌ فِي ثَلَاثٍ ، وَأَنَّ
لِلزَّوْجِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ الرَّجْعَةَ ، وَأَنَّ الثَّالِثَةَ
تُحَرِّمُهَا إلَى غَايَةٍ ، وَتُبَيِّنَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْرِيمَ أَخْذِ
الصَّدَاقِ إلَّا بَعْدَ رِضَا الْمَرْأَةِ لِمَا قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهَا
وَاسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، وَأَحْكَمَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي أَنْ
يَقُولَ : تَأْخُذُ بِمِقْدَارِ مُتْعَتِي ، وَآخُذُ بِمَا بَقِيَ لِي ،
وَأَوْضَحَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَفُكَّ نَفْسَهَا مِنْ رِقِّ النِّكَاحِ
بِمَالِهَا مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهُ فِي الْأُولَى أَوْ
الثَّانِيَةِ ؛ أَوْ الثَّالِثَةِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ أَعْدَادِ
الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالْمَرَّتَيْنِ وَالتَّسْرِيحِ : { فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } كَيْفَمَا كَانَ الْفِدَاءُ ؛ فَكَانَ
بَيَانًا لِجَوَازِ الْفِدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ كُلِّهَا لَا فِي مَحِلٍّ
مَخْصُوصٍ مِنْهَا بِأُولَى أَوْ ثَانِيَةٍ أَوْ ثَالِثَةٍ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَأَمَّا تَحْرِيمُ الرَّجْعَةِ فِي
طَلَاقِ الْخُلْعِ فَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، إنَّمَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ
تَحْرِيمَهَا بِالثَّالِثَةِ ، أَوْ بِالثَّلَاثِ ، فَأَمَّا سُقُوطُ الرَّجْعَةِ
فِي الْمُفَادَاةِ فَمَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، وَهُوَ حَدِيثُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَمَعْنَاهُ وَفَرَّقَهُ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الصَّرِيحَ يَقَعُ
بَعْدَ الطَّلَاقِ ، فَنَقُولُ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ فِي مَحَلِّهِ ؛ أَلَا تَرَى
أَنَّ الْعِدَّةَ لَوْ انْقَضَتْ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ ثَانٍ ، وَلَا يَقَعُ إذَا
خَالَعَهَا فِي الْأُولَى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ .
جَوَابٌ رَابِعٌ : قَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا
تَقْدِيرَ الْآيَةِ وَنَظْمَ مَسَاقِهَا بِمَا يَقْتَضِيه لَفْظُهَا ، لَا بِمَا
لَا يَقْتَضِيه وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلُوا ؛ فَقَارِنُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَجِدُوا الْبَوْنَ بَيِّنًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ
وَالسِّتُّونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ
بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وَفِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ
لَهُ مِنْ بَعْدُ } قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ
ثَلَاثًا لِلْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مِنْ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا
الثَّانِي ؛ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَالنِّكَاحُ الْعَقْدُ .
قَالَ : وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ لَهُ : بَلْ هُوَ الْوَطْءُ ، وَلَفْظُ النِّكَاحِ قَدْ
وَرَدَ بِهِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى جَمِيعًا ، فَمَا بَالُهُ خَصَّصَهُ
هَاهُنَا بِالْعَقْدِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ ؛
لِأَنَّهُ شَرَطَ الْإِنْزَالَ وَأَنْتُمْ لَا تَشْتَرِطُونَهُ إنَّمَا شَرَطَ
ذَوْقَ الْعُسَيْلَةِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ، هَذَا
لُبَابُ كَلَامِ عُلَمَائِنَا .
قَالَ الْقَاضِي : مَا مَرَّ بِي فِي الْفِقْهِ مَسْأَلَةٌ
أَعْسَرُ مِنْهَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ هَلْ
يَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ أَوْ بِأَوَاخِرِهَا ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا
ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَفِي بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ .
فَإِنَّا قُلْنَا : إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ
بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ لَزَمَنَا مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَإِنَّ قُلْنَا : إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ
بِأَوَاخِرِ الْأَسْمَاءِ لَزِمَنَا أَنَّ نَشْتَرِطَ الْإِنْزَالُ مَعَ مَغِيبِ
الْحَشَفَةِ فِي الْإِحْلَالِ ، لِأَنَّهُ آخِرُ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ ،
وَلِأَجَلِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا
بِإِذْنِهَا ؛ فَصَارَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنْ الْإِشْكَالِ ،
وَأَصْحَابُنَا يُهْمِلُونَ ذَلِكَ وَيَمْحُونَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ
حَقَقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ
إلَيْهَا ، وَلَنَا لَوْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَرَى هَذَا مَعَ
قَوْلِهِ : إنَّ
النِّكَاحَ الْعَقْدُ لَجَازَ لَهُ ؛ وَأَمَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ الَّذِينَ نَرَى
أَنَّ النِّكَاحَ هَاهُنَا هُوَ الْوَطْءُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال لَكُمْ
مَعَنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ .
فَإِنْ قِيلَ
: الْقُرْآنُ اقْتَضَى تَحْرِيمَهَا إلَى الْعَقْدِ ،
وَالسُّنَّةُ لَمْ تُبَدِّلْ لَفْظَ النِّكَاحِ وَلَا نَقَلَتْهُ عَنْ الْعَقْدِ
إلَى الْوَطْءِ ، إنَّمَا زَادَتْ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ الْوَطْءُ .
قُلْنَا
: إذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ مَعْنَيَيْنِ
فَأَثْبَتَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا فَلَا يُقَالُ إنَّ
الْقُرْآنَ اقْتَضَى أَحَدَهُمَا وَزَادَتْ السُّنَّةُ الثَّانِيَ ؛ إنَّمَا
يُقَالُ : إنَّ السُّنَّةَ أَثْبَتَتْ الْمُرَادَ مِنْهُمَا ، وَالْعُدُولُ عَنْ هَذَا
جَهْلٌ بِالدَّلِيلِ أَوْ مُرَاغَمَةٌ وَعِنَادٌ فِي التَّأْوِيلِ .
قَوْله تَعَالَى
: { وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا
لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا
آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { بَلَغْنَ } : مَعْنَاهُ قَارَبْنَ الْبُلُوغَ ؛
لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ أَجَلَهُ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَانْقَطَعَتْ
رَجْعَتُهُ ؛ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ جُعِلَ لَفْظُ بَلَغَ بِمَعْنَى قَارَبَ ،
كَمَا يُقَالُ : إذَا بَلَغْت مَكَّةَ فَاغْتَسِلْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ } : هُوَ الرَّجْعَةُ مَعَ الْمَعْرُوفِ مُحَافَظَةً عَلَى حُدُودِ
اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } : يَعْنِي
طَلِّقُوهُنَّ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ
التَّصْرِيحِ فِي الطَّلَاقِ ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ : طَلَاقٌ ، وَسَرَاحٌ ،
وَفِرَاقٌ .
وَفَائِدَتُهَا عِنْدَهُ أَنَّهَا لَا تُفْتَقَرُ إلَى
النِّيَّةِ ؛ بَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِذَكَرِهَا مُجَرَّدَةً عَنْ النِّيَّةِ .
وَعِنْدَنَا أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ الَّذِي لَا
يُفْتَقَرُ إلَى النِّيَّةِ نَيَّفَ عَلَى عَشَرَةِ أَلْفَاظٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِيُبَيِّنَ بِهَا عَدَدَ الصَّرِيحِ ؛
وَإِنَّمَا دَخَلَتْ لِبَيَانِ أَحْكَامٍ عُلِّقَتْ عَلَى الطَّلَاقِ ، فَلَا
تُسْتَفَادُ مِنْهُ ، مَا لَمْ يَذْكُرْ لِأَجَلِهِ وَلَا فِي مَوْضِعِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ ، وَلَا
يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ هَاهُنَا : { أَوْ سَرِّحُوهُنَّ } صَرِيحًا فِي
الطَّلَاقِ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : {
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أَيْ أَرْجِعُوهُنَّ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا عَلَى
مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمَعْنَى {
أَوْ سَرِّحُوهُنَّ } أَيْ اُتْرُكُوا الِارْتِجَاعَ ،
فَسَتُسَرَّحُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَ
إحْدَاثَ طَلَاقٍ بِحَالٍ ، وَقَدْ يَكُونُ الطَّلَاقُ الَّذِي كَانَتْ عَنْهُ الْعِدَّةُ
مَكَانَهُ ، فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { سَرِّحُوهُنَّ } مَعْنًى .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : حُكْمُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ : أَنَّ لِلزَّوْجِ إذَا لَمْ
يَجِدْ مَا يُنْفِقُ عَلَى الزَّوْجَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَرَجَ
عَنْ حَدِّ الْمَعْرُوفِ ، فَيُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنْ أَجْلِ
الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهَا فِي بَقَائِهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى
نَفَقَتِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَاجِزُ عَنْ
النَّفَقَةِ لَا يُمْسِكُ بِالْمَعْرُوفِ ، فَكَيْفَ تُكَلِّفُونَهُ أَنْتُمْ
غَيْرَ الْمَعْرُوفِ ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ ، وَلَا يَجُوزُ تَكْلِيفُ مَا لَا
يُطَاقُ ؟ قُلْنَا : إذَا لَمْ يُطِقْ الْإِنْفَاقَ بِالْمَعْرُوفِ أَطَاقَ
الْإِحْسَانَ بِالطَّلَاقِ ، وَإِلَّا فَالْإِمْسَاكُ مَعَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ
ضِرَارُ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ : { تَقُولُ
لَك زَوْجُك : أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا طَلِّقْنِي .
وَيَقُولُ لَك عَبْدُك : أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا
بِعْنِي .
وَيَقُولُ لَك ابْنُك : أَنْفِقْ عَلَيَّ ، إلَى مَنْ
تَكِلُنِي .
}
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِقَصْدِ
الرَّغْبَةِ ، فَإِنْ قَصَدَ أَنْ يَمْنَعَهَا النِّكَاحَ وَيَقْطَعَ بِهَا فِي
أَمَلِهَا مِنْ غَيْرِ رَغْبَةِ اعْتِدَاءٍ عَلَيْهَا فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ،
فَلَوْ عَرَفْنَا ذَلِكَ نَقَضْنَا رَجْعَتَهُ ، وَإِذَا لَمْ نَعْرِفْ نَفَذَتْ ،
وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَاهُ لَا
تَأْخُذُوا أَحْكَامَ اللَّهِ فِي طَرِيقِ الْهُزْءِ ، فَإِنَّهَا جَدٌّ كُلُّهَا
، فَمَنْ هَزَأَ بِهَا لَزِمَتْهُ
.
وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَسْتَعْمِلُ إلَّا بِطَرِيقِ
الْقَصْدِ إلَى اتِّخَاذِهَا هُزُوًا ؛ فَأَمَّا لُزُومُهَا عِنْدَ اتِّخَاذِهَا
هُزُوًا فَلَيْسَتْ مِنْ قُوَّةِ اللَّفْظِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ
جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَمِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا مَا رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ
طَالِقٌ مِائَةً .
فَقَالَ : يَكْفِيك مِنْهَا ثَلَاثٌ ، وَالسَّبْعَةُ
وَالتِّسْعُونَ اتَّخَذْت بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا .
فَمِنْ اتِّخَاذِهَا هُزُوًا عَلَى هَذَا مُخَالَفَةُ
حُدُودِهَا فَيُعَاقَبُ بِإِلْزَامِهَا ، وَعَلَى هَذَا يَتَرَكَّبُ طَلَاقُ
الْهَازِلِ ؛ وَلَسْت أَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ فِي لُزُومِهِ ؛
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي نِكَاحِ الْهَازِلِ ؛ فَقَالَ عَنْهُ
عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ : لَا يَلْزَمُ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَرِّجَ عَلَى هَذَا
طَلَاقَ الْهَازِلِ فَهُوَ ضَعِيفُ النَّظَرِ ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ نِكَاحِ الْهَازِلِ
يُوجِبُ إلْزَامَ طَلَاقِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْلِيبَ التَّحْرِيمِ فِي الْبُضْعِ
عَلَى التَّحْلِيلِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى
الْإِبَاحَةِ فِيهِ إذَا عَارَضَتْهُ
.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ
سَبْعِينَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا
بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
: قَوْله تَعَالَى : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } وَالْبُلُوغُ هَاهُنَا حَقِيقَةٌ لَا
مَجَازَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ قَارَبْنَ الْبُلُوغَ كَمَا فِي الْآيَةِ
قَبْلِهَا لَمَا خَرَجَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ عَنْ حُكْمِ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ
، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ } تَبَيَّنَ أَنَّ الْبُلُوغَ قَدْ
وَقَعَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ
الرَّجْعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ } الْعَضْلُ يَتَصَرَّفُ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إلَى الْمَنْعِ
، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا ؛ فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَ الْمَرْأَةِ
مِنْ مَنْعِهَا عَنْ نِكَاحِ مَنْ تَرْضَاهُ .
وَهَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا
حَقَّ لَهَا فِي مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ الْوَلِيِّ ،
خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ
مَنْعِهَا .
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ لَهُ
أُخْتٌ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا ،
فَأَبَى مَعْقِلٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ، وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ حَقٌّ لَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
لَا كَلَامَ لِمَعْقِلٍ فِي ذَلِكَ
.
وَفِي الْآيَةِ أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَقْطَعُهَا هَذَا
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : السَّبَبُ الَّذِي رَوَيْتُمْ يُبْطِلُ
نَظْمَ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ إذَا كَانَ هُوَ الْمُنْكِحَ فَكَيْفَ
يُقَالُ لَهُ : لَا تَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ نَفْسِك ، وَهَذَا مُحَالٌ .
قُلْنَا : لَيْسَ كَمَا ذَكَرْتُمْ ، لِلْمَرْأَةِ حَقُّ
الطَّلَبِ لِلنِّكَاحِ ، وَلِلْوَلِيِّ حَقُّ الْمُبَاشَرَةِ لِلْعِقْدِ ؛ فَإِذَا
أَرَادَتْ مَنْ يُرْضَى حَالُهُ ، وَأَبَى الْوَلِيُّ مِنْ الْعَقْدِ فَقَدْ
مَنَعَهَا
مُرَادَهَا
، وَهَذَا بَيِّنٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا
تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } يَعْنِي إذَا كَانَ لَهَا كُفُؤًا ، لِأَنَّ
الصَّدَاقَ فِي الثَّيِّبِ الْمَالِكَةِ أَمْرَ نَفْسِهَا لَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ
فِيهِ ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ثَيِّبٍ مَالِكَةٍ أَمْرَ نَفْسِهَا ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ الْمَعْرُوفَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هُوَ الْكَفَاءَةُ ، وَفِيهَا حَقٌّ
عَظِيمٌ لِلْأَوْلِيَاءِ ، لَمَا فِي تَرْكِهَا مِنْ إدْخَالِ الْعَارِ عَلَيْهِمْ
؛ وَذَلِكَ إجْمَاعٌ مِنْ الْأُمَّةِ
.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ
وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ
بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ
تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ
بِالْمَعْرُوفِ } هَذِهِ الْآيَةُ عُضْلَةٌ وَلَا يُتَخَلَّصُ مِنْهَا إلَّا
بِجُرَيْعَةِ الذَّقَنِ مَعَ الْغَصَصِ بِهَا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ ؛ وَفِيهَا
خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَقَلُّ الْحَمْلِ سِتَّةُ
أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ
شَهْرًا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } فَإِذَا أَسْقَطَتْ
حَوْلَيْنِ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بَقِيَتْ مِنْهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ؛ وَهِيَ
مُدَّةُ الْحَمْلِ ؛ وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي فَائِدَةِ
هَذَا التَّقْدِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ
: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ إذَا وَلَدَتْ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ حَوْلَيْنِ ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ
أَرْضَعَتْ وَاحِدًا وَعِشْرِينَ شَهْرًا ، وَهَكَذَا تَتَدَاخَلُ مُدَّةُ
الْحَمْلِ وَمُدَّةُ الرَّضَاعِ ، وَيَأْخُذُ الْوَاحِدُ مِنْ الْآخَرِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا اخْتَلَفَ الْأَبَوَانِ
فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ فَالْفَصْلُ فِي فِصَالِهِ مِنْ الْحَاكِمِ حَوْلَانِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ ،
وَأَكْثَرُهُ مَحْدُودٌ بِحَوْلَيْنِ مَعَ التَّرَاضِي بِنَصِّ الْقُرْآنِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : إذَا زَادَتْ الْمَرْأَةُ فِي رَضَاعِهَا عَلَى مُدَّةِ الْحَوْلَيْنِ
؛ وَقَعَ الرَّضَاعُ مَوْقِعَهُ إلَى أَنْ يَسْتَقِلَّ الْوَلَدُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : لَوْ زَادَتْ
لَحْظَةً مَا اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي حُكْمٍ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا حَدًّا
مُؤَقَّتًا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ إنْ وُجِدَتْ
لَمَا أَوْقَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِرَادَةِ كَسَائِرِ الْأَعْدَادِ الْمُؤَقَّتَةِ
فِي الشَّرِيعَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُرِيدُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ .
وَقَالَ زُفَرُ : ثَلَاثَ سِنِينَ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ
تَحَكُّمٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ أَمَدِ الْفِطَامِ
عُرْفًا لَحِقَ بِهِ وَمَا بَعُدَ مِنْهُ خَرَجَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ ؛
وَفِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ تَتِمَّةُ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى
الْوَالِدِ لِعَجْزِهِ وَضَعْفِهِ ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَى
يَدَيْ أَبِيهِ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ ؛ وَسَمَّى اللَّهُ
تَعَالَى الْأُمَّ لِأَنَّ الْغِذَاءَ يَصِلُ إلَيْهِ بِوَسَاطَتِهَا فِي
الرَّضَاعَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ } لِأَنَّ الْغِذَاءَ لَا يَصِلُ إلَى الْحَمْلِ إلَّا
بِوَسَاطَتِهِنَّ فِي الرَّضَاعَةِ ؛ وَهَذَا بَابٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ،
وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ مِثْلُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِالْمَعْرُوفِ
} يَعْنِي عَلَى قَدْرِ حَالِ الْأَبِ مِنْ السَّعَةِ وَالضِّيقِ ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } وَمِنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ
أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا جَوَازَ إجَارَةِ الظِّئْرِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ ،
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَنْكَرَهُ صَاحِبَاهُ ، لِأَنَّهَا إجَارَةٌ مَجْهُولَةٌ
فَلَمْ تَجُزْ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ بِهِ عَلَى عَمَلِ الْآخَرِ ، وَذَلِكَ
عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ ، وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
أَصْلٌ فِي الِارْتِضَاعِ ، وَفِي كُلِّ عَمَلٍ ، وَحُمِلَ عَلَى الْعُرْفِ
وَالْعَادَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلُ .
وَلَوْلَا أَنَّهُ مَعْرُوفٌ مَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْمَعْرُوفِ .
فَإِنْ قِيلَ : الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ
أَنَّهُ قُدِّرَ بِحَالِ الْأَبِ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى
رَسْمِ الْأُجْرَةِ لَمْ يَخْتَلِفْ كَبَدَلِ سَائِرِ الْأَعْوَاضِ .
قُلْنَا : قَدَّرُوهُ بِالْمَعْرُوفِ أَصْلًا فِي
الْإِجَارَاتِ ، وَنَوْعُهُ بِالْيَسَارِ وَالْإِقْتَارِ رِفْقًا ؛ فَانْتَظَمَ
الْحُكْمَانِ ، وَاطَّرَدَتْ الْحِكْمَتَانِ .
وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَرَى تَمَامَ ذَلِكَ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
} اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ هُوَ حَقٌّ لَهَا أَمْ هُوَ حَقٌّ عَلَيْهَا ؟
وَاللَّفْظُ مُحْتَمَلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّصْرِيحَ بِقَوْلِهِ (
عَلَيْهَا ) لَقَالَ : وَعَلَى الْوَالِدَاتِ إرْضَاعُ أَوْلَادِهِنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ } لَكِنَّ هُوَ عَلَيْهَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَهُوَ
عَلَيْهَا إنْ لَمْ يَقْبَلْ غَيْرُهَا ، وَهُوَ عَلَيْهَا إذَا عُدِمَ الْأَبُ
لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَقُولُ لَك الْمَرْأَةُ :
أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا طَلِّقْنِي ، وَيَقُولُ لَك الْعَبْدُ : أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي
، وَيَقُولُ لَك ابْنُك : أَنْفِقْ عَلَيَّ ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي .
} وَلِمَالِكٍ فِي الشَّرِيفَةِ رَأْيٌ خَصَّصَ بِهِ
الْآيَةَ فَقَالَ : إنَّهَا لَا تُرْضِعُ إذَا كَانَتْ شَرِيفَةً .
وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُصْلِحَةِ الَّتِي مَهَّدْنَاهَا
فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
الْحَضَانَةُ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأُمِّ وَالنُّصْرَةُ لِلْأَبِ ،
لِأَنَّ الْحَضَانَةَ مَعَ الرَّضَاعِ ، وَمَسَائِلُ الْبَابِ تَأْتِي فِي سُورَةِ
الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا
مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } الْمَعْنَى لَا تَأْبَى الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ
إضْرَارًا بِأَبِيهِ ، وَلَا يَحِلُّ لِلْأَبِ أَنْ يَمْنَعَ الْأُمَّ مِنْ ذَلِكَ
؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ ؛ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذِكْرَ
ذَلِكَ جَاءَ عِنْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ ، فَكَانَ بَيَانًا لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ إذَا كَانَ بَاقِيًا
ثَابِتًا فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لِأَجَلِهِ ، وَلَا تُسْتَوْجَبُ الْأُمُّ
زِيَادَةٌ عَلَيْهَا لِأَجَلِ رَضَاعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يُرْضِعَ الِابْنَ غَيْرُ الْأُمّ وَهِيَ فِي الْعِصْمَةِ لِتَتَفَرَّغَ لَهُ جَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَخْتَصَّ بِهِ إذَا كَانَ يَقْبَلُ غَيْرَهَا ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْأَبِ ؛ بَلْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ غِيَالِ الِابْنِ ، فَاجْتِمَاعُ الْفَائِدَتَيْنِ يُوجِبُ عَلَى الْأُمِّ إسْلَامَ الْوَلَدِ إلَى غَيْرِهَا ، وَلِمَا فِي الْآيَةِ مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي أَنَّهُ حَقٌّ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ ، وَهَذَا كَلَامُ تَشْمَئِزُّ مِنْهُ
قُلُوبُ الْغَافِلِينَ ، وَتَحَارُ فِيهِ أَلْبَابُ الشَّادِينَ ، وَالْأَمْرُ
فِيهِ قَرِيبٌ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : لَوْ ثَبَتَتْ مَا نَسَخَهَا إلَّا مَا كَانَ
فِي مَرْتَبَتِهَا ، وَلَكِنَّ وَجْهَهُ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ
الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ كَانُوا يُسَمُّونَ التَّخْصِيصَ نَسْخًا ؛ لِأَنَّهُ
رَفْعٌ لِبَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ وَمُسَامَحَةٌ ، وَجَرَى ذَلِكَ فِي
أَلْسِنَتِهِمْ حَتَّى أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، وَهَذَا يَظْهَرُ
عِنْدَ مِنْ ارْتَاضَ بِكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَثِيرًا .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ
رَدَّهُ إلَى جَمِيعِهِ مِنْ إيجَابِ النَّفَقَةِ وَتَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ ،
مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، وَمِنْ السَّلَفِ قَتَادَةُ
وَالْحَسَنُ ، وَيُسْنَدُ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَوْجَبُوا عَلَى
قَرَابَةِ الْمَوْلُودِ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ نَفَقَتَهُ إذَا عَدِمَ أَبُوهُ فِي
تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ لَا مَعْنَى لَهُ
.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءَ : إنَّ قَوْله تَعَالَى
: { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } لَا يَرْجِعُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ
كُلِّهِ ؛ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ .
الْمَعْنَى : وَعَلَى الْوَارِثِ مِنْ تَحْرِيمِ
الْإِضْرَارِ بِالْأُمِّ مَا عَلَى الْأَبِ .
وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ ؛ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ
يُرْجِعُ الْعَطْفَ فِيهِ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ؛
وَهُوَ يَدَّعِي عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ، وَلَا
يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ
تَرَاضٍ مِنْهُمَا } الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ مُدَّةَ
الرَّضَاعِ حَوْلَيْنِ بَيَّنَ أَنَّ فِطَامَهَا هُوَ الْفِطَامُ ، وَفِصَالَهَا
هُوَ الْفِصَالُ ، لَيْسَ لِأَحَدٍ عَنْهُ مَنْزَعٌ ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ
الْأَبَوَانِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ مُضَارَّةٍ
بِالْوَلَدِ ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِهَذَا الْبَيَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : هَذَا يَدُلُّ
عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى جَعَلَ لِلْوَالِدَيْنِ التَّشَاوُرَ وَالتَّرَاضِيَ فِي الْفِطَامِ
فَيَعْمَلَانِ عَلَى مُوجِبِ اجْتِهَادِهِمَا فِيهِ ، وَتَتَرَتَّبُ الْأَحْكَامُ
عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ } هَذَا عِنْدَ خِيفَةِ
الضَّيْعَةِ عَلَى الْوَلَدِ عِنْد الْأُمِّ وَالتَّقْصِيرِ أَوْ الْإِضْرَارِ
بِالْوَلَدِ فِي اشْتِغَالِ الْأُمِّ عَنْ حَقِّهِ بِوَلَدِهَا ، أَوْ
الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ فِي الِاغْتِيَالِ وَنَحْوِهِ ؛ فَإِنْ اخْتَلَفُوا
نُظِرَ لِلصَّبِيِّ ، فَإِنْ أَوْجَبَ النَّظَرُ أَنْ يُسْتَرْضَعَ لَهُ اُسْتُرْضِعَ
، إذَا أَعْطَى الْمُرْضَعَ حَقَّهُ مِنْ أُمٍّ أَوْ ظِئْرٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا كَانَتْ الْحَضَانَةُ لِلْأُمِّ
فِي الْوَلَدِ تَمَادَتْ إلَى الْبُلُوغِ فِي الْغُلَامِ وَإِلَى النِّكَاحِ فِي
الْجَارِيَةِ ؛ وَذَلِكَ حَقٌّ لَهَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا عَقَلَ مَيَّزَ وَخَيَّرَ بَيْنَ
أَبَوَيْهِ ، لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ
امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ
لَهُ : زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي ، وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي
مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ .
فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَالَ : مَنْ يُحَاقُّنِي فِي
ابْنِي ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا
غُلَامُ ؛ هَذَا أَبُوك ، وَهَذِهِ أُمُّك ؛ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْت .
فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ } .
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اسْتَهِمَا عَلَيْهِ .
فَلَمَّا قَالَ زَوْجُهَا : مَنْ يُحَاقُّنِي عَلَيْهِ ؟
خَيَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَاخْتَارَ أُمَّهُ .
} وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ : إنَّ ابْنِي كَانَ ثَدْيِي لَهُ
سِقَاءً ، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً ؛ وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي ، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ
مِنِّي .
فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي .
} وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ لِلْخَالَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ
، وَالْأُمُّ أَحَقُّ بِهِ مِنْهَا
.
وَالْمَعْنَى يَعْضِدهُ ؛ فَإِنَّ الِابْنَ قَدْ أَنِسَ
بِهَا فَنَقْلُهُ عَنْهَا إضْرَارٌ بِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : مُعْضِلَةٌ قَالَ مَالِكٌ : كُلُّ أُمٍّ يَلْزَمُهَا
رَضَاعُ وَلَدِهَا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ
فِيهَا ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا دُونَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ اسْتَثْنَى الْحَسِيبَةَ
، فَقَالَ : لَا يَلْزَمُهَا إرْضَاعُهُ ، فَأَخْرَجَهَا مِنْ الْآيَةِ ،
وَخَصَّهَا فِيهَا بِأَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهُوَ الْعَمَلُ
بِالْمَصْلَحَةِ ، وَهَذَا فَنٌّ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ مَالِكِيٌّ .
وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَالْأَصْلُ الْبَدِيعُ فِيهِ هُوَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ
كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي ذَوِي الْحَسَبِ ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ
فَلَمْ يُغَيِّرْهُ ؛ وَتَمَادَى ذَوُو الثَّرْوَةِ وَالْأَحْسَابِ عَلَى
تَفْرِيغِ الْأُمَّهَاتِ لِلْمُتْعَةِ بِدَفْعِ الرُّضَعَاءِ إلَى الْمَرَاضِعِ
إلَى زَمَانِهِ ، فَقَالَ بِهِ ، وَإِلَى زَمَانِنَا ؛ فَحَقَقْنَاهُ شَرْعًا .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
وَالسَّبْعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ
فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فِيهَا
اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي نَسْخِهَا
قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا
: أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ
إخْرَاجٍ } وَكَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَوْلًا ، كَمَا
كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ؛ قَالَهُ الْأَكْثَرُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَتَاعًا إلَى
الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ ؛ رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ
.
وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّل كَمَا
حَقَّقْنَاهُ فِي الْقِسَمِ الثَّانِي مِنْ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ "
عَلَى وَجْهِ نُكْتَتِهِ عَلَى مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ
الزُّبَيْرِ قَالَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً
لِأَزْوَاجِهِمْ } نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبْهَا ؟ قَالَ :
يَا ابْنَ أَخِي ؛ لَا أُغَيِّرَ مِنْهُ شَيْئًا عَنْ مَكَانِهِ ، وَقَدْ قَالَ
الْأَئِمَّةُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ
لِلْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ حِينَ قُتِلَ زَوْجُهَا : اُمْكُثِي
فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } فَتَقَرَّرَ مِنْ هَذَا أَنَّ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ
بَيْتِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَبْقَى بِآيَةِ الْإِخْرَاجِ ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ
تَعَالَى بِالْآيَةِ الَّتِي فِيهَا التَّرَبُّصُ ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ لِلْفُرَيْعَةِ بِالْمُكْثِ
فِي
بَيْتِهَا ؛ فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلسُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : هَذَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ ، وَمَعْنَاهُ أَيْضًا مَعْنَى
الْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْمَعْنَى :
{ وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
يَعْنِي شَرْعًا ؛ فَمَا وُجِدَ مِنْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَمْ تَتَرَبَّصْ
فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ " فَجَرَى الْخَبَرُ عَلَى لَفْظِهِ ،
وَثَبَتَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى صِدْقِهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي
التَّرَبُّصِ بِالْقُرْءِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : التَّرَبُّصُ : هُوَ
الِانْتِظَارُ ، وَمُتَعَلَّقُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : النِّكَاحُ ، وَالطِّيبُ
وَالتَّنَظُّفُ ، وَالتَّصَرُّفُ وَالْخُرُوجُ .
أَمَّا النِّكَاحُ ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْمُتَوَفَّى
عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِلَحْظَةٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ .
الثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا بِانْقِضَاءِ
الْأَشْهُرِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
.
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا بَعْدَ الطُّهْرِ مِنْ
النِّفَاسِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ
وَالْأَوْزَاعِيِّ .
وَقَدْ كَانَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ظَاهِرًا لَوْلَا
حَدِيثُ { سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ
زَوْجِهَا بِلَيَالٍ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : قَدْ حَلَلْت ، فَانْكِحِي مَنْ شِئْت } صَحَّتْ رِوَايَةُ
الْأَئِمَّةِ لَهُ وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَوْ لَمْ يَكُنْ
لَمَا صَحَّ رَأْيُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخِرِ الْأَجَلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ
إذَا وُضِعَ فَقَدْ سَقَطَ الْأَجَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ } وَسَقَطَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لِأَجَلِهِ الْأَجَلُ ، وَهُوَ
مَخَافَةُ شَغْلِ الرَّحِمِ ؛ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْأَشْهُرِ ؟ وَإِذَا
تَمَّتْ الْأَشْهُرُ وَبَقِيَ الْحَمْلُ فَلَيْسَ يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّهَا
تَحِلُّ ؛ وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ حَدِيثَ سُبَيْعَةَ جَلَاءٌ لِكُلِّ
غُمَّةٍ ، وَعَلَا عَلَى كُلِّ رَأْيٍ وَهِمَّةٍ .
وَأَمَّا
قَوْلُ
الْأَوْزَاعِيِّ فَيَرُدُّهُ قَوْله تَعَالَى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَلَمْ يَشْتَرِطْ الطَّهَارَةَ .
فَإِنْ قِيلَ
: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُولَاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } الْمُطَلَّقَاتُ ؛
لِأَنَّهُ فِيهِنَّ وَرَدَ ، وَعَلَى ذِكْرِهِنَّ انْعَطَفَ .
قُلْنَا : عَطْفُهُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ لَا يُسْقِطُ
عُمُومَهُ ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي إيجَابِ
الْعِدَّةِ مِنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، وَأَنَّهَا قَدْ وُجِدَتْ قَطْعًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَدْ يَزْدَحِمُ عَلَى الرَّحِمِ وَطْآنِ فَتَكُونُ الْعِدَّةُ فِيهِمَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فِي مَسَائِلَ : مِنْهَا الْمَنْعِيُّ لَهَا يَقْدَمُ ثُمَّ يَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الثَّانِي ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ وَهِيَ حَامِلٌ فَطَلَّقَهَا الْأَوَّلُ فَلَا يُبْرِئُهَا الْوَضْعُ ، وَلْتَأْتَنِفْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَهُ ، وَهُوَ أَمْرٌ بَيِّنٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : أَمَّا الطِّيبُ وَالزِّينَةُ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ
أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ لَهَا احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ حِينَ مَاتَ
جَعْفَرٌ : أَمْسِكِي ثَلَاثًا ، ثُمَّ افْعَلِي مَا بَدَا لَك } وَهَذَا حَدِيثٌ
بَاطِلٌ .
رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ
أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ : إنَّ ابْنَتِي
تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا ، وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا أَفَتُكْحِلُهُمَا ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ، مَرَّتَيْنِ أَوْ
ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ
إحْدَاكُنَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ } .
قَالَتْ زَيْنَبُ : وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا
تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا لَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا ، وَدَخَلَتْ حِفْشًا
فَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ ،
حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ ، فَقَلَّ مَا تَفْتَضُّ
بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ، ثُمَّ
تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ وَغَيْرِهِ .
وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ أَسْمَاءَ فَقَدْ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : إنَّ التَّسَلُّبَ هُوَ لِبَاسُ الْحُزْنِ ، وَهُوَ مَعْنًى غَيْرُ
الْإِحْدَادِ .
وَأَمَّا الْخُرُوجُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : خُرُوجُ انْتِقَالٍ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ آيَةَ الْإِخْرَاجِ لَمْ تُنْسَخْ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .
الثَّانِي : خُرُوجُ الْعِبَادَةِ ، كَالْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ : يَحْجُجْنَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ
عَلَيْهِنَّ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ : لَا يَحْجُجْنَ ؛ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرُدُّ الْمُعْتَدَّاتِ مِنْ الْبَيْدَاءِ يَمْنَعُهُنَّ
الْحَجَّ ؛ فَرَأْيُ
عُمَرَ فِي
الْخُلَفَاءِ وَرَأْيُ مَالِكٍ فِي الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ عُمُومَ
فَرْضِ التَّرَبُّصِ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى عُمُومِ زَمَانِ
فَرْضِ الْحَجِّ ، لَا سِيَّمَا إنْ قُلْنَا إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي .
وَإِنْ قُلْنَا عَلَى الْفَوْرِ فَحَقُّ التَّرَبُّصِ آكَدُ
مِنْ حَقِّ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعِدَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ
لِلْآدَمِيِّ فِي صِيَانَةِ مَائِهِ وَتَحْرِيرِ نَسَبِهِ ؛ وَحَقُّ الْحَجِّ
خَاصٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ .
الثَّالِثُ : خُرُوجُهَا بِالنَّهَارِ لِلتَّصَرُّفِ
وَرُجُوعُهَا بِاللَّيْلِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ ، وَيَكُونُ
خُرُوجُهَا فِي السَّحَرِ وَرُجُوعُهَا عِنْدَ النَّوْمِ ، فَرَاعُوا الْمَبِيتَ
الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ السُّكْنَى وَمَقْصُودُهُ ، وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ حَقِيقَةُ
الْمَأْوَى .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ :
لَمْ يَرَ أَحَدٌ مَبِيتَ لَيْلَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ سُكْنَى لِلْبَائِتِ حَيْثُ بَاتَ
، وَلَا خُرُوجًا عَنْ السُّكْنَى ، فَمَا بَالُهُمْ فِي الْعِدَّةِ قَالُوا :
خُرُوجُ لَيْلَةٍ خُرُوجٌ ؟ قُلْنَا : الْمَعْنَى فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ
حَقَّ الْخُرُوجِ مُتَعَلَّقُ الْمَبِيتِ فَاحْتِيطَ لَهُ ، وَالْحَيُّ يَحْمِي
شَوْلَهُ مَعْقُولًا ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي
كُلِّ مُتَزَوِّجَةٍ ، مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا ، صَغِيرَةٍ
أَوْ كَبِيرَةٍ ، أَمَةٍ أَوْ حُرَّةٍ ، حَامِلٍ أَوْ غَيْرِ حَامِلٍ كَمَا
تَقَدَّمَ .
وَهِيَ خَاصَّةٌ فِي الْمُدَّةِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً
فَتَعْتَدُّ نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ إجْمَاعًا ، وَإِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ
الْأَصَمِّ فَإِنَّهُ سَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ ، وَقَدْ
سَبَقَهُ الْإِجْمَاعُ ، لَكِنْ لِصَمَمِهِ لَمْ يَسْمَعْ بِهِ ، وَإِذَا
انْتَصَفَ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ ،
وَهُوَ مَالِكٌ ، وَرَأَيْت لِغَيْرِهِ مَا لَمْ أَرْضَ أَنْ أَحْكِيَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : إذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ إلَّا
بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَمَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ أَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ
انْقَضَتْ ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ يَوْمِ عَلِمَتْ ،
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ .
وَقَالَ نَحْوًا مِنْهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَالشَّعْبِيُّ إنْ ثَبَتَ الْمَوْتُ بِبَيِّنَةٍ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعِدَّةَ عِبَادَةٌ بِتَرْكِ
الزِّينَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِقَصْدٍ ، وَالْقَصْدُ لَا يَكُونُ
إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّهَا لَوْ عَلِمَتْ بِمَوْتِهِ
فَتَرَكَتْ الْإِحْدَادَ لَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ ؛ فَإِذَا تَرَكَتْ الْإِحْدَادَ
مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَهُوَ أَهْوَنُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا
وَلَا إحْدَادَ عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : إنْ
لَمْ تَحِضْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَلَا عِدَّةَ لَهَا عِنْدَنَا فِي
أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا
: لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْحَيْضِ
.
وَدَلِيلُنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الْحَيْضِ رِيبَةٌ تُوجِبُ
أَنْ تَسْتَظْهِرَ لَهُ ، إلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إذَا لَمْ يَكُنْ
لَهَا عَادَةٌ بِتَأْخِيرِ الْحَيْضِ وَلَمْ تَخْشَ رِيبَةً بَقِيَتْ تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ وَفَاتِهِ
.
وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِظْهَارِ عِنْدَنَا تَكُونُ
بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ كِتَابِيَّةً فَلِمَالِكٍ فِيهَا قَوْلَانِ
: أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَالْمُسْلِمَةِ .
الثَّانِي
: أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ ؛ إذْ بِهَا
يَبْرَأُ الرَّحِمُ ؛ وَهَذَا مِنْهُ فَاسِدٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا مِنْ
عُمُومِ آيَةِ الْوَفَاةِ ، وَهِيَ مِنْهَا ، وَأَدْخَلَهَا فِي عُمُومِ آيَةِ الطَّلَاقِ
، وَلَيْسَتْ مِنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَنْزِيلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ : اعْلَمُوا
وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْعِدَّةِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ
مِنْ مَاءِ الزَّوْجِ ؛ فَامْتِنَاعُ النِّكَاحِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْمَاءِ الْوَاجِبِ
صِيَانَتُهُ أَوَّلًا .
وَامْتِنَاعُ عَقْدِ النِّكَاحِ إنَّمَا هُوَ
لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِهِ شَرْعًا عَلَى مَحِلِّ لَا يُفِيدُ مَقْصُودَهُ فِيهِ
وَهُوَ الْحِلُّ .
وَامْتِنَاعُ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ لِأَنَّهُ مِنْ
دَوَاعِيه ، فَقَطَعَتْ الذَّرِيعَةَ إلَيْهِ بِمَنْعِ مَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ .
وَامْتِنَاعُ الْخِطْبَةِ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ
وَالتَّصْرِيحَ بِهِ أَقْوَى ذَرِيعَةً وَأَشَدُّ دَاعِيَةً مِنْ الطِّيبِ
وَالزِّينَةِ ، فَحُرِّمَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَامْتِنَاعُ الْخُرُوجِ لِبَقَاءِ الرَّقَبَةِ
الْمُوجِبِ غَايَةَ الْحَفِيظَةِ وَالْعِصْمَةِ .
وَحَقُّ أَمْرِ السُّكْنَى لِكَوْنِهِ فِي الدَّرَجَةِ
الْخَامِسَةِ مِنْ الْحُرْمَةِ ، فَأَسْقَطَ وُجُوبَهُ أَحْبَارٌ مِنْ الْأُمَّةِ
، ثُمَّ رَخَّصَ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّعْرِيضِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ }
يَعْنِي انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ .
هَذَا خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ ، وَبَيَانُ أَنَّ
الْحَقَّ فِي التَّزْوِيجِ لَهُنَّ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ أَيْ مِنْ جَائِزٍ شَرْعًا ، يُرِيدُ مِنْ اخْتِيَارِ أَعْيَانِ
الْأَزْوَاجِ ، وَتَقْدِيرِ الصَّدَاقِ دُونَ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ ، لِأَنَّهُ
حَقٌّ لِلْأَوْلِيَاءِ ، كَمَا تَقَدَّمَ دُونَ وَضْعِ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ
، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ ، وَفِيهِ الضَّرَرُ وَإِدْخَالُ الْعَارِ .
الْآيَةُ
الثَّالِثَةُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ
فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا
تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } فِيهَا عَشْرُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ
، وَأَوْجَبَ التَّرَبُّصَ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَقَدْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ
الْخَلْقَ لَا يَسْتَطِيعُونَ الصَّبْرَ عَنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَالتَّكَلُّمِ
فِيهِ ، فَأَذِنَ فِي التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ مَعَ جَمِيعِ الْخَلْقِ ، وَأَذِنَ
فِي ذِكْرِ ذَلِكَ بِالتَّعْرِيضِ مَعَ الْعَاقِدِ لَهُ ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ أَوْ
الْوَلِيُّ ؛ وَهُوَ فِي الْمَرْأَةِ آكَدُ .
وَالتَّعْرِيضُ هُوَ الْقَوْلُ الْمُفْهِمُ لِمَقْصُودِ
الشَّيْءِ ، وَلَيْسَ بِنَصٍّ فِيهِ
.
وَالتَّصْرِيحُ هُوَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ
وَالْإِفْصَاحُ بِذِكْرِهِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ عَرْضِ الشَّيْءِ وَهُوَ نَاحِيَتُهُ
، كَأَنَّهُ يَحُومُ عَلَى النِّكَاحِ وَلَا يُسِفَّ عَلَيْهِ وَيَمْشِي حَوْلَهُ
وَلَا يَنْزِلُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ
التَّعْرِيضِ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِيهِ كَثِيرٌ ، جِمَاعُهُ عِنْدِي
يَرْجِعُ إلَى قِسْمَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَذْكُرَهَا لِلْوَلِيِّ ؛ يَقُولُ لَا
تَسْبِقْنِي بِهَا .
الثَّانِي : أَنْ يُشِيرَ بِذَلِكَ إلَيْهَا دُونَ
وَاسِطَةٍ .
فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا بِنَفْسِهِ فَفِيهِ سَبْعَةُ
أَلْفَاظٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَقُولَ لَهَا : إنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ .
الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ لَهَا : لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك
؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ :
أَنْ يَقُولَ لَهَا : إنَّك لَجَمِيلَةٌ ، وَإِنَّ
حَاجَتِي فِي النِّسَاءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إلَيْك خَيْرًا .
الرَّابِعُ : أَنْ يَقُولَ لَهَا : إنَّك لَنَافِقَةٌ ؛
قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
الْخَامِسُ :
إنَّ لِي حَاجَةً ، وَأَبْشِرِي فَإِنَّك نَافِقَةٌ ،
وَتَقُولُ هِيَ : قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ ؛ وَلَا تَزِيدُ شَيْئًا ؛ قَالَهُ
عَطَاءٌ
.
السَّادِسُ : أَنْ يُهْدِيَ لَهَا .
قَالَ إبْرَاهِيمُ : إذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ مِثْلَهُ فِي : السَّابِعُ : وَلَا
يَأْخُذُ مِيثَاقَهَا .
قَالَتْ سُكَيْنَةُ بِنْتُ حَنْظَلَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ : دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَنَا فِي عِدَّتِي فَقَالَ :
يَا بِنْتَ حَنْظَلَةَ ، قَدْ عَلِمْت قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَقَّ جَدِّي عَلِيٍّ .
فَقُلْت : غَفَرَ اللَّهُ لَك أَبَا جَعْفَرٍ ،
تَخْطُبنِي فِي عِدَّتِي وَأَنْتَ يُؤْخَذُ عَنْك ؟ فَقَالَ : أَوَقَدْ فَعَلْت ،
إنَّمَا أَخْبَرْتُك بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَوْضِعِي .
وَقَدْ {
دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ عِنْدَ ابْنِ عَمِّهَا أَبِي سَلَمَةَ
فَتُوُفِّيَ عَنْهَا ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَذْكُرُ لَهَا مَنْزِلَتَهُ مِنْ اللَّهِ } ، وَهُوَ مُتَحَامِلٌ عَلَى يَدِهِ
حَتَّى أَثَّرَ الْحَصِيرُ فِي يَدِهِ مِنْ شِدَّةِ تَحَامُلِهِ ، فَمَا كَانَتْ
تِلْكَ خِطْبَةً .
فَانْتُحِلَ مِنْ هَذَا فَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ
يَذْكُرَهَا لِنَفْسِهَا .
الثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَهَا لِوَلِيِّهَا أَوْ
يَفْعَلَ فِعْلًا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ كَأَنْ يَهْدِيَ لَهَا .
وَاَلَّذِي مَالَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ : إنِّي
بِك لَمُعْجَبٌ ، وَلَك مُحِبٌّ ، وَفِيك رَاغِبٌ .
وَهَذَا عِنْدِي أَقْوَى التَّعْرِيضِ ، وَأَقْرَبُ إلَى
التَّصْرِيحِ .
وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهَا : إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى سَائِقٌ إلَيْك خَيْرًا ، وَأَبْشِرِي وَأَنْتِ نَافِقَةٌ .
فَإِنْ قَالَ لَهَا أَكْثَرَ فَهُوَ إلَى التَّصْرِيحِ
أَقْرَبُ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ ،
وَإِلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا إذَا ذَكَرَهَا لِأَجْنَبِيٍّ فَلَا حَرَجَ
عَلَيْهِ وَلَا حَرَجَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي أَنْ يَقُولَ : إنَّ فُلَانًا
يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجُك إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ .
وَهَذَا التَّعْرِيضُ وَنَحْوُهُ مِنْ الذَّرَائِعِ
الْمُبَاحَةِ ؛ إذْ لَيْسَ
كُلُّ ذَرِيعَةٍ مَحْظُورًا ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْحَظْرِ الذَّرِيعَةُ فِي بَابِ الرِّبَا ، لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ وَكُلُّ ذَرِيعَةٍ رِيبَةٌ ؛ وَذَلِكَ لِعَظِيمِ حُرْمَةِ الرِّبَا وَشِدَّةِ الْوَعِيدِ فِيهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَجَ فِي التَّعْرِيضِ فِي
النِّكَاحِ قَالَ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَجْعَلْ التَّعْرِيضَ فِي النِّكَاحِ مَقَامَ التَّصْرِيحِ ؛ فَأَوْلَى أَلَّا
يَكُونَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ .
وَهَذَا سَاقِطٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَأْذَنْ فِي التَّصْرِيحِ فِي النِّكَاحِ بِالْخُطْبَةِ ، وَأَذِنَ فِي
التَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ النِّكَاحُ ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
التَّعْرِيضَ بِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ ، وَالْأَعْرَاضُ يَجِبُ
صِيَانَتُهَا كَمَا تَجِبُ صِيَانَةُ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ ، وَذَلِكَ
يُوجِبُ حَدَّ الْمُعَرِّضِ ، لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ الْفَسَقَةُ إلَى أَخْذِ
الْأَعْرَاضِ بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ بِالتَّصْرِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ } يَعْنِي : سَتَرْتُمْ
وَأَخْفَيْتُمْ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ ذِكْرِهِنَّ ، وَالْعَزِيمَةِ عَلَى
نِكَاحِهِنَّ ؛ فَرَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ ؛ لِعِلْمِهِ
بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ تَفَضُّلًا مِنْهُ حِينَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ
مِنْ ذِكْرِهِنَّ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : {
وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } الْمَعْنَى قَدْ مُنِعْتُمْ التَّصْرِيحَ
بِالنِّكَاحِ وَعَقْدِهِ ، وَأُذِنَ لَكُمْ فِي التَّعْرِيضِ ؛ فَإِيَّاكُمْ أَنْ
يَقَعَ بَيْنَكُمْ مُوَاعَدَةٌ فِي النِّكَاحِ ، حِينَ مُنِعْتُمْ الْعَقْدَ فِيهِ
.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السِّرِّ الْمُرَادِ
هَاهُنَا عَلَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الزِّنَا .
الثَّانِي : الْجِمَاعُ .
الثَّالِثُ : التَّصْرِيحُ .
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ الزِّنَا ؛ لِقَوْلِ
الْأَعْشَى : فَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إنَّ سِرَّهَا عَلَيْك حَرَامٌ
فَانْكِحْنَ أَوْ تَأَبَّدَا وَالسِّرُّ فِي اللُّغَةِ يَتَصَرَّفُ عَلَى مَعَانٍ
: أَحَدُهَا : مَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي سِرِّهِ وَأَخْفَى مِنْهُ مَا أَضْمَرَ .
الثَّانِي : سِرُّ الْوَادِي أَيْ شَطُّهُ .
الثَّالِثُ : سِرُّ الشَّيْءِ : خِيَارُهُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الزِّنَا .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ الْجِمَاعُ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ فَرْجُ الْمَرْأَةِ .
السَّابِعُ : سَرَرَ الشَّهْرُ : مَا اُسْتُسِرَّ
الْهِلَالُ فِيهِ مِنْ لَيَالِيِهِ
.
وَهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ يَدْخُلُ بَعْضُهَا عَلَى
بَعْضٍ ، وَيَرْجِعُ الْمَعْنَى إلَى الْخَفَاءِ ، فَيَعُمُّ بِهِ تَارَةً
وَيَخُصُّ أُخْرَى ، وَتَرَى سِرَّ الشَّيْءِ خِيَارَهُ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّهُ
يُخْفَى وَيُضَنُّ بِهِ ، وَتَرَى أَنَّ سِرَّ الْوَادِيَ شَطَّهُ ؛ لِأَنَّهُ
أَشْرَفُهُ ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْوَادِي إنَّمَا يَكُونُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ لَا
فِيهِ ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ السُّرِّيَّةُ لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ لِلْوَطْءِ ، إذْ الْخَدَمُ
يُتَّخَذُونَ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَطْءِ ، فَسُمِّيَتْ الْمُتَّخَذَةُ لِلْوَطْءِ
سَرِيَّةً مِنْ السُّرُورِ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ فَرْجُ الْمَرْأَةِ سِرًّا
لِأَنَّهُ مَوْضِعُهُ .
فَالْمَعْنَى هَاهُنَا : لَا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحًا وَلَا وَطْئًا ، فَهُوَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الْعِدَّةِ ، لِأَنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ إلَى وَقْتٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِنَّ ضَرْبُ الْوَعْدِ فِيهِ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا حُرِّمَ الْوَعْدُ فِي الْعِدَّةِ
بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ
الْوَعْدِ فِي التَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ إلَى وَقْتٍ
يَجُوزُ فِيهِ التَّقَابُضُ .
وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِنْ
اسْتَنْظَرَك إلَى أَنْ يَلِجَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرْهُ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ ،
فَإِنَّ الرِّبَا مِثْلُ الْفَرْجِ فِي التَّحْرِيمِ ، وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْد
التَّأَمُّلِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا
أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا } وَهُوَ التَّعْرِيضُ الْجَائِزُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } فَهَذِهِ
عَامَّةٌ لِلْبَيَانِ أَيْ لَا تُوَاعِدُوا نِكَاحًا ، وَلَا تَعْقِدُوهُ ، حَتَّى
تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ .
د الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : لَوْ وَاعَدَ فِي الْعِدَّةِ وَنَكَحَ بَعْدَهَا اسْتَحَبَّ لَهُ مَالِكٌ الْفِرَاقُ بِطَلْقَةٍ تَوَرُّعًا ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ خِطْبَتَهَا ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ أَشْهَبُ الْفِرَاقُ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : إذَا نَكَحَ فِي الْعِدَّةِ وَبَنَى فَسَخَ وَلَمْ يَنْكِحْهَا
أَبَدًا [ قَالَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّعْبِيُّ ] ،
وَبِهِ قَضَى عُمَرُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَلَّ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَحُرِمَهُ ،
كَالْقَاتِلِ فِي حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
دَلِيلًا ، وَفِي كُتُبِ الْفُرُوعِ تَفْرِيعًا .
قَوْله تَعَالَى
: { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ
أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ
وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ } فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
تَقْدِيرِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَعْنَاهَا لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ
طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ الْمَفْرُوضَ لَهُنَّ الصَّدَاقُ مِنْ قَبْلِ الدُّخُولِ
مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَغَيْرَ الْمَفْرُوضِ لَهُنَّ قَبْلَ الْفَرْضِ ؛ قَالَهُ
الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَعْنَاهَا إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ
مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، وَتَكُونُ أَوْ
بِمَعْنَى الْوَاوِ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ ،
تَقْدِيرُهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَرَضْتُمْ أَوْ
لَمْ تَفْرِضُوا ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إلَى مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ
تُقَدَّرُ بِهِ الْآيَةُ ، وَتَبْقَى أَوْ عَلَى بَابِهَا ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى التَّفْصِيلِ
وَالتَّقْسِيمِ وَالْبَيَانِ ، وَلَا تَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْوَاوِ ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } فَإِنَّهَا
لِلتَّفْصِيلِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : إنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ
بِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْمَفْرُوضَ لَهُنَّ ، فَقَالَ
تَعَالَى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ
لِبَيَانِ طَلَاقِ الْمَفْرُوضِ لَهُنَّ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَمَا كَرَّرَهُ ،
وَهَذَا ظَاهِرٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ
الْمُتَفَقِّهِينَ " ذَلِكَ
.
وَلَا فَرْقَ فِي قَانُونِ الْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ
تَقْدِيرِ حَذْفٍ ، أَوْ تَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ
تَتَمَيَّزُ بِذَلِكَ ، وَالْأَحْكَامُ تَتَفَصَّلُ ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ
الَّتِي لَمْ تُمَسَّ ، وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ
أَقْسَامٍ
: الْأَوَّلُ : مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِّ وَبَعْدَ الْفَرْضِ .
الثَّانِي : مُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ .
الثَّالِثُ : مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ
الْفَرْضِ .
الرَّابِعُ : مُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الْمَسِّ ، وَقَبْلَ
الْفَرْضِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُتْعَةِ عَلَى
أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ دَائِرَةٍ مَعَ الْأَرْبَعَةِ الْأَقْسَامِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي
هَذَا الْحُكْمِ إلَّا قِسْمَيْنِ : مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِّ وَقَبْلَ
الْفَرْضِ ، وَمُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِّ وَبَعْدَ الْفَرْضِ ؛ فَجَعَلَ
لِلْأُولَى الْمُتْعَةَ ، وَجَعَلَ لِلثَّانِيَةِ نِصْفَ الصَّدَاقِ ، وَآلَتْ الْحَالُ
إلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وُجُوبَهَا
إلَّا لِمُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ .
وَأَمَّا مَنْ طَلُقَتْ وَقَدْ فُرِضَ لَهَا فَلَهَا
قَبْلَ الْمَسِيسِ نِصْفُ الْفَرْضِ ، وَلَهَا بَعْدَ الْمَسِيسِ جَمِيعُ الْفَرْضِ
أَوْ مَهْرُ مِثْلِهَا .
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
قَابَلَ الْمَسِيسَ بِالْمَهْرِ الْوَاجِبِ وَنِصْفَهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ
الْمَسِيسِ ، لِمَا لَحِقَ الزَّوْجَةَ مِنْ رَحْضِ الْعَقْدِ ، وَوَصْمِ الْحِلِّ
الْحَاصِلِ لِلزَّوْجِ بِالْعَقْدِ ، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ
وَالْفَرْضِ أَلْزَمَهُ اللَّهُ الْمُتْعَةَ كُفُؤًا لِهَذَا الْمَعْنَى ؛
وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ
رَآهَا وَاجِبَةً لِظَاهِرِ الْأَمْرِ بِهَا ، وَلِلْمَعْنَى الَّذِي
أَبْرَزْنَاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ فِيهَا
.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لِوَجْهَيْنِ
: أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُقَدِّرْهَا ، وَإِنَّمَا وَكَّلَهَا
إلَى اجْتِهَادِ الْمُقَدِّرِ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
وَكَّلَ التَّقْدِيرَ فِي النَّفَقَةِ إلَى الِاجْتِهَادِ ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ ،
فَقَالَ : { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } الثَّانِي
: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهَا : { حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } حَقًّا
عَلَى الْمُتَّقِينَ ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَطْلَقَهَا
عَلَى
الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ؛ فَتَعْلِيقُهَا بِالْإِحْسَانِ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ،
وَبِالتَّقَوِّي وَهُوَ مَعْنًى خَفِيٌّ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا اسْتِحْبَابٌ ،
يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْعَفْوِ عَنْ الصَّدَاقِ : { وَأَنْ
تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } فَأَضَافَهُ إلَى التَّقْوَى وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
؛ وَذَلِكَ أَنَّ لِلتَّقْوَى أَقْسَامًا بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْفُقَرَاءِ ؛
وَمِنْهَا وَاجِبٌ ، وَ [ مِنْهَا ] مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ فَلْيُنْظَرْ
هُنَالِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } فَذَكَرَهَا لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ ؟ قُلْنَا : عَنْهُ
جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَتَاعَ هُوَ كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ ،
فَمَنْ كَانَ لَهَا مَهْرٌ فَمَتَاعُهَا مَهْرُهَا ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا
مَهْرٌ فَمَتَاعُهَا مَا تَقَدَّمَ
.
الثَّانِي : أَنَّ إحْدَى الْآيَتَيْنِ حَقِيقَةٌ دُونَ الْأُخْرَى
، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا الْقِسْمُ هُوَ أَحَدُ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَهُوَ مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَفْرُوضِ وَاجِبًا ، كَمَا أَنَّ لِلْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتْعَةَ مُسْتَحَبَّةً .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : إنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ،
وَإِنْ خَلَا بِهَا ، وَلَا تَضُرُّ الْخَلْوَةُ بِالْمَهْرِ ، إلَّا أَنْ
يَقْتَرِنَ بِهَا مَسِيسٌ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ
بِالْخَلْوَةِ ؛ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ ؛ لِأَنَّهُ
لَوْ خَلَا وَقَبَّلَ وَلَمَسَ قُلْتُمْ لَا يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ .
قُلْنَا :
الْمَسِيسُ هَاهُنَا كِنَايَةٌ عَنْ الْوَطْءِ
بِإِجْمَاعٍ ؛ لِأَنَّ عِنْدَكُمْ أَنَّهُ لَوْ خَلَا وَلَمْ يَلْمِسْ وَلَا
قَبَّلَ يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا مَسٌّ وَلَا وَطْءٌ ؛
وَهَذَا خِلَافُ الْآيَةِ وَمُرَاغَمَةُ الظَّاهِرِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : لَمَّا
قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْمُطَلَّقَةِ إلَى قِسْمَيْنِ ؛ مُطَلَّقَةٌ
سُمِّيَ لَهَا فَرْضٌ ، وَمُطَلَّقَةٌ لَمْ يُسَمَّ لَهَا فَرْضٌ دَلَّ عَلَى
أَنَّ نِكَاحَ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ ، وَهُوَ كُلُّ نِكَاحٍ عُقِدَ مِنْ غَيْرِ
ذِكْرِ الصَّدَاقِ ؛ وَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ وَيُفْرَضُ بَعْدَ ذَلِكَ الصَّدَاقُ .
فَإِنْ فُرِضَ الْتَحَقَ بِالْعَقْدِ وَجَازَ ، وَإِنْ
لَمْ يُفْرَضْ لَهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ لَمْ يَجِبْ صَدَاقٌ إجْمَاعًا ، وَإِنْ
فُرِضَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَقَبْلَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ ،
وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ } وَخِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ
يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ أَصْلُهُ
الْفَرْضُ الْمُقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ وَقَعَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْفَرْضِ فَقَالَ مَالِكٌ : لَهَا الْمِيرَاثُ دُونَ الصَّدَاقِ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، فَقَالُوا : يَجِبُ لَهَا الصَّدَاقُ وَالْمِيرَاثُ ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ النَّسَائِيّ ، وَأَبُو دَاوُد { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَقَدْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا بِالْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ } ، وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ " لِأَنَّ رَاوِيَهُ مَجْهُولٌ ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ فِرَاقٌ فِي نِكَاحٍ قَبْلَ الْفَرْضِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ صَدَاقٌ أَصْلُهُ الطَّلَاقُ ، وَقَدْ خَرَّجَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ أَبُو عِيسَى ، وَقَالَ : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } الْوَاجِبُ لَهُنَّ مِنْ الصَّدَاقِ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ فِي إسْقَاطِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ ؛ إذْ جَعَلَهُ خَالِصَ حَقِّهِنَّ يَتَصَرَّفْنَ بِالْإِمْضَاءِ وَالْإِسْقَاطِ كَيْفَ شِئْنَ إذَا مَلَكْنَ أَمْرَ أَنْفُسِهِنَّ فِي الْأَمْوَالِ وَرَشَدْنَ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وَهِيَ مُعْضِلَةٌ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا : فَقِيلَ : هُوَ الزَّوْجُ ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ
وَشُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَمُجَاهِدٌ
وَالثَّوْرِيُّ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ
قَوْلَيْهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْوَلِيُّ ؛ قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَطَاوُسٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَأَبُو
الزِّنَادِ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَرَبِيعَةُ ، وَعَلْقَمَةُ ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ كَعْبٍ ، وَابْنُ شِهَابٍ ، وَأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ ، وَشُرَيْحٌ
الْكِنْدِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الزَّوْجُ بِوُجُوهٍ
كَثِيرَةٍ ، لُبَابُهَا ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ
الصَّدَاقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرًا مُجْمَلًا مِنْ الزَّوْجَيْنِ ، فَحُمِلَ
عَلَى الْمُفَسَّرِ فِي غَيْرِهَا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآتُوا
النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } فَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلزَّوْجِ فِي
قَبُولِ الصَّدَاقِ إذَا طَابَتْ نَفْسُ الْمَرْأَةِ بِتَرْكِهِ .
وَقَالَ أَيْضًا : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ
زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } فَنَهَى اللَّهُ
تَعَالَى الزَّوْجَ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا أَتَى الْمَرْأَةَ إنْ أَرَادَ
طَلَاقَهَا .
الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ }
يَعْنِي النِّسَاءَ ، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ : يَعْنِي
الزَّوْجَ ، مَعْنَاهُ يَبْذُلُ جَمِيعَ الصَّدَاقِ ، يُقَالُ : عَفَا بِمَعْنَى
بَذَلَ ، كَمَا يُقَالُ : عَفَا بِمَعْنَى أَسْقَطَ .
وَمَعْنَى ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ : أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا
أَسْقَطَتْ مَا وَجَبَ لَهَا مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ تَقُولُ هِيَ : لَمْ يَنَلْ
مِنِّي شَيْئًا وَلَا أَدْرَكَ مَا بَذَلَ فِيهِ هَذَا الْمَالَ بِإِسْقَاطِهِ ،
وَقَدْ وَجَبَ إبْقَاءً لِلْمُرُوءَةِ وَاتِّقَاءً فِي الدِّيَانَةِ .
وَيَقُولُ
الزَّوْجُ : أَنَا أَتْرُكُ الْمَالَ لَهَا لِأَنِّي قَدْ نِلْتُ الْحِلَّ وَابْتَذَلْتُهَا
بِالطَّلَاقِ فَتَرْكُهُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ، وَأَخْلَصُ مِنْ اللَّائِمَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا
تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هِبَةِ مَالٍ لِآخَرَ
فَضْلٌ ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَهَبُهُ الْمُفْضِلُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ،
وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ حَقٌّ فِي الصَّدَاقِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْوَلِيُّ بِوُجُوهٍ
كَثِيرَةٍ ؛ نُخْبَتُهَا أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ : قَالُوا الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ الْوَلِيُّ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ طَلَّقَ ؛ فَلَيْسَ
بِيَدِهِ عُقْدَةٌ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } وَهَذَا يَسْتَمِرُّ مَعَ الشَّافِعِيِّ
دُونَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي لَا يَرَى عُقْدَةَ النِّكَاحِ لِلْوَلِيِّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ
: إلَّا أَنْ تَعْفُوا أَوْ تَعْفُونَ ، فَلَمَّا عَدَلَ مِنْ مُخَاطَبَةِ
الْحَاضِرِ الْمَبْدُوءِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ إلَى لَفْظِ الْغَائِبِ
دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { إلَّا أَنْ
يَعْفُونَ } يَعْنِي يُسْقِطْنَ
.
وقَوْله تَعَالَى : { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ } لَا يُتَصَوَّرُ الْإِسْقَاطُ فِيهِ إلَّا مِنْ الْوَلِيِّ
؛ فَيَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ الثَّانِي هُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ
بِعَيْنِهِ ، وَذَلِكَ أَنْظَمُ لِلْكَلَامِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { إلَّا أَنْ
يَعْفُونَ } يَعْنِي يُسْقِطْنَ ، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ يَعْنِي يُسْقِطُ ؛ فَيَرْجِعُ الْقَوْلُ إلَى النِّصْفِ الْوَاجِبِ
بِالطَّلَاقِ الَّذِي تُسْقِطُهُ الْمَرْأَةُ ، فَأَمَّا النِّصْفُ الَّذِي لَمْ
يَجِبْ فَلَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ :
وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ عِنْدِي بَعْدَ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ أَنَّ الْأَظْهَرَ
هُوَ الْوَلِيُّ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ
فِي أَوَّلِ الْآيَةِ : { ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ
} إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ } فَذَكَرَ الْأَزْوَاجَ وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ ، ثُمَّ
قَالَ : { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ } فَذَكَرَ النِّسْوَانَ { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } فَهَذَا ثَالِثٌ ؛ فَلَا يُرَدُّ إلَى الزَّوْجِ الْمُتَقَدِّمِ
إلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوَلِيُّ ،
فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا إسْقَاطُ التَّقْدِيرِ بِجَعْلِ الثَّلَاثِ اثْنَيْنِ
مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ .
الثَّانِي
: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { أَوْ يَعْفُوَ
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الزَّوْجَ
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ ، وَالْوَلِيُّ بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ لِوَلِيَّتِهِ ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي يُبَاشِرُ الْعَقْدَ الْوَلِيُّ
؛ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أُصُولُ الْعَفْوِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهَا قَبْلُ ، وَشَرَحْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْوَلِيَّ بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ ، فَهُوَ الْمُرَادُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَتَرَاضَيَانِ فَلَا
يَنْعَقِدُ لَهُمَا أَمْرٌ إلَّا بِالْوَلِيِّ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ ،
فَإِنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَسْتَقِلَّانِ بِعَقْدِهِمَا .
الثَّالِثُ :
إنَّ مَا قُلْنَا أَنْظَمُ فِي الْكَلَامِ ، وَأَقْرَبُ
إلَى الْمَرَامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ }
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ امْرَأَةٍ تَعْفُو ، فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ أَوْ الْمَحْجُورَةَ
لَا عَفْوَ لَهَا ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِسْمَيْنِ ، وَقَالَ : { إلَّا
أَنْ يَعْفُونَ } إنْ كُنَّ لِذَلِكَ أَهْلًا ، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ إلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ
الْبِكْرِ ، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ
يَتَصَرَّفَانِ فِي الْمَالِ وَيَنْفُذُ لَهُمَا الْقَوْلُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يَتَصَرَّفُ الْوَلِيُّ فِي
الْمَالِ بِمَا
يَكُونُ
حَظًّا لِابْنَتِهِ ، فَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَلَيْسَ بِحَظٍّ وَلَا نَظَرٍ .
قُلْنَا :
إذَا رَآهُ كَانَ ؛ فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ
لَوْ عَقَدَ نِكَاحَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِهَا نَفَذَ ؛ وَهَذَا إسْقَاطٌ
مَحْضٌ ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ نَظَرًا مَضَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ وَلِيٍّ ،
فَلِمَ خَصَصْتُمُوهُ بِهَذَيْنِ ؟ قُلْنَا : كَمَا هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ
زَوْجَةٍ وَخُصَّ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْمَحْجُورَةِ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الزَّوْجُ
فَضَعِيفٌ ، أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْأَزْوَاجَ
فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اسْتَشْهَدُوا بِهِمَا فَقَدْ ذَكَرَ الْوَلِيَّ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ ، فَجَاءَتْ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا مُبَيَّنَةً وَالْفَوَائِدُ
الثَّلَاثَةُ مُعْتَبَرَةٌ ، وَعَلَى قَوْلِهِمْ يَسْقُطُ بَعْضُ الْبَيَانِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الثَّانِي فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛
لِأَنَّ مَجِيءَ الْعَفْوِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ الْجِهَتَيْنِ أَبْلَغُ فِي
الْفَصَاحَةِ وَأَوْفَى فِي الْمَعْنَى مِنْ مَجِيئِهِ بِمَعْنَيَيْنِ ؛ لِأَنَّ
فِيهِ إسْقَاطَ أَحَدِ الْعَافِيَيْنِ ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْمُسْتَفَادُ إذَا
كَانَ الْعَفْوُ بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ .
وَأَمَّا نَدْبُ الزَّوْجِ إلَى إعْطَاءِ الصَّدَاقِ
كُلِّهِ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرُوا فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ دَلِيلٍ
آخَرَ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ؛
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُمَيِّزَ الْوَلِيَّ عَنْ الزَّوْجِ
وَالزَّوْجَةِ بِمَعْنًى يَخُصُّهُ ، فَكَنَّى عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } بِكِنَايَةٍ مُسْتَحْسَنَةٍ ، فَكَانَ
ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْفَصَاحَةِ ، وَأَتَمَّ فِي الْمَعْنَى ، وَأَجْمَعَ لِلْفَوَائِدِ .
وَأَمَّا الرَّابِعُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْسَوْا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } وَتَعَلُّقُهُمْ بِأَنَّ الْإِفْضَالَ لَا يَكُونُ بِمَالِ
أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا الْإِفْضَالُ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
يَكُونُ بِبَذْلِ مَا تَمْلِكُهُ يَدُهُ .
وَالثَّانِي بِإِسْقَاطِ مَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ ،
كَمَا يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَقَلَّ مِنْ
مَهْرِ الْمِثْلِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الْمُشَاعِ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ لِلْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ ،
فَعَفْوُهَا لِلرَّجُلِ عَنْ جَمِيعِهِ كَعَفْوِ الرَّجُلِ ، وَلَمْ يَفْصِلْ
بَيْنَ مُشَاعٍ وَمَقْسُومٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمُشَاعِ إلَّا
بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَاَلَّذِي انْفَصَلَ بِهِ الْمَهْرُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا بَيَّنَ تَكْمِيلًا ثَبَتَ بِنَفْسِ الْعَفْوِ
دُونَ شَرْطِ قَبْضِ ذَلِكَ فِي عَفْوِ الْمَرْأَةِ ، وَالْمَهْرُ دَيْنٌ ؛ أَوْ
فِي عَفْوِ الرَّجُلِ ، وَالْمَهْرُ مَقْبُوضٌ دَيْنٌ عَلَى الْمَرْأَةِ .
فَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَلَا يَكْمُلُ الْعَفْوُ فِيهِ
إلَّا بِقَبْضٍ مُتَّصِلٍ بِهِ ، أَوْ قَبْضٍ قَائِمٍ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ
الْهِبَةِ ، وَلَئِنْ حُمِلَتْ الْآيَةُ عَلَى عَفْوٍ بِشَرْطِ زِيَادَةِ
الْقَبْضِ ، فَنَحْنُ لَا نَشْتَرِطُ إلَّا تَمَامَهُ ، وَتَمَامُهُ بِالْقِسْمَةِ
، فَآلَ الِاخْتِلَافُ إلَى كَيْفِيَّةِ الْقَبْضِ .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذَا
الِانْفِصَالُ إنَّمَا يَسْتَمِرُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْهِبَةِ الْقَبْضَ .
فَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَرَى ذَلِكَ ؛ فَلَا يَصِحُّ
لَهُمْ هَذَا الِانْفِصَالُ مَعَنَا ، فَإِنَّ نَفْسَ الْعَفْوِ مِمَّنْ عَفَا
يَخْلُصُ مِلْكًا لِمَنْ عُفِيَ لَهُ
.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ لَهُمْ
هَذَا مَعَهُمْ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ الْآيَةَ بِمُطْلَقِهَا
تُفِيدُ صِحَّةَ هِبَةِ الْمُشَاعِ ، مَعَ كَوْنِهِ مُشَاعًا ، وَافْتِقَارُ
الْهِبَةِ إلَى الْقَبْضِ نَظَرٌ يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ يَخُصُّ تِلْكَ
النَّازِلَةَ ، فَمُشْتَرِطُ الْقِسْمَةِ مُفْتَقِرٌ إلَى دَلِيلٍ ، وَلَمَّا
يَجِدُوهُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى يَنْبَنِي عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ ؛
وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُهُ ، وَلَيْسَ التَّمْيِيزُ مِنْ الْقَبْضِ أَصْلًا فِي
وِرْدٍ وَلَا صَدَرٍ ، فَصَحَّ تَعَلُّقُنَا بِالْآيَةِ وَعُمُومِهَا وَسَلِمَتْ مِنْ
تَشْغِيبِهِمْ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةُ وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ
: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { حَافِظُوا } الْمُحَافَظَةُ : هِيَ
الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْمُوَاظَبَةُ ، وَذَلِكَ بِالتَّمَادِي عَلَى
فِعْلِهَا ، وَالِاحْتِرَاسُ مِنْ تَضْيِيعِهَا ، أَوْ تَضْيِيعِ بَعْضِهَا .
وَحِفْظُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ مُرَاعَاةُ أَجْزَائِهِ
وَصِفَاتِهِ ، وَمِنْهُ كِتَابُ عُمَرَ : مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا
حَفِظَ دِينَهُ ، فَيَجِبُ أَوَّلًا حِفْظُهَا ثُمَّ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا ،
بِذَلِكَ يَتِمُّ الدِّينُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : لَا شَكَّ فِي انْتِظَامِ قَوْله تَعَالَى " الصَّلَوَاتِ " لِلصَّلَاةِ
الْوُسْطَى لَكِنَّهُ خَصَّصَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهَا
فِي جِنْسِهَا وَمِقْدَارِهَا فِي أَخَوَاتِهَا .
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِ
الْمَلَكَيْنِ ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ
وَرُمَّانٌ } تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ فِي مِقْدَارِهِمَا بَيْنَ
الْفَاكِهَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي
مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا وُسْطَى : وَفِي ذَلِكَ احْتِمَالَاتٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا وُسْطَى مِنْ
الْوَسَطِ ، وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْخِيَارُ وَالْفَضْلُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } وقَوْله تَعَالَى : { قَالَ
أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } يَعْنِي : الْأَفْضَلَ
فِي الْآيَتَيْنِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا وَسَطٌ فِي الْعَدَدِ ؛ لِأَنَّهَا
خَمْسُ صَلَوَاتٍ تَكْتَنِفُهَا اثْنَتَانِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا وَسَطٌ مِنْ الْوَقْتِ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : الصُّبْحُ
هِيَ الْوُسْطَى ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي النَّهَارِ ، وَالْمَغْرِبُ
وَالْعِشَاءُ فِي اللَّيْلِ ، وَالصُّبْحُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ، وَهِيَ أَقَلُّ الصَّلَوَاتِ
قَدْرًا .
وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ تُجْمَعَانِ ، وَالْمَغْرِبُ
وَالْعِشَاءُ تُجْمَعَانِ ، وَلَا تُجْمَعُ الصُّبْحُ مَعَ شَيْءٍ مِنْ
الصَّلَوَاتِ ، وَهِيَ كَثِيرًا مَا تَفُوتُ النَّاسَ وَيَنَامُونَ عَنْهَا ،
وَقَالَ نَحْوَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي تَوَسُّطِ الْوَقْتِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْوُسْطَى ؛
لِأَنَّهَا تُصَلَّى فِي سَوَادٍ مِنْ اللَّيْلِ وَبَيَاضٍ مِنْ النَّهَارِ ،
وَكَثِيرًا مَا تَفُوتُ النَّاسَ
.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا : وَقَدْ قُنِتَ فِي
الصُّبْحِ : هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِي تَحْقِيقِهَا : يَبْعُدُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ تُسَمَّى وُسْطَى
بِعَدَدٍ أَوْ وَقْتٍ وَمَا الْعَدَدُ وَالزَّمَانُ مِنْ الْحَظِّ فِي الْوَسَطِ
وَالتَّخْصِيصِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ كَانَ اللَّبِيبُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُبْدِئَ فِي
ذَلِكَ وَيُعِيدَ ، إلَّا أَنَّهُ تَكَلُّفٌ ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ }
مَعْنَاهُ لِفَضْلِهِنَّ ، وَخُصُّوا الْفُضْلَى مِنْهُنَّ بِزِيَادَةِ
مُحَافَظَةٍ أَيْ الزَّائِدَةَ الْفَضْلِ ، وَتَعْيِينُهَا مُتَعَذَّرٌ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى سَبْعَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الظُّهْرُ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْعَصْرُ قَالَ عَلِيٌّ فِي
إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
الثَّالِثُ : الْمَغْرِبُ ؛ قَالَهُ الْبَرَاءُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ .
الْخَامِسُ :
أَنَّهَا الصُّبْحُ ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ
عُمَرَ ، وَأَبُو أُمَامَةَ ، وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ عَلِيٍّ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا الْجُمُعَةُ .
السَّابِعُ : أَنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ .
وَكُلُّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُسْتَنِدٌ
إلَى مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِالدَّلِيلِ : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الظُّهْرُ ،
فَلِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ فُرِضَتْ
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الْعَصْرُ ، فَتَعَلَّقَ
بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ
الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الْمَغْرِبُ ؛
فَلِأَنَّهَا وِتْرٌ بَيْنَ أَشْفَاعٍ
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الْعِشَاءُ ؛ فَلِأَنَّهَا
وُسْطَى صَلَاةِ اللَّيْلِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الصُّبْحُ ؛ فَلِأَنَّهَا
فِي وَقْتٍ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ
عَبَّاسٍ .
وَقَالَ غَيْرُهُمَا : هِيَ مَشْهُودَةٌ ، وَالْعَصْرُ
وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا فَتَزِيدُ الصُّبْحُ عَلَيْهَا بِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَائِشَةَ
: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى
وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى
غَيْرُ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، وَيُعَارِضُ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهَا كَانَتْ وُسْطَى بَيْنَ مَا فَاتَ
وَبَقِيَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الْجُمُعَةُ : فَلِأَنَّهَا
تَخْتَصُّ بِشُرُوطٍ زَائِدَةٍ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَرَفِهَا وَفَضْلِهَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ،
فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛
فَإِنَّ اللَّهَ خَبَّأَهَا فِي الصَّلَوَاتِ كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ
فِي رَمَضَانَ ، وَخَبَّأَ السَّاعَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَخَبَّأَ الْكَبَائِرَ
فِي السَّيِّئَاتِ ؛ لِيُحَافِظَ الْخَلْقُ عَلَى الصَّلَوَاتِ ، وَيَقُومُوا
جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَيَلْزَمُوا الذِّكْرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
كُلِّهِ ، وَيَجْتَنِبُوا جَمِيعَ الْكَبَائِرِ وَالسَّيِّئَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ ؛ وَهِيَ الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ إنَّمَا يُعَدُّ فِي عَدَدٍ وِتْرٍ ؛ لِيَكُونَ الْوَسَطُ شَفْعًا يُحِيطُ بِهِ مِنْ جَانِبَيْهِ ؛ وَإِذَا عُدَّتْ الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَاتُ سِتًّا لَمْ تَكُنْ الْوَاحِدَةُ وَسَطًا ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ جِهَةٍ ، وَبَيْنَ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ مِنْ أُخْرَى ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ مُعْتَبَرٌ بِالْعَدَدِ أَوْ بِالْوَقْتِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِهِ دَلِيلٌ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } اعْلَمُوا
وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقُنُوتَ يَرِدُ عَلَى مَعَانٍ ،
أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعٌ : الْأَوَّلُ : الطَّاعَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي :
الْقِيَامُ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَقَرَأَ : { أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ } .
الثَّالِثُ : إنَّهُ السُّكُوتُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَفِي الصَّحِيحِ قَالَ زَيْدٌ : " كُنَّا
نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }
فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ
" .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْقُنُوتَ الْخُشُوعُ .
وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ
جَمِيعُهَا مُرَادًا ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافُرَ فِيهِ إلَّا الْقِيَامُ ،
فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ : وَقُومُوا لِلَّهِ قَائِمِينَ
، إلَّا عَلَى تَكَلُّفٍ .
وَقَدْ صَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ الصُّبْحَ وَقَنَتَ فِيهَا
، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ : هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى ، وَقَرَأَ
الْآيَةَ إلَى قَوْله تَعَالَى : { قَانِتِينَ } وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ زَيْدِ
بْنِ أَرْقَمَ ؛ لِأَنَّهَا نَصٌّ ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مُحْتَمَلٍ سِوَاهَا .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُنُوتِ هَاهُنَا السُّكُوتُ ،
فَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُصَلِّي فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَكَلَّمَهَا سَاهِيًا أَوْ
عَامِدًا ، فَإِنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الصَّلَاةِ وَلَا زَالَ
عَنْ امْتِثَالِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ السَّهْوَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ
؛ وَهَذَا قَوِيٌّ جِدًّا .
وَقَدْ عَارَضَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْفِطْرَ
الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الصَّوْمِ إذَا وَقَعَ سَهْوًا أَبْطَلَهُ ، فَيُنْتَقَضُ
هَذَا الْأَصْلُ .
فَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْفِطْرَ ضِدُّ الصَّوْمِ ،
وَإِذَا وُجِدَ ضِدُّ الْعِبَادَةِ أَبْطَلَهَا ، كَانَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا
كَالْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي
الصَّلَاةِ مَحْظُورٌ غَيْرُ مُضَادٍّ ، فَكَانَ ذَلِكَ مُعَلَّقًا بِالْقَصْدِ ، وَقَدْ
حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " تَلْخِيصِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ " .
وَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا ، فَإِنْ كَانَ
عَابِثًا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ ، وَإِنْ كَانَ لِإِصْلَاحِهَا كَتَنْبِيهِ
الْإِمَامِ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ .
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ الْمَشْهُورُ
الصَّحِيحُ : { تَكَلَّمُوا فِيهِ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ فَلَمْ تَبْطُلْ
صَلَاتُهُمْ } .
وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَكُتُبِ
الْحَدِيثِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ فَفِيهِ الشِّفَاءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ
وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا
فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ } أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ
فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ ، وَحَضَرٍ وَسَفَرٍ ، وَقُدْرَةٍ وَعَجْزٍ
، وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ ، لَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ ، وَلَا
يَتَطَرَّقُ إلَى فَرْضِيَّتِهَا اخْتِلَالٌ .
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ
فَعَلَى جَنْبٍ } .
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي
حَالِ الْخَوْفِ : { فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا قِيَامًا
وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا } .
{ وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً بِصِفَاتٍ
مُخْتَلِفَةٍ } ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ الصَّلَاةَ كَيْفَمَا
أَمْكَنَ ، وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَّفِقْ فِعْلُهَا إلَّا
بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ لَلَزِمَ فِعْلُهَا ؛ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ
عَلَى حَرَكَةِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى تَمَيَّزَتْ عَنْ
سَائِرِ الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ
، وَيُتَرَخَّصُ فِيهَا بِالرُّخَصِ الضَّعِيفَةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا
، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى : إنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ
الْإِيمَانَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ .
وَقَالُوا فِيهَا : إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ ، لَا
تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِبَدَنٍ وَلَا مَالٍ ، يُقْتَلُ تَارِكُهَا ،
وَأَصْلُهُ الشَّهَادَتَانِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْقِتَالَ
يُفْسِدُ الصَّلَاةَ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ الرَّدَّ
عَلَيْهِ ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ
وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا
ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا
: فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَنِي
إسْرَائِيلَ لَمَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ رِجْزُ الطَّاعُونِ ، وَمَاتَ مِنْهُمْ
عَدَدٌ كَثِيرٌ ، خَرَجُوا هَارِبِينَ مِنْ الْمَوْتِ ، فَأَمَاتَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى مُدَّةً ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ آيَةً ، وَمِيتَةُ الْعُقُوبَةِ بَعْدَهَا حَيَاةٌ
، وَمِيتَةُ الْأَجَلِ لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا .
الثَّانِي : رُوِيَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمْ
الْقِتَالُ فَتَرَكُوهُ وَخَرَجُوا فَارِّينَ مِنْهُ
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : الْأَصَحُّ وَالْأَشْهَرُ أَنَّ خُرُوجَهُمْ إنَّمَا كَانَ فِرَارًا
مِنْ الطَّاعُونِ ، وَهَذَا حُكْمٌ بَاقٍ فِي مِلَّتِنَا لَمْ يَتَغَيَّرْ .
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : سَمِعْت رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ
بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا
فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ
} .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ الْحُكْمِ فِي
ذَلِكَ : أَمَّا الدُّخُولُ فَفِيهِ الْخِلَافُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي
حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ
مَخُوفٍ وَاجِبٌ .
الثَّانِي : إنَّمَا نَهَى عَنْ دُخُولِهِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ
عَنْ مُهِمَّاتِ دِينِهِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْكَرْبِ وَالْخَوْفِ ، بِمَا
يُرَى مِنْ عُمُومِ الْآلَامِ وَشُمُولِ الْأَسْقَامِ .
الثَّالِثُ :
مَا يُخَافُ مِنْ السَّخَطِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ
بِهِ ، وَذَهَابِ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنْ الْقَضَاءِ .
الرَّابِعُ : مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الِاعْتِقَادِ
، كَأَنْ يَقُولَ : لَوْلَا دُخُولِي فِي هَذَا الْبَلَدِ لَمَا نَزَلَ بِي
مَكْرُوهٌ .
وَأَمَّا الْخُرُوجُ فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا
فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْمَرْضَى مُهْمَلِينَ مَعَ مَا يَنْتَظِمُ بِهِ مِمَّا
تَقَدَّمَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ
وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قَالَ قَوْمٌ مِنْ عُلَمَائِنَا : هَذِهِ
الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ وَهُوَ خَطَأٌ ؛ بَلْ هِيَ عَامَّةٌ .
قَالَ مَالِكٌ : سُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ .
قَالَ الْقَاضِي : مَا مِنْ سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ اللَّهِ
تَعَالَى إلَّا يُقَاتَلُ عَلَيْهَا وَفِيهَا ، وَأَوَّلُهَا وَأَعْظَمُهَا دِينُ الْإِسْلَامِ
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ } وَزَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَامًا فَقَالَ : { مَنْ
قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَبَعْدَ هَذَا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَّا
يَجُوزُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ ، فَقَدْ صَحَّ الْعُمُومُ وَظَهَرَ
تَأْكِيدُ التَّخْصِيصِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ ؟ قُلْنَا
: هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ ثَمَانِينَ قَوْله تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاَللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَرْضُ فِي اللُّغَةِ : الْقَطْعُ ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَقْطَعُ اللَّهَ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ فَيُضَاعَفُ لَهُ ثَوَابُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ، إلَّا أَنَّهُ فِي الشَّرْعِ مَخْصُوصٌ بِالسَّلَفِ عَلَى عَادَةِ الشَّرْعِ فِي أَنْ يَجْرِيَ عَلَى أُسْلُوبِ اللُّغَةِ فِي تَخْصِيصِ الِاسْمِ بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ ، كَمَا أَنَّ الْقِرَاضَ مَخْصُوصٌ بِالْمُضَارَبَةِ ؛ كَأَنَّ هَذَا سَلَفُ مَالِهِ ، وَهَذَا سَلَفُ عَمَلِهِ فَصَارَا مُتَسَالِفَيْنِ ، فَسُمِّيَ قِرَاضًا ، وَقِيلَ مُتَقَارِضَانِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْرِضِ النَّدْبِ وَالتَّحْضِيضِ
عَلَى إنْفَاقِ الْمَالِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْفُقَرَاءِ
الْمُحْتَاجِينَ ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ ، وَكَنَّى اللَّهُ
سُبْحَانَهُ عَنْ الْفَقِيرِ بِنَفْسِهِ الْعَلِيَّةِ الْمُنَزَّهَةِ عَنْ
الْحَاجَاتِ تَرْغِيبًا فِي الصَّدَقَةِ ، كَمَا كَنَّى عَنْ الْمَرِيضِ
وَالْجَائِعِ وَالْعَاطِشِ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ عَنْ النَّقَائِصِ
وَالْآلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي ، يَقُولُ : وَكَيْفَ تَمْرَضُ
وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ وَلَوْ
عُدْتَهُ لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ ، وَيَقُولُ : جَاعَ عَبْدِي فُلَانٌ وَلَوْ
أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ ، وَيَقُولُ : عَطِشَ عَبْدِي فُلَانٌ وَلَوْ
سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ
} .
وَهَذَا كُلُّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّشْرِيفِ لِمَنْ
كَنَّى عَنْهُ تَرْغِيبًا لِمَنْ خُوطِبَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ قَوْمٌ : الْمُرَادُ
بِالْآيَةِ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ قَالَ
قَبْلَهَا : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَهَذَا الْجِهَادُ بِالْبَدَنِ
، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } فَهَذَا الْجِهَادُ
بِالْمَالِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ
بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا } .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا قَالَهُ الْحَسَنُ مِنْ
أَنَّهُ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ كُلِّهَا وَلَا يَرُدُّ عُمُومَهُ مَا تَقَدَّمَهُ
مِنْ ذِكْرِ الْجِهَادِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : انْقَسَمَ الْخَلْقُ بِحُكْمِ الْخَالِقِ وَحِكْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ
وَمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ حِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ أَقْسَامًا
وَتَفَرَّقُوا فِرَقًا ثَلَاثَةً : الْفِرْقَةُ الْأُولَى : الرَّذْلَى ، قَالُوا
: إنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إلَيْنَا ، وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ؛
وَهَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } وَالْعَجَبُ مِنْ مُعَانَدَتِهِمْ
مَعَ خِذْلَانِهِمْ ؛ وَفِي التَّوْرَاةِ نَظِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ .
الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا سَمِعَتْ هَذَا
الْقَوْلَ آثَرَتْ الشُّحَّ وَالْبُخْلَ ، وَقَدَّمَتْ الرَّغْبَةَ فِي الْمَالِ ؛
فَمَا أَنْفَقَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا فَكَّتْ أَسِيرًا ، وَلَا أَغَاثَتْ
أَحَدًا ، تَكَاسُلًا عَنْ الطَّاعَةِ وَرُكُونًا إلَى هَذِهِ الدَّارِ .
الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ : لَمَّا سَمِعَتْ بَادَرَتْ
إلَى امْتِثَالِهِ ، وَآثَرَ الْمُجِيبُ مِنْهُمْ بِسُرْعَةٍ بِمَالِهِ ،
أَوَّلُهُمْ أَبُو الدَّحْدَاحِ لَمَّا سَمِعَ هَذَا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؛ أَلَا أَرَى رَبَّنَا
يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا ، وَلِي أَرْضَانِ : أَرْضٌ
بِالْعَالِيَةِ وَأَرْضٌ بِالسَّافِلَةِ ، وَقَدْ جَعَلْت خَيْرَهُمَا صَدَقَةً .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ كَمْ عَذْقٍ مُذَلَّلٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ } .
فَانْظُرُوا إلَى حُسْنِ فَهْمِهِ فِي قَوْلِهِ :
يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا ، وَجُودِهِ بِخَيْرِ مَالِهِ
وَأَفْضَلِهِ ؛ فَطُوبَى لَهُ ، طُوبَى لَهُ ، ثُمَّ طُوبَى لَهُ ، ثُمَّ طُوبَى
لَهُ ،
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : الْقَرْضُ يَكُونُ مِنْ الْمَالِ وَيَكُونُ مِنْ الْعِرْضِ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْهُورِ الْآثَارِ : {
أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ ، كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ
بَيْتِهِ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك } .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَقْرِضْ مِنْ عِرْضِك
لِيَوْمِ فَقْرِك يَعْنِي مَنْ سَبَّك فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ حَقًّا ، وَلَا
تُقِمْ عَلَيْهِ حَدًّا ، حَتَّى تَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُوَفَّرَ
الْأَجْرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ
بِالْعِرْضِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ
يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا } .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّلَاثَ
تَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا فِي كَوْنِهَا بِاحْتِرَامِهَا حَقًّا لِلْآدَمِيِّ ،
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إنَّ الْمَاءَ طَعَامٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ } وَإِذَا كَانَ طَعَامًا كَانَ قُوتًا لِبَقَائِهِ وَاقْتِيَاتِ الْبَدَنِ بِهِ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الرِّبَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ ؛ وَلِمَ لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا وَهُوَ أَجَلُّ الْأَقْوَاتِ ، وَإِنَّمَا هَانَ لِعُمُومِ وُجُودِهِ ، وَإِنَّمَا عَمَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وُجُودَهُ بِفَضْلِهِ ؛ لِعَظِيمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَمِنْ شَرَفِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ أَنَّهُ مُهَيَّأٌ مَخْلُوقٌ عَلَى صِفَةٍ لَا صَنْعَةَ لِأَحَدٍ فِيهَا لَا أَوَّلًا وَلَا آخِرًا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَنْ قَالَ : إنْ شَرِبَ عَبْدِي مِنْ
الْفُرَاتِ فَهُوَ حُرٌّ ؛ فَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يَكْرَعَ فِيهِ ؛ فَإِنْ
شَرِبَ بِيَدِهِ أَوْ اغْتَرَفَ بِإِنَاءٍ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ الْكَرْعِ فِي النَّهْرِ وَبَيْنَ الشُّرْبِ بِالْيَدِ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِذَا أَجْرَيْنَا الْأَيْمَانَ
عَلَى الْأَلْفَاظِ ، وَقُلْنَا بِهِ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ
يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ هَيْئَةٍ وَصِفَةٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مِنْ غَرْفٍ
بِالْيَدِ أَوْ كَرْعٍ بِالْفَمِ انْطِلَاقًا وَاحِدًا ، فَإِذَا وُجِدَ الشُّرْبُ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لُغَةً وَحَقِيقَةً حَنِثَ فَاعِلُهُ .
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا ؛
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَا لَزِمَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ
مِعْيَارًا لِعَزَائِمِهِمْ وَإِظْهَارَ صَبْرِهِمْ فِي اللِّقَاءِ ؛ فَكَانَ مَنْ
كَسَرَ شَهْوَتَهُ عَنْ الْمَاءِ ، وَغَلَبَ نَفْسَهُ عَلَى الْإِمْعَانِ فِيهِ
إلَّا غَرْفَةً وَاحِدَةً يُطْفِئُ بِهَا سَوْرَتَهُ ، وَيُسْكِنُ غَلِيلَهُ ،
مَوْثُوقًا بِهِ فِي الثَّبَاتِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فِي الْحَرْبِ وَكَسْرِ
النَّفْسِ عَنْ الْفِرَارِ عَنْ الْقِتَالِ ، وَبِالْعَكْسِ مَنْ كَرَعَ فِي
النَّهْرِ وَاسْتَوْفَى الشُّرْبَ مِنْهُ ، وَهَذَا مَنْزَعٌ مَعْلُومٌ لَيْسَ
مِنْ الْيَمِينِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدَرٍ .
قَوْله
تَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قِيلَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ
الْقِتَالِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ .
الثَّانِي :
أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ
يُقَرُّونَ عَلَى الْجِزْيَةِ ؛ وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ رَأَى قَبُولَ الْجِزْيَةِ
مِنْ جِنْسٍ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ ؛
كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يَعِشْ لَهَا وَلَدٌ تَجْعَلُ عَلَى
نَفْسِهَا إنْ عَاشَ أَنْ تُهَوِّدَهُ تَرْجُو بِهِ طُولَ عُمُرِهِ ، فَلَمَّا
أَجْلَى اللَّهُ تَعَالَى بَنِي النَّضِيرِ قَالُوا : كَيْفَ نَصْنَعُ
بِأَبْنَائِنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ : { لَا إكْرَاهَ فِي
الدِّينِ }
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : ( لَا إكْرَاهَ ) : عُمُومٌ فِي نَفْيِ إكْرَاهِ
الْبَاطِلِ ؛ فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ مِنْ الدِّينِ ؛ وَهَلْ
يُقْتَلُ الْكَافِرُ إلَّا عَلَى الدِّينِ ؛ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ } .
وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى : {
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ }
وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ، فَإِنْ قِيلَ :
فَكَيْفَ جَازَ الْإِكْرَاهُ بِالدِّينِ عَلَى الْحَقِّ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ
الْمُكْرَهِ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ مَا أَظْهَرَ ؟ .
الْجَوَابُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ
رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو الْخَلْقَ
إلَيْهِ ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ السَّبِيلَ ، وَيُبَصِّرُهُمْ الدَّلِيلَ ،
وَيَحْتَمِلُ الْإِذَايَةَ وَالْهَوَانَ فِي طَرِيقِ الدَّعْوَةِ وَالتَّبْيِينِ ،
حَتَّى قَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ ، وَاصْطَفَى اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ ، وَشَرَحَ
صُدُورَهُمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ ؛ فَالْتَفَّتْ كَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ ،
وَائْتَلَفَتْ قُلُوبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ ، ثُمَّ نَقَلَهُ مِنْ حَالِ
الْإِذَايَةِ إلَى الْعِصْمَةِ ، وَعَنْ الْهَوَانِ إلَى الْعِزَّةِ ، وَجَعَلَ
لَهُ أَنْصَارًا بِالْقُوَّةِ ، وَأَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ بِالسَّيْفِ ؛ إذْ مَضَى
مِنْ الْمُدَّةِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ ، وَكَانَ مِنْ الْإِنْذَارِ مَا
حَصَلَ بِهِ الْإِعْذَارُ .
جَوَابٌ ثَانٍ : وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ
أَوَّلًا كُرْهًا ، فَإِذَا ظَهَرَ الدِّينُ وَحَصَلَ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ
، وَعَمَّتْ الدَّعْوَةُ فِي الْعَالَمِينَ حَصَلَتْ لَهُمْ بِمُثَافَنَتِهِمْ
وَإِقَامَةِ الطَّاعَةِ مَعَهُمْ النِّيَّةُ ؛ فَقَوِيَ اعْتِقَادُهُ ، وَصَحَّ
فِي الدِّينِ وِدَادُهُ ، إنْ سَبَقَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَوْفِيقٌ ،
وَإِلَّا أَخَذْنَا بِظَاهِرِهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمًا ، وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْرِيعٌ كَثِيرٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ " الْإِكْرَاهُ مِنْ الْمَسَائِلِ " ، وَسَتَأْتِي مِنْهَا مَسْأَلَةُ إكْرَاهِ الطَّلَاقِ وَالْكُفْرِ فِي قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِي بِالْقِنْوِ مِنْ الْحَشَفِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ يَأْكُلُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ ، فَنَزَلَتْ : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِالنَّفَقَةِ : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا
صَدَقَةُ الْفَرْضِ ؛ قَالَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ ؛
فَمَنْ قَالَ : إنَّهَا فِي الْفَرْضِ تَعَلَّقَ بِأَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا ،
وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَبِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الرَّدِيءِ ، وَذَلِكَ
مَخْصُوصٌ بِالْفَرْضِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْفَرْضِ
وَالنَّفَلِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ فِي
التَّطَوُّعِ .
الثَّانِي : أَنَّ لَفْظَ ( أَفْعِلْ ) صَالِحٌ لِلنَّدْبِ
صَلَاحِيَّتُهُ لِلْفَرْضِ ، وَالرَّدِيءُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي النَّفْلِ ، كَمَا
هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْفَرْضِ ، إلَّا أَنَّهُ فِي التَّطَوُّعِ نَدْبٌ فِي
" ( أَفْعِلْ ) مَكْرُوهٌ فِي " لَا تَفْعَلْ " وَفِي الْفَرْضِ
وَاجِبٌ فِي " ( أَفْعِلْ
) حَرَامٌ فِي " لَا تَفْعَلْ " .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا } لَفْظٌ يَخْتَصُّ بِالدُّيُونِ الَّتِي لَا يُتَسَامَحُ فِي اقْتِضَاءِ الرَّدِيءِ فِيهَا عَنْ الْجَيِّدِ ، وَلَا فِي أَخْذِ الْمَعِيبِ عَنْ السَّلِيمِ ، إلَّا بِإِغْمَاضٍ ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَازِلَةً فِي الْفَرْضِ لَمَا قَالَ : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } لِأَنَّ الرَّدِيءَ وَالْمَعِيبَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الْفَرْضِ بِحَالٍ ، لَا مَعَ تَقْدِيرِ الْإِغْمَاضِ وَلَا مَعَ عَدَمِهِ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِإِغْمَاضٍ فِي النَّفْلِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله تَعَالَى : {
مَا كَسَبْتُمْ } يَعْنِي : التِّجَارَةَ { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ
الْأَرْضِ } يَعْنِي النَّبَاتَ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الِاكْتِسَابَ عَلَى قِسْمَيْنِ
: مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ وَهُوَ النَّبَاتَاتُ كُلُّهَا ،
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ الْمُحَاوَلَةِ عَلَى الْأَرْضِ كَالتِّجَارَةِ
وَالنِّتَاجِ وَالْمُغَاوَرَةِ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ ، وَالِاصْطِيَادِ ؛
فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَغْنِيَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِأَنْ يُؤْتُوا الْفُقَرَاءَ
مِمَّا آتَاهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ
الزَّكَاةِ فِي كُلِّ نَبَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ نِصَابٍ وَلَا تَخْصِيصٍ
بِقُوتٍ ، وَعَضَّدُوهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِيمَا
سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ
الْعُشْرِ } .
وَهَذَا لَا مُتَعَلِّقَ فِيهِ مِنْ الْآيَةِ ؛
لِأَنَّهَا إنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ مَحَلِّ الزَّكَاةِ لَا لِبَيَانِ
نِصَابِهَا ، أَوْ مِقْدَارِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّصَابَ بِقَوْلِهِ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ
صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ ،
وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ } .
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَسَائِلِ
الْخِلَافِ ، وَتَقَصَّيْنَا الْقَوْلَ عَلَى الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ ؛ وَهِيَ مَعْرِفَةُ مَعْنَى
الْخَبِيثِ ، فَإِنَّ جَمَاعَةً قَالُوا : إنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الْحَرَامُ ،
وَزَلَّ فِيهِ صَاحِبُ الْعَيْنِ فَقَالَ : الْخَبِيثُ كُلُّ شَيْءٍ فَاسِدٍ ،
وَأَخَذَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ الرَّجِيعِ خَبِيثًا .
وَقَالَ يَعْقُوبُ : الْخَبِيثُ : الْحَرَامُ ، وَهَذَا
تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلُّغَةِ بِالشَّرْعِ ، وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخَبِيثَ يَنْطَلِقُ عَلَى
مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ ، كَقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } .
الثَّانِي : مَا تُنْكِرُهُ النَّفْسُ ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ
عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فِيهَا
مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّهَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ : جَعَلَ اللَّهُ
تَعَالَى صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُلُ صَدَقَةَ الْعَلَانِيَةِ
بِسَبْعِينَ ضِعْفًا ، وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْعَلَانِيَةِ فِي الْفَرْضِ تَفْضُلُ
صَدَقَةَ السِّرِّ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَلَا
خِلَافَ أَنَّ إظْهَارَهَا أَفْضَلُ ، كَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَسَائِرِ فَرَائِضِ
الشَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ يُحْرِزُ بِهَا إسْلَامَهُ ، وَيَعْصِمُ مَالَهُ .
وَلَيْسَ فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى
السِّرِّ وَلَا فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ حَدِيثٌ
صَحِيحٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ الْإِجْمَاعُ الثَّابِتُ .
فَأَمَّا صَدَقَةُ النَّفْلِ فَالْقُرْآنُ صَرَّحَ
بِأَنَّهَا فِي السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجَهْرِ ؛ بَيْدَ أَنَّ
عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إنَّ هَذَا عَلَى الْغَالِبِ مَخْرَجُهُ .
وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْحَالَ فِي الصَّدَقَةِ
تَخْتَلِفُ بِحَالِ الْمُعْطِي لَهَا ، وَالْمُعْطَى إيَّاهَا ، وَالنَّاسِ
الشَّاهِدِينَ لَهَا .
أَمَّا الْمُعْطِي فَلَهُ فَائِدَةُ إظْهَارِ السُّنَّةِ
وَثَوَابِ الْقُدْرَةِ ، وَآفَتُهَا الرِّيَاءُ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى .
وَأَمَّا الْمُعْطَى إيَّاهَا فَإِنَّ السِّرَّ أَسْلَمُ
لَهُ مِنْ احْتِقَارِ النَّاسِ لَهُ أَوْ نِسْبَتِهِ إلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ
الْغِنَى عَنْهَا وَتَرَكَ التَّعَفُّفَ .
وَأَمَّا حَالُ النَّاسِ فَالسِّرُّ عَنْهُمْ أَفْضَلُ
مِنْ الْعَلَانِيَةِ لَهُمْ ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا طَعَنُوا عَلَى
الْمُعْطِي لَهَا بِالرِّيَاءِ ، وَعَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ ؛
وَلَهُمْ فِيهَا تَحْرِيكُ الْقُلُوبِ إلَى الصَّدَقَةِ ،
لَكِنَّ هَذَا الْيَوْمَ قَلِيلٌ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ
وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْك هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا
تُنْفِقُونَ إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا
تَصَدَّقُوا إلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ } ، فَنَزَلَتْ : { لَيْسَ عَلَيْك
هُدَاهُمْ } الثَّانِي
: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانُوا لَا يَرْضَخُونَ لِقَرَابَاتِهِمْ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ
.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّ الْأَوَّلَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ
.
الثَّانِي :
{ أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أُمَّيْ قَدِمَتْ
عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : صِلِي أُمَّك } ؛ فَإِنَّمَا
شَكُّوا فِي جَوَازِ الْمُوَالَاةِ لَهُمْ وَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ فَسَأَلُوا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : لَا تُصْرَفُ
إلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفَرْضِ ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ ؛ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ
أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ } .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُصْرَفُ إلَيْهِمْ صَدَقَةُ
الْفِطْرِ ؛ لِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي
الرُّهْبَانَ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ؛ وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا صَدَقَةُ طُهْرٍ وَاجِبَةٌ ،
فَلَا تُصْرَفُ إلَى الْكَافِرِ كَصَدَقَةِ الْمَاشِيَةِ وَالْعَيْنِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا الْيَوْمِ يَعْنِي يَوْمَ الْفِطْرِ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : إذَا كَانَ مُسْلِمًا عَاصِيًا فَلَا خِلَافَ أَنَّ صَدَقَةَ
الْفَرْضِ تُصْرَفُ إلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ يَتْرُكُ أَرْكَانَ
الْإِسْلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَا تُصْرَفُ إلَيْهِ الصَّدَقَةُ
حَتَّى يَتُوبَ ، وَسَائِرُ الْمَعَاصِي تُصْرَفُ الصَّدَقَةُ إلَى مُرْتَكِبِهَا
لِدُخُولِهِمْ فِي اسْمِ الْمُسْلِمِينَ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ
بِصَدَقَتِهِ فَدَفَعَهَا ، فَقِيلَ تَصَّدَّقُ عَلَى سَارِقٍ ؟ فَقَالَ : عَلَى
سَارِقٍ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى : لَعَلَّهُ يَسْتَعِفُّ عَنْ سَرِقَتِهِ }
الْحَدِيثَ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةُ وَالثَّمَانُونَ .
قَوْله تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ
الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا
يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
بِهِ عَلِيمٌ } فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { لِلْفُقَرَاءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا } سَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْفَقْرِ فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَنْ هُمْ ؟ قِيلَ : هُمْ فُقَرَاءُ
الْمُهَاجِرِينَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
وَغَيْرِهَا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ
غَيْرِهِمْ .
وَيُحْكَى عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ الصَّدَقَةَ
لَا تُعْطَى لِكَافِرٍ ، وَمَعْنَاهُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ
النَّاسَ } قِيلَ : هُوَ الْخُشُوعُ .
وَقِيلَ :
الْخَصَاصَةُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْخُشُوعَ
قَدْ يَكُونُ عَلَى الْغِنَى قَالَ تَعَالَى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ } فَعَمَّ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا } ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ ، وَلَا يَفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : الْوَاجِبُ عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ كَانَ إمَامًا أَوْ مَالِكًا أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَالَ النَّاسِ ، فَمَنْ عَلِمَ فِيهِ صَبْرًا عَلَى الْخَصَاصَةِ وَتَحَلِّيًا بِالْقَنَاعَةِ آثَرَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ ، فَرُبَّمَا وَقَعَ فِي التَّسَخُّطِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : { إلْحَافًا } مَعْنَاهُ الشُّمُولُ بِالْمَسْأَلَةِ إمَّا لِلنَّاسِ
، وَإِمَّا فِي الْأَمْوَالِ ؛ فَيَسْأَلُ مِنْ النَّاسِ جَمَاعَةً ، وَيَسْأَلُ
مِنْ الْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَبِنَاءُ " لُحِفَ "
لِلشُّمُولِ ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ ؛ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَشْتَمِلُ بِهِ ،
وَنَحْوُهُ الْإِلْحَاحُ ؛ يُقَالُ : أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إذَا
شَمِلَ رِجَالًا أَوْ مَالًا ، وَأَلَحَّ فِيهَا إذَا كَرَّرَهَا .
وَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ :
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْحَيِيَّ الْغَنِيَّ النَّفْسِ الْمُتَعَفِّفَ ،
وَيُبْغِضُ الْغَنِيَّ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ } .
وَلَمْ يَصِحَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ ، وَلَا
عُرِفَ لَهُ سَنَدٌ ، لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُلْحِفُوا فِي
الْمَسْأَلَةِ ، فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ
لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا كَارِهٌ فَيُبَارِكُ اللَّهُ لَهُ
فِيمَا أَعْطَيْتُهُ } .
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ : {
نَزَلْت أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ ، فَقَالَ لِي أَهْلِي : اذْهَبْ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ
، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ فَذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْت عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ ، وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيك .
فَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ ، وَهُوَ
يَقُولُ : لَعَمْرُك إنَّك لَتُعْطِي مَنْ شِئْت ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَلَّا أَجِدَ مَا
أُعْطِيهِ ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ
إلْحَافًا .
فَقَالَ الْأَسَدِيُّ : لَلَقْحَةٌ لَنَا خَيْرٌ مِنْ
أُوقِيَّةٍ } .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ
فَهُوَ مُلْحِفٌ } .
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُلْحِفَ هُوَ الَّذِي
يَسْأَلُ الرَّجُلَ بَعْدَمَا رَدَّهُ عَنْ نَفْسِهِ ، أَوْ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ
مَا يُغْنِيهِ عَنْ السُّؤَالِ ، إلَّا أَنْ يَسْأَلَ زَائِدًا عَلَى مَا عِنْدَهُ
، وَيُغْنِيهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ .
وَسَمِعْت بِجَامِعِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ رَجُلًا
يَقُولُ : هَذَا أَخُوكُمْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ مَعَكُمْ ، وَلَيْسَ لَهُ ثِيَابٌ
يُقِيمُ بِهَا سُنَّةَ الْجُمُعَةِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى
رَأَيْت عَلَيْهِ ثِيَابًا جُدُدًا ، فَقِيلَ لِي : كَسَاهُ إيَّاهَا فُلَانٌ لِأَخْذِ
الثَّنَاءِ بِهَا .
وَيُكَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ إذَا رَدَّهُ الْمَسْئُولُ
وَالسَّائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا سَأَلَهُ إيَّاهُ أَوْ جَاهِلٌ
بِحَالِهِ ، فَيُعِيدُ عَلَيْهِ السُّؤَالَ إعْذَارًا أَوْ إنْذَارًا ثَلَاثًا لَا
يَزِيدُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ ، وَفِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ذَكَرَ مَنْ فَسَّرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا قَالَتْ ثَقِيفٌ : وَكَيْف نَنْتَهِي عَنْ الرِّبَا ، وَهُوَ مِثْلُ الْبَيْعِ ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } كِنَايَةٌ عَنْ اسْتِجَابَةٍ فِي الْبَيْعِ وَقَبْضِهِ بِالْيَدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَفْعَلُهُ الْمُرْبِي قَصْدًا لِمَا يَأْكُلُهُ ، فَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْهُ ، وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ وَثَمَرَتِهِ ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَجَازِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ ،
وَلَا بُدَّ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ مَزِيدٍ عَلَيْهِ تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ بِهِ ؛
فَلِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ رِبًا ،
أَوْ مُجْمَلَةٌ لَا بَيَانَ لَهَا إلَّا مِنْ غَيْرِهَا ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا
عَامَّةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ وَيَرْبُونَ ، وَكَانَ الرِّبَا
عِنْدَهُمْ مَعْرُوفًا ، يُبَايِعُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إلَى أَجَلٍ ، فَإِذَا
حَلَّ الْأَجَلُ قَالَ : أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي ؟ يَعْنِي أَمْ تَزِيدُنِي عَلَى مَالِي
عَلَيْك وَأَصْبِرُ أَجَلًا آخَرَ .
فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّبَا ، وَهُوَ
الزِّيَادَةُ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ كَمَا قُلْنَا لَا تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ
إلَّا عَلَى مَزِيدٍ عَلَيْهِ ، وَمَتَى قَابَلَ الشَّيْءُ غَيْرَ جِنْسِهِ فِي
الْمُعَامَلَةِ لَمْ تَظْهَرْ الزِّيَادَةُ ، وَإِذَا قَابَلَ جِنْسَهُ لَمْ
تَظْهَرْ الزِّيَادَةُ أَيْضًا إلَّا بِإِظْهَارِ الشَّرْعِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا
صَارَتْ الْآيَةُ مُشْكِلَةً عَلَى الْأَكْثَرِ ، مَعْلُومَةً لِمَنْ أَيَّدَهُ
اللَّهُ تَعَالَى بِالنُّورِ الْأَظْهَرِ .
وَقَدْ فَاوَضْت فِيهَا عُلَمَاءَ ، وَبَاحَثْت
رُفَعَاءَ ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَعْطَى مَا عِنْدَهُ حَتَّى انْتَظَمَ فِيهَا
سِلْكُ الْمَعْرِفَةِ بِدُرَرِهِ وَجَوْهَرَتِهِ الْعُلْيَا .
إنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ
فَلَمْ يَفْهَمْ مَقَاطِعَ الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْمٍ هُوَ مِنْهُمْ بِلُغَتِهِمْ ،
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ تَيْسِيرًا مِنْهُ بِلِسَانِهِ وَلِسَانِهِمْ ؛
وَقَدْ كَانَتْ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَعَانِي
الْمَعْلُومَةِ ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ
فِيهِمَا وَيَعْقِدُونَهُمَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالْبَاطِلُ كَمَا بَيَّنَّاهُ
فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، هُوَ الَّذِي لَا يُفِيدُ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ
تَنَاوُلِ
الْمَالِ
بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي صُورَةِ الْعِوَضِ .
وَالتِّجَارَةُ هِيَ مُقَابَلَةُ الْأَمْوَالِ بَعْضُهَا
بِبَعْضٍ ، وَهُوَ الْبَيْعُ ؛ وَأَنْوَاعُهُ فِي مُتَعَلِّقَاتِهِ بِالْمَالِ
كَالْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ ، أَوْ مَا فِي مَعْنَى الْمَالِ كَالْمَنَافِعِ ،
وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : عَيْنٌ بِعَيْنٍ ، وَهُوَ بَيْعُ النَّقْدِ ؛ أَوْ بِدَيْنٍ
مُؤَجَّلٍ وَهُوَ السَّلَمُ ، أَوْ حَالٌّ وَهُوَ يَكُونُ فِي التَّمْرِ أَوْ
عَلَى رَسْمِ الِاسْتِصْنَاعِ ، أَوْ بَيْعُ عَيْنٍ بِمَنْفَعَةٍ وَهُوَ
الْإِجَارَةُ .
وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ ،
وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ كُلُّ زِيَادَةٍ لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ ؛
فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ لِعَيْنِهَا ، بِدَلِيلِ جَوَازِ
الْعَقْدِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ حَرَامًا مَا صَحَّ أَنْ
يُقَابِلَهَا عِوَضٌ ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا عَقْدٌ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ
وَغَيْرِهَا .
وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : " وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْعِوَضُ عَلَى صِحَّةِ
الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ ، وَحَرَّمَ مِنْهُ مَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْبَاطِلِ " .
وَقَدْ كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ كَمَا
تَقَدَّمَ ، فَتَزِيدُ زِيَادَةً لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ ، وَكَانَتْ تَقُولُ :
إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا أَيْ : إنَّمَا الزِّيَادَةُ عِنْدَ حُلُولِ
الْأَجَلِ آخِرًا مِثْلُ أَصْلِ الثَّمَنِ فِي أَوَّلِ الْعَقْدِ ؛ فَرَدَّ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ ، وَحَرَّمَ مَا اعْتَقَدُوهُ حَلَالًا
عَلَيْهِمْ ، وَأُوضِحَ أَنَّ الْأَجَلَ إذَا حَلَّ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي
أُنْظِرَ إلَى الْمَيْسَرَةِ تَخْفِيفًا ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا
تَظْهَرُ بَعْدَ تَقْدِيرِ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ ، وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَوَلَّى الشَّرْعُ تَقْدِيرَ الْعِوَضِ فِيهِ ، وَهُوَ
الْأَمْوَالُ الرِّبَوِيَّةُ ، فَلَا تَحِلُّ الزِّيَادَةُ فِيهِ .
وَأَمَّا الَّذِي وَكَّلَهُ إلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ
فَالزِّيَادَةُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ مَالِيَّةِ الْعِوَضَيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ
عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ
فَهُوَ
حَلَالٌ بِإِجْمَاعٍ .
وَمِنْهُ مَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ ؛ وَاخْتَلَفَ
عُلَمَاؤُنَا فِيهِ ، فَأَمْضَاهُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَعَدُّوهُ مِنْ فَنِّ
التِّجَارَةِ ، وَرَدَّهُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِبَغْدَادَ وَنُظَرَائِهَا وَحَدُّوا
الْمَرْدُودَ بِالثُّلُثِ .
وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَنْ عِلْمِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ مَاضٍ ؛ لِأَنَّهُمَا يَفْتَقِرَانِ إلَى
ذَلِكَ فِي الْأَوْقَاتِ ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَإِنْ وَقَعَ عَنْ جَهْلٍ مِنْ
أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْآخَرَ بِالْخِيَارِ ، وَفِي مِثْلِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ {
أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إذَا بَايَعْت فَقُلْ : لَا خِلَابَةَ } .
زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ : { وَلَك
الْخِيَارُ ثَلَاثًا } ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ
الْخِلَافِ ؛ فَهَذَا أَصْلُ عِلْمِ هَذَا الْبَابِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَنْكَرْتُمْ الْإِجْمَالَ فِي الْآيَةِ
، وَمَا أَوْرَدْتُمُوهُ مِنْ الْبَيَانِ وَالشُّرُوطِ هُوَ بَيَانُ مَا لَمْ
يَكُنْ فِي الْآيَةِ مُبَيَّنًا ، وَلَا يُوجَدُ عَنْهَا مِنْ الْقَوْلِ ظَاهِرًا .
قُلْنَا : هَذَا سُؤَالُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مَا مَضَى
مِنْ الْقَوْلِ ، وَلَا أَلْقَى إلَيْهِ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ، وَقَدْ
تَوَضَّحَ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ
أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَاءَ
فِيهِ بِلِسَانِهِمْ ، فَقَدْ أَطْلَقَ لَهُمْ حِلَّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ
بَيْعٍ وَتِجَارَةٍ وَيَعْلَمُونَهُ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الرِّبَا وَكَانُوا
يَفْعَلُونَهُ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَدْ
كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَيَعْلَمُونَهُ وَيَتَسَامَحُونَ فِيهِ ؛ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْحَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُلْقِيَ إلَيْهِمْ زِيَادَةً فِيمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ عَقْدٍ
أَوْ عِوَضٍ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُمْ
جَائِزًا ، فَأَلْقَى إلَيْهِمْ وُجُوهَ الرِّبَا الْمُحَرَّمَةِ فِي كُلِّ
مُقْتَاتٍ ، وَثَمَنُ الْأَشْيَاءِ مَعَ الْجِنْسِ مُتَفَاضِلًا ، وَأَلْحَقَ بِهِ
بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ ، وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ ، وَالْبَيْعَ وَالسَّلَفَ
، وَبَيَّنَ وُجُوهَ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي بَيْعِ الْغَرَرِ كُلِّهِ
أَوْ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ شَرْعًا فِيمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مُتَقَوِّمًا
كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَبَيْعِ الْغِشِّ ، وَلَمْ يَبْقَ فِي
الشَّرِيعَةِ بَعْدَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَيَانٌ يُفْتَقَرُ إلَيْهِ فِي
الْبَابِ ، وَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُمَا عَلَى الْجَوَازِ ؛ إلَّا أَنَّهُ صَحَّ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا لَا يَصِحُّ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ
مَعْنًى نَهَى عَنْهَا } .
الْأَوَّلُ وَالثَّانِي : ثَمَنُ الْأَشْيَاءِ جِنْسًا
بِجِنْسٍ ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ :
بَيْعُ الْمُقْتَاتِ أَوْ ثَمَنُ الْأَشْيَاءِ جِنْسًا بِجِنْسٍ مُتَفَاضِلًا ،
أَوْ جِنْسًا بِغَيْرِ جِنْسِهِ نَسِيئَةً ، أَوْ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ ،
أَوْ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ ، أَوْ بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ عَلَى أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ ، أَوْ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي بَيْعِ
الرِّبَا ، وَهُوَ مِمَّا تَوَلَّى الشَّرْعُ تَقْدِيرَ الْعِوَضِ فِيهِ ، فَلَا تَجُوزُ
الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ .
الثَّامِنُ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ .
التَّاسِعُ بَيْعُ الْغَرَرِ ، وَرَدُّ بَيْعِ
الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْحَصَاةِ ، وَبَيْعُ الثُّنْيَا ، وَبَيْعُ
الْعُرْبَانِ وَمَا لَيْسَ عِنْدَك ، وَالْمَضَامِينِ ، وَالْمَلَاقِيحِ ،
وَحَبَلُ حَبَلَةٍ .
وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ وَجْهٍ بَيْعُ
الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَبَيْعُ السُّنْبُلِ حَتَّى
يَشْتَدَّ ، وَالْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ ، وَهُوَ مِمَّا قَبْلَهُ ، وَبَيْعُ
الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاصَرَةِ ، وَبَيْعُ
مَا لَمْ يَقْبِضْ ، وَرِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ ، وَبَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ
أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ ، وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَشُحُومِهَا
، وَثَمَنِ الدَّمِ ،
وَبَيْعُ
الْأَصْنَامِ ، وَعَسْبِ الْفَحْلِ ، وَالْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ ، وَكَسْبِ
الْحَجَّامِ ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ ، وَبَيْعُ
الْمُضْطَرِّ ، وَبَيْعُ الْوَلَاءِ ، وَبَيْعُ الْوَلَدِ أَوْ الْأُمِّ
فَرْدَيْنِ ، أَوْ الْأَخِ وَالْأَخِ فَرْدَيْنِ ، وَكِرَاءُ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ
وَالْكَلَأِ وَالنَّجَشِ ، وَبَيْعُ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ، وَخِطْبَتُهُ
عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ ، وَحَاضِرٌ لِبَادٍ ، وَتَلَقِّي السِّلَعِ
وَالْقَيْنَاتِ .
فَهَذِهِ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ مَعْنًى حَضَرَتْ
الْخَاطِرَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ أَوْرَدْنَاهَا حَسَبَ نَسَقِهَا فِي الذِّكْرِ .
وَهِيَ تَرْجِعُ فِي التَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ الَّذِي
أَوْرَدْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ إلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ : مَا يَرْجِعُ إلَى
صِفَةِ الْعَقْدِ ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَمَا يَرْجِعُ
إلَى الْعِوَضَيْنِ ، وَإِلَى حَالِ الْعَقْدِ ، وَالسَّابِعُ وَقْتُ الْعَقْدِ
كَالْبَيْعِ وَقْتَ نِدَاءِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، أَوْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ
الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِلصَّلَاةِ
.
وَلَا تَخْرُجُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ؛ وَهِيَ
الرِّبَا ، وَالْبَاطِلُ ، وَالْغَرَرُ
.
وَيَرْجِعُ الْغَرَرُ بِالتَّحْقِيقِ إلَى الْبَاطِلِ
فَيَكُونُ قِسْمَيْنِ عَلَى الْآيَتَيْنِ ، وَهَذِهِ الْمَنَاهِي تَتَدَاخَلُ
وَيَفْصِلُهَا الْمَعْنَى .
وَمِنْهَا أَيْضًا مَا يَدْخُلُ فِي الرِّبَا
وَالتِّجَارَةِ ظَاهِرًا ، وَمِنْهَا مَا يَخْرُجُ عَنْهَا ظَاهِرًا ؛ وَمِنْهَا
مَا يَدْخُلُ فِيهَا بِاحْتِمَالٍ ، وَمِنْهَا مَا يُنْهَى عَنْهَا مَصْلَحَةً لِلْخَلْقِ
وَتَأَلُّفًا بَيْنَهُمْ لِمَا فِي التَّدَابُرِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرِّبَا عَلَى قِسْمَيْنِ : زِيَادَةٌ فِي
الْأَمْوَالِ الْمُقْتَاتَةِ وَالْأَثْمَانِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي سَائِرِهَا ؛
وَذَكَرْنَا حُدُودَهَا ؛ وَبَيَّنَّا أَنَّ الرِّبَا فِيمَا جُعِلَ التَّقْدِيرُ
فِيهِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ جَائِزٌ بِعِلْمِهِمَا ؛ وَلَا خِلَافَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ
يَجُوزُ الرِّبَا فِي هِبَةِ الثَّوَابِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : " أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهَا لِلثَّوَابِ فَهُوَ
عَلَى هِبَتِهِ ، حَتَّى يَرْضَى مِنْهَا " ؛ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ
الْمَمْنُوعِ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ التَّحْرِيمِ ، وَقَدْ انْتَهَى الْقَوْلُ
فِي هَذَا الْغَرَضِ هَاهُنَا وَشَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ
الْخِلَافِ ، وَمِنْهُ مَا تَيَسَّرَ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْقِسْمِ
مِنْ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ : وَهِيَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } ذَهَبَ بَعْضُ الْغُلَاةِ مِنْ أَرْبَابِ الْوَرَعِ إلَى أَنَّ الْمَالَ الْحَلَالَ إذَا خَالَطَهُ حَرَامٌ حَتَّى لَمْ يَتَمَيَّزْ ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْحَرَامِ الْمُخْتَلِطِ بِهِ لَمْ يَحِلَّ ، وَلَمْ يَطِبْ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُخْرِجَ هُوَ الْحَلَالُ ، وَاَلَّذِي بَقِيَ هُوَ الْحَرَامُ ، وَهُوَ غُلُوٌّ فِي الدِّينِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَالِيَّتُهُ لَا عَيْنُهُ ، وَلَوْ تَلِفَ لَقَامَ الْمِثْلُ مَقَامَهُ ، وَالِاخْتِلَاطُ إتْلَافٌ لِتَمَيُّزِهِ ، كَمَا أَنَّ الْإِهْلَاكَ إتْلَافٌ لِعَيْنِهِ ، وَالْمِثْلُ قَائِمٌ مَقَامَ الذَّاهِبِ ، وَهَذَا بَيِّنٌ حِسًّا بَيِّنٌ مَعْنًى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرِّبَا عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ قَبْلَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِهَا : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ
الْمَقْصُودَ بِهَا رِبَا الدَّيْنِ خَاصَّةً ، وَفِيهِ يَكُونُ الْإِنْظَارُ ؛
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالنَّخَعِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ دَيْنٍ ، وَهُوَ
قَوْلُ الْعَامَّةِ .
الثَّالِثُ : قَالَ مُتَأَخِّرُو عُلَمَائِنَا : هُوَ
نَصٌّ فِي دَيْنِ الرِّبَا ، وَغَيْرُهُ مِنْ الدُّيُونِ مَقِيسٌ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّنْقِيحِ : أَمَّا
مَنْ قَالَ : إنَّهُ فِي دَيْنِ الرِّبَا فَضَعِيفٌ ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهَا خَاصًّا ، فَإِنَّ
آخِرَهَا عَامٌّ ، وَخُصُوصُ أَوَّلِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ آخِرِهَا ، لَا
سِيَّمَا إذَا كَانَ الْعَامُّ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ نَصٌّ فِي الرِّبَا ، وَغَيْرُهُ
مَقِيسٌ عَلَيْهِ فَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ
فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ
.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ فِي غَيْرِهِ مِنْ
الدُّيُونِ : { لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا }
قُلْنَا : سَنَتَكَلَّمُ عَلَى الْآيَةِ فِي مَوْضِعهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قِيلَ : وَبِمَ تُعْلَمُ الْعُسْرَةُ ؟ قُلْنَا :
بِأَنْ لَا نَجِدَ لَهُ مَالًا ؛ فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ : خَبَّأَ مَالًا .
قُلْنَا لِلْمَطْلُوبِ : أَثْبِتْ عَدَمَك ظَاهِرًا
وَيَحْلِفُ بَاطِنًا ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : مَا الْمَيْسَرَةُ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا الدَّيْنُ ؟ : وَقَدْ اخْتَلَفَ
النَّاسُ فِيهَا اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
تَحْرِيرُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا : أَنَّهُ يُتْرَكُ لَهُ
مَا يَعِيشُ بِهِ الْأَيَّامَ وَكِسْوَةُ لِبَاسِهِ وَرُقَادِهِ ، وَلَا تُبَاعُ
ثِيَابُ جُمُعَتِهِ ، وَيُبَاعُ خَاتَمُهُ ، وَتَفْصِيلُ الْفُرُوعِ فِي
الْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُعْسِرِ قُرْبَةٌ ؛ وَذَلِكَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ
إنْظَارِهِ إلَى الْمَيْسَرَةِ ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى حُذَيْفَةُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَلَقَّتْ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ
رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، قَالُوا : عَمِلْت مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا ؟
قَالَ : كُنْت آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُوسِرَ وَيَتَجَاوَزُوا عَنْ
الْمُعْسِرِ .
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : تَجَاوَزُوا عَنْهُ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ : كَعْبِ بْنِ
عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ ، أَظَلَّهُ
اللَّهُ فِي ظِلِّهِ } ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } هِيَ آيَةٌ عُظْمَى فِي الْأَحْكَامِ ، مُبَيِّنَةٌ جُمَلًا مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَهِيَ أَصْلٌ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ ، وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُرُوعِ ، جِمَاعُهَا عَلَى اخْتِصَارٍ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْغَرَضِ دُونَ الْإِكْثَارِ فِي الثِّنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي حَقِيقَةِ الدَّيْنِ : هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مُعَامَلَةٍ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهَا نَقْدًا وَالْآخَرُ فِي الذِّمَّةِ نَسِيئَةً ، فَإِنَّ الْعَيْنَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا كَانَ حَاضِرًا ، وَالدَّيْنُ مَا كَانَ غَائِبًا قَالَ الشَّاعِرُ : وَعَدَتْنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاءً وَشِوَاءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ وَالْمُدَايَنَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَرْضَاهُ وَالْآخَرُ يَلْتَزِمُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمَهْرُ إلَى أَجَلٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، وَيَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ ؛ وَهَذَا وَهْمٌ ، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى النِّكَاحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَهْرِ وَعَلَى الدَّمِ الْمُفْضِي إلَى الصُّلْحِ ، وَالْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ ، وَالْمَالُ فِي الدَّمِ بَيْعٌ ؛ وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ حُكْمِ حَالِ دَيْنٍ مُجَرَّدٍ وَمَالٍ مُفْرَدٍ ؛ فَعَلَيْهِ يُحْمَلُ عُمُومُ الشَّهَادَةِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَاكْتُبُوهُ } يُرِيدُ يَكُونُ صَكًّا لِيَسْتَذْكِرَ
بِهِ عِنْدَ أَجَلِهِ ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ الْغَفْلَةِ فِي الْمُدَّةِ
الَّتِي بَيْنَ الْمُعَامَلَةِ وَبَيْنَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَالنِّسْيَانُ
مُوَكَّلٌ بِالْإِنْسَانِ ، وَالشَّيْطَانُ رُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْإِنْكَارِ ،
وَالْعَوَارِضُ مِنْ مَوْتٍ وَغَيْرِهِ تَطْرَأُ ؛ فَشُرِعَ الْكِتَابُ
وَالْإِشْهَادُ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَوَّلُ
مَنْ جَحَدَ آدَم قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا
خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ ، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ ،
فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ :
هَذَا ابْنُك دَاوُد .
قَالَ : كَمْ عُمُرُهُ ؟ قَالَ : سِتُّونَ سَنَةً .
قَالَ : رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ .
قَالَ :
لَا إلَّا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ مِنْ عُمُرِك فَزَادَهُ
أَرْبَعِينَ مِنْ عُمُرِهِ ، فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابًا
وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ رُوحَهُ
قَالَ : بَقِيَ مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سَنَةً .
فَقِيلَ لَهُ : إنَّك قَدْ جَعَلْتهَا لِابْنِك دَاوُد .
قَالَ : فَجَحَدَ آدَم .
قَالَ :
فَأُخْرِجَ إلَيْهِ الْكِتَابُ ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ
الْبَيِّنَةَ ، وَأَتَمَّ لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ وَلِآدَمَ عُمُرَهُ أَلْفَ
سَنَةٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : {
فَاكْتُبُوهُ } إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ إلَى أَنَّهُ يَكْتُبُهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ
الْمُبَيَّنَةِ لَهُ الْمُعْرِبَةِ عَنْهُ الْمُعَرِّفَةِ لِلْحَاكِمِ بِمَا
يَحْكُمُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِمَا إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } فِيهِ وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّاسَ لَمَّا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ حَتَّى لَا يَشِذَّ
أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ الْمُعَامَلَةِ ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ وَمَنْ لَا
يَكْتُبُ ، أَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الَّذِي لَهُ
الدَّيْنُ يُتَّهَمُ فِي الْكِتَابَةِ لِلَّذِي عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ
، شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَاتِبًا يَكْتُبُ بِالْعَدْلِ ، لَا يَكُونُ فِي
قَلْبِهِ وَلَا فِي قَلَمِهِ هَوَادَةٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا
عَلَّمَهُ اللَّهُ } فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ ؛ قَالَهُ
الشَّعْبِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكَاتِبِ فِي حَالِ
فَرَاغِهِ ؛ قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ نَدْبٌ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ
وَعَطَاءٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَمْرُ إرْشَادٍ ؛ فَلَا يَكْتُبُ
حَتَّى يَأْخُذَ حَقَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا أَمْلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّهُ الْمُقِرُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ لَهُ ، فَلَوْ قَالَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ : لِي كَذَا وَكَذَا لَمْ يَنْفَعْ حَتَّى يُقِرَّ لَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ ، وَإِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا نَحْوٌ مِنْهُ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } لَمَّا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُنَّ فِي الَّذِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَرْحَامُهُنَّ ، وَقَوْلُ الشَّاهِدِ أَيْضًا فِيمَا وَعَاهُ قَلْبُهُ مِنْ عِلْمِ مَا عِنْدَهُ مِمَّا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَازُعِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا } أَمَّا السَّفِيهُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الْجَاهِلُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الصَّبِيُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ ؛
قَالَهُ الْحَسَنُ .
الرَّابِعُ : الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدُ
لِدَيْنِهِ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ
.
وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَقِيلَ : هُوَ الْأَحْمَقُ ،
وَقِيلَ : هُوَ الْأَخْرَسُ أَوْ الْغَبِيُّ ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ .
وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ ،
فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْغَبِيُّ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَمْنُوعُ بِحُبْسَةٍ أَوْ عِيٍّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمَجْنُونُ .
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ نُخْبَتُهُ : أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقَّ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ :
مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يُمِلُّ ، وَثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ لَا يُمِلُّونَ ، وَلَا
يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ صِنْفًا وَاحِدًا أَوْ صِنْفَيْنِ
؛ لِأَنَّ تَعْدِيدَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ كَأَنَّهُ يَخْلُو عَنْ الْفَائِدَةِ ،
وَيَكُونُ مِنْ فَنِّ الْمُثَبَّجِ [ مِنْ ] الْقَوْلِ الرَّكِيكِ مِنْ الْكَلَامِ
، وَلَا يَنْبَغِي هَذَا فِي كَلَامٍ حَكِيمٍ ، فَكَيْفَ فِي كَلَامِ أَحْكَمِ
الْحَاكِمِينَ .
فَتَعَيَّنَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ
صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مَعْنًى لَيْسَ لِصَاحِبِهِ حَتَّى
تَتِمَّ الْبَلَاغَةُ ، وَتَكْمُلَ الْفَائِدَةُ ، وَيَرْتَفِعَ التَّدَاخُلُ
الْمُوجِبُ لِلتَّقْصِيرِ ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ السَّفِيهُ وَالضَّعِيفُ وَاَلَّذِي
لَا يَسْتَطِيعُ ، قَرِيبًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّ
الْعَرَبَ تُطْلِقُ السَّفِيهَ عَلَى ضَعِيفِ الْعَقْلِ تَارَةً وَعَلَى ضَعِيفِ
الْبَدَنِ أُخْرَى ، وَأَنْشَدُوا : مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ
رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ أَيْ :
اسْتَضْعَفَتْهَا وَاسْتَلَانَتْهَا فَحَرَّكَتْهَا .
وَكَذَلِكَ يُطْلَقُ الضَّعِيفُ عَلَى ضَعِيفِ الْعَقْلِ
، وَعَلَى ضَعِيفِ
الْبَدَنِ
، وَقَدْ قَالُوا : الضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ فِي الْبَدَنِ ، وَفَتْحِهَا فِي
الرَّأْيِ ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ ، وَكُلُّ ضَعِيفٍ لَا يَسْتَطِيعُ مَا
يَسْتَطِيعُهُ الْقَوِيُّ ؛ فَثَبَتَ التَّدَاخُلُ فِي مَعْنَى هَذِهِ
الْأَلْفَاظِ .
وَتَحْرِيرُهَا الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ الْكَلَامُ
وَيَصِحُّ مَعَهُ النِّظَامُ أَنَّ السَّفِيهَ هُوَ الْمُتَنَاهِي فِي ضَعْفِ
الْعَقْلِ وَفَسَادِهِ ، كَالْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ، نَظِيرُهُ
الشَّاهِدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى
: { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُهُ قِلَّةُ النَّظَرِ
لِنَفْسِهِ كَالطِّفْلِ نَظِيرُهُ ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى : {
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا
عَلَيْهِمْ } وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ فَهُوَ الْغَبِيُّ
الَّذِي يَفْهَمُ مَنْفَعَتَهُ لَكِنْ لَا يَلْفِقُ الْعِبَارَةَ عَنْهَا .
وَالْأَخْرَسُ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ مَنْطِقَهُ عَنْ
غَرَضِهِ ؛ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ خَاصَّةً
.
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } اخْتَلَفَ النَّاسُ
عَلَى مَا يَعُودُ ضَمِيرُ وَلِيِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : الْأَوَّلُ : قِيلَ يَعُودُ عَلَى
الْحَقِّ ؛ التَّقْدِيرُ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّ الْحَقِّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ ؛ التَّقْدِيرُ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
الْمَمْنُوعُ مِنْ الْإِمْلَاءِ بِالسَّفَهِ وَالضَّعْفِ وَالْعَجْزِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْوَلِيِّ فِي الْإِطْلَاقِ ، يُقَالُ : وَلِيُّ السَّفِيهِ وَوَلِيُّ
الضَّعِيفِ ، وَلَا يُقَالُ وَلِيُّ الْحَقِّ ، إنَّمَا يُقَالُ صَاحِبُ الْحَقِّ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إقْرَارَ الْوَصِيِّ
جَائِزٌ عَلَى يَتِيمِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْلَى فَقَدْ نَفَذَ قَوْلُهُ فِيمَا
أَمْلَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ تَصَرَّفَ السَّفِيهُ الْمَحْجُورُ دُونَ
وَلِيِّ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فَاسِدٌ إجْمَاعًا مَفْسُوخٌ أَبَدًا ، لَا يُوجِبُ
حُكْمًا وَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا .
وَإِنْ تَصَرَّفَ سَفِيهٌ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ
فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ ؛ فَابْنُ الْقَاسِمِ يُجَوِّزُ فِعْلَهُ ،
وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا يُسْقِطُونَهُ
.
وَاَلَّذِي أَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ تَصَرَّفَ
بِسَدَادٍ نَفَذَ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ سَدَادٍ بَطَلَ .
وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَرُبَّمَا بُخِسَ فِي الْبَيْعِ
وَخُدِعَ ، وَلَكِنَّهُ تَحْتَ النَّظَرِ كَائِنٌ ، وَعَلَى الِاعْتِبَارِ
مَوْقُوفٌ .
وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ فَلَا
خِلَافَ فِي جَوَازِ تَصَرُّفِهِ ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ
احْتَاجَ مِنْهُمْ إلَى الْمُعَامَلَةِ عَامَلَ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْإِمْلَاءِ أَمْلَى عَنْ نَفْسِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَمْلَى عَنْهُ
وَلِيُّهُ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيِّنٌ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا } اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَوْ نَدْبٌ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَدْبٌ كَمَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { شَهِيدَيْنِ } رَتَّبَ اللَّهُ الشَّهَادَاتِ بِحِكْمَتِهِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَالْحُدُودِ ، فَجَعَلَهَا فِي كُلِّ فَنٍّ شَهِيدَيْنِ ، إلَّا فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ قَرَنَ ثُبُوتَهَا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، تَأْكِيدًا فِي السَّتْرِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النُّورِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ رِجَالِكُمْ } قَالَ مُجَاهِدٌ :
أَرَادَ مِنْ الْأَحْرَارِ ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ وَأَطْنَبَ
فِيهِ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ : مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ
قَوْله تَعَالَى : ( مِنْ الرِّجَالِ ) كَانَ يُغْنِي عَنْهُ ، فَلَا بُدَّ
لِهَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنْ خِصِّيصَةٍ ، وَهِيَ إمَّا أَحْرَارُكُمْ وَإِمَّا
مُؤْمِنُوكُمْ ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ أَخَصُّ مِنْ الْأَحْرَارِ ؛ لِأَنَّ
هَذِهِ الْإِضَافَةَ هِيَ إضَافَةُ الْجَمَاعَةِ ، وَإِلَّا فَمَنْ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ
الشَّتَاتَ ، وَيُنَظِّمُ الشَّمْلَ النَّظْمَ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ
الْإِضَافَةُ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَالِغُونَ
مِنْ ذُكُورِكُمْ الْمُسْلِمُونَ ؛ لِأَنَّ الطِّفْلَ لَا يُقَالُ لَهُ رَجُلٌ ،
وَكَذَا الْمَرْأَةُ لَا يُقَالُ لَهَا رَجُلٌ أَيْضًا .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ
شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ ، وَعَيَّنَ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْله تَعَالَى : { مِنْ رِجَالِكُمْ
} الْمُسْلِمَ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا قَوْلَ لَهُ ؛ وَعَنَى الْكَبِيرَ أَيْضًا
؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا مَحْصُولَ لَهُ .
وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِشْهَادِ
الْبَالِغِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ ؛ فَأَمَّا
الصَّغِيرُ فَيَحْفَظُ الشَّهَادَةَ ؛ فَإِذَا أَدَّاهَا وَهُوَ رَجُلٌ جَازَتْ ؛
وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَلَيْسَ لِلْآيَةِ أَثَرٌ فِي شَهَادَةِ الْعَبْدِ يَرِدُ
، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { مِنْ رِجَالِكُمْ } يَقْتَضِي جَوَازَ شَهَادَةِ الْأَعْمَى عَلَى مَا يَتَحَقَّقُهُ وَيَعْلَمُهُ ، فَإِنَّ السَّمْعَ فِي الْأَصْوَاتِ طَرِيقٌ لِلْعِلْمِ كَالْبَصَرِ لِلْأَلْوَانِ ، فَمَا عَلِمَهُ أَدَّاهُ ، كَمَا يَطَأُ زَوْجَتَهُ بِاللَّمْسِ وَالشَّمِّ ، وَيَأْكُلُ بِالذَّوْقِ ، فَلِمَ لَا يَشْهَدُ عَلَى طَعَامٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَدْ ذَاقَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ
عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى : { مِنْ رِجَالِكُمْ } جَوَازَ شَهَادَةِ
الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ ، وَقَدْ مَنَعَهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَمَالِكٌ فِي مَشْهُورِ قَوْلِهِ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا الْوُجُوهَ الَّتِي مَنَعَهَا
أَشْيَاخُنَا مِنْ أَجْلِهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهَا
مَعَ الْعَدَالَةِ كَشَهَادَةِ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ .
وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ ؛
فَأَمَرَ بِالصِّيَامِ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } مِنْ أَلْفَاظِ الْإِبْدَالِ ، فَكَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَلَّا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ شَهَادَةِ الرِّجَالِ ، كَحُكْمِ سَائِرِ إبْدَالِ الشَّرِيعَةِ مَعَ مُبْدَلَاتِهَا ؛ وَهَذَا لَيْسَ كَمَا زَعَمَهُ ، وَلَوْ أَرَادَ رَبُّنَا ذَلِكَ لَقَالَ : فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ : فَأَمَّا وَقَدْ قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُونَا فَهَذَا قَوْلٌ يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَصْحَابُنَا : لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بَدَلَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَهُ ، فَكَمَا يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ بِمُطْلَقِ هَذِهِ الْعِوَضِيَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : لِمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ } فَقَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ الشَّهَادَةِ وَعَدَّدَهَا
، وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ فَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ ؛
لِأَنَّهُ يَكُونُ قِسْمًا ثَالِثًا فِيمَا قَدْ قَسَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
قِسْمَيْنِ .
وَسَلَكَ عُلَمَاؤُنَا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ
مَسْلَكَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قِسْمِ الشَّهَادَةِ ،
وَإِنَّمَا الْحُكْمُ هُنَالِكَ بِالْيَمِينِ ، وَحَطُّ الشَّاهِدِ تَرْجِيحُ
جَنْبَةِ الْمُدَّعِي ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ خُرَاسَانَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ
مَالِكٌ إنَّ الْقَوْمَ قَدْ قَالُوا يُقْضَى بِالنُّكُولِ ، وَهُوَ قِسْمٌ
ثَالِثٌ لَيْسَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ ، كَذَلِكَ يُحْكَمُ بِالشَّهَادَةِ
وَالْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ .
وَالْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ أُسْلُوبُ الشَّرْعِ ،
وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِمُنَاقَضَةِ الْخَصْمِ ، وَالْمَسْلَكُ
الْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى
مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ جُعِلَ أَصْلَهَا وَجُعِلَتْ
فَرْعَهُ ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْهُ ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
كِتَابِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْعَوْجَاءِ
، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ
ضِلْعٍ أَعْوَجَ ، فَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا ، وَإِنْ اسْتَمْتَعْت
بِهَا اسْتَمْتَعْت بِهَا عَلَى عِوَجٍ ، وَقَالَ : وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا } .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ نَقْصُ دِينِهَا .
الرَّابِعُ :
أَنَّهُ نَقْصُ عَقْلِهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ : { مَا
رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ .
قُلْنَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَمَا نُقْصَانُ
دِينِنَا وَعَقْلِنَا ؟ قَالَ : أَلَيْسَ تَمْكُثُ إحْدَاكُنَّ اللَّيَالِيَ لَا تَصُومُ
وَلَا تُصَلِّي ، وَشَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ عَلَى نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ ؟ } .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ نَقْصُ حَظِّهَا فِي الْمِيرَاثِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ } السَّادِسُ : أَنَّهَا نَقَصَتْ قُوَّتُهَا ؛ فَلَا تُقَاتِلُ
وَلَا يُسْهَمُ لَهَا ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَانٍ حُكْمِيَّةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ نُسِبَ النَّقْصُ إلَيْهِنَّ
وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِنَّ ؟ قُلْنَا : هَذَا مِنْ عَدْلِ اللَّهِ يَحُطُّ مَا
شَاءَ وَيَرْفَعُ مَا شَاءَ ، وَيَقْضِي مَا أَرَادَ ، وَيَمْدَحُ وَيَلُومُ وَلَا
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ
مَنَازِلَ ، وَرَتَّبَهَا مَرَاتِبَ ؛ فَبَيَّنَ ذَلِكَ لَنَا فَعَلِمْنَا
وَآمَنَّا بِهِ وَسَلَّمْنَاهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } هَذَا تَقْيِيدٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ ، وَقَصَرَ الشَّهَادَةَ عَلَى الرِّضَا خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ عَظِيمَةٌ ؛ إذْ هِيَ تَنْفِيذُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ ؛ فَمِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَمَائِلُ يَنْفَرِدُ بِهَا ، وَفَضَائِلُ يَتَحَلَّى بِهَا حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ تُوجِبُ لَهُ تِلْكَ الْمَزِيَّةُ رُتْبَةَ الِاخْتِصَاصِ بِقَبُولِ قَوْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَيُقْضَى لَهُ بِحُسْنِ الظَّنِّ ، وَيُحْكَمُ بِشُغْلِ ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ بِالْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ ، وَيُغَلَّبُ قَوْلُ الطَّالِبِ عَلَى قَوْلِهِ بِتَصْدِيقِهِ لَهُ فِي دَعْوَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } دَلِيلٌ عَلَى تَفْوِيضِ الْقَبُولِ فِي الشَّهَادَةِ إلَى الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّ الرِّضَا مَعْنًى يَكُونُ فِي النَّفْسِ بِمَا يَظْهَرُ إلَيْهَا مِنْ الْأَمَارَاتِ عَلَيْهِ ، وَيَقُومُ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ ، وَلَا يَكُونُ غَيْرُ هَذَا ؛ فَإِنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ لِغَيْرِهِ لَمَا وَصَلَ إلَيْهِ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ ، وَاجْتِهَادُهُ أَوْلَى مِنْ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ عَلَى مَا خَفِيَ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِ
الْإِسْلَامِ فِي الشَّهَادَةِ حَتَّى يَقَعَ الْبَحْثُ عَنْ الْعَدَالَةِ ؛
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فِي
الْأَمْوَالِ دُونَ الْحُدُودِ ؛ وَهَذِهِ مُنَاقَضَةٌ تُسْقِطُ كَلَامَهُ
وَتُفْسِدُ عَلَيْهِ مَرَامَهُ ، فَيَقُولُ : حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ ، فَلَا
يُكْتَفَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ الدِّينِ كَالْحُدُودِ ، وَقَدْ
مَهَّدْت الْمَسْأَلَةَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : هَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَلَّا تُقْبَلَ
شَهَادَةُ وَلَدٍ لِأَبِيهِ ، وَلَا أَبٍ لِوَلَدِهِ .
قَالَ مَالِكٌ : وَلَا كُلِّ ذِي نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ
يُفْضِي إلَى وَصْلَةٍ تَقَعُ بِهَا التُّهْمَةُ ، كَالصَّدَاقَةِ
وَالْمُلَاطَفَةِ وَالْقَرَابَةِ الثَّابِتَةِ .
وَفِي كُلِّ ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ
، بَيَانُهُ فِي إيضَاحِ دَلَائِلِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، بَيَانُهُ فِي إلْزَامِ
وَصْفِ الرِّضَا الْمُشَاهَدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِي أَكَّدَهُ
بِالْعَدَالَةِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ، فَقَالَ تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَلَا يَجْتَمِعُ الْوَصْفَانِ حَتَّى تَنْتَفِيَ
التُّهْمَةُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا شُرِطَ الرِّضَا وَالْعَدَالَةُ فِي الْمُدَايَنَةِ فَاشْتِرَاطُهَا فِي النِّكَاحِ أَوْلَى ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ : إنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ ، فَنَفَى الِاحْتِيَاطَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ عَنْ النِّكَاحِ ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَالْجَدِّ وَالنَّسَبِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى } فِيهِ
تَأْوِيلَانِ وَقِرَاءَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنْ تَجْعَلَهَا ذِكْرًا ، وَهَذِهِ
قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ .
الثَّانِي : أَنْ تُنَبِّهَهَا إذَا غَفَلَتْ وَهِيَ
قِرَاءَةُ التَّثْقِيلِ ؛ وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّهُ يَعْضُدُهُ
قَوْله تَعَالَى : { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا } وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْقُبَ
الضَّلَالَ وَالْغَفْلَةَ الذِّكْرُ ، وَيَدْخُلُ التَّأْوِيلُ الثَّانِي فِي مَعْنَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا كَانَتْ امْرَأَةً وَاحِدَةً
مَعَ رَجُلٍ فَيُذَكِّرَهَا الرَّجُلُ الَّذِي مَعَهَا إذَا نَسِيَتْ ؛ فَمَا الْحِكْمَةُ
فِيهِ ؟ فَالْجَوَابُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ مَا أَرَادَ ،
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ وَأَوْفَى بِالْمَصْلَحَةِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ
أَنْ يَعْلَمَ الْخَلْقُ وُجُوهَ الْحِكْمَةِ وَأَنْوَاعَ الْمَصَالِحِ فِي
الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ أَشَارَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهُ لَوْ ذَكَّرَهَا إذَا نَسِيَتْ
لَكَانَتْ شَهَادَةً وَاحِدَةً ، فَإِذَا كَانَتْ امْرَأَتَيْنِ وَذَكَّرَتْ
إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ،
كَالرَّجُلِ يَسْتَذْكِرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتَذَكَّرُ .
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23