ج4/ التجويد
كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } فَكَرَّرَ قَوْلَهُ : " إحْدَاهُمَا " وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ الْأُخْرَى ، لَكَانَتْ شَهَادَةً وَاحِدَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى لَكَانَ الْبَيَانُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لِتَذْكِرَةِ الذَّاكِرَةِ النَّاسِيَةِ ، فَلَمَّا كَرَّرَ إحْدَاهُمَا أَفَادَ تَذْكِرَةَ الذَّاكِرَةِ لِلْغَافِلَةِ وَتَذْكِرَةَ الْغَافِلَةِ لِلذَّاكِرَةِ أَيْضًا لَوْ انْقَلَبَتْ الْحَالُ فِيهِمَا بِأَنْ تَذْكُرَ الْغَافِلَةُ وَتَغْفُلَ الذَّاكِرَةُ ؛ وَذَلِكَ غَايَةٌ فِي الْبَيَانِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ
إذَا مَا دُعُوا } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إذَا
تَحَمَّلُوا .
الثَّانِي : لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْ الْأَدَاءِ .
الثَّالِثُ :
لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، لَا
يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْ التَّحَمُّلِ إذَا حُمِّلُوا وَلَا يَأْبَوْا عَنْ
الْأَدَاءِ إذَا تَحَمَّلُوا .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا النَّهْيِ عَنْ
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ نَدْبٌ .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ
مُطْلَقًا ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ
.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا حَالَةُ
التَّحَمُّلِ لِلشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْأَدَاءِ مُبَيَّنَةٌ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وَإِذَا كَانَتْ
حَالَةُ التَّحَمُّلِ فَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكَافِيَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ
سَقَطَ عَنْ الْبَعْضِ ؛ لِأَنَّ إبَايَةَ النَّاسِ كُلِّهِمْ عَنْهَا إضَاعَةٌ
لِلْحُقُوقِ ، وَإِجَابَةُ جَمِيعِهِمْ إلَيْهَا تَضْيِيعٌ لِلْأَشْغَالِ ؛
فَصَارَتْ كَذَلِكَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلَهَا
أَهْلُ تِلْكَ الدِّيَارِ وِلَايَةً فَيُقِيمُونَ لِلنَّاسِ شُهُودًا
يُعَيِّنُهُمْ الْخَلِيفَةُ وَنَائِبُهُ ، وَيُقِيمُهُمْ لِلنَّاسِ وَيُبْرِزُهُمْ
لَهُمْ ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كِفَايَتَهُمْ ، فَلَا يَكُونُ
لَهُمْ شُغْلٌ إلَّا تَحَمُّلُ حُقُوقِ النَّاسِ حِفْظًا ، وَإِحْيَاؤُهَا لَهُمْ
أَدَاءً .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ شَهَادَةٌ بِالْأُجْرَةِ .
قُلْنَا :
إنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ خَالِصَةٌ مِنْ قَوْمٍ
اسْتَوْفَوْا حُقُوقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ
الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الَّذِي يَمْشِي إلَى الْحَاكِمِ ، وَهَذَا أَمْرٌ انْبَنَى عَلَيْهِ الشَّرْعُ ، وَعُمِلَ بِهِ فِي كُلِّ زَمَنٍ ، وَفَهِمَتْهُ كُلُّ أُمَّةٍ ، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ : " فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ " .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : كَيْفَمَا تَرَدَّدَتْ الْحَالُ بِالْأَقْوَالِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى خُرُوجِ الْعَبْدِ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَأْبَى ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُ بِنَفْسِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِإِذْنِ غَيْرِهِ ، فَانْحَطَّ عَنْ مَنْصِبِ الشَّهَادَةِ كَمَا انْحَطَّ عَنْ مَنْصِبِ الْوِلَايَةِ ، نَعَمْ وَكَمَا انْحَطَّ عَنْهُ فَرْضُ الْجُمُعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ
إلَى الشَّهَادَةِ ، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِرَجُلٍ لَمْ
يَعْلَمْ بِهَا مُسْتَحِقُّهَا الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهَا فَقَالَ قَوْمٌ :
أَدَاؤُهَا نَدْبٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا
دُعُوا } فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْأَدَاءَ عِنْدَ الدُّعَاءِ ،
وَإِذَا لَمْ يُدْعَ كَانَ نَدْبًا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ
يُسْأَلَهَا } .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ أَدَاءَهَا فَرْضٌ ؛ لِمَا
ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اُنْصُرْ
أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا
} .
فَقَدْ تَعَيَّنَ نَصْرُهُ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ
الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ ؛ إحْيَاءً لِحَقِّهِ الَّذِي أَمَاتَهُ الْإِنْكَارُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ } هَذَا تَأْكِيدٌ مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى فِي الْإِشْهَادِ بِالدَّيْنِ ، تَنْبِيهًا لِمَنْ كَسِلَ ، فَقَالَ :
هَذَا قَلِيلٌ لَا أَحْتَاجُ إلَى كَتْبِهِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ
أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَالتَّخْصِيصَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ ، وَالْقَلِيلُ
وَالْكَثِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إلَّا مَا كَانَ مِنْ قِيرَاطٍ وَنَحْوِهِ
لِنَزَارَتِهِ وَعَدَمِ تَشَوُّفِ النُّفُوسِ إلَيْهِ إقْرَارًا أَوْ إنْكَارًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } يُرِيدُ أَعْدَلَ يَعْنِي أَنْ يُكْتَبَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَيُشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْعَدْلِ عُمُومُ ذَلِكَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ } يَعْنِي أَدْعَى إلَى ثُبُوتِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ رُبَّمَا نَسِيَ الشَّاهِدُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا } بِالشَّاهِدِ إذَا نَسِيَ أَوْ قَالَ خِلَافَ مَا عِنْدَ الْمُتَدَايِنَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَقْوَمُ
لِلشَّهَادَةِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا رَأَى الْكِتَابَ فَلَمْ
يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ لَا يُؤَدِّيهَا ؛ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّيبَةِ
فِيهَا وَلَا يُؤَدِّي إلَّا مَا يَعْلَمُ ، لَكِنَّهُ يَقُولُ خُذَا خَطِّي ،
وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ مَا كَتَبْت فِيهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ فِي
" الْمُدَوَّنَةِ " : يُؤَدِّيهَا وَلَا
يَنْفَعُ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ وَالطَّلَاقِ .
الثَّانِي : قَالَ فِي " كِتَابِ مُحَمَّدٍ "
: لَا يُؤَدِّيهَا .
الثَّالِثُ :
قَالَ مُطَرِّفٌ : يُؤَدِّيهَا وَيَنْفَعُ إذَا لَمْ
يَشُكَّ فِي كِتَابٍ ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ
ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَالْمُغِيرَةِ
.
وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ،
وَبَيَّنَّا تَعَلُّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ خَطَّهُ فَرْعٌ
عَنْ عِلْمِهِ ، فَإِذَا ذَهَبَ عِلْمُهُ ذَهَبَ نَفْعُ خَطِّهِ ، وَأَجَبْنَا
بِأَنَّ خَطَّهُ بَدَلُ الذِّكْرَى ، فَإِنْ حَصَلَتْ وَإِلَّا قَامَ مَقَامَهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } قَالَ الشَّعْبِيُّ : الْبُيُوعُ ثَلَاثَةٌ : بَيْعٌ بِكِتَابٍ وَشُهُودٍ ، وَبَيْعٌ بِرِهَانٍ ، وَبَيْعٌ بِأَمَانَةٍ ؛ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ؛ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ ، وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ وَأَشْهَدَ ، وَكَانَ كَأَبِيهِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُقْتَدِيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : ظَنَّ مَنْ رَأَى الْإِشْهَادَ فِي الدَّيْنِ
وَاجِبًا أَنَّ سُقُوطَهُ فِي بَيْعِ النَّقْدِ رَفْعٌ لِلْمَشَقَّةِ لِكَثْرَةِ
تَرَدُّدِهِ .
وَالظَّاهِرُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ
وَاجِبًا ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ بِهِ أَمْرُ إرْشَادٍ لِلتَّوَثُّقِ
وَالْمَصْلَحَةِ ، وَهُوَ فِي النَّسِيئَةِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ؛ لِكَوْنِ
الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَاقِيَةً ؛ تَوَثُّقًا لِمَا عَسَى أَنْ
يَطْرَأَ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الْقُلُوبِ ، فَأَمَّا إذَا
تَفَاصَلَا فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَقَابَضَا ، وَبَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِنْ صَاحِبِهِ فَيَقِلُّ فِي الْعَادَةِ خَوْفُ التَّنَازُعِ إلَّا بِأَسْبَابٍ
عَارِضَةٍ ، وَنَبَّهَ الشَّرْعُ عَلَى هَذِهِ الْمَصَالِحِ فِي حَالَتَيْ النَّسِيئَةِ
وَالنَّقْدِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا } يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ
الْإِشْهَادِ فِي النَّقْدِ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ }
أَمْرُ إرْشَادٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ جُنَاحًا فِي تَرْكِ
الْإِشْهَادِ فِي الدَّيْنِ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ
فِي هَذَا النَّوْعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
وَالْجُنَاحُ هَاهُنَا لَيْسَ الْإِثْمَ ، إنَّمَا هُوَ
الضَّرَرُ الطَّارِئُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ مِنْ التَّنَازُعِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي لَفْظِ ( أَفْعِلْ ) فِي قَوْله تَعَالَى : {
وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ
فَرْضٌ ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الثَّانِي :
أَنَّهُ نَدْبٌ ؛ قَالَهُ الْكَافَّةُ ؛ وَهُوَ
الصَّحِيحُ ؛ فَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ
وَنُسْخَةُ كِتَابِهِ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا
اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لِأَدَاءٍ وَلَا
غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ ، بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ } .
وَقَدْ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ ، وَاشْتَرَى وَرَهَنَ دِرْعَهُ
عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَلَمْ يُشْهِدْ ، وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا
لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا
شَهِيدٌ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَكْتُبَ الْكَاتِبُ مَا
لَمْ يُمْلِ عَلَيْهِ ، وَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِمَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ
قَالَهُ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَطَاوُسٌ .
الثَّانِي : يَمْتَنِعُ الْكَاتِبُ أَنْ يَكْتُبَ ،
وَالشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ .
الثَّالِثُ : أَنْ يُدْعَى الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ
وَهُمَا مَشْغُولَانِ مَعْذُورَانِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُضَارَّ تَفَاعُلٌ مِنْ الضَّرَرِ .
قَوْله تَعَالَى " يُضَارَّ " يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ تُفَاعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِهَا ،
فَإِنْ كَانَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَالْكَاتِبُ وَالشَّاهِدُ فَاعِلَانِ ،
فَيَكُونُ الْمُرَادُ نَهْيَهُمَا عَنْ الضَّرَرِ بِمَا يَكْتُبَانِ بِهِ أَوْ
بِمَا يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَالْكَاتِبُ وَالشَّاهِدُ
مَفْعُولٌ بِهِمَا ، فَيَرْجِعُ النَّهْيُ إلَى الْمُتَعَامِلَيْنِ أَلَّا
يَضُرَّا بِكَاتِبٍ وَلَا شَهِيدٍ فِي دُعَائِهِ فِي وَقْتِ شُغْلٍ وَلَا
بِأَدَائِهِ وَكِتَابَتِهِ مَا سَمِعَ ؛ فَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتَّابِ الشُّهَدَاءِ
يَفْسُقُونَ بِتَحْوِيلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ أَوْ كَتْمِهَا ، وَإِمَّا
مُتَعَامِلٌ يَطْلُبُ مِنْ الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ أَنْ يَدَعَ شُغْلَهُ لِحَاجَتِهِ
أَوْ يُبَدِّلَ لَهُ كِتَابَتَهُ أَوْ شَهَادَتَهُ ؛ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ :
{ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ }
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا
وَلَمْ يُجَوِّزْ الرَّهْنَ إلَّا فِي السَّفَرِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَكَافَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
هَذَا الْكَلَامَ ؛ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ ، فَالْمُرَادُ بِهِ
غَالِبُ الْأَحْوَالِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ فِي الْحَضَرِ وَرَهَنَ وَلَمْ يَكْتُبْ .
وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ
الْكَاتِبَ إنَّمَا يُعْدَمُ فِي السَّفَرِ غَالِبًا ، فَأَمَّا فِي الْحَضَرِ
فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِحَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ }
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُحْكَمُ لَهُ فِي الْوَثِيقَةِ إلَّا بَعْدَ
الْقَبْضِ ، فَلَوْ رَهَنَهُ قَوْلًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ فِعْلًا لَمْ يُوجِبْ
ذَلِكَ لَهُ حُكْمًا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ الْحُكْمَ
إلَّا لِرَهْنٍ مَوْصُوفٍ بِالْقَبْضِ ، فَإِذَا عُدِمَتْ الصِّفَةُ وَجَبَ أَنْ
يُعْدَمَ الْحُكْمُ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا ، لَكِنْ عِنْدَنَا إذَا
رَهَنَهُ قَوْلًا وَأَبَى عَنْ الْإِقْبَاضِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ }
يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ وَمُطْلَقِهِ أَنَّ الرَّهْنَ إذَا خَرَجَ عَنْ يَدِ صَاحِبِهِ
فَإِنَّهُ مَقْبُوضٌ صَحِيحٌ يُوجِبُ الْحُكْمَ وَيَخْتَصُّ بِمَا ارْتَهَنَ بِهِ
دُونَ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ : لَا يَكُونُ مَقْبُوضًا
إلَّا إنْ كَانَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، وَإِذَا صَارَ عِنْدَ الْعَدْلِ فَهُوَ
مَقْبُوضٌ لُغَةً مَقْبُوضٌ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْعِدْلَ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ
الْحَقِّ وَبِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَهُ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ وَمُطْلَقِهِ جَوَازَ رَهْنِ الْمُشَاعِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ افْتِقَارَ الرَّهْنِ بَلْ أَشَدَّ مِنْهُ ، وَهَذَا بَيِّنٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا قَبَضَ الرَّهْنَ لَمْ يَجُزْ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الصِّفَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ مِنْ الْقَبْضِ ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ ، وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : كَمَا يَجُوزُ رَهْنُ الْعَيْنِ كَذَلِكَ يَجُوزُ
رَهْنُ الدَّيْنِ ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا إذَا تَعَامَلَ رَجُلَانِ لِأَحَدِهِمَا
عَلَى الْآخَرِ دَيْنٌ فَرَهَنَهُ دَيْنَهُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ
قَبَضَهُ قَبْضًا .
وَقَالَ غَيْرُنَا مِنْ الْعُلَمَاءِ : لَا يَكُونُ
قَبْضًا ، وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ كَالِئَهَا لِزَوْجِهَا جَازَ ،
وَيَكُونُ قَبُولُهُ قَبْضًا ، وَخَالَفَنَا فِيهِ أَيْضًا غَيْرُنَا مِنْ
الْعُلَمَاءِ ؛ وَمَا قُلْنَاهُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ آكَدُ
قَبْضًا مِنْ الْمُعَيَّنِ ؛ وَهَذَا لَا يَخْفَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَلَمْ
تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّهْنَ قَائِمًا
مَقَامَ الشَّاهِدِ ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ
وَالْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَةِ
الرَّهْنِ ، وَخَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَا : الْقَوْلُ
قَوْلُ الرَّاهِنِ ، وَمَا قُلْنَاهُ يَشْهَدُ لَهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ كَمَا
قَدَّمْنَاهُ .
وَعَادَةُ النَّاسِ فِي ارْتِهَانِهِمْ مَا يَكُونُ
قَدْرَ الدَّيْنِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ ، فَإِذَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ : دَيْنِي
مِائَةٌ ، وَقَالَ الرَّاهِنُ : خَمْسُونَ ، صَارَ الرَّهْنُ شَاهِدًا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي
مَعَهُ كَمَا يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ : دَيْنِي
مِائَةٌ وَخَمْسُونَ صَارَ مُدَّعِيًا فِي الْخَمْسِينَ .
وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ ، وَظَنُّوا بِنَا أَنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّمَا نَسْتَوْفِي بِهِ إذَا هَلَكَ ، وَكَانَ مِمَّا يُعَابُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا } مَعْنَاهُ إنْ أَسْقَطَ الْكِتَابَ وَالْإِشْهَادَ وَالرَّهْنَ ،
وَعَوَّلَ عَلَى أَمَانَةِ الْمُعَامِلِ ، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي ائْتُمِنَ
الْأَمَانَةَ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ كَمَا
بَيَّنَّاهُ ، وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ وَاجِبًا لَمَا جَازَ إسْقَاطُهُ ،
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ ، وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَنَا فِي
النِّكَاحِ ، وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ : هُوَ وَاجِبٌ فِي النِّكَاحِ ،
وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِلْأَمْرِ
بِالْإِشْهَادِ ، وَتَابَعَهُمْ جَمَاعَةٌ ؛ وَلَا مُنَازَعَةَ عِنْدَنَا فِي
ذَلِكَ ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ ، وَحَبَّذَا الْمُوَافَقَةُ فِي الْمَذْهَبِ ، وَلَا
نُبَالِي مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الدَّلِيلِ .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْإِشْهَادَ حَزْمٌ ، وَالِائْتِمَانَ
وَثِيقَةٌ بِاَللَّهِ مِنْ الْمُدَايِنِ ، وَمُرُوءَةٌ مِنْ الْمَدِينِ ، وَفِي
الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
ذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلَ
بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ : ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ
أُشْهِدْهُمْ ، فَقَالَ : كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا قَالَ : فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ .
قَالَ : كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا .
قَالَ : صَدَقْت .
فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .
فَخَرَجَ الرَّجُلُ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ
ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي
أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ
فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ زَجَّجَ
مَوْضِعَهَا ، ثُمَّ أَتَى بِهَا إلَى الْبَحْرِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّك
تَعْلَمُ أَنِّي تَسَلَّفْت فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْت
: كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْت :
كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ
وَإِنِّي
جَهَدْت أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ .
وَإِنِّي اسْتَوْدَعَتْكهَا .
فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ
ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إلَى بَلَدِهِ .
فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ
لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا
الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ
وَالصَّحِيفَةَ ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ
دِينَارٍ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا زِلْت جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ
لِآتِيَكَ بِمَالِك فَمَا وَجَدْت مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْت فِيهِ قَالَ : هَلْ كُنْت
بَعَثْت إلَيَّ شَيْئًا ؟ قَالَ : أُخْبِرُك أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ
الَّذِي جِئْت بِهِ .
قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْك الَّذِي
بَعَثْت فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا } .
وَقَدْ رُوِيَ ، عَنْ سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ
قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ : نَسْخٌ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ يَعْنِي مِنْ
الْأَمْرِ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ } بِكَسْرِ الْعَيْنِ ؛ نَهْيُهُ الشَّاهِدَ عَنْ أَنْ يَضُرَّ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إثْمٌ بِالْقَلْبِ كَمَا لَوْ حَوَّلَهَا وَبَدَّلَهَا لَكَانَ كَذِبًا ، وَهُوَ إثْمٌ بِاللِّسَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : إذَا كَانَ عَلَى الْحَقِّ شُهُودٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ ، فَإِنْ أَدَّاهَا اثْنَانِ وَاجْتَزَأَ بِهِمَا الْحَاكِمُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَزِئْ بِهِمَا تَعَيَّنَ الْمَشْيُ إلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ الْإِثْبَاتُ ، وَهَذَا يُعْلَمُ بِدُعَاءِ صَاحِبِهَا ، فَإِذَا قَالَ لَهُ : أَحْيِ حَقِّي بِأَدَاءِ مَا عِنْدَك لِي مِنْ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْثِيقِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْمُحَافَظَةِ فِي مُرَاعَاةِ الْمَالِ وَحِفْظِهِ ، وَيُعْتَضَدُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ } .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ تِسْعِينَ قَوْله تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلُ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّفَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأُمَمِ بِهَا ، فَلَمْ يُحَمِّلْنَا إصْرًا وَلَا كَلَّفَنَا فِي مَشَقَّةٍ أَمْرًا ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ الْبَوْلُ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ ، فَخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إلَى وَظَائِفِ عَلَى الْأُمَمِ حَمَلُوهَا ، وَرَفَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
} ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَنَّ الْقَوَدَ وَاجِبٌ عَلَى شَرِيكِ
الْأَبِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ
اكْتَسَبَ الْقَتْلَ ؛ وَقَالُوا : إنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ
الْقِصَاصُ مَعَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ مَا
يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
} تَعَلَّقَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ
خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا لَغْوٌ فِي الْأَحْكَامِ ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ
تَعَالَى لَغْوًا فِي الْآثَامِ ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَهُمْ بِقَوْلِهِ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ
وَالنِّسْيَانُ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } .
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ
، وَالْآيَةُ إنَّمَا جَاءَتْ لِرَفْعِ الْإِثْمِ الثَّابِتِ فِي قَوْله تَعَالَى
: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ
اللَّهُ } فَأَمَّا أَحْكَامُ الْعِبَادِ وَحُقُوقُ النَّاسِ فَثَابِتَةٌ حَسَبَ
مَا يُبَيَّنُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ
آلِ عِمْرَانَ فِيهَا سِتّ وَعِشْرُونَ آيَة الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى
قَتْلِ الْآمِرِ بِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " الْمُشْكِلَيْنِ
" الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآيَاتُهُ
وَأَخْبَارُهُ وَشُرُوطُهُ وَفَائِدَتِهِ .
وَسَنُشِيرُ إلَى بَعْضِهِ هَاهُنَا فَنَقُولُ : الْمُسْلِمُ
الْبَالِغُ الْقَادِرُ يَلْزَمُهُ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ ؛ وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ
كَثِيرَةٌ ، وَالْأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ ، وَهِيَ فَائِدَةُ الرِّسَالَةِ
وَخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ ، وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِلَهِيَّةِ لِمَنْ اجْتَمَعَتْ
فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ
.
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عِنْدَ
أَهْلِ السُّنَّةِ .
وَقَالَتْ الْمُبْتَدِعَةُ : لَا يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ
إلَّا عَدْلٌ ، وَهَذَا سَاقِطٌ ؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي قَلِيلٍ
مِنْ الْخَلْقِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ .
فَإِنْ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ
} وقَوْله تَعَالَى { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ
أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَنَحْوِهِ .
قُلْنَا : إنَّمَا وَقَعَ الذَّمُّ هَاهُنَا عَلَى
ارْتِكَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ ، لَا عَنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَكَذَلِكَ
مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ، فَقِيلَ
لَهُ : هُمْ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ ، إنَّمَا
عُوقِبُوا عَلَى إتْيَانِهِمْ }
.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ مِمَّنْ
يَأْتِيه أَقْبَحُ مِمَّنْ لَا يَأْتِيه عِنْدَ فَاعِلِهِ فَيَبْعُدُ قَبُولُهُ
مِنْهُ .
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ فَهِيَ أَصْلٌ ، وَتَكُونُ مِنْهُ
فِي النَّفْسِ وَتَكُونُ فِي الْبَدَنِ إنْ احْتَاجَ إلَى
النَّهْيِ
عَنْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَغْيِيرِهِ الضَّرْبَ أَوْ
الْقَتْلَ ، فَإِنْ رَجَا زَوَالَهُ جَازَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ
الِاقْتِحَامُ عِنْدَ هَذَا الْغَرَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْجُ زَوَالَهُ فَأَيُّ
فَائِدَةٍ فِيهِ ؟ وَاَلَّذِي عِنْدَهُ : أَنَّ النِّيَّةَ إذَا خَلَصَتْ
فَلْيَقْتَحِمْ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا يُبَالِي .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا إلْقَاءٌ بِيَدِهِ إلَى
التَّهْلُكَةِ .
قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ فِي
مَوْضِعِهَا ، وَتَمَامُهَا فِي شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُنْكَرُ
الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّه تَعَالَى مَعَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ
حَقُّ الْآدَمِيِّ ؟ قُلْنَا : لَمْ نَرَ لِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نَصًّا .
وَعِنْدِي أَنَّ تَخْلِيصَ الْآدَمِيِّ أَوْجَبُ مِنْ
تَخْلِيصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَذَلِكَ مُمَهَّدٌ فِي مَوْضِعِهِ .
.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ
يُدْعَوْنَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ
مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ
ارْتِفَاعِ الْمَدْعُوِّ إلَى الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّهُ دُعِيَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ
، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ مُخَالِفًا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الزَّجْرُ
بِالْأَدَبِ عَلَى قَدْرِ الْمُخَالِفِ وَالْمُخَالَفِ .
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا دُعُوا إلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ }
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تَعَالَى : { لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ }
هَذَا عُمُومٌ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَّخِذُ الْكَافِرَ وَلِيًّا فِي
نَصْرِهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَلَا فِي أَمَانَةٍ وَلَا بِطَانَةٍ .
مِنْ دُونِكُمْ : يَعْنِي مِنْ غَيْرِكُمْ وَسِوَاكُمْ
، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا } وَقَدْ
نَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَنْ ذِمِّيٍّ كَانَ
اسْتَكْتَبَهُ بِالْيَمَنِ وَأَمَرَهُ بِعَزْلِهِ ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
: يُقَاتِلُ الْمُشْرِكُ فِي مُعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ لِعَدُوِّهِمْ ،
وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا الْمَالِكِيَّةُ .
وَالصَّحِيحُ مَنْعُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
{ إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ
} .
وَأَقُولُ : إنْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ
مُحَقَّقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ
.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : إلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ ، فَإِنْ خِفْتُمْ مِنْهُمْ
فَسَاعِدُوهُمْ وَوَالُوهُمْ وَقُولُوا مَا يَصْرِفُ عَنْكُمْ مِنْ شَرِّهِمْ
وَأَذَاهُمْ بِظَاهِرٍ مِنْكُمْ لَا بِاعْتِقَادٍ ؛ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } عَلَى
مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَصِلُوهَا بِالْعَطِيَّةِ ، كَمَا رُوِيَ { أَنَّ أَسْمَاءَ
قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ
مُشْرِكَةٌ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
صِلِي أُمَّكِ } .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الدِّينِ فَلَيْسَ
بِقَوِيٍّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا مَا تَقَدَّمَ فِي
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ
قَوْله تَعَالَى : { إذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ
مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ .
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا
أُنْثَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى
وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي حَقِيقَةِ النَّذْرِ : وَهُوَ الْتِزَامُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّا يَكُونُ
طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مِنْ الْأَعْمَالِ قُرْبَةً .
وَلَا يَلْزَمُ نَذْرُ الْمُبَاحِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَبَا إسْرَائِيلَ قَائِمًا :
فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا
يَسْتَظِلَّ وَيَصُومَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مُرُوهُ
فَلْيَصُمْ وَلْيَقْعُدْ وَلْيَسْتَظِلَّ } ؛ فَأَخْبَرَهُ بِإِتْمَامِ
الْعِبَادَةِ وَنَهَاهُ عَنْ فِعْلِ الْمُبَاحِ .
وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَهِيَ سَاقِطَةٌ إجْمَاعًا ؛
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ
نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ
فَلَا يَعْصِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ بِالْحَمْلِ : اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ
أَنَّ الْحَمْلَ فِي حَيِّزِ الْعَدَمِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِوُجُودِهِ غَيْرُ
مَعْلُومٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَفْخٌ فِي الْبَطْنِ لِعِلَّةٍ وَحَرَكَةُ
خَلْطٍ يَضْطَرِبُ ، وَرِيحٌ يَنْبَعِثُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِوَلَدٍ ؛ وَقَدْ
يَغْلِبُ عَلَى الْبَطْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَالَةٍ ، وَقَدْ يَشْكُلُ
الْحَالُ ؛ فَإِنْ فَرَضْنَا غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي كَوْنِهِ حَمْلًا فَقَدْ
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهِ
وَتَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ .
وَالثَّانِي : عَقْدٌ مُطْلَقٌ لَا عِوَضِيَّةَ فِيهِ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ
فَإِنَّهُ سَاقِطٌ فِيهِ إجْمَاعًا ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ } .
وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا تَضَمَّنَ
الْعِوَضَ وَجَبَ تَنْزِيهُهُ عَنْ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِي حُصُولِ
الْفَائِدَةِ الَّتِي بَذَلَ الْمَرْءُ فِيهَا مَالَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ
حُصُولُ تِلْكَ الْفَائِدَةِ كَانَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ .
وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ
الْمُجَرَّدُ مِنْ الْعِوَضِ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالنَّذْرِ فَإِنَّهُ
يَرِدُ عَلَى الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ فِيهِ مُنْتَفٍ إذْ هُوَ تَبَرُّعٌ
مُجَرَّدٌ ؛ فَإِنْ اتَّفَقَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ لَمْ
يَسْتَضِرَّ أَحَدٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي مَعْنَى الْآيَةِ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ لِعِمْرَانَ
بْنِ مَاثَانَ ابْنَتَانِ : إحْدَاهُمَا حِنَّةُ وَالْأُخْرَى يملشقع وَبَنُو
مَاثَانَ مِنْ مُلُوكِ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ نَسْلِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَكَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يُحَرَّرُ إلَّا الْغِلْمَانُ ، فَلَمَّا
نَذَرَتْ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا عِمْرَانُ : أَرَأَيْتُكِ إنْ كَانَ مَا فِي
بَطْنِكِ أُنْثَى كَيْفَ نَفْعَلُ ؟ فَاهْتَمَّتْ لِذَلِكَ فَقَالَتْ : إنِّي
نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ لَا وَلَدَ لَهَا ،
فَلَمَّا حَمَلَتْ نَذَرَتْ إنْ اللَّهُ أَكْمَلَ لَهَا الْحَمْلَ وَوَضَعَتْهُ
فَإِنَّهُ حَبْسٌ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ أَشْهَبُ عَنْ
مَالِكٍ : جَعَلَتْهُ نَذْرًا تَفِي بِهِ .
قَالُوا : فَلَمَّا وَضَعَتْهَا رَبَّتْهَا حَتَّى
تَرَعْرَعَتْ ، وَحِينَئِذٍ أَرْسَلَتْهَا .
وَقِيلَ :
لَفَّتْهَا فِي خِرَقِهَا وَقَالَتْ : رَبِّ إنِّي
وَضَعْتُهَا أُنْثَى ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ، وَقَدْ سَمَّيْتُهَا
مَرْيَمَ ، وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ ، وَأَرْسَلَتْهَا إلَى الْمَسْجِدِ وَفَاءً بِنَذْرِهَا ، كَمَا
أَشَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ ، وَتَبَرِّيًا مِنْهَا حِينَ حَرَّرَتْهَا لِلَّهِ ،
أَيْ خَلَصَتْهَا .
وَالْمُحَرَّرُ وَالْحُرُّ : هُوَ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّ
امْرَأَةَ عِمْرَانَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى حَمْلِهَا نَذْرٌ لِكَوْنِهَا حُرَّةً ،
فَلَوْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ أَمَةً فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَصِحُّ
لَهُ نَذْرُ وَلَدِهِ كَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ حَالُهُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ
النَّاذِرُ عَبْدًا لَمْ يَتَقَرَّرْ لَهُ قَوْلٌ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ
النَّاذِرُ حُرًّا فَوَلَدُهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ ؛
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مِثْلُهُ ؛ وَأَيُّ وَجْهٍ لِلنَّذْرِ فِيهِ ؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْءَ إنَّمَا يُرِيدُ وَلَدَهُ لِلْأُنْسِ بِهِ
وَالِاسْتِبْصَارِ وَالتَّسَلِّي وَالْمُؤَازَرَةِ ؛
فَطَلَبَتْ
الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ أُنْسًا بِهِ وَسُكُونًا إلَيْهِ ، فَلَمَّا مَنَّ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهَا بِهِ نَذَرَتْ أَنَّ حَظَّهَا مِنْ الْأُنْسِ بِهِ مَتْرُوكٌ
فِيهِ ؛ وَهُوَ عَلَى خِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَوْقُوفٌ .
وَهَذَا نَذْرُ الْأَحْرَارِ مِنْ الْأَبْرَارِ ،
وَأَرَادَتْ بِهِ مُحَرَّرًا مِنْ جِهَتِي ، مُحَرَّرًا مِنْ رِقِّ الدُّنْيَا
وَأَشْغَالِهَا .
فَتَقَبَّلْهُ مِنِّي .
وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ لِأُمِّهِ : يَا
أُمَّاهُ ؛ ذَرِينِي لِلَّهِ أَتَعَبَّدْ لَهُ وَأَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ .
فَقَالَتْ :
نَعَمْ ، فَسَارَ حَتَّى تَبَصَّرَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا
فَدَقَّ الْبَابَ ، فَقَالَتْ : مَنْ ؟ قَالَ : ابْنُكِ فُلَانٌ .
قَالَتْ : قَدْ تَرَكْنَاكَ لِلَّهِ وَلَا نَعُودُ فِيك .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : ( { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } ) يُحْتَمَلُ أَنْ
تُرِيدَ بِهِ فِي كَوْنِهَا تَحِيضُ وَلَا تَصْلُحُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ
لِلْمَسْجِدِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ بِهَا أَنَّهَا امْرَأَةٌ فَلَا
تَصْلُحُ لِمُخَالَطَةِ الرِّجَالِ ؛ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَدْ تَبَرَّأَتْ
مِنْهَا ، وَلَعَلَّ الْحِجَابَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كَمَا كَانَ فِي صَدْرِ
الْإِسْلَامِ .
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ : { أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ
كَانَتْ تَقُمَّ الْمَسْجِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَفِيهِ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَةِ كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ
مَالِكٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ التَّعَلُّقُ بِشَرَائِعِ الْمَاضِينَ فِي
الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : لَوْ صَحَّ أَنَّهَا أَسْلَمَتْهَا فِي خِرَقِهَا إلَى الْمَسْجِدِ
فَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا لَكَانَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْحَضَانَةَ حَقٌّ لِلْأُمِّ
أَصْلًا .
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ رِوَايَةُ عُلَمَائِنَا عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَضَانَةَ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا حَقٌّ لِلْأُمِّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا حَقٌّ لِلْوَلَدِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ بِوَاضِحِ
الدَّلِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ الْقَوْلُ وَالتَّأْوِيلُ فَإِنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّذْرِ فِي الْحَمْلِ ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِوَضٌ بِدَلِيلِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى نُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهِ ، وَالنَّذْرُ مِثْلُهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُطَاوَعَةَ
فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِزَوْجِهَا عَلَى الْوَطْءِ لَا تُسَاوِيهِ فِي وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَعَجَبًا
لِغَفْلَتِهِ وَغَفْلَةِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْهُ حِينَ تَكَلَّمَ
عَلَيْهِ وَحَاجَّهُ فِيهِ ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا ؛ وَلَا
خِلَافَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ أَنَّ شَرْعَ مَنْ
قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا ، فَاسْكُتْ وَاصْمُتْ .
ثُمَّ نَقُولُ لِأَنْفُسِنَا : نَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ
أُصُولِ الْفِقْهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي جَاءَتْ بِلَفْظِ
الْعُمُومِ وَهِيَ عَلَى قَصْدِ الْعُمُومِ ، وَاَلَّتِي جَاءَتْ بِلَفْظِ
الْعُمُومِ وَهِيَ عَلَى قَصْدِ الْخُصُوصِ .
وَهَذِهِ الصَّالِحَةُ إنَّمَا قَصَدَتْ بِكَلَامِهَا
مَا تَشْهَدُ لَهُ بَيِّنَةُ حَالِهَا وَمَقْطَعُ كَلَامِهَا فَإِنَّهَا نَذَرَتْ
خِدْمَةَ الْمَسْجِدِ فِي وَلَدِهَا ، وَرَأَتْهُ أُنْثَى لَا تَصْلُحُ أَنْ
تَكُونَ بَرْزَةً ، وَإِنَّمَا هِيَ عَوْرَةٌ ؛ فَاعْتَذَرَتْ إلَى رَبِّهَا مِنْ
وُجُودِهَا لَهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَصَدَتْهُ فِيهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي
أُصُولِ الْفِقْهِ الْعُمُومَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْعُمُومَ وَغَيْرَهُ ، وَسَاعَدَنَا
عَلَيْهِ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ ، وَحَقَّقْنَاهُ ؛ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَتْ : إنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، فَكَانَتْ الْمُعَاذَةُ هِيَ وَابْنُهَا عِيسَى ،
فَبِهِمَا وَقَعَ الْقَبُولُ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الذُّرِّيَّةَ قَدْ تَقَعُ عَلَى الْوَلَدِ خَاصَّةً ، وَقَدْ بَيَّنَّا
ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَقِب مِنْ الْأَحْكَامِ .
وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
قَوْله تَعَالَى : { فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ
اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ } اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَصُورَ هُوَ
الْعِنِّينُ وَهُمْ الْأَكْثَرُ ، وَمِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ الَّذِي يَكُفُّ عَنْ
النِّسَاءِ وَلَا يَأْتِيهِنَّ مَعَ الْقُدْرَةِ ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَدْحٌ
وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ ، وَالْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْفَضْلِ
الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْجِبِلَّةِ فِي الْغَالِبِ .
الثَّانِي : أَنَّ حَصُورًا فَعُولًا ؛ وَبِنَاءُ
فَعُولٍ فِي اللُّغَةِ مِنْ صِيَغِ الْفَاعِلِينَ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْحَصُورُ : الْبَخِيلُ ،
وَالْهَيُوبُ الَّذِي يُحْجِمُ عَنْ الشَّيْءِ ؛ وَالْكَاتِمُ السِّرَّ ؛ وَهَذَا
بِنَاءُ فَاعِلٍ .
وَالْحَصُورُ عِنْدَهُمْ : النَّاقَةُ الَّتِي لَا
يَخْرُجُ لَبَنُهَا مِنْ ضِيقِ إحْلِيلِهَا .
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ .
وَقَدْ جَاءَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ ، تَقُولُ :
رَسُولٌ بِمَعْنَى مُرْسَلٍ ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ مَا تَقَدَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ
هَذَا فَيَحْيَى كَانَ كَافًّا عَنْ النِّسَاءِ عَنْ قُدْرَةٍ فِي شَرْعِهِ ،
فَأَمَّا شَرْعُنَا فَالنِّكَاحُ
.
رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ عَنْ التَّبَتُّلِ قَالَ الرَّاوِي :
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا } ، وَلِهَذَا بَالَغَ قَوْمٌ فَقَالُوا :
النِّكَاحُ وَاجِبٌ ، وَقَصَرَ آخَرُونَ فَقَالُوا مُبَاحٌ ، وَتَوَسَّطَ
عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : مَنْدُوبٌ
.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ
النَّاكِحِ وَالزَّمَانِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ،
وَسَتَرَوْنَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
الْآيَةُ
السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ
: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي كَيْفِيَّةِ فِعْلِهِمْ : وَاخْتَلَفَ فِيهِ
نَقْلُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : الْأُولَى : رُوِيَ أَنَّ زَكَرِيَّا
قَالَ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا ، خَالَتُهَا عِنْدِي .
وَقَالَ بَنُو إسْرَائِيلَ : نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا ،
بِنْتُ عَالِمِنَا ، فَاقْتَرَعُوا عَلَيْهَا بِالْأَقْلَامِ ، وَجَاءَ كُلُّ
وَاحِدٍ بِقَلَمِهِ ، وَاتَّفَقُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْأَقْلَامَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي
، فَمَنْ وَقَفَ قَلَمُهُ وَلَمْ يَجْرِ فِي الْمَاءِ فَهُوَ صَاحِبُهَا .
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَجَرَتْ الْأَقْلَامُ
وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّا } كَانَتْ آيَةً ؛ لِأَنَّهُ نَبِيٌّ تَجْرِي الْآيَاتُ
عَلَى يَدِهِ .
الثَّانِي :
أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ يَكْفُلُهَا حَتَّى كَانَ عَامُ
مَجَاعَةٍ فَعَجَزَ وَأَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتَرِعُوا ، فَاقْتَرَعُوا ،
فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِمْ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِهَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنَّهَا لَمَّا نَذَرَتْهَا
لِلَّهِ تَخَلَّتْ عَنْهَا حِينَ بَلَغَتْ السَّعْيَ ، وَاسْتَقَلَّتْ بِنَفْسِهَا
، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا بُدٌّ مِنْ قَيِّمٍ ، إذْ لَا يُمْكِنُ انْفِرَادُهَا
بِنَفْسِهَا ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَكَانَ مَا كَانَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : الْقُرْعَةُ
أَصْلٌ فِي شَرِيعَتِنَا ؛ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ
إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا
خَرَجَ بِهَا } ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَرَهُ مَالِكٌ شَرْعًا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ دِينٌ وَمِنْهَاجٌ لَا يَتَعَدَّى
، وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّ رَجُلًا
أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ سِتَّةً فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ
فَأَقْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ ، فَأَعْتَقَ
اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً
} .
وَهَذَا مِمَّا رَآهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ،
وَأَبَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْقُرْعَةَ فِي شَأْنِ
زَكَرِيَّا وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مِمَّا لَوْ
تَرَاضَوْا عَلَيْهِ دُونَ قُرْعَةٍ لَجَازَ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْبُدِ فَلَا يَصِحُّ التَّرَاضِي
فِي الْحُرِّيَّةِ وَلَا الرِّضَا ؛ لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ وَالرِّقَّ إنَّمَا
ثَبَتَتْ بِالْحُكْمِ دُونَ قُرْعَةٍ فَجَازَتْ ، وَلَا طَرِيقَ لِلتَّرَاضِي
فِيهَا ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا فَائِدَتُهَا
اسْتِخْرَاجُ الْحُكْمِ الْخَفِيِّ عِنْدَ التَّشَاحِّ فَأَمَّا مَا يُخْرِجُهُ
التَّرَاضِي فِيهِ فَبَابٌ آخَرُ ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ
الْقُرْعَةَ تَجْرِي فِي مَوْضِعِ التَّرَاضِي ، وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ أَبَدًا
مَعَ التَّرَاضِي فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا مَعَ التَّرَاضِي ؟ ثُمَّ
يُقَالُ : إنَّهَا لَا تَجْرِي إلَّا عَلَى حُكْمِهِ وَلَا تَكُونُ إلَّا فِي مَحِلِّهِ
؛ وَهَذَا بَعِيدٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَدْ رُوِيَ أَنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ بِنْتَ أُخْتِ زَوْجِ
زَكَرِيَّا ، وَيُرْوَى أَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ ، وَقِيلَ مِنْ
قَرَابَتِهِ ؛ فَأَمَّا الْقَرَابَةُ فَمَقْطُوعٌ بِهَا ، وَتَعْيِينُهَا مِمَّا
لَمْ يَصِحَّ .
وَهَذَا جَرَى فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي قَبْلَنَا ،
فَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِي شَرِيعَتِنَا فَالْخَالَةُ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ
بَعْدَ الْجَدَّةِ مِنْ سَائِرِ الْقَرَابَةِ وَالنَّاسِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى بِهَا لِلْخَالَةِ ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ خَرَّجَهُ
أَبُو دَاوُد قَالَ : { خَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إلَى مَكَّةَ فَقَدِمَ
بِابْنَةِ حَمْزَةَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَاسْمُهَا أَمَةُ اللَّهِ ،
وَأُمُّهَا سَلْمَى بِنْتُ عُمَيْسٍ أُخْتُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ فَقَالَ
جَعْفَرٌ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا ؛ ابْنَةُ عَمِّي ، وَعِنْدِي خَالَتُهَا ،
وَإِنَّمَا الْخَالَةُ أُمٌّ .
وَقَالَ عَلِيٌّ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَعِنْدِي ابْنَةُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا .
وَقَالَ زَيْدٌ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا ، خَرَجْت
إلَيْهَا وَسَافَرْت وَقَدِمْت بِهَا ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ شَيْئًا ، وَقَالَ : أَمَّا الْجَارِيَةُ فَأَقْضِي
بِهَا لِجَعْفَرٍ تَكُونُ مَعَ خَالَتِهَا ، وَإِنَّمَا الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ
الْأُمِّ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَذَا إذَا كَانَتْ
الْخَالَةُ أَيِّمًا ، فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَتْ ، وَكَانَ زَوْجُهَا أَجْنَبِيًّا
فَلَا حَضَانَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَسْقُطُ حَضَانَتُهَا بِالزَّوْجِ
الْأَجْنَبِيِّ ، فَكَيْفَ بِأُخْتِهَا وَبِأُمِّهَا وَالْبَدَلِ عَنْهَا .
فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا كَمَا
لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَةُ زَوْجِ جَعْفَرٍ ؛ لِكَوْنِ جَعْفَرٍ وَلِيًّا لِابْنَةِ
حَمْزَةَ وَهِيَ بُنُوَّةُ الْعَمِّ
.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ كَانَ وَصِيَّ حَمْزَةَ فَتَكُونُ الْخَالَةُ عَلَى هَذَا أَحَقَّ مِنْ
الْوَصِيِّ ، وَيَكُونُ ابْنُ الْعَمِّ إذَا كَانَ زَوْجًا غَيْرَ قَاطِعٍ
لِلْخَالَةِ فِي الْحَضَانَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَهَا
.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ اسْمَ الْكُلِّ
وَوَصْفَ قَرَابَتِهِ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاظَرَ أَهْلَ نَجْرَانَ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ ، فَأَبَوْا الِانْقِيَادَ وَالْإِسْلَامَ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ ، فَدَعَا حِينَئِذٍ فَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ، ثُمَّ دَعَا النَّصَارَى إلَى الْمُبَاهَلَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ابْنَاهُ ،
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي
الْحَسَنِ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ
بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
فَتَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ قَالَ : إنَّ الِابْنَ مِنْ
الْبِنْتِ يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْحَبْسِ ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَلَيْسَ فِيهَا حُجَّةٌ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : إنَّ
هَذَا الْإِطْلَاقَ مَجَازٌ ، وَبَيَانُهُ هُنَالِكَ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ
يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ
إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ
عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : نَزَلَتْ فِي نَصَارَى
نَجْرَانَ .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ
تَابَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعَرَبِ ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا قَالَ لَهُمْ
الْيَهُودُ : تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ ، فَلَيْسَ لَكُمْ عِنْدَنَا حَقٌّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الدِّينَارُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ
قِيرَاطًا ، وَالْقِيرَاطُ ثَلَاثُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ ، وَالْقِنْطَارُ
أَرْبَعَةُ أَرْبَاعٍ ، وَالرُّبْعُ ثَلَاثُونَ رِطْلًا ، وَالرِّطْلُ اثْنَتَا
عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ، وَالْأُوقِيَّةُ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَالدِّرْهَمُ سِتٌّ
وَثَلَاثُونَ حَبَّةً مِنْ شَعِيرٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَشْرُوحًا فِي
مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فَائِدَتُهَا النَّهْيُ عَنْ ائْتِمَانِهِمْ عَلَى مَالِ .
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ :
فَائِدَتُهَا أَلَّا يُؤْتَمَنُوا عَلَى دِينٍ ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ
مِنْ قَوْلِهِ : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ
بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ } فَأَرَادَ أَلَّا يُؤْتَمَنُوا
عَلَى نَقْلِ شَيْءٍ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهَا فِي
الْمَالِ نَصٌّ ، وَفِي الدِّينِ سُنَّةٌ ؛ فَأَفَادَتْ الْمَعْنَيَيْنِ
بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : { مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ
إلَيْكَ } هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فِي الدِّينَارِ
بِالنَّصِّ أَوْ بِالسُّنَّةِ أَوْ بِالْقِيَاسِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ ، وَهُوَ أَعْلَى
مَرَاتِبِهِ ، وَهُنَاكَ تَجِدُونَهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا
مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا }
تَعَلَّقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مُلَازَمَةِ
الْغَرِيمِ لِلْمُفْلِسِ ؛ وَأَبَاهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَا حُجَّةَ
لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مُلَازَمَةَ الْغَرِيمِ الْمَحْكُومِ
بِعَدَمِهِ لَا فَائِدَةَ فِيهَا ؛ إذْ لَا يُرْجَى مَا عِنْدَهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ هُنَاكَ .
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ : إنَّ مَعْنَى {
لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } أَيْ حَافِظًا
بِالشَّهَادَةِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : أَقْسَامُ هَذِهِ الْحَالِ
ثَلَاثَةٌ : قِسْمٌ يُؤَدَّى ، وَقِسْمٌ لَا يُؤَدَّى إلَّا مَا دُمْت عَلَيْهِ
قَائِمًا ، وَقِسْمٌ لَا يُؤَدَّى وَإِنْ دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ، إلَّا أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ الْمُعْتَادُ ،
وَالثَّالِثُ نَادِرٌ ؛ فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَالِبِ
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا
فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } الْمَعْنَى فَعَلُوا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ
ظُلْمَهُمْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ جَائِزٌ ، تَقْدِيرُ كَلَامِهِمْ لَيْسَ
عَلَيْنَا فِي ظُلْمِ الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أَيْ إثْمٌ .
وَقَوْلُهُمْ هَذَا كَذِبٌ صَادِرٌ عَنْ اعْتِقَادٍ
بَاطِلٍ مُرَكَّبٍ عَلَى كُفْرٍ ، فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ التَّوْرَاةِ بِمَا
لَيْسَ فِيهَا ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : الْأَمَانَةُ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ فِي الدِّينِ ، وَمِنْ عَظِيمِ
قَدْرِهَا أَنَّهَا تَقِفُ عَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ
الْجَوَازِ إلَّا مَنْ حَفِظَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ
وَكِتَابِ شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تُؤَدِّيَهَا إلَى
مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ؛ فَتُقَابِلَ مَعْصِيَةً فِيكَ
بِمَعْصِيَةٍ فِيهِ ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَكَ أَنْ تَغْدِرَ بِمَنْ
غَدَرَ بِكَ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ : " بَابُ إثْمِ الْغَادِرِ
الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ " .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ : مَنْ حَلَّ
بِكَ فَاحْلُلْ بِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : يَعْنِي أَنَّ الْمُحْرِمَ
لَا يُقْتَلُ ، وَلَكِنْ مَنْ عَرَضَ لَكَ فَاقْتُلْهُ وَحُلَّ أَنْتَ بِهِ
أَيْضًا ، مَنْ خَانَكَ فَخُنْهُ
.
قُلْنَا : تَحْرِيمُ الْمُحْرِمِ كَانَ بِشَرْطِ أَلَّا
يَعْرِضَ لَهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ، وَالْأَمَانَةُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا
مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ
.
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ مِنْ
أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ وَنَقُولُ : لَيْسَ بِذَلِكَ
عَلَيْنَا بَأْسٌ .
فَقَالَ لَهُ : هَذَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ :
لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ؛ إنَّهُمْ إذَا أَدَّوْا
الْجِزْيَةَ لَمْ تَحِلَّ لَكُمْ أَمْوَالُهُمْ إلَّا عَنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } هَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الْكَفَرَةِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيلِ اللَّهِ وَتَحْرِيمِهِ ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَمِنْ هَذَا يَخْرُجُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالِاسْتِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَلَسْت أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَالَهُ .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ
قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ
ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا
يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ قَوْمٌ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ ؛
كَتَبُوا كِتَابًا وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ حَلَفَ يَمِينًا
فَاجِرَةً لِتُنَفَّقَ سِلْعَتُهُ فِي الْبَيْعِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ
وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ ذَلِكَ : { إنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا }
الْآيَةَ .
قَالَ : فَجَاءَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ : فِي نَزَلَتْ ،
كَانَ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عُمَرَ ، وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ بَيْنِي
وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي .
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { بَيِّنَتُكَ
أَوْ يَمِينُهُ } .
فَقُلْت : إذًا يَحْلِفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ وَمَا
رُوِيَ عَنْ الْيَهُودِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ
لَا يُحِلُّ الْمَالَ فِي الْبَاطِنِ بِقَضَاءِ الظَّاهِرِ ، إذَا عَلِمَ
الْمَحْكُومُ لَهُ بُطْلَانَهُ .
وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ،
وَأَنْتُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ
بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ ،
فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ
لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ،
وَإِنَّمَا نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَلَا ، فَقَالَ : إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ
الْمَبْنِيَّ عَلَى الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ يُحِلُّ الْفَرْجَ لِمَنْ كَانَ
مُحَرَّمًا عَلَيْهِ ، وَسَيَأْتِي بُطْلَانُ قَوْلِهِ فِي آيَةِ اللِّعَانِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا نَصَارَى نَجْرَانَ ، وَلَكِنْ مُزِجَ مَعَهُمْ الْيَهُودُ ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مِنْ الْجَحْدِ وَالْعِنَادِ مِثْلَ فِعْلِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : { رَبَّانِيِّينَ } وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفَاصِيلَ مَعْنَى اسْمِ الرَّبِّ فِي " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " ، وَهُوَ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ ، وَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ الْمُجْمَلَةِ فِي الْعَبْدِ عَلَى مِقْدَارِ بَدَنِهِ مِنْ غِذَاءٍ وَبَلَاءٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } الْمَعْنَى : وَإِنَّ عِلْمَهُمْ بِالْكِتَابِ ، وَدَرْسَهُمْ لَهُ يُوجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي شُرِحَتْ فِيهِ لَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } الْمَعْنَى : وَلَا آمُرُ الْخَلْقَ أَنْ يَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا يَعْبُدُونَهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ بِالْكُفْرِ مَنْ أَسْلَمَ فِعْلًا ، وَلَا يَأْمُرُ بِالْكُفْرِ ابْتِدَاءً ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا ، فَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّرْ وَلَا تُصُوِّرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ أَمْرٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَتَّخِذُوا
النَّاسَ عِبَادًا يَتَأَلَّهُونَ لَهُمْ ، وَلَكِنْ أَلْزَمَ الْخَلْقَ
طَاعَتَهُمْ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي ،
وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ رَبِّي وَلْيَقُلْ
سَيِّدِي } .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يُوسُفَ :
{ اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } وَقَالَ : { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ
أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ } فَتَعَارَضَتْ .
فَلَوْ تَحَقَّقْنَا التَّارِيخَ لَكَانَ الْآخَرُ
رَافِعًا لِلْأَوَّلِ أَوْ مُبَيِّنًا لَهُ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي
النَّسْخِ .
وَإِذَا جَهِلْنَا التَّارِيخَ وَجَبَ النَّظَرُ فِي
دَلَالَةِ التَّرْجِيحِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا
الْكَافِي مِنْهُ الْآنَ لَكُمْ تَرْجِيحُ الْجَوَازِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا
كَانَ لِتَخْلِيصِ الِاعْتِقَادِ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ لِغَيْرِ اللَّهِ عُبُودِيَّةً
أَوْ فِي سِوَاهُ رُبُوبِيَّةً ، فَلَمَّا حَصَلَتْ الْعَقَائِدُ كَانَ الْجَوَازُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ } قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِضَمِّ التَّاءِ ، وَكَأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَتَّخِذُوهُمْ
عِبَادًا بِحَقِّ تَعْلِيمِكُمْ ، فَإِنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْكُمْ أَوْ إشْرَاكٌ فِي
نِيَّتِكُمْ ، أَوْ اسْتِعْجَالٌ لِأَجْرِكُمْ ، أَوْ تَبْدِيلٌ لِأَمْرِ
الْآخِرَةِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا ؛ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ عَلَى قِرَاءَةِ
فَتْحِ التَّاءِ .
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ :
كَذَلِكَ يَقْتَضِي صِفَةَ الْعِلْمِ وَقِرَاءَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إنَّمَا
هُوَ لِلتَّعْلِيمِ لِتَحْرِيمِ كِتْمَانِ الْعِلْمِ ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ
قَرِيبٌ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَحْرِيرِهِ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
} فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ } مَعْنَاهُ تُصِيبُوا ، يُقَالُ : نَالَنِي خَيْرٌ يَنُولُنِي ،
وَأَنَالَنِي خَيْرًا ؛ وَيُقَالُ : نِلْتُهُ أَنُولُهُ مَعْرُوفًا وَنَوَّلْتُهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا }
أَيْ لَا يَصِلُ إلَى اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِتَقْدِيسِهِ عَنْ الِاتِّصَالِ
وَالِانْفِصَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { الْبِرَّ } وَقَدْ بَيَّنَّاهُ
فِي كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " وَشَفَيْنَا النَّفْسَ مِنْ
إشْكَالِهِ .
قِيلَ : إنَّهُ ثَوَابُ اللَّهِ ، وَقِيلَ : إنَّهُ الْجَنَّةُ
؛ وَذَلِكَ يَصِلُ الْبِرُّ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَأْمُورِ
بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { حَتَّى تُنْفِقُوا }
الْمَعْنَى حَتَّى تُهْلِكُوا ، يُقَالُ : نَفِقَ إذَا هَلَكَ .
الْمَعْنَى حَتَّى تُقَدِّمُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُلُوبُكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ النَّفَقَةِ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَهِيَ
صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ .
وَقِيلَ : هِيَ سُبُلُ الْخَيْرِ كُلُّهَا ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ
.
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ أَنَّ أَبَا
طَلْحَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أَسْمَعُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ
: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ
أَحَبَّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا
وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاك
اللَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَخٍ ، بَخٍ
، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ .
ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، وَقَدْ سَمِعْت مَا قُلْت فِيهَا
، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ } فَقَسَمَهَا أَبُو
طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ .
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ : أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ
جَاءَ بِفَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ سَبَلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : تَصَدَّقْ بِهَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ
زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّمَا أَرَدْت أَنْ
أَتَصَدَّقَ بِهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { قَدْ قَبِلْت صَدَقَتَكَ
} .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّمَا
تَصَدَّقَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَرَابَةِ
الْمُصَّدِّقِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْقَرَابَةِ
أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهَا كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ نَفْسَ الْمُتَصَدِّقِ تَكُونُ
بِذَلِكَ أَطْيَبَ وَأَسْلَمَ عَنْ تَطَرُّقِ النَّدَمِ إلَيْهَا .
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ
إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : سَبَبُ
نُزُولِهَا ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ
أَنْكَرُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْلِيلَ
لُحُومِ الْإِبِلِ ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ بِتَحْلِيلِهَا لَهُمْ حَتَّى حَرَّمَهَا إسْرَائِيلُ
عَلَى نَفْسِهِ .
الْمَعْنَى : إنِّي لَمْ أُحَرِّمْهَا عَلَيْكُمْ ،
وَإِنَّمَا كَانَ إسْرَائِيلُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ .
الثَّانِي :
أَنَّ عِصَابَةً مِنْ الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ : يَا أَبَا
الْقَاسِمِ ؛ أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ؟ فَقَالَ : { أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي
أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إسْرَائِيلَ مَرِضَ
مَرَضًا شَدِيدًا طَالَ سَقَمُهُ فِيهِ فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ
سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ إلَيْهِ ، وَكَانَ أَحَبَّ
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ لُحُومُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا ؟ } فَقَالُوا
: اللَّهُمَّ نَعَمْ : قَالَ :
{ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ
فِيهَا } .
رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ
الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ
وَامْرَأَةٍ زَنَيَا ، فَرَجَمَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَمَّا نُزُولُهَا فِي رَجْمِ الْيَهُودِ فَيَأْبَاهُ
ظَاهِرُ اللَّفْظِ ، وَأَمَّا سَائِرُهَا فَمُحْتَمَلٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ إسْرَائِيلَ عَلَى نَفْسِهِ ؛ فَقِيلَ :
كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقِيلَ : كَانَ بِاجْتِهَادٍ ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ
عَلَى جَوَازِ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الْيَهُودِ ذَلِكَ .
فَقِيلَ : إنَّ إسْرَائِيلَ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ
وَعَلَيْهِمْ .
وَقِيلَ :
اقْتَدَوْا بِهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ ، فَحَرَّمَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بَغْيَهُمْ ، وَنَزَلَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ ،
وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وَالصَّحِيحُ أَنَّ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَجْتَهِدَ ؛
وَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ كَانَ دِينًا يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ
لِتَقْرِيرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَمَا يُوحَى إلَيْهِ
وَيَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ ، كَذَلِكَ يُؤْذَنُ لَهُ وَيَجْتَهِدُ ، وَيَتَعَيَّنُ
مُوجِبُ اجْتِهَادِهِ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ .
وَالظَّاهِرُ مِنْ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى
نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
أَذِنَ لَهُ فِي تَحْرِيمِ مَا شَاءَ ، وَلَوْلَا تَقَدَّمَ الْإِذْنُ لَهُ مَا
تَسَوَّرَ عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَتَقَدَّمَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ
عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ فَحَرَّمَهُ مُجْتَهِدًا فَأَقَرَّهُ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ .
وَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَسَلَ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَوْ جَارِيَتَهُ مَارِيَةُ فَلَمْ
يُقِرَّ اللَّهُ تَحْرِيمَهُ ، وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
} وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتِهَادًا أَوْ بِأَمْرٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : حَقِيقَةُ التَّحْرِيمِ الْمَنْعُ ؛ فَكُلُّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ
شَيْءٍ مَعَ اعْتِقَادِهِ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ فَقَدْ حَرَّمَهُ ، وَذَلِكَ
يَكُونُ بِأَسْبَابٍ ؛ إمَّا بِنَذْرٍ كَمَا فَعَلَ يَعْقُوبُ فِي تَحْرِيمِ
الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا ؛ وَإِمَّا بِيَمِينٍ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَسَلِ ، أَوْ فِي جَارِيَتِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ بِنَذْرٍ
فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي شَرْعِنَا .
وَلَسْنَا نَتَحَقَّقُ كَيْفِيَّةَ تَحْرِيمِ يَعْقُوبَ
؛ هَلْ كَانَ بِنَذْرٍ أَوْ بِيَمِينٍ ؛ فَإِنْ كَانَ بِيَمِينٍ فَقَدْ أَحَلَّ
اللَّهُ لَنَا الْيَمِينَ بِالْكَفَّارَةِ أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ
رُخْصَةً مِنْهُ لَنَا ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَيْرِنَا مِنْ الْأُمَمِ .
فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ : حَرَّمْت الْخُبْزَ عَلَى نَفْسِي
أَوْ اللَّحْمَ لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينًا ؛ فَإِنْ قَالَ :
حَرَّمْت أَهْلِي فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَحْرِيمُ الْأَهْلِ
إذَا ابْتَدَأَ بِتَحْرِيمِهَا كَمَا يُحَرِّمُهَا بِالطَّلَاقِ ، وَلَا
يَلْزَمُهُ تَحْرِيمُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا } .
الْآيَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ
إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : أَيُّ
الْمَسْجِدَيْنِ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ ؟ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَوْ
الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ؟ قَالَ : { الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ } .
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ عَامًا
؛ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ
: كَانَ فِي الْأَرْضِ بَيْتٌ قَبْلَهُ تَحُجُّهُ
الْمَلَائِكَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي بَرَكَتِهِ : قِيلَ :
ثَوَابُ الْأَعْمَالِ .
وَقِيلَ : ثَوَابُ الْقَاصِدِ إلَيْهِ .
وَقِيلَ : أَمْنُ الْوَحْشِ فِيهِ .
وَقِيلَ : عُزُوفُ النَّفْسِ عَنْ الدُّنْيَا عِنْدَ
رُؤْيَتِهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُبَارَكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ
وُجُوهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ بِجَمِيعِهِ مَوْجُودٌ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فَأَمَّا قَوْلُهُ : { بِبَكَّةِ } فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : بَكَّةُ : مَكَّةُ .
الثَّانِي : بَكَّةُ : الْمَسْجِدُ ، وَمَكَّةُ سَائِرُ
الْحَرَمِ .
وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأَنَّهَا تَبُكُّ
أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ ، أَيْ تَقْطَعُهَا .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَقَتَادَةُ : إنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ بَكَّ بِهَا النَّاسَ ؛ فَتُصَلِّي النِّسَاءُ بَيْنَ يَدَيْ
الرِّجَالِ ، وَلَا يَكُونُ فِي بَلَدٍ غَيْرِهَا ، وَصُورَةُ هَذَا أَنَّ
النَّاسَ يَسْتَدِيرُونَ بِالْبَيْتِ فَيَكُونُ وُجُوهُ الْبَعْضِ إلَى الْبَعْضِ فَلَا
بُدَّ مِنْ اسْتِقْبَالِ النِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ صَلَّوْا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَقَامُ إبْرَاهِيمَ } فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْحَجَرُ الْمَعْهُودُ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ آيَةً
لِلنَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ جَمَادٌ صَلْدٌ وَقَفَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ ، فَأَظْهَرَ
اللَّهُ فِيهِ أَثَرَ قَدَمِهِ آيَةً بَاقِيَةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { مَقَامُ إبْرَاهِيمَ } هُوَ
الْحَجُّ كُلُّهُ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ قَامَ بِأَمْرِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ ، وَنَادَى بِالْحَجِّ عِبَادَ اللَّهِ ، فَجَمَعَ اللَّهُ الْعِبَادَ
عَلَى قَصْدِهِ ، وَكَانَتْ شِرْعَةً مِنْ عَهْدِهِ ، وَحَجَّةً عَلَى الْعَرَبِ
الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِ مِنْ بَعْدِهِ .
وَفِيهِ مِنْ الْآيَاتِ أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ خَائِفًا
عَادَ آمِنًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ كَانَ صَرَفَ الْقُلُوبَ عَنْ
الْقَصْدِ إلَى مُعَارَضَتِهِ ، وَصَرَفَ الْأَيْدِي عَنْ إذَايَتِهِ ،
وَجَمَعَهَا عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَتِهِ .
وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا كَانَ ، وَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ
حُكْمٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى آيَاتٍ ، وَتَقْرِيرُ نِعَمٍ
مُتَعَدِّدَاتٍ ، مَقْصُودُهَا وَفَائِدَتُهَا وَتَمَامُ النِّعْمَةِ فِيهِ
بَعْثُهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ
الْآيَاتِ وَيَرَى مَا فِيهَا مِنْ شَرَفِ الْمُقَدِّمَاتِ لِحُرْمَةِ مَنْ ظَهَرَ
مِنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ فَهُوَ مِنْ الْأَمْوَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ مَنْ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَاسْتَوْجَبَ
بِهِ حَدًّا ، ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ عَصَمَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( {
وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } ) فَأَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْنَ
لِمَنْ دَخَلَهُ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ ، مِنْهُمْ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ .
وَكُلُّ مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ وَهِمَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى ، وَلَمْ
يُقْصَدْ بِهَا إثْبَاتُ حُكْمٍ مُسْتَقْبَلٍ .
الثَّانِي :
أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْنَ قَدْ
ذَهَبَ ، وَأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهَا ،
وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَقَعُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ
فِي الْقَاضِي .
هَذَا وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : إنَّهُ لَا
يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُعَامَلُ وَلَا يُكَلَّمُ حَتَّى يَخْرُجَ ،
فَاضْطِرَارُهُ إلَى الْخُرُوجِ لَيْسَ يَصِحُّ مَعَهُ أَمْنٌ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَقَعُ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ
فِي الْحَرَمِ ، وَلَا أَمْنَ أَيْضًا مَعَ هَذَا ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَالَ
بَعْضُهُمْ : مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ النَّارِ ؛ وَلَا يَصِحُّ هَذَا
عَلَى عُمُومِهِ ، وَلَكِنَّهُ { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ
خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } ،
{ وَالْحَجُّ
الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ } .
قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْمَقْصُودِ ، وَبَيَانًا لِخُصُوصِ
الْعُمُومِ ، إنْ كَانَ هَذَا الْقَصْدُ صَحِيحًا .
هَذَا ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ
قَصَدَ بِهِ تَعْدِيدَ النِّعَم عَلَى مَنْ كَانَ بِهَا جَاهِلًا وَلَهَا
مُنْكِرًا مِنْ الْعَرَبِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
: قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا مِنْ أَوْكَدِ أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْعَرَبِ
، إذَا قَالَ الْعَرَبِيُّ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا فَقَدْ وَكَّدَهُ
وَأَوْجَبَهُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
الْحَجَّ بِأَبْلَغَ أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ ؛ تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ ، وَتَعْظِيمًا
لِحُرْمَتِهِ ، وَتَقْوِيَةً لِفَرْضِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ مَشْرُوعًا لَدَيْهِمْ ، فَخُوطِبُوا بِمَا عَلِمُوا وَأُلْزِمُوا مَا عَرَفُوا ، وَقَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ ؛ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يُغَيِّرْ مِنْ شَرْعِ إبْرَاهِيمَ مَا غَيَّرُوا حَيْثُ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَيَقُولُونَ : نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ وَنَحْنُ الْحُمْسُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْحَجِّ الْقَصْدُ إلَى
الْبَيْتِ .
وَلِلْحَجِّ رُكْنَانِ : أَحَدُهُمَا : الطَّوَافُ
بِالْبَيْتِ .
وَالثَّانِي : الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ : لَا خِلَافَ فِي
ذَلِكَ ، وَكُلُّ مَا وَرَاءَهُ نَازِلٌ عَنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَأَيْنَ الْإِحْرَامُ ، وَهُوَ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؟ قُلْنَا :
هُوَ النِّيَّةُ الَّتِي تَلْزَمُ كُلَّ عِبَادَةٍ ،
وَتَتَعَيَّنُ فِي كُلِّ طَاعَةٍ ، وَكُلُّ عَمَلٍ خِلَافُهَا لَمْ يَكُنْ بِهِ
اعْتِدَادٌ ؛ فَهِيَ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ
.
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا تَوَجَّهَ الْخِطَابُ عَلَى
الْمُكَلَّفِينَ بِفَرْضٍ ، هَلْ يَكْفِي فِيهِ فِعْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، أَوْ
يُحْمَلُ عَلَى التَّكْرَارِ ؟ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ دَلِيلًا
وَمَذْهَبًا .
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَقْتَضِي فِعْلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً
، وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ
أَصْحَابُهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ
؟ فَقَالَ : لَا ، بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ } .
رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ ؛ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ
: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قَالُوا : { يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛
أَوَفِي كُلِّ عَامٍ ؟ قَالَ : لَا وَلَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ } .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { إنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ } .
فَقَالَ مُحْصِنٌ الْأَسَدِيُّ : أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : { أَمَا إنِّي لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، ثُمَّ لَوْ
تُرِكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ ؟ اُسْكُتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ ، إنَّمَا
هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ
} فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا
عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا
ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِامْتِثَالِ الْخِطَابِ إلَّا فَعْلَةٌ وَاحِدَةٌ
مِنْ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ هَلْ هِيَ عَلَى
الْفَوْرِ أَمْ هِيَ مُسْتَرْسِلَةٌ عَلَى الزَّمَانِ إلَى خَوْفِ الْفَوْتِ ؟
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إلَى حَمْلِهَا عَلَى الْفَوْرِ .
وَيَضْعُفُ عِنْدِي .
وَاضْطَرَبَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي
مُطْلَقَاتِ ذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا
يُحْكَمُ فِيهِ بِفَوْرٍ وَلَا تَرَاخٍ كَمَا تَرَاهُ ؛ وَهُوَ الْحَقُّ ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَلَى النَّاسِ } عَامٌّ فِي
جَمِيعِهِمْ ، مُسْتَرْسَلٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ
الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَإِنْ كَانَ النَّاسُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي
مُطْلَقِ الْعُمُومَاتِ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى حَمْلِ هَذِهِ
الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ ، خَلَا الصَّغِيرِ
فَإِنَّهُ خَارِجٌ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أُصُولِ التَّكْلِيفِ ، فَلَا يُقَالُ
فِيهِ : إنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ فِيهِ ، وَكَذَا الْعَبْدُ لَمْ يَدْخُلْ
فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ مُطْلَقِ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
فِي تَمَامِ الْآيَةِ : { مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَالْعَبْدُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ ؛
لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْنَعُهُ بِشُغْلِهِ بِحُقُوقِهِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ ؛
وَقَدْ قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّ السَّيِّدِ عَلَى حَقِّهِ رِفْقًا
بِالْعِبَادِ وَمَصْلَحَةً لَهُمْ
.
وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَلَا بَيْنَ
الْأَئِمَّةِ ، وَلَا نَهْرِفُ بِمَا لَا نَعْرِفُ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إلَّا
الْإِجْمَاعُ .
تَوْجِيهٌ
وَتَعْلِيمٌ تَسَاهَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فَقَالَ : إنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ
الْحَجُّ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا
فِي الْأَصْلِ ، وَلَمْ يَكُنْ حَجُّ الْكَافِرِ مُعْتَدًّا بِهِ ، فَلَمَّا ضُرِبَ
عَلَيْهِ الرِّقُّ ضَرْبًا مُؤَبَّدًا لَمْ يُخَاطَبْ بِالْحَجِّ ، وَهَذَا
فَاسِدٌ فَاعْلَمُوهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْكُفَّارَ
عِنْدَنَا مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِي قَوْلِ
مَالِكٍ وَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْحَابِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْكُفْرَ قَدْ ارْتَفَعَ
بِالْإِسْلَامِ فَوَجَبَ ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ تَلْزَمُهُ مِنْ صَلَاةٍ
وَصَوْمٍ مَعَ كَوْنِهِ رَقِيقًا ، وَلَوْ فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ لَمْ
يُعْتَدَّ بِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مِثْلَهُ ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ
مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقَدُّمِ حُقُوقِ السَّيِّدِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، مِنْهُمْ أَبُو
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ : السَّبِيلُ : الزَّادُ
وَالرَّاحِلَةُ ، وَرَفَعُوا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
وَهُوَ أَيْضًا يَبْعُدُ مَعْنًى فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ :
الِاسْتِطَالَةُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ لَكَانَ أَوْلَى فِي النَّفْسِ ، فَإِنَّ
السَّبِيلَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الطَّرِيقُ ، وَالِاسْتِطَاعَةُ مَا يَكْسِبُ
سُلُوكَهَا ، وَهِيَ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَوُجُودُ الْقُوتِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ
، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ فَالرُّكُوبُ زِيَادَةٌ عَلَى صِحَّةِ
الْبَدَنِ وَوُجُودِ الْقُوتِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَابْنُ
وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ : "
النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاقَتِهِمْ وَيُسْرِهِمْ وَجَلَدِهِمْ " .
قَالَ أَشْهَبُ : أَهُوَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ؟
قَالَ : لَا وَاَللَّهِ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا قَدْرُ طَاقَةِ النَّاسِ ، وَقَدْ
يَجِدُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى السَّيْرِ ، وَآخَرُ
يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى رِجْلَيْهِ ، وَلَا صِفَةَ فِي ذَلِكَ أَبَيْنُ
مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَهَذَا بَالِغٌ فِي الْبَيَانِ مِنْهُ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَوْ صَحَّ حَدِيثُ الْخُوزِيِّ
: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ ، وَالْغَالِبُ
مِنْهُمْ فِي الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ ، وَخُرُوجُ مُطْلَقِ الْكَلَامِ عَلَى
غَالِبِ الْأَحْوَالِ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ
وَأَشْعَارِهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : إذَا وُجِدَتْ الِاسْتِطَاعَةُ تَوَجَّهَ فَرْضُ الْحَجِّ بِلَا
خِلَافٍ إلَّا أَنْ تَعْرِضَ لَهُ آفَةٌ ، وَالْآفَاتُ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا الْغَرِيمُ
يَمْنَعُهُ مِنْ الْخُرُوجِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ ، أَوْ مَنْ كَانَ لَهَا
مِنْ النِّسَاءِ زَوْجٌ ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ .
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ كَاخْتِلَافِهِمْ .
وَالصَّحِيحُ فِي الزَّوْجِ أَنَّهُ يَمْنَعُهَا لَا
سِيَّمَا إذَا قُلْنَا : إنَّ الْحَجَّ لَا يَلْزَمُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَإِنْ
قُلْنَا إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَحَقُّ الزَّوْجِ مُقَدَّمٌ ، وَأَمَّا
الْأَبَوَانِ فَإِنْ كَانَا مَنَعَاهُ لِأَجْلِ الشَّوْقِ وَالْوَحْشَةِ فَلَا
يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ خَوْفَ الضَّيْعَةِ وَعَدَمِ الْعِوَضِ فِي التَّلَطُّفِ
فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْحَجِّ ؛ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَغْصُوبًا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ
الْمَسِيرُ إلَى الْحَجِّ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ إنَّمَا
فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ إجْمَاعًا ؛ وَالْمَرِيضُ وَالْمَغْصُوبُ لَا
اسْتِطَاعَةَ لَهُمَا ؛ فَإِنْ رَوَوْا أَنَّ الصَّحِيحَ قَدْ تَضَمَّنَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ
أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى
الرَّاحِلَةِ ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، حُجِّي عَنْهُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْتِ لَوْ
كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ :
فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى
} .
وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ
الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَأَبَى
ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ ، وَهُمْ فِيهِ أَعْدَلُ قَضِيَّةً ؛ فَإِنَّ
مَقْصُودَ الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالنَّظَرُ فِي
مَصَالِحِهِمْ دِينًا وَدُنْيَا ، وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمَا جِبِلَّةً
وَشَرْعًا فَإِنَّهُ رَأَى مِنْ الْمَرْأَةِ انْفِعَالًا بَيِّنًا ، وَطَوَاعِيَةً
ظَاهِرَةً ، وَرَغْبَةً صَادِقَةً فِي بِرِّ أَبِيهَا ، وَتَأَسَّفَتْ أَنْ
تَفُوتَهُ بَرَكَةُ الْحَجِّ ، وَيَكُونَ عَنْ ثَوَابِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ
بِمَعْزِلٍ ، وَطَاعَتْ بِأَنْ تَحُجَّ عَنْهُ ؛ فَأَذِنَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
.
وَكَأَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازَ حَجِّ الْغَيْرِ
عَنْ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ ، وَالْبَدَنُ
وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَإِنَّ الْمَالَ يَحْتَمِلُهَا
فُرُوعِي فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ جِهَةُ الْمَالِ ، وَجَازَتْ فِيهِ النِّيَابَةُ .
وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَضَرَبَ
الْمَثَلَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيهَا دَيْنُ عَبْدٍ لَسَعَتْ فِي
قَضَائِهِ ،
فَدَيْنُ
اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ، إنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهَا تَخْلِيصُهُ مِنْ
مَأْثَمِ الدَّيْنِ وَعَارِ الِاقْتِضَاءِ ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ
بِالْقَضَاءِ ؛ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَقْوَى مَا فِي الْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ
جَعَلَهُ دَيْنًا ، وَلَكِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا الشَّخْصَ الْمَخْصُوصَ ، فَإِنَّمَا
أَرَادَ بِهِ دَيْنَ اللَّهِ إذَا وَجَبَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ،
وَالتَّطَوُّعُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِابْتِدَاءِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
لَيْسَ بِفَرْضٍ مَا صَرَّحَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِي قَوْلِهَا : " إنَّ
فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا
كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ " وَهَذَا
تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَمَنْعِ الْفَرِيضَةِ ، وَلَا يَجُوزُ مَا
انْتَفَى فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ قَطْعًا أَنْ يَثْبُتَ فِي آخِرِهِ ظَنًّا .
يُحَقِّقُهُ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى
لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِإِجْمَاعٍ ؛ فَإِنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ أَوْلَى
بِالْقَضَاءِ ، وَبِهِ يُبْدَأُ إجْمَاعًا لِفَقْرِ الْآدَمِيِّ وَاسْتِغْنَاءِ
اللَّه تَعَالَى ، فَيَتَعَيَّنُ الْغَرَضُ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ ، وَهُوَ
تَأْكِيدُ مَا ثَبَتَ فِي النَّفْسِ مِنْ الْبِرِّ حَيَاةً وَمَوْتًا وَقُدْرَةً وَعَجْزًا
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : إذَا
لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ قُوتٌ يَتَزَوَّدُهُ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ
إجْمَاعًا ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ
قَبُولُهُ إجْمَاعًا ، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ وَهَبَ أَبَاهُ مَالًا قَالَ
الشَّافِعِيُّ : يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ ابْنَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ
وَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يُجَازِي
الْوَالِدَ عَنْ نِعَمِهِ لَا يَبْتَدِئُهُ بِعَطِيَّةٍ .
قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَلْزَمُهُ
قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْوَلَدِ لَوْ كَانَتْ جَزَاءً لَقُضِيَ بِهَا
عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا ، ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مِنَّةٌ
فَفِيهِ سُقُوطُ الْحُرْمَةِ وَحَقِّ الْأُبُوَّةِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ ؛
لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ قَدْ جَزَاهُ وَقَدْ وَفَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ عَنْ الْأَعْمَى لِإِمْكَانِ وُصُولِهِ إلَى الْبَيْتِ مَحْمُولًا ؛ فَيَحْصُلُ لَهُ وَصْفُ الِاسْتِطَاعَةِ ، كَمَا يَحْصُلُ لَهُ فَرْضُ الْجُمُعَةِ بِوُجُودِ قَائِدٍ إلَيْهَا ، وَيَلْزَمُ السَّعْيُ لِقَضَائِهَا .
الْآيَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْحَبْلُ : لَفْظٌ لُغَوِيٌّ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعَانٍ
كَثِيرَةٍ ؛ أَعْظَمُهَا السَّبَبُ الْوَاصِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ .
وَهُوَ هَاهُنَا مِمَّا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ عَهْدُ اللَّهِ ، وَقِيلَ : كِتَابُهُ ، وَقِيلَ :
دِينُهُ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا
جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ
رُؤْيَا الظُّلَّةِ الَّتِي تَنْطِفُ عَسَلًا وَسَمْنًا ، وَفِيهِ قَالَ : {
وَرَأَيْت شَيْئًا وَاصِلًا مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ } الْحَدِيثَ إلَى
آخِرِهِ ، وَعَبَّرَ الصِّدِّيقُ بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : وَأَمَّا السَّبَبُ
الْوَاصِلُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ
عَلَيْهِ ، فَضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْ مَلَكِ الرُّؤْيَا مَثَلًا
لِلْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ بِالْحَبْلِ الْوَاصِلِ بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يُنِيرَانِ بِمِشْكَاةٍ
وَاحِدَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا
فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ عَهْدَهُ
وَدِينَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : التَّفَرُّقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : التَّفَرُّقُ فِي الْعَقَائِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { شَرَعَ
لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } الثَّانِي : قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ : { لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا
عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } ، وَيَعْضُدُهُ
قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا } الثَّالِثُ
: تَرْكُ التَّخْطِئَةِ فِي الْفُرُوعِ وَالتَّبَرِّي فِيهَا ، وَلْيَمْضِ كُلُّ
أَحَدٍ عَلَى اجْتِهَادِهِ ؛ فَإِنَّ الْكُلَّ بِحَبْلِ اللَّهِ مُعْتَصِمٌ ، وَبِدَلِيلِهِ
عَامِلٌ ؛ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ
الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ }
؛ فَمِنْهُمْ
مَنْ حَضَرَتْ الْعَصْرُ فَأَخَّرَهَا حَتَّى بَلَغَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَخْذًا
بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَمْ يُرِدْ هَذَا مِنَّا
يَعْنِي وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِعْجَالَ فَلَمْ يُعَنِّفْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَحَدًا مِنْهُمْ .
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ
وَالتَّفَرُّقَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ الْمُؤَدِّي إلَى الْفِتْنَةِ
وَالتَّعَصُّبِ وَتَشْتِيتِ الْجَمَاعَةِ ؛ فَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ
فَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ
فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } .
وَرُوِيَ أَنَّ لَهُ إنْ أَصَابَ عَشَرَةَ أُجُورٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : قَوْلُهُ { وَلَا تَفَرَّقُوا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي الْمُفْتَرِضُ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُمْ قَدْ تَفَرَّقَتْ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُتَعَلَّقًا لَمَا جَازَتْ صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ أَيْضًا قَدْ تَفَرَّقَتْ ؛ وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْزَعَ الْآيَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ لَا مَا تَعَلَّقَ بِهِ هَذَا الْعَالِمِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : أُمَّةٌ كَلِمَةٌ ذَكَرَ لَهَا عُلَمَاءُ اللِّسَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى ، وَقَدْ رَأَيْت مَنْ بَلَغَهَا إلَى أَرْبَعِينَ ، مِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ الدَّاعِي إلَى الْحَقِّ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ : {
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَمِنْ الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ نُصْرَةُ الدِّينِ بِإِقَامَةِ
الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ إذَا عَرَفَ
الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ صَلَاحِيَّةَ النَّظَرِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْجِدَالِ ،
أَوْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي مُطْلَقِ قَوْله
تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ يَقُومُ بِهِ الْمُسْلِمُ ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا ، خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ
فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الْعَدَالَةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ شُرُوطَ
الطَّاعَاتِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ ، وَكُلُّ أَحَدٍ عَلَيْهِ فَرْضٌ
فِي نَفْسِهِ أَنْ يُطِيعَ ، وَعَلَيْهِ فَرْضٌ فِي دِينِهِ أَنْ يُنَبِّهَ
غَيْرَهُ عَلَى مَا يَجْهَلُهُ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ ، وَيَنْهَاهُ عَمَّا
يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى قَبْلَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِي تَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ
الْإِيمَانِ } .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ غَرِيبِ الْفِقْهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ فِي الْبَيَانِ بِالْأَخِيرِ
فِي الْفِعْلِ ، وَهُوَ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِاللِّسَانِ
وَالْبَيَانِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْيَدِ .
يَعْنِي أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْمُنْكَرِ وَبَيْنَ
مُتَعَاطِيهِ بِنَزْعِهِ وَبِجَذْبِهِ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا
بِمُقَاتَلَةٍ وَسِلَاحٍ فَلْيَتْرُكْهُ ، وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إلَى
السُّلْطَانِ ؛ لِأَنَّ شَهْرَ السِّلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ مَخْرَجًا
إلَى الْفِتْنَةِ ، وَآيِلًا إلَى فَسَادٍ أَكْثَرَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، إلَّا أَنْ يَقْوَى الْمُنْكَرُ ؛ مِثْلُ أَنْ
يَرَى عَدُوًّا يَقْتُلُ عَدُوًّا فَيَنْزِعُهُ عَنْهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَلَّا
يَدْفَعَهُ ، وَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ قَتَلَهُ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
نَزْعِهِ وَلَا يُسَلِّمُهُ بِحَالٍ ، وَلْيُخْرِجْ السِّلَاحَ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ
} أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهُ فِي التَّغْيِيرِ دَرَجَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ؛ وَهِيَ إذَا رَأَى مُسْلِمٌ فَحْلًا يَصُولُ عَلَى مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى قَاتِلِهِ حِينَئِذٍ ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ لَهُ هُوَ الَّذِي صَالَ عَلَيْهِ الْفَحْلُ ، أَوْ مُعِينًا لَهُ مِنْ الْخَلْقِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَدْ قَامَ بِفَرْضٍ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَنَابَ عَنْهُمْ فِيهِ ؛ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ مَالِكُ الْفَحْلِ ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ نَائِبًا عَنْهُ فِي قَتْلِ الصَّائِلِ وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ ؟ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْظِيمِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؛
وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ } وَإِشَارَةٌ لِتَقْدِيمِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ .
وَفِي الْأَثَرِ يُنْمَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا } .
الْآيَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } أَوْرَدَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ الْمُنَافِقُونَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْمُرْتَدُّونَ ؛ قَالَهُ
مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : أَهْلُ الْكِتَابِ ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْكُفَّارِ ؛ أَقَرُّوا
بِالتَّوْحِيدِ فِي صُلْبِ آدَمَ ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ قَالَهُ أُبَيّ
بْنُ كَعْبٍ .
الْخَامِسُ : رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ
.
قَالَ مَالِكٌ : وَأَيُّ كَلَامٍ أَبَيْنُ مِنْ هَذَا ؟
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُمْكِنٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ، لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ
وَاحِدٌ مِنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ
.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ ؛ وَعَلَى
هَذَا فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَةَ وَأَهْلَ الْأَهْوَاءِ كُفَّارٌ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِهِمْ
.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَرْتِيبُهُمْ ، فَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ
فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ فَنَسْتَقْرِئُ فِيهِمْ
الْأَدِلَّةَ ، وَنَحْكُمُ بِمَا تَقْتَضِيهِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي
كُتُبِ الْأُصُولِ ، فَفِيهِمْ نَظَرٌ طَوِيلٌ ؛ .
وَإِذَا
حَكَمْنَا بِكُفْرِهِمْ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : لَا يُصَلَّى عَلَى مَوْتَاهُمْ ،
وَلَا تُعَادُ مَرَضَاهُمْ .
قَالَ سَحْنُونٌ : أَدَبًا لَهُمْ .
قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : وَهَذِهِ إشَارَةٌ مِنْ
سَحْنُونٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهُمْ ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ ؛ فَإِنَّ
الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يَجِبُ قَتْلُهُ ؛ فَإِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ
قَتْلَهُ وَجَبَ عَلَيْكَ هِجْرَتُهُ ، فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ ، وَلَا تَعُدْهُ
فِي مَرَضِهِ ، وَلَا تُصَلِّ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ حَتَّى تُلْجِئَهُ إلَى اعْتِقَادِ
الْحَقِّ ، وَيَتَأَدَّبَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْخَلْقِ ؛ فَكَأَنَّ سَحْنُونٌ
قَالَ : إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ فَأَدِّبْهُ .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ : هَلْ تُزَوَّجُ الْقَدَرِيَّةُ
؟ فَقَالَ : قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ }
الْآيَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
يَسْجُدُونَ } قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : يَعْنِي : قَائِمَةً بِالْحَقِّ ، يُرِيدُ قَوْلًا
وَفِعْلًا ؛ فَيَعُودُ الْكَلَامُ إلَى الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ : { وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ } .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ
أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ؛ وَمُفْتَتَحُ
الْكَلَامِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَبَيْنَ مَنْ
بَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ مَعْنَاهُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ
فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .
وَقَوْلُهُ
: { لَيْسُوا سَوَاءً } تَمَامُ كَلَامٍ ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ بِوَصْفِ
الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ وَالصَّلَاةِ ؛ وَهَذِهِ الْخِصَالُ
هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، لَا سِيَّمَا الصَّلَاةُ وَخَاصَّةً فِي
اللَّيْلِ وَقْتَ الرَّاحَةِ .
وَقِيلَ : إنَّهَا الصَّلَاةُ مُطْلَقًا .
وَقِيلَ : إنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
الْآخِرَةِ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً وَقَدْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ فَمِنَّا
الْمُضْطَجِعُ .
وَمِنَّا الْمُصَلِّي ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ
هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُكُمْ }
.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَا
مِنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ } .
وَهَذِهِ فِي الْعَتَمَةِ تَأْكِيدٌ لِلتَّخْصِيصِ
وَتَبْيِينٌ لِلتَّفْضِيلِ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ
عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ
بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا
فِي قَوْله تَعَالَى : { لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَا خِلَافَ
بَيْنَ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ مُصَاحَبَةِ
الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، حَتَّى نَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ .
قَالَ أَنَسٌ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ ، وَلَا تَنْقُشُوا فِي
خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا } .
فَلَمْ نَدْرِ مَا قَالَ حَتَّى جَاءَ الْحَسَنُ فَقَالَ
: لَا تَسْتَضِيئُوا : لَا تُشَاوِرُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ .
وَمَعْنَى لَا تَنْقُشُوا عَرَبِيًّا : لَا تَنْقُشُوا :
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ .
قَالَ الْحَسَنُ : وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ
دُونِكُمْ } الْآيَةَ .
وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : حَسَنَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لَا
تَجُوزُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } وَبِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَأَهْلُ الْحِجَازِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ
عَلَى عَدُوِّهِ ، وَالِاعْتِرَاضَاتُ وَالِانْفِصَالَاتُ قَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قِيلَ نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَقِيلَ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَالصَّحِيحُ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْآيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَوَّلُ أَمْرِ الصُّوفِ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَسَوَّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ
قَدْ تَسَوَّمَتْ } ، وَكَانَ عَلَى الزُّبَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عِمَامَةٌ
صَفْرَاءُ ، فَنَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى صِفَتِهِ ؛
نَزَلُوا عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ ، وَقَدْ طَرَحُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ
مُسَوِّمِينَ بِالصُّوفِ ؛ فَأَمَرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ فَسَوَّمُوا أَنْفُسَهُمْ وَخَيْلَهُمْ بِالصُّوفِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ مَجْزُوزَةً
أَذْنَابُ خَيْلِهِمْ وَنَوَاصِيهَا
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : الِاشْتِهَارُ بِالْعَلَامَةِ فِي الْحَرْبِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ ،
وَهِيَ هَيْئَةٌ بَاهِيَةٌ قُصِدَ بِهَا الْهَيْبَةُ عَلَى الْعَدُوِّ ،
وَالْإِغْلَاظُ عَلَى الْكُفَّارِ ، وَالتَّحْرِيضُ لِلْمُؤْمِنِينَ .
وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ .
وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجَلِيَّاتِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى
بُرْهَانٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى لِبَاسِ الثَّوْبِ الْأَصْفَرِ وَحُسْنِهِ ،
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ بِهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ لَبِسَ نَعْلًا
أَصْفَرَ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ .
وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدِي فَانْظُرْ فِيهِ ، غَيْرَ أَنَّ
الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ قَضَى حَاجَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى بَقَرَةٍ
صَفْرَاءَ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي جَزِّ النَّوَاصِي وَالْأَذْنَابِ
فَضَعِيفٌ لَمْ يَصِحَّ ؛ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
الْخَبَرِ الصَّحِيحِ : { الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ } .
وَهَذَا إنْ صَحَّ تَعْضُدُهُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ هِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَمْرِ لِيَسْتَشِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ وَيَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : شُرْت الدَّابَّةَ أَشُورهَا إذَا رُضْتهَا لِتَسْتَخْرِجَ أَخْلَافَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي مَاذَا تَقَعُ الْإِشَارَةُ ؟ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُرَادُ بِهِ
الِاسْتِشَارَةُ فِي الْحَرْبِ ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ
لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا رَأْيٌ بِقَوْلٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ بِوَحْيٍ مُطْلَقٍ
مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ حِينَ خَطَبَ : { أَشِيرُوا
عَلَيَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي ، وَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي
إلَّا خَيْرًا } يَعْنِي بِقَوْلِهِ " أَبَنُوهُمْ " عَيَّرُوهُمْ .
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَالًا لَهُمْ عَنْ الْوَاجِبِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ
يَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ التَّعَصُّبِ لَهُمْ وَإِسْلَامَهُمْ إلَى
الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ ؛ {
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، مِنْ الْأَوْسِ
: يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنَا أَعْذُرُكَ مِنْهُ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ
ضَرَبْنَا عُنُقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا
فِيهِ بِأَمْرِكَ .
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ ، فَقَالَ
لِذَلِكَ الْأَوْسِيِّ : كَذَبْت ، لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ ، وَلَا
تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ .
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ
الْأَوْسِيِّ الْمُتَكَلِّمِ أَوَّلًا ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ :
كَذَبْت ، لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ؛ فَإِنَّكَ رَجُلٌ مُنَافِقٌ
تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ
وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ ؛ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا } .
وَكَانَتْ هَذِهِ فَائِدَةٌ لِمَنْ بَعْدَهُ لِيَسْتَنَّ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُشَاوَرَةِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو
عُبَيْدَةَ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ
جِيءَ بِالْأَسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسَارَى ؟ فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً
طَوِيلَةً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا
يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : فَقُلْت : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ
يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : فَمَا رَأَيْتنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ يَقَعَ عَلَيَّ
حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ .
قَالَ : وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِ عُمَرَ : { مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } } قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا حَدِيثٌ
صَحِيحٌ ، وَهُوَ عَلَى النَّحْوِ الْأَوَّلِ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ مَا
عِنْدَهُمْ فِي قَرَابَتِهِمْ وَحَالِ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَفْعَلُ بِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } جَمِيعُ أَصْحَابِهِ ؛
وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ قَالَ : الْمُرَادُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ .
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَأَحَقُّ
بِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُقْصَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، فَقَصْرُهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَى .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي السِّيَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : { أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْمَنْزِلِ .
فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ ، أَمَنْزِلٌ
أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ ؟ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَهُ
أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ .
قَالَ : فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ ؛ انْطَلِقْ
بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ الْقَوْمِ } إلَى آخِرِهِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ
يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهَا ثَلَاثُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ اتَّهَمُوا النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَغَانِمِ ، وَرُوِيَ أَنَّ
قَطِيفَةً حَمْرَاءَ فُقِدَتْ ، فَقَالَ قَوْمٌ : لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا ، وَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ الْآيَةَ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْمًا غَلُّوا مِنْ الْمَغْنَمِ
أَوْ هَمُّوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِيمَا هَمُّوا وَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ
، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
الثَّالِثُ : نَهَى اللَّهُ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِنْ
الْوَحْيِ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي حَقِيقَةِ الْغُلُولِ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنْ
غَلَّ يَنْصَرِفُ فِي اللُّغَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : خِيَانَةٌ مُطْلَقَةٌ .
الثَّانِي : فِي الْحِقْدِ ، يُقَالُ فِي الْأَوَّلِ
تَغُلُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ ، وَفِي الثَّانِي يَغِلُّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ خِيَانَةُ الْغَنِيمَةِ ؛ وَسُمِّيَ
بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى خَفَاءٍ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : كَانَ أَصْلُهُ
مَنْ خَانَ فِيهِ إذَا أَدْخَلَهُ فِي مَتَاعِهِ فَسَتَرَهُ فِيهِ .
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { لَا إغْلَالَ وَلَا إسْلَالَ } .
وَفِيهِ تَفْسِيرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْإِغْلَالَ خِيَانَةُ الْمَغْنَمِ ، وَالْإِسْلَالِ : السَّرِقَةُ مُطْلَقَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الْإِغْلَالَ وَالْإِسْلَالَ
السَّرِقَةُ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْإِغْلَالَ خِيَانَةُ
الْمَغْنَمِ وَالْإِسْلَالَ سَرِقَةُ الْخَطْفِ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُ ، كَمَا
يَفْعَلُ سُودَانُ مَكَّةَ الْيَوْمَ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي الْقِرَاءَاتِ : قَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ يَغُلُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ ، وَفَتَحَهَا
الْبَاقُونَ ، وَهُمَا صَحِيحَتَانِ قِرَاءَةً وَمَعْنًى .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِي مَعْنَى الْآيَةِ : فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا بِضَمِّ الْغَيْنِ
فَمَعْنَاهُ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ فِي مَغْنَمٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ
بِمُتَّهَمٍ .
وَلَا فِي وَحْيٍ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِظَنِينٍ وَلَا
ضَنِينٍ ، أَيْ لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ عَلَيْهِ وَلَا بِخَيْلٍ فِيهِ ، فَإِنَّهُ
إذَا كَانَ أَمِينًا حَرِيصًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ يَخُونُ وَهُوَ
يَأْخُذُ مَا أَحَبَّ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ سَهْمُ
الصَّفِيِّ ؛ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ مَا
أَرَادَ ، ثُمَّ يَأْخُذَ الْخُمُسَ وَتَكُونَ الْقِسْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَمَا
كَانَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ كَرَامَةَ أَخْلَاقٍ وَطَهَارَةَ أَعْرَاقٍ ، فَكَيْفَ
مَعَ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَعِصْمَةِ الرِّسَالَةِ .
وَمَنْ قَرَأَ يُغَلَّ بِنَصْبِ الْغَيْنِ فَلَهُ
أَرْبَعَةُ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ
: يُوجَدُ غَالًّا ، كَمَا تَقُولُ : أَحْمَدْتُ
فُلَانًا .
الثَّانِي
: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ ، وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ هَذَا تُلِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَفَسَّرَ بِهَذَا عَلِيٌّ
وَابْنُ مَسْعُودٍ .
فَقَالَ : نَعَمْ وَيَقْتُلُ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا ؛ فَإِنْ بَاعَهُ فِي
الْعِلْمِ وَالتَّفْسِيرِ لَا يَبُوعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ
الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ : وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ ،
أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ وُجُودًا ، إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ
شَرْعًا ، نَعَمْ يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِمْ فُجُورًا وَتَعَدِّيًا ، وَخَصَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ
، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُونَ ، وَلَكِنْ هُوَ أَعْظَمُ
حُرْمَةً .
الثَّالِثُ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُتَّهَمَ فَإِنَّهُ
مُبَرَّأٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ :
إنَّ شَيْطَانًا لَبَّسَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْوَحْيَ وَجَاءَهُ فِي صُورَةِ مَلَكٍ ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ ،
وَخَصَّصْنَاهُ بِرِسَالَةٍ سَمَّيْنَاهَا بِكِتَابِ " تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ
عَلَى
مِقْدَارِ النَّبِيِّ " وَسَنَذْكُرُهَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
الرَّابِعُ :
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ ،
وَلَا يُعْلَمُ ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِذَا خَانَهُ أَحَدٌ أَطْلَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ .
وَهَذَا أَقْوَى وُجُوهِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَقَدْ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ عَلَى ثَقَلِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ فَمَاتَ ، فَقَالَ
النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : هُوَ فِي النَّارِ } فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ
إلَيْهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ غَلَّ عَبَاءَةً .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، فِي
الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ }
فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ الْقَوْمِ
.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ
لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ : { إنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ غَلَّ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ يَهُودٍ
مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ } .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا
فَذَكَرَ الْغُلُولَ وَعَظَّمَهُ ، وَقَالَ : { لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ
لَهَا حَمْحَمَةٌ يَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي .
فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا
قَدْ بَلَّغْت } الْحَدِيثَ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : إذَا غَلَّ الرَّجُلُ فِي الْمَغْنَمِ فَوَجَدْنَاهُ أَخَذْنَاهُ
مِنْهُ وَأَدَّبْنَاهُ خِلَافًا لِلْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مِنْ
الْفُقَهَاءِ ، وَلِلْحُسَيْنِ مِنْ التَّابِعِينَ ، حَيْثُ قَالُوا : يُحْرَقُ
رَحْلُهُ إلَّا الْحَيَوَانَ وَالسِّلَاحَ .
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إلَّا السَّرْجَ ، وَالْإِكَافَ
؛ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ قَالَ : { إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا
مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ .
وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالدَّارَقُطْنِيّ
نَحْوَهُ .
قَالَ ابْنُ الْجَارُودِ عَنْ الذُّهْلِيِّ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ بَحْرٍ الْقَطَّانِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَهُ .
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ كَرْكَرَةَ
الْمُتَقَدِّمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ
اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَحْرَقَ
مَتَاعَهُ .
وَهَذَا أَصَحُّ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ إنَّمَا لَمْ
يُحْرِقْ رَحْلَ كَرْكَرَةَ ؛ لِأَنَّ كَرْكَرَةَ قَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ ؛
وَالتَّحْرِيقُ إنَّمَا هُوَ زَجْرٌ وَرَدْعٌ ، وَلَا يُرْدَعُ مَنْ مَاتَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُرْدَعُ بِهِ مَنْ بَقِيَ ،
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ثُمَّ تُرِكَ ، وَيَعْضُدُهُ أَنَّهُ لَا عُقُوبَةَ
فِي الْأَمْوَالِ ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ بِجِنَايَتِهِ لِخِيَانَتِهِ
بِالْإِجْمَاعِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : تَحْرِيمُ الْغُلُولِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِ
الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَأْثِرَ
بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ الْآخَرِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمُ الصَّفِيِّ .
الثَّانِي : أَنَّ الْوَلِيَّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْ الْمَغْنَمِ مَا شَاءَ ، وَهَذَا رُكْنٌ عَظِيمٌ وَأَمْرٌ مُشْكِلٌ
، بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الثَّالِثُ
: فِي الصَّحِيحِ ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ : { أَصَبْت جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ
، وَقُلْت : وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ هَذَا ،
فَالْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَبَسَّمُ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : تَبَسُّمُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى حَقًّا مِنْ أَخْذِ
الْجِرَابِ وَحَقًّا مِنْ الِاسْتِبْدَادِ بِهِ دُونَ النَّاسِ ، وَلَوْ كَانَ
ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَمْ يَتَبَسَّمْ مِنْهُ وَلَا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ
لَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ إجْمَاعًا كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : إذَا
ثَبَتَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَمَنْ غَصَبَ مِنْهَا شَيْئًا أُدِّبَ ،
فَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةً أَوْ سَرَقَ نِصَابًا فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، فَرَأَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ،
مِنْهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا وَكَانَ
سَهْمُهُ كَالْمُشْتَرَكِ الْمُعَيَّنِ
.
قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ
ظَاهِرٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ بَيْتُ الْمَالِ ، وَقَدْ مَنَعَ بَيْتُ الْمَالِ
، وَقَالَ : لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ ، وَقَدْ قَالَ يُقْطَعُ ، وَفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ : إنَّ حَظَّهُ فِي الْمَغْنَمِ يُورَثُ عَنْهُ وَحَظَّهُ
فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا يُورَثُ عَنْهُ ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي
الْإِنْصَافِ .
الْآيَة الرَّابِعَة
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فِيهَا ثَلَاثُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ
بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ مَانِعُو
الزَّكَاةَ .
الثَّانِي
: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ ، بَخِلُوا بِمَا
عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتِهِ
؛ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ، وَالشُّحُّ
مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ أَمَّا
الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ
الْمُفْلِحُونَ } وَالْإِيثَارُ مُسْتَحَبٌّ ، وَسُمِّيَ مَنْعُهُ شُحًّا .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَثَبَتَ بِرِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ
الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ
حَدِيدٍ ؛ فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يَتَصَدَّقَ سَبَغَتْ وَوَفَرَتْ حَتَّى
تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتُعَفِّيَ أَثَرَهُ ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ
يَتَصَدَّقَ تَقَلَّصَتْ وَلَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا ، فَهُوَ يُوَسِّعُ
وَلَا تُوَسَّعُ } .
وَهَذَا مِنْ الْأَمْثَالِ الْبَدِيعَةِ ، بَيَانُهُ فِي
شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ فِي الْمُخْتَارِ الصَّحِيحِ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى
وُجُوبِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لِمَانِعِهَا ، وَالْوَعِيدُ
الْمُقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى حَسَبِ
اقْتِضَاءِ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ ؛ وَهَذَا الْوَعِيدُ بِالْعِقَابِ
مُفَسَّرٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ مَالٍ لَا
يُؤَدَّى زَكَاتُهُ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ
زَبِيبَتَانِ يَأْخُذُهُ بِشِدْقَيْهِ يَقُولُ : أَنَا مَالُكَ ، أَنَا كَنْزُكَ }
ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } إلَى آخِرِهَا .
وَهَذَا نَصٌّ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ .
أَمَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ يَدْخُلُ فِي
الْآيَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَ وَاجِبًا مِمَّا أَخْبَرَ
بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ فَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ فَمَنْعُهُ وَقَطْعُهُ
لِمُوجَبِ الشَّرِيعَةِ وَمُبَلِّغِهَا ، وَشَارِحِهَا أَوْلَى بِوُجُوبِ
الْعِقَابِ وَتَضْعِيفِهِ .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ { : الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَمُضْطَجِعِينَ
عَلَى جُنُوبِهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّهَا فِي الْمَرِيضِ الَّذِي تَخْتَلِفُ
أَحْوَالُهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الذِّكْرُ الْمُطْلَقُ .
الرَّابِعُ : قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ : الْمَعْنَى
قِيَامًا بِحَقِّ الذِّكْرِ وَقُعُودًا عَنْ الدَّعْوَى فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْأَحَادِيثِ
الْمُنَاسِبَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهِيَ خَمْسَةٌ : الْأَوَّلُ : رَوَى
الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ : فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ،
وَيَقْرَأُ : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الْعَشْرَ
الْآيَاتِ } .
الثَّانِي :
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ
وَغَيْرُهُمْ { عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ بِهِ بَاسُورٌ ،
فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَلِّ قَائِمًا
، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } .
الثَّالِثُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ أَحْيَانِهِ .
} الرَّابِعُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَحْجِزُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ
لَيْسَ الْجَنَابَةُ } .
الْخَامِسُ : رَوَى أَبُو دَاوُد { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ اللَّحْمَ اتَّخَذَ
عَمُودًا فِي مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ
عَامَّةٌ فِي كُلِّ ذِكْرٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ : مَنْ قَدَرَ صَلَّى
قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى مُعْتَمِدًا عَلَى عَصًا ،
فَإِنْ لَمْ
يَقْدِرْ صَلَّى جَالِسًا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى نَائِمًا عَلَى جَنْبِهِ
الْأَيْمَنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَرُوِيَ
عَلَى ظَهْرِهِ .
وَالصَّحِيحُ الْجَنْبُ ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ
فِيهِ ، وَمَا وَافَقَ الْحَدِيثَ فِيهِ أَوْلَى ، وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي
الْمَسَائِلِ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فِيهَا
ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي شَرْحِ أَلْفَاظِهَا :
الصَّبْرُ : عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا ،
وَالْمُصَابَرَةُ : إدَامَةُ مُخَالَفَتِهَا فِي ذَلِكَ ؛ فَهِيَ تَدْعُو وَهُوَ
يَنْزِعُ .
وَالْمُرَابَطَةُ : الْعَقْدُ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى
لَا يَبْخَلَ فَيَعُودَ إلَى مَا كَانَ صَبَرَ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْأَقْوَالِ : فِيهَا
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ ، وَصَابِرُوا وَعْدِي
لَكُمْ ، وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ
.
الثَّانِي : اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ ، وَصَابِرُوا
الْعَدُوَّ ، وَرَابِطُوا الْخَيْلَ
.
الثَّالِثُ : مِثْلُهُ إلَّا قَوْلَهُ : رَابِطُوا
فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ رَابِطُوا الصَّلَوَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي حَقِيقَةِ ذَلِكَ :
وَهُوَ أَنَّ الصَّبْرَ : حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ مَكْرُوهِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا
وَالْمُصَابَرَةُ : حَمْلُ مَكْرُوهٍ يَكُونُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا ؛ الْأَوَّلُ
كَالْمَرَضِ ، وَالثَّانِي كَالْجِهَادِ .
وَالرِّبَاطُ : حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى النِّيَّةِ
الْحَسَنَةِ وَالْجِسْمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ ، وَمِنْ أَعْظَمِهِ ارْتِبَاطُ
الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَارْتِبَاطُ النَّفْسِ عَلَى الصَّلَوَاتِ ،
عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ : لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ
وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ ؛ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ ، فَمَا أَصَابَتْ
فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ .
وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ
وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَلَا أَدُلُّكُمْ
عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ :
إسْبَاغُ
الْوُضُوءِ
عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ
الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ،
فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ثَلَاثًا } .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ أَوْلَاهُ وَأَفْضَلَهُ فِي نَوْعَيْ الطَّاعَةِ الْمُتَعَدِّي
بِالْمَنْفَعَةِ إلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ ، وَإِلْزَامُ الْمُخْتَصِّ
بِالْفَاعِلِ وَهُوَ دُونَهُ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَتَفَاضَلُ الْعَقَائِدُ
وَالْأَعْمَالُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَفِيضُ
مِنْهُ .
سُورَةُ
النِّسَاءِ فِيهَا إحْدَى وَسِتُّونَ آيَة الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : {
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } الْمَعْنَى :
اتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَعْصُوهُ ، وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا .
وَمَنْ قَرَأَ وَالْأَرْحَامِ فَقَدْ أَكَّدَهَا حَتَّى
قَرَنَهَا بِنَفْسِهِ .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْمِلَّةُ أَنَّ صِلَةَ ذَوِي
الْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ وَأَنَّ قَطِيعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَثَبَتَ { أَنَّ
أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً
وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، صِلِي أُمَّكِ } .
فَلِتَأْكِيدِهَا دَخَلَ الْفَضْلُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ
الْكَافِرَةِ ، فَانْتَهَى الْحَالُ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إلَى أَنْ
يَقُولُوا : إنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَتَوَارَثُونَ ، وَيَعْتِقُونَ عَلَى مَنْ اشْتَرَاهُمْ
مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ ، لِحُرْمَةِ الرَّحِمِ وَتَأْكِيدًا لِلْبَعْضِيَّةِ ،
وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ
فَهُوَ حُرٌّ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَمَا بَيْنَهُمْ مِنْ تَعَصُّبَةٍ
وَمَا يَجِبُ لِلرَّحِمِ عَلَيْهِمْ مِنْ صِلَةٍ مَعْلُومٌ عَقْلًا مُؤَكَّدٌ
شَرْعًا ، لَكِنَّ قَضَاءَ الْمِيرَاثِ قَدْ أَحْكَمْتُهُ السُّنَّةُ
وَالشَّرِيعَةُ ، وَبَيَّنَتْ أَعْيَانَ الْوَارِثِينَ ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِي
الْمِيرَاثِ حَظٌّ لَفُصِلَ لَهُمْ ، أَمَّا الْحُكْمُ بِالْعِتْقِ فَقَدْ
نَقَضُوهُ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُعَلِّقُوهُ بِالرَّحِمِ الْمُطْلَقَةِ حَسْبَمَا
قَضَى ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَإِنَّمَا أَنَاطُوهُ بِرَحِمِ الْمَحْرَمِيَّةِ ؛ وَذَلِكَ
خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّقٌ بِإِشَارَةِ الْحَدِيثِ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
بِمَا نَكَتَتْهُ أَنَّهُ عُمُومٌ خَصَّصْنَاهُ فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ
وَالْإِخْوَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، بِدَلِيلِ الْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ
هُنَالِكَ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ
إنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله
تَعَالَى : { وَآتُوا } مَعْنَاهُ وَأَعْطُوا ، أَيْ مَكِّنُوهُمْ مِنْهَا ،
وَاجْعَلُوهَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إجْرَاءُ
الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ إلَّا ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ
الْأَخْذَ الْكُلِّيَّ وَالِاسْتِبْدَادَ .
الثَّانِي رَفْعُ الْيَدِ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ ،
وَذَلِكَ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ وَالْإِرْشَادِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ الْيَتَامَى :
وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ لَا أَبَ لَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ
حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ ، فَإِذَا بَلَغَهُ خَرَجَ عَنْ هَذَا الِاسْمِ ،
وَصَارَ فِي جُمْلَةِ الرِّجَالِ
.
وَحَقِيقَةُ الْيُتْمِ الِانْفِرَادُ ؛ فَإِنْ رَشَدَ عِنْدَ
الْبُلُوغِ وَاسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ فِي النَّظَرِ لَهَا ، وَالْمَعْرِفَةِ
بِمَصَالِحِهَا ، وَالنَّظَرِ بِوُجُودِ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ مِنْهَا زَالَ
عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ وَمَعْنَاهُ مِنْ الْحَجْرِ ، وَإِنْ بَلَغَ الْحُلُمَ
وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي غِرَارَتِهِ وَسَفَهِهِ مُتَمَادٍ عَلَى جَهَالَتِهِ زَالَ
عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ حَقِيقَةً ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَجْرِ ،
وَتَمَادَى عَلَيْهِ الِاسْمُ مَجَازًا لِبَقَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِعَدَمِ
الدِّينِ لَا يَتَحَرَّجُونَ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ، فَيَأْخُذُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيُبَدِّلُونَهَا بِأَمْوَالِهِمْ ، وَيَقُولُونَ : اسْمٌ بِاسْمٍ
وَرَأْسٌ بِرَأْسٍ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِلْيَتِيمِ مِائَةُ شَاةٍ جِيَادٍ
فَيُبَدِّلُونَهَا بِمِائَةِ شَاةٍ هَزْلَى لَهُمْ ، وَيَقُولُونَ : مِائَةٌ
بِمِائَةٍ ؛ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَى
تَأْكُلُوا
تَجْمَعُوا
وَتَضُمُّوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ
النَّاسِ : مَعْنَاهُ مَعَ أَمْوَالِكُمْ .
وَالْمَعْنَى الَّذِي يَسْلَمُ مَعَهُ اللَّفْظُ مَا
قُلْنَا : نُهُوا أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ أَمْوَالَ الْيَتَامَى كَأَمْوَالِهِمْ
وَيَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهَا بِالْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ اعْتَزَلَ كُلُّ وَلِيٍّ يَتِيمَهُ ، وَأَزَالَ مِلْكَهُ
عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى آلَتْ الْحَالُ أَنْ يُصْنَعَ لِلْيَتِيمِ مَعَاشُهُ
فَيَأْكُلَهُ ، فَإِنْ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ فَسَدَ وَلَمْ يَقْرَبْهُ أَحَدٌ ،
فَعَادَ ذَلِكَ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِمْ ، فَأَرْخَصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي
الْمُخَالَطَةِ قَصْدًا لِلْإِصْلَاحِ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ : { وَيَسْأَلُونَكَ
عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ } الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إنْ كَانَ الْمَعْنَى بِالْآيَةِ
الْإِنْفَاقُ فَذَلِكَ يَكُونُ مَا دَامَتْ الْوِلَايَةُ ، وَيَكُونُ اسْمُ
الْيُتْمِ حَقِيقَةً كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَإِنْ كَانَ الْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْكِينُ وَإِسْلَامُ
الْمَالِ إلَيْهِ فَذَلِكَ عِنْدَ الرُّشْدِ ، وَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ يَتِيمًا
مَجَازًا ؛ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَتِيمًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا بَلَغَ خَمْسًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً أُعْطِيَ مَالَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ .
وَهَذَا بَاطِل ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ الْمُطَلَّقَةَ
مَرْدُودَةٌ إلَى الْمُقَيَّدَةِ عِنْدَنَا .
وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعِلَّةَ
الَّتِي لِأَجْلِهَا مُنِعَ الْيَتِيمُ مِنْ مَالِهِ هِيَ خَوْفُ التَّلَفِ
عَلَيْهِ بِغِرَارَتِهِ وَسَفَهِهِ ؛ فَمَا دَامَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَمِرَّةٍ لَا
يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ ، وَإِذَا زَالَتْ الْعِلَّةُ زَالَ الْحُكْمُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ
بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا
إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى
الْمُقَيَّدِ ، وَتَحْقِيقُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْمَسَائِلِ ، وَهَبْكُمْ
أَنَّا لَا نَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَالْحُكْمُ بِخَمْسٍ
وَعِشْرِينَ
سَنَةً لَا وَجْهَ لَهُ ، لَا سِيَّمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى الْمُقَدَّرَاتِ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ وَلَا قَوْلٌ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ الْمَعْنَى .
الْآيَةُ
الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ
أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُرْوَةَ سَأَلَ
عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَتْ : " هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ
فِي حِجْرِ الرَّجُلِ تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا
وَجَمَالَهَا ، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَلَا يُقْسِطَ لَهَا فِي
صَدَاقِهَا ، فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ
يَنْكِحُوهُنَّ حَتَّى يُقْسِطُوا لَهُنَّ ، وَيُعْطُوهُنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ
فِي الصَّدَاقِ ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ .
قَالَ عُرْوَةُ : قَالَتْ عَائِشَةُ : { وَإِنَّ
النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ }
} قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي
آيَةٍ أُخْرَى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } هِيَ رَغْبَةُ أَحَدِهِمْ
عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ ، فَنُهُوا عَنْ
أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهِ وَجَمَالِهِ مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ
إلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إنْ كُنَّ قَلِيلَاتِ
الْمَالِ وَالْجَمَالِ " ، وَهَذَا نَصُّ كِتَابَيْ الْبُخَارِيِّ
وَالتِّرْمِذِيِّ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحَشْوِ رِوَايَاتٌ لَا فَائِدَةَ فِي
ذِكْرِهَا هَاهُنَا ، يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إلَى قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ
} قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : مَعْنَاهُ أَيْقَنْتُمْ وَعَلِمْتُمْ ؛
وَالْخَوْفُ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الظَّنِّ الَّذِي يَتَرَجَّحُ وُجُودَهُ
عَلَى عَدَمِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى الْيَقِينِ
وَالْعِلْمِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ مِنْ
الظَّنِّ لَا مِنْ الْيَقِينِ ؛ التَّقْدِيرُ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
التَّقْصِيرُ فِي الْقِسْطِ لِلْيَتِيمَةِ فَلْيَعْدِلْ عَنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : دَلِيلُ الْخِطَابِ : وَإِنْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَوْلِ بِهِ ؛ فَإِنَّ دَلِيلَ خِطَابِ هَذِهِ
الْآيَةِ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُقْسِطُ
لِلْيَتِيمَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ سِوَاهَا ، كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ
إذَا خَافَ أَلَّا يُقْسِطَ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ { فِي الْيَتَامَى } فِي
تَجْوِيزِ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ
حَتَّى تَبْلُغَ وَتُسْتَأْمَرَ وَيَصِحَّ إذْنُهَا .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَتِنَا إذَا افْتَقَرَتْ أَوْ
عَدِمَتْ الصِّيَانَةَ جَازَ إنْكَاحُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ .
وَالْمُخْتَارُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إنَّمَا
تَكُونُ يَتِيمَةً قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَبَعْدَ الْبُلُوغِ هِيَ امْرَأَةٌ
مُطْلَقَةٌ لَا يَتِيمَةٌ .
قُلْنَا :
الْمُرَادُ بِهِ يَتِيمَةٌ بَالِغَةٌ ، بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ } وَهُوَ اسْمٌ إنَّمَا يَنْطَلِقُ
عَلَى الْكِبَارِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ : { فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ
مَا كُتِبَ لَهُنَّ } فَرَاعَى لَفْظَ النِّسَاءِ ، وَيُحْمَلُ الْيُتْمُ عَلَى
الِاسْتِصْحَابِ لِلِاسْمِ .
فَإِنْ قِيلَ
: لَوْ أَرَادَ الْبَالِغَةَ لَمَا نَهَى عَنْ حَطِّهَا
عَنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَارُ ذَلِكَ ، فَيَجُوزُ إجْمَاعًا .
قُلْنَا : إنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَصِيٍّ .
وَالثَّانِي :
أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى اسْتِظْهَارِ الْوَلِيِّ
عَلَيْهَا بِالرُّجُولِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ ، فَيَسْتَضْعِفُهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ
، وَيَتَزَوَّجُهَا بِمَا شَاءَ ، وَلَا يُمَكِّنُهَا خِلَافَهُ ؛ فَنُهُوا عَنْ
ذَلِكَ إلَّا بِالْحَقِّ الْوَافِرِ
.
وَقَدْ وَفَرَّنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فِي التَّلْخِيصِ ، وَرَوَيْنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثَ الْمُوَطَّأِ : { الثَّيِّبُ
أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا
} .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَلَا إذْنَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَقَالَ : {
زَوَّجَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ بِنْتَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ ،
فَجَاءَ الْمُغِيرَةُ إلَى أُمِّهَا فَرَغَّبَهَا فِي الْمَالِ فَرَغِبَتْ ،
فَقَالَ قُدَامَةُ : أَنَا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا ، زَوَّجْتُهَا مِمَّنْ
أَعْرِفُ فَضْلَهُ .
فَتَرَافَعُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
فَقَالَ : إنَّهَا يَتِيمَةٌ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِهَا } .
قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : تُحْمَلُ هَذِهِ
الْأَلْفَاظُ عَلَى الْبَالِغَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : إلَّا بِإِذْنِهَا ،
وَلَيْسَ لِلصَّغِيرَةِ إذْنٌ .
وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي الْجَوَابِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
، أَقْوَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْيُتْمِ
مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَةَ لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهَا .
.
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
مَهْرَ الْمِثْلِ وَاجِبٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِسْقَاطِ
الزَّوْجَةِ أَوْ مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْهَا مِنْ أَبٍ ؛ فَأَمَّا الْوَصِيُّ
فَمَنْ دُونَهُ فَلَا يُزَوِّجُهَا إلَّا بِمَهْرِ مِثْلِهَا وَسُنَّتِهَا .
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ
زَوَّجَ ابْنَتَهُ غَنِيَّةً مِنْ ابْنِ أَخٍ لَهُ فَقِيرٍ ؛ فَاعْتَرَضَتْ
أُمُّهَا ؛ فَقَالَ : إنِّي لَأَرَى لَهَا فِي ذَلِكَ مُتَكَلِّمًا ، فَسَوَّغَ
لَهَا فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ حَتَّى يُظْهِرَ هُوَ فِي نَظَرِهِ مَا يُسْقِطُ
اعْتِرَاضَ الْأُمِّ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ : مَا أَرَى لَهَا فِي ذَلِكَ مُتَكَلِّمًا ،
بِزِيَادَةِ الْأَلْفِ عَلَى النَّفْيِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا بَلَغَتْ الْيَتِيمَةُ وَأَقْسَطَ
الْوَلِيُّ فِي الصَّدَاقِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَكُونَ هُوَ
النَّاكِحَ وَالْمُنْكِحَ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ ، فَيَكُونُ نَاكِحًا مُنْكِحًا حَتَّى
يُقَدِّمَ الْوَلِيُّ مَنْ يَنْكِحُهَا
.
وَمَالَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ تَعْدِيدَ النَّاكِحِ
وَالْمُنْكِحِ وَالْوَلِيِّ تَعَبُّدٌ ، فَإِذَا اتَّحَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ
سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْحَدِيثِ حِينَ قَالَ : { لَا نِكَاحَ
إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ
} الْحَدِيثُ
.
الْجَوَابُ : إنَّا لَا نَقُولُ : إنَّ لِلتَّعَبُّدِ مَدْخَلًا
فِي هَذَا ، وَإِنَّمَا أَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخَلْقَ ارْتِبَاطَ
الْعَقْدِ بِالْوَلِيِّ ، فَأَمَّا التَّعَدُّدُ وَالتَّعَبُّدُ فَلَا مَدْخَلَ
لَهُ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَلَا نَظَرَ لَهُ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ
فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ }
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ إلَى الْعَقْدِ ، وَمِنْهُمْ
مَنْ رَدَّهُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ؛ وَالصَّحِيحُ رُجُوعُهُ إلَى
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
التَّقْدِيرُ
: انْكِحُوا مَنْ حَلَّ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ،
وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْعَقْدِ ، وَيَكُونُ
التَّقْدِيرُ : انْكِحُوا نِكَاحًا طَيِّبًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } قَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ
هَذِهِ الْآيَةَ تُبِيحُ لِلرَّجُلِ تِسْعَ نِسْوَةٍ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ
مَثْنَى عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنْ اثْنَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، وَثُلَاثَ
عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثٍ مَرَّتَيْنِ ، وَرُبَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْبَعٍ مَرَّتَيْنِ
، فَيَخْرُجُ مِنْ ظَاهِرِهِ عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ إبَاحَةُ ثَمَانِي
عَشْرَةَ امْرَأَةً : لِأَنَّ مَجْمُوعَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ
تِسْعَةٌ ، وَعَضَّدُوا جَهَالَتَهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
كَانَ تَحْتَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ ، وَقَدْ كَانَ تَحْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ تِسْعٍ ، وَإِنَّمَا مَاتَ عَنْ تِسْعٍ ، وَلَهُ فِي
النِّكَاحِ وَفِي غَيْرِهِ خَصَائِصُ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ ، بَيَانُهَا فِي سُورَةِ
الْأَحْزَابِ .
وَلَوْ قَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى :
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا
لَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ نِكَاحِ التِّسْعِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ
الْكَلَامِ وَنِظَامِ الْمَعْنَى فِيهِ
: فَلَكُمْ نِكَاحُ أَرْبَعٍ ، فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا
فَثَلَاثَةً ، فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا فَاثْنَتَيْنِ ؛ فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا
فَوَاحِدَةً ؛ فَنَقْلُ الْعَاجِزِ عَنْ هَذِهِ الرُّتَبِ إلَى مُنْتَهَى
قُدْرَتِهِ ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ ابْتِدَاءِ الْحِلِّ ، وَهِيَ الْأَرْبَعُ
، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ تِسْعَ نِسْوَةٍ لَكَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَانْكِحُوا
تِسْعَ نِسْوَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ، وَهَذَا مِنْ رَكِيكِ
الْبَيَانِ الَّذِي لَا يَلِيقُ
بِالْقُرْآنِ
، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، وَالدَّارَقُطْنِيّ
وَغَيْرِهِمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِغَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ حِينَ أَسْلَمَ ، وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ : اخْتَرْ
مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ } .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : مِنْ الْبَيِّنِ عَلَى مَنْ
رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا
مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي نِكَاحِ أَرْبَعٍ ؛ لِأَنَّهَا خِطَابٌ
لِمَنْ وَلِيَ وَمَلَكَ وَتَوَلَّى وَتَوَصَّى ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صِفَاتُ الْأَحْرَارِ الْمَالِكِينَ الَّذِينَ يَلُونَ
الْأَيْتَامَ تَحْتَ نَظَرِهِمْ ؛ يَنْكِحُ إذَا رَأَى ، وَيَتَوَقَّفُ إذَا
أَرَادَ .
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَنْكِحُ إلَّا
اثْنَتَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ ، وَفِي مَشْهُورِ
قَوْلَيْهِ إنَّهُ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ
فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَاهُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالتَّسْوِيَةِ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ فَرْضٌ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمِدُهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ ، إذَا فَعَلَ الظَّاهِرَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَوَجَدَ قَلْبَهُ الْكَرِيمَ السَّلِيمَ يَمِيلُ إلَى عَائِشَةَ : { اللَّهُمَّ هَذِهِ قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ } يَعْنِي قَلْبَهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا صَرْفَ قَلْبِهِ عَنْ ذَلِكَ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ ، وَرُبَّمَا فَاتَ الْقُدْرَةَ ؛ وَأَخَذَ الْخَلْقَ بِاعْتِدَادِ الظَّاهِرِ لِتَيَسُّرِهِ عَلَى الْعَاقِلِ ، فَإِذَا قَدَرَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ وَمِنْ بِنْيَتِهِ عَلَى نِكَاحِ أَرْبَعٍ فَلْيَفْعَلْ ، وَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلُ مَالُهُ وَلَا بِنْيَتُهُ فِي الْبَاءَةِ ذَلِكَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ إنْ نَالَهَا فَحَسَنٌ وَإِنْ قَعَدَ عَنْهَا هَانَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ أُخْرَى فَإِنَّهُ إذَا أَمْسَكَ عَنْهَا اعْتَقَدَتْ أَنَّهُ يَتَوَفَّرُ لِلْأُخْرَى ، فَيَقَعُ النِّزَاعُ وَتَذْهَبُ الْأُلْفَةُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَا حَقَّ لِلْوَطْءِ فِيهِ وَلَا
لِلْقَسْمِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الْقَسْمِ
فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، فَجَعَلَ مِلْكَ الْيَمِينِ
كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدَةِ ؛ فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِمِلْكِهِ
حَقٌّ فِي الْوَطْءِ .
أَوْ فِي الْقَسْمِ ، وَحَقُّ مِلْكِ الْيَمِينِ فِي
الْعَدْلِ قَائِمٌ بِوُجُوبِ حَسَنِ الْمِلْكِيَّةِ وَالرِّفْقِ بِالرَّقِيقِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا }
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَلَّا
يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : أَلَّا تَضِلُّوا ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : أَلَّا تَمِيلُوا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالنَّاسُ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي رِسَالَةِ "
مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ
" بِشَيْءٍ لَمْ نَرَ أَنْ نَخْتَصِرَهُ هَاهُنَا :
قُلْنَا : أُعْجِبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِكَلَامِهِ هَذَا ، وَقَالُوا : هُوَ
حُجَّةٌ لِمَنْزِلَةِ الشَّافِعِيِّ فِي اللُّغَةِ ، وَشُهْرَتِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ
، وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْفَصَاحَةِ حَتَّى لَقَدْ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ : هُوَ
أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ ، مَعَ غَوْصِهِ عَلَى الْمَعَانِي ،
وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأُصُولِ ؛ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ :
فَانْكِحُوا وَاحِدَةً إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ ، فَذَلِكَ
أَقْرَبُ إلَى أَنْ تَنْتَفِيَ عَنْكُمْ كَثْرَةُ الْعِيَالِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ
.
وَقَالَ أَصْحَابُهُ : لَوْ كَانَ الْمُرَادُ
بِالْعَوْلِ هَاهُنَا الْمَيْلَ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَيْلَ
لَا يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ عَدَدِ النِّسَاءِ وَقِلَّتِهِنَّ ، وَإِنَّمَا
يَخْتَلِفُ بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ إذَا كَثُرْنَ
تَكَاثَرَتْ الْحُقُوقُ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : كُلُّ مَا قَالَ
الشَّافِعِيُّ أَوْ قِيلَ عَنْهُ أَوْ وُصِفَ بِهِ فَهُوَ كُلُّهُ جُزْءٌ مِنْ
مَالِكٍ ، وَنَغْبَةٌ مِنْ بَحْرِهِ ؛ وَمَالِكٌ أَوْعَى سَمْعًا ، وَأَثْقَبُ
فَهْمًا ، وَأَفْصَحَ لِسَانًا ، وَأَبْرَعُ بَيَانًا ، وَأَبْدَعُ وَصْفًا ،
وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مُقَابَلَةُ قَوْلٍ بِقَوْلٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ
وَفَصْلٍ .
وَاَلَّذِي يَكْشِفُ لَكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ الْبَحْثُ عَنْ مَعَانِي قَوْلِكَ " عَالَ " لُغَةً
حَتَّى إذَا عَرَفْتَهُ رَكَّبْتَ عَلَيْهِ مَعْنَى الْآيَةِ ، وَحَكَمْتَ بِمَا
يَصِحُّ بِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى
.
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ سَبْعَةَ مَعَانٍ :
الْأَوَّلُ :
الْمَيْلُ
؛ قَالَ يَعْقُوبُ : عَالَ الرَّجُلُ إذَا مَالَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا
تَعُولُوا } وَفِي الْعَيْنِ : الْعَوْلُ : الْمَيْلُ فِي الْحُكْمِ إلَى
الْجَوْرِ ، وَعَالَ السَّهْمُ عَنْ الْهَدَفِ : مَالَ عَنْهُ ، وَقَالَ ابْنُ
عُمَرَ : إنَّهُ لِعَائِلِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ، وَيَنْشُدُ لِأَبِي طَالِبٍ :
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَغُلُّ شَعِيرَةً لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ
عَائِلِ الثَّانِي : عَالَ : زَادَ
.
الثَّالِثُ عَالَ : جَارَ فِي الْحُكْمِ .
قَالَتْ الْخَنْسَاءُ : وَلَيْسَ بِأَوْلَى وَلَكِنَّهُ
وَيَكْفِي الْعَشِيرَةَ مَا عَالَهَا الرَّابِعُ : عَالَ : افْتَقَرَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً
فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } الْخَامِسُ : عَالَ : أَثْقَلَ ؛
قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى بَيْتِ الْخَنْسَاءِ ،
وَكَانَ بِهِ أَقْعُدُ .
السَّادِسُ : قَامَ بِمَؤُونَةِ الْعَائِلِ ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ } " .
السَّابِعُ : عَالَ : غَلَبَ ، وَمِنْهُ عِيلَ صَبْرُهُ
، أَيْ غَلَبَ .
هَذِهِ مَعَانِيهِ السَّبْعَةُ لَيْسَ لَهَا ثَامِنٌ ،
وَيُقَالُ : أَعَالَ الرَّجُلُ كَثُرَ عِيَالُهُ ، وَبِنَاءُ " عَالَ "
يَتَعَدَّى وَيَلْزَمُ ، وَيَدْخُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " ، كَمَا
قَدَّمْنَا فِي مَسْأَلَةِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مُفَصَّلًا بِجَمِيعِ
وُجُوهِهِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ شَهِدَ لَكَ اللَّفْظُ
وَالْمَعْنَى بِمَا قَالَهُ مَالِكٌ ؛ أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى
: { تَعُولُوا } فِعْلٌ ثُلَاثِيٌّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَيْلِ الَّذِي
تَرْجِعُ إلَيْهِ مَعَانِي " عَوَّلَ " كُلُّهَا ، وَالْفِعْلُ فِي
كَثْرَةِ الْعِيَالِ رُبَاعِيٌّ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْآيَةِ ، فَقَدْ ذَهَبَتْ
الْفَصَاحَةُ وَلَمْ تَنْفَعْ الضَّادُ الْمَنْطُوقُ بِهَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :
ذَلِكَ أَدْنَى ، أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَنْتَفِيَ الْعَوْلَ يَعْنِي الْمَيْلَ ،
فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً عُدِمَ الْمَيْلُ ، وَإِذَا كَانَتْ
ثَلَاثًا فَالْمَيْلُ أَقَلُّ ، وَهَكَذَا فِي اثْنَتَيْنِ ؛ فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْخَلْقَ إذَا خَافُوا عَدَمَ الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ بِالْوُقُوعِ فِي الْمَيْلِ مَعَ الْيَتَامَى أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْأَجَانِبِ أَرْبَعًا إلَى وَاحِدَةٍ ؛ فَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَقِلَّ الْمَيْلَ فِي الْيَتَامَى وَفِي الْأَعْدَادِ الْمَأْذُونِ فِيهَا ، أَوْ يَنْتَفِيَ ؛ وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ ، فَأَمَّا كَثْرَةُ الْعِيَالِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى أَلَّا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ
لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } فِيهَا أَرْبَعُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : مَنْ الْمُخَاطَبُ بِالْإِيتَاءِ ؟ :
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجُ
.
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ ؛
قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ .
وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ وَهُوَ
الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ وَاحِدَةٌ ؛ إذْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ بَعْضُهَا
عَلَى بَعْضٍ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ ، وَهِيَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِجُمْلَتِهِ
الْأَزْوَاج ؛ فَهُمْ الْمُرَادُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ } فَوَجَبَ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ
هُوَ الْآخِرُ فِيهَا أَوْ مِنْهَا
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
نِحْلَةً } وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَطِيَّةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْعِوَضِ
، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَا هَاهُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَعْنَاهُ : طِيبُوا نَفْسًا بِالصَّدَاقِ ، كَمَا تَطِيبُونَ
بِسَائِرِ النِّحَلِ وَالْهِبَاتِ
.
الثَّانِي
: مَعْنَاهُ " نِحْلَةً " مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى لِلنِّسَاءِ ؛ فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ ، فَانْتَزَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُمْ وَنَحَلَهَا
النِّسَاءَ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ مَعْنَاهُ " عَطِيَّةً " مِنْ اللَّهِ ؛
فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَنَاكَحُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالشِّغَارِ
وَيُخْلُونَ النِّكَاحَ مِنْ الصَّدَاقِ ؛ فَفَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى
لِلنِّسَاءِ وَنَحَلَهُ إيَّاهُنَّ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ
: النِّكَاحُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ انْعَقَدَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، فَكُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنْ
صَاحِبِهِ
، وَمَنْفَعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عِوَضٌ عَنْ مَنْفَعَةِ الْآخَرِ
، وَالصَّدَاقُ زِيَادَةٌ فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الزَّوَاجِ لِمَا
جَعَلَ لَهُ فِي النِّكَاحِ مِنْ الدَّرَجَةِ ، وَلِأَجْلِ خُرُوجِهِ عَنْ رَسْمِ
الْعِوَضِيَّةِ جَازَ إخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنْهُ ، وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِهِ ،
ثُمَّ يُفْرَضُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ ، أَوْ يَجِبُ بِالْوَطْءِ .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَالُوا : لَوْ فَسَدَ الصَّدَاقُ
لَمَا تَعَدَّى فَسَادُهُ إلَى النِّكَاحِ ، وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِفَسْخِهِ
لَمَّا كَانَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى عَقْدِهِ وَصِلَةً فِي حَقِّهِ ، فَإِنْ
طَابَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسًا بَعْدَ وُجُوبِهِ بِهِبَتِهِ لِلزَّوْجِ وَحَطَّهُ فَهُوَ
حَلَالٌ لَهُ ، وَإِنْ أَبَتْ فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا فِيهِ ، كَانَتْ بِكْرًا أَوْ
ثَيِّبًا حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ عُمُومُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ
الصَّدَاقَ عِوَضًا ، وَأَجْرَاهُ مَجْرَى سَائِرَ أَعْوَاضِ الْمُعَامَلَاتِ
الْمُتَقَابِلَاتِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } فَسَمَّاهُ أَجْرًا ، فَوَجَبَ أَنْ
يَخْرُجَ بِهِ عَنْ حُكْمِ النِّحَلِ إلَى حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ .
وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ
الزَّوْجَيْنِ يَتَمَتَّعُ بِصَاحِبِهِ وَيُقَابِلُهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ،
وَأَنَّ الصَّدَاقَ زِيَادَةٌ فِيهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ وَجَبَ الصَّدَاقُ
عَلَى الزَّوْجِ لِيَمْلِكَ بِهِ السَّلْطَنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَيَنْزِلَ
مَعَهَا مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ مَعَ الْمَمْلُوكِ فِيمَا بَذَلَ مِنْ الْعِوَضِ
فِيهِ ، فَتَكُونَ مَنْفَعَتُهَا بِذَلِكَ لَهُ فَلَا تَصُومُ إلَّا بِإِذْنِهِ ،
وَلَا تَحُجُّ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا تُفَارِقُ مَنْزِلَهَا إلَّا بِإِذْنِهِ ،
وَيَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِمَالِهَا كُلِّهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهَا مِنْهُ إلَّا
ثُلُثُهُ ، فَمَا ظَنُّكَ بِبَدَنِهَا
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : يَفْسُدُ
النِّكَاحُ لِفَسَادِهِ ، فَيُفْسَخُ قَبْلَ وَبَعْدَ .
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ ،
وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ ،
لِمَا
فَاتَ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَمَضَى مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ لَا قَبْلَهُ وَلَا
بَعْدَهُ ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ .
وَأَمَّا طِيبُ نَفْسِ الْمَرْأَةِ بِهِ إنْ كَانَتْ
مَالِكَةً فَصَحِيحٌ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعُمُومِ .
وَأَمَّا الْبِكْرُ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْعُمُومِ ؛
لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَا لَهَا ، كَمَا لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ الصَّغِيرَةُ
عِنْدَهُمْ وَالْمَجْنُونَةُ وَالْأَمَةُ .
وَإِنْ كُنَّ مِنْ الْأَزْوَاجِ ، وَلَكِنْ رَاعَى
قِيَامَ الرُّشْدِ ، وَدَلِيلُ التَّمَلُّكِ لِلْمَالِ دُونَ ظَاهِرِ الْعُمُومِ
فِي الزَّوْجَاتِ ، كَذَلِكَ فَعَلْنَا نَحْنُ فِي الْبِكْرِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا
أَدِلَّةَ قُصُورِهَا عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهَا فِي الْمَسَائِلِ
الْخِلَافِيَّةِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ ، وَفِي الَّذِي
أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ النُّكَتِ كِفَايَةٌ لِلَبِيبِ الْمُنْصِفِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمَالِكَةَ لِأَمْرِ نَفْسِهَا إذَا وَهَبَتْ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا نَفَذَ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَلَا رُجُوعَ لَهَا فِيهِ ، إلَّا أَنَّ شُرَيْحًا رَأَى الرُّجُوعَ لَهَا فِيهِ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا } وَإِذَا قَامَتْ طَالِبَةً لَهُ لَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسًا ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ طَابَتْ وَقَدْ أَكَلَ ، فَلَا كَلَامَ لَهَا ؛ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ صُورَةَ الْأَكْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِحْلَالِ وَالِاسْتِحْلَالِ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ
الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي السَّفَهِ : وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آيَةِ
الدَّيْنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الصَّغِيرَةُ
وَالْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تُجَرَّبْ
.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ السَّفَهَ صِفَةُ
ذَمٍّ ، وَالصَّغِيرَةُ وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقَّانِ ذَمًّا .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَدْ وَصَفَ الْمَرْأَةَ بِنُقْصَانِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ ،
وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ مَوْصُوفٌ بِالْغِرَارَةِ وَالنَّقْصِ ، وَإِنْ كَانَا لَمْ
يَفْعَلَا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمَا ، لَكِنَّهُمَا لَا يُلَامَانِ عَلَى ذَلِكَ ، فَنَهَى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ إيتَاءِ الْمَالِ إلَيْهِمْ ، وَتَمْكِينِهِمْ مِنْهُ ،
وَجَعْلِهِ فِي أَيْدِيهِمْ ؛ وَيَجُوزُ هِبَةُ ذَلِكَ لَهُمْ ، فَيَكُونُ
لِلسُّفَهَاءِ مِلْكًا وَلَكِنْ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَلَيْهِ يَدٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَمْوَالَكُمْ
} اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا حَقِيقَةٌ ،
وَالْمُرَادُ نَهْيُ الرَّجُلِ أَوْ الْمُكَلَّفِ أَنْ يُؤْتِيَ مَالَهُ سُفَهَاءَ
أَوْلَادِهِ ؛ فَيُضَيِّعُونَهُ وَيَرْجِعُونَ عِيَالًا عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي
: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَهْيُ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ
إيتَاءِ السُّفَهَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِضَافَتِهَا إلَى الْأَوْلِيَاءِ ؛
لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ ، تَنْتَقِلُ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ
، وَتَخْرُجُ عَنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } مَعْنَاهُ : لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ؛
فَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ فَيَكُونُ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا أُعْطِيَ
الْمَالُ سَفِيهًا فَأَفْسَدَهُ رَجَعَ النُّقْصَانُ إلَى الْكُلِّ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَمِيعُ ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } وَهَذَا عَامٌّ
فِي كُلِّ حَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } لَا يَخْلُو أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ ؛ فَهُوَ مُخَاطَبٌ
بِالتَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ اشْتَرَاك الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ ،
وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ الْآبَاءَ ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ
نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا
} الْمَعْنَى : لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ الْحِرْمَانِ
وَجَفَاءِ الْقَوْلِ لَهُمْ ، وَلَكِنْ حَسِّنُوا لَهُمْ الْكَلَامَ ؛ مِثْلُ أَنْ
يَقُولَ الرَّجُلُ لِوَلِيِّهِ : أَنَا أَنْظُرُ إلَيْكَ ، وَهَذَا الِاحْتِيَاطُ يَرْجِعُ
نَفْعُهُ إلَيْكَ .
وَيَقُولُ الْأَبُ لِابْنِهِ : مَالِي إلَيْكَ مَصِيرُهُ
، وَأَنْتَ إنْ شَاءَ اللَّهُ صَاحِبُهُ إذَا مَلَكْتُمْ رُشْدَكُمْ وَعَرَفْتُمْ
تَصَرُّفَكُمْ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا
تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا
دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاَللَّهِ
حَسِيبًا } فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الِابْتِلَاءُ هُنَا الِاخْتِبَارُ ، لِتَحْصُلَ مَعْرِفَةُ مَا غَابَ مِنْ عِلْمِ
الْعَاقِبَةِ أَوْ الْبَاطِنِ عَنْ الطَّالِبِ لِذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
الْيَتَامَى } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي وَجْهِ تَخْصِيصِ
الْيَتَامَى : وَهُوَ أَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ
وَمَصْلَحَتِهِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبٌ يَحُوطُهُ ، أَوْ لَا أَبَ
لَهُ ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ فَمَا عِنْدَهُ مِنْ غَلَبَةِ الْحُنُوِّ وَعَظِيمِ
الشَّفَقَةِ يُغْنِي عَنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ وَالِاهْتِبَالِ بِأَمْرِهِ .
فَأَمَّا الَّذِي لَا أَبَ لَهُ فَخُصَّ بِالتَّنْبِيهِ
عَلَى أَمْرِهِ لِذَلِكَ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ ، وَإِلَّا فَكَذَلِكَ يَفْعَلُ
الْأَبُ بِوَلَدِهِ الصِّغَارِ أَوْ الضُّعَفَاءِ فَإِنَّهُ يَبْتَلِيهِمْ
وَيَخْتَبِرُ أَحْوَالَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي كَيْفِيَّةِ الِابْتِلَاءِ
: وَهُوَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَتَأَمَّلُ أَخْلَاقَ يَتِيمِهِ ،
وَيَسْتَمِعُ إلَى أَغْرَاضِهِ ، فَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِنَجَابَتِهِ
وَالْمَعْرِفَةُ بِالسَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِ ، وَضَبْطِ مَالِهِ ، أَوْ
الْإِهْمَالُ لِذَلِكَ ؛ فَإِذَا تَوَسَّمَ الْخَيْرَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا
بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ، وَهُوَ الثَّانِي ،
وَيَكُونُ يَسِيرًا ، وَيُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ ؛ فَإِنْ نَمَّاهُ
وَأَحْسَنَ النَّظَرَ فِيهِ فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِيَارُ ، فَلْيُسْلِمْ إلَيْهِ
مَالَهُ جَمِيعَهُ ، وَإِنْ أَسَاءَ النَّظَرَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إمْسَاكُ
مَالِهِ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
حَتَّى إذَا
بَلَغُوا النِّكَاحَ } يَعْنِي : الْقُدْرَةَ عَلَى الْوَطْءِ ، وَذَلِكَ فِي
الذُّكُورِ بِالِاحْتِلَامِ ، فَإِنْ عَدِمَ فَالسِّنُّ ، وَذَلِكَ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً فِي رِوَايَةٍ ، وَثَمَانِي عَشْرَةَ فِي أُخْرَى .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَ عُمَرَ فِي أُحُدٍ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
سَنَةً ، وَجَوَّزَهُ فِي الْخَنْدَقِ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً } ، وَقَضَى
بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا إلَى
إطَاقَةِ الْقِتَالِ لَا إلَى الِاحْتِلَامِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا دَلِيلًا
فَكُلُّ عَدَدٍ مِنْ السِّنِينَ يُذْكَرُ فَإِنَّهُ دَعْوَى ، وَالسِّنُّ الَّتِي
اعْتَبَرَهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى مِنْ سِنٍّ لَمْ
يَعْتَبِرْهَا ، وَلَا قَامَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا .
وَكَذَلِكَ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْإِنْبَاتَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ فَمَنْ عَذِيرِي مِمَّنْ يَتْرُكُ
أَمْرَيْنِ اعْتَبَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَأَوَّلُهُ
وَيَعْتَبِرُ مَا لَمْ يَعْتَبِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَفْظًا ، وَلَا جَعَلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ نَظَرًا .
وَأَمَّا الْإِنَاثُ فَلَا بُدَّ فِي شَرْطِ
اخْتِيَارِهِنَّ مِنْ وُجُودِ نَفْسِ الْوَطْءِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَحِينَئِذٍ
يَقَعُ الِابْتِلَاءُ فِي الرُّشْدِ
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : وَجْهُ
اخْتِيَارِ الرُّشْدِ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْبُلُوغُ
إلَى الْقُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ ؛ وَالْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا
حَسْبَمَا رَآهُ مَالِكٌ قَدْ قَرَّرْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛
نُكْتَتُهُ أَنَّ الذَّكَرَ بِتَصَرُّفِهِ وَمُلَاقَاتِهِ لِلنَّاسِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ
إلَى بُلُوغِهِ يَحْصُلُ بِهِ الِاخْتِبَارُ ، وَيَكْمُلُ عَقْلُهُ بِالْبُلُوغِ
فَيَحْصُلُ لَهُ الْغَرَضُ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَبِكَوْنِهَا مَحْجُوبَةً لَا
تُعَانِي الْأُمُورَ ، وَلَا تُخَالِطَ ، وَلَا تَبْرُزُ لِأَجْلِ حَيَاءِ
الْبَكَارَةِ وُقِفَ
فِيهَا
عَلَى وُجُودِ النِّكَاحِ ، فَبِهِ تُفْهَمُ الْمَقَاصِدُ كُلُّهَا .
قَالَ مَالِكٌ : إذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ ذَهَبَ
حَيْثُ شَاءَ إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ فَيَقْتَصِرَ حَتَّى يُؤْمَنَ أَمْرُهُ
، وَلِأَبِيهِ تَجْدِيدُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ إنْ رَأَى خَلَلًا مِنْهُ .
وَأَمَّا الْأُنْثَى فَلَا بُدَّ بَعْدَ دُخُولِ
زَوْجِهَا مِنْ مُضِيِّ مُدَّةٍ مِنْ الزَّمَانِ عَلَيْهَا تُمَارِسُ فِيهَا
الْأَحْوَالَ ، وَلَيْسَ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ دَلِيلٌ .
وَذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا فِي تَحْدِيدِهِ أَقْوَالًا
عَدِيدَةً ؛ مِنْهَا الْخَمْسَةُ الْأَعْوَامِ وَالسِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ فِي
ذَاتِ الْأَبِ ، وَجَعَلُوهُ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا وَلَا
وَصِيَّ عَلَيْهَا عَامًا وَاحِدًا بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَجَعَلُوهُ فِي
الْمُوَلَّى عَلَيْهَا مُؤَبَّدًا حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهَا .
وَتَحْدِيدُ الْأَعْوَامِ فِي ذَاتِ الْأَبِ عَسِيرٌ ، وَأَعْسَرُ
مِنْهُ تَحْدِيدُ الْعَامِ فِي الْيَتِيمَةِ ، وَأَمَّا تَمَادِي الْحَجْرِ فِي
الْمُوَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ رُشْدُهَا فَيُخْرِجَهَا الْوَصِيُّ
مِنْهُ أَوْ يُخْرِجَهَا الْحُكْمُ مِنْهُ فَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَأَمَّا
سُكُوتُ الْأَبِ عَنْ ابْنَتِهِ فَدَلِيلٌ عَلَى إمْضَائِهِ لِفِعْلِهَا ،
فَتَخْرُجُ دُونَ حُكْمٍ بِمُرُورِ مُدَّةٍ مِنْ الزَّمَانِ يَحْصُلُ فِيهِ
الِاخْتِبَارُ ؛ وَتَقْدِيرُهُ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْوَلِيِّ ، وَفِي
ذَلِكَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ ، وَاخْتِلَافٌ كَثِيرٌ مَوْضِعُهُ كُتُبُ الْمَسَائِلِ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ دَخَلَ
تَحْتَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ :
{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا } فَتَعَيَّنَ
اعْتِبَارُ إينَاسِ الرُّشْدِ ؛ وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ إينَاسُهُ بِحَسَبِ
اخْتِلَافِ حَالِ الرَّاشِدِ فَاعْرِفْهُ ، وَرَكِّبْهُ عَلَيْهِ ، وَاجْتَنِبْ
التَّحَكُّمَ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { فَادْفَعُوا } دَفْعُ الْمَالِ إلَى الْيَتِيمِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : إينَاسُ الرُّشْدِ
.
وَالثَّانِي : بُلُوغُ الْحُلُمِ .
فَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ
تَسْلِيمُ الْمَالِ إلَيْهِ ، كَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ ؛ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ
الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ إذَا احْتَلَمَ
الْغُلَامَ أَوْ حَاضَتْ الْجَارِيَةُ وَلَمْ يُؤْنَسُ مِنْهُ الرُّشْدُ فَإِنَّهُ
لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِيهِ بَيْعٌ وَلَا شِرَاءٌ
وَلَا هِبَةٌ وَلَا عِتْقٌ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ ، وَلَوْ فَعَلَ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ مَالُهُ ثُمَّ دُفِعَ إلَيْهِ
مَالُهُ لَمْ يَنْفُذْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : حَقِيقَةُ الرُّشْدِ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
صَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ ، وَضَبْطُ الْمَالِ ؛
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : إصْلَاحُ الدُّنْيَا وَالْمَعْرِفَةُ
بِوُجُوهِ أَخْذِ الْمَالِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْحِفْظِ لَهُ عَنْ التَّبْذِيرِ ؛
قَالَهُ مَالِكٌ .
الثَّالِثُ : بُلُوغُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ؛
قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَعَوَّلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوثَقُ
عَلَى دِينِهِ فَكَيْف يُؤْتَمَنُ عَلَى مَالِهِ ، كَمَا أَنَّ الْفَاسِقَ لَمَّا
لَمْ يُوثَقْ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ .
قُلْنَا لَهُ
: الْعِيَانُ يَرُدُّ هَذَا ، فَإِنَّا نُشَاهِدُ
الْمُتَهَتِّكَ فِي الْمَعَاصِي حَافِظًا لِمَالِهِ ، فَإِنَّ غَرَضَ
الْحِفْظَيْنِ مُخْتَلِفٌ ؛ أَمَّا غَرَضُ الدِّينِ فَخَوْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
، وَأَمَّا غَرَضُ الدُّنْيَا فَخَوْفُ فَوَاتِ الْحَوَائِجِ وَالْمَقَاصِدِ
وَحِرْمَانِ اللَّذَّاتِ الَّتِي تَنَالُ بِهِ ؛ وَيُخَالِفُ هَذَا الْفَاسِقُ ؛ فَإِنَّ
قَبُولَ الشَّهَادَةِ مَرْتَبَةٌ وَالْفَاسِقُ مَحْطُوطُ الْمَنْزِلَةِ شَرْعًا .
وَعَوَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مَنْ بَلَغَ
خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً صَلُحَ أَنْ يَكُونَ جَدًّا فَيَقْبُحُ أَنْ يُحْجَرَ
عَلَيْهِ فِي مَالِهِ .
قُلْنَا : هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ جَدًّا
وَلَمْ يَكُنْ ذَا جَدٍّ فَمَاذَا يَنْفَعُهُ جَدُّ النَّسَبِ وَجَدُّ الْبَخْتِ
فَائِتٌ ؟ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
: إنَّ الرَّجُلَ لِيَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً
لِتَنْبُتَ لِحْيَتُهُ لِيَشِيبَ وَهُوَ ضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْإِعْطَاءِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَأَيْت جَدَّةً لَهَا إحْدَى
وَعِشْرُونَ سَنَةً ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ أَقْرَبُ مِنْهُ فِي
الرِّجَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا سَلَّمَ الْمَالَ
إلَيْهِ بِوَجْهِ الرُّشْدِ ، ثُمَّ عَادَ إلَى السَّفَهِ بِظُهُورِ تَبْذِيرٍ
وَقِلَّةِ تَدْبِيرٍ عَادَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَعُودُ ؛ لِأَنَّهُ بَالِغٌ
عَاقِلٌ بِدَلِيلِ جَوَازِ إقْرَارِهِ فِي الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ .
وَدَلِيلُنَا قَوْله
تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } وَقَالَ : {
فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } وَلَمْ
يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا سَفِيهًا أَوْ يَطْرَأَ ذَلِكَ عَلَيْهِ
بَعْدَ الْإِطْلَاقِ .
وَيُعَضِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
جَعْفَرٍ اشْتَرَى ضَيْعَةً بِسِتِّينَ أَلْفًا ، فَقَالَ عُثْمَانُ : مَا يَسُرّنِي
أَنَّهَا لِي بِنَعْلِي ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ : أَلَا تَأْخُذُ عَلَى ابْنِ أَخِيكَ
وَتَحْجُرُ عَلَيْهِ فِعْلَ كَذَا
.
فَجَاءَ عَلِيٌّ إلَى عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْهِ ،
فَقَالَ الزُّبَيْرُ : أَنَا شَرِيكُهُ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : كَيْف أَحْجُرُ
عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .
فَهَذَانِ خَلِيفَتَانِ قَدْ نَظَرَا فِي هَذَا
وَعَزَمَا عَلَى فِعْلِهِ لَوْلَا ظُهُورُ السَّدَادِ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ
يَكْبَرُوا } إسْرَافًا : يَعْنِي مُجَاوَزَةً مِنْ أَمْوَالِكُمْ الَّتِي
تَنْبَغِي لَكُمْ إلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ .
وَالْإِسْرَافُ : مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمُبَاحِ إلَى
الْمَحْظُورِ .
وَبِدَارًا :
يَعْنِي مُبَادَرَةً أَنْ يَكْبَرُوا ، وَاسْتِبَاقًا
لِمَعْرِفَتِهِمْ لِمَصَالِحِهِمْ ، وَاسْتِئْثَارًا عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ فِي أَمْوَالِهِمْ وَقُبِضَتْ عَنْهَا
أَيْدِيهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا قَوْلٌ ، وَلَا نَفَذَ لَهُمْ فِيهَا
عَقْدٌ وَلَا عَهْدٌ ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُهُمْ وَلَا نَذْرُهُمْ ؛ لِأَنَّ
الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا قُبِضَتْ أَيْدِيهِمْ عَنْهَا الصِّيَانَةُ لَهَا
عَنْ تَبْذِيرِهِمْ وَالْحِفْظُ لَهَا إلَى وَقْتِ مَعْرِفَتِهِمْ وَتَبَصُّرِهِمْ
؛ فَلَوْ جَازَ لَهُمْ فِيهَا بَيْعٌ أَوْ هِبَةٌ أَوْ عَهْدٌ لَبَطَلَتْ
فَائِدَةُ الْمَنْعِ لَهُمْ عَنْهَا ، وَسَقَطَ مَقْصُودُ حِفْظِهَا عَلَيْهِمْ .
فَأَمَّا مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ
أُمِّ وَلَدٍ تَمَكَّنُوا مِنْهُمَا فَكَلَامُهُمْ نَافِذٌ فِيهِمَا ، وَيَنْفُذُ
طَلَاقُ الزَّوْجَةِ وَعِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ
تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ فِعْلًا فَيَنْفُذُ الْقَوْلُ فِيهِمَا شَرْعًا .
وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ فِي الْحُجَّةِ لِإِنْفَاذِ
الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا كَانَ
الِاخْتِبَارُ إلَى بُلُوغِ النِّكَاحِ فِي الْحُرَّةِ ، وَقُلْنَا : إنَّهُ فِي
ذَاتِ الْأَبِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ، وَفِي الْيَتِيمَةِ سِتَّةٌ فَمَا
عَمِلْنَا فِي أَثْنَاءِ السِّتَّةِ أَوْ السَّبْعَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّدِّ
وَمَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : مَا عَمِلْتَ فِي
السِّتَّةِ وَالسَّبْعَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّدِّ ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ
فِيهِ السَّدَادُ ، وَمَا عَمِلْتَ بَعْدَ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِمْضَاءِ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ السَّفَهُ
.
وَلَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
فِي زَمَانِنَا
فِي مَحْجُورَةٍ أَرَادَتْ نِحْلَةَ ابْنَتَهَا بِمَالٍ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِهِ ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ فِعْلُ الْمَحْجُورِ ، وَقُلْنَا نَحْنُ :
يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ إينَاسَ الرُّشْدِ إنَّمَا يَكُونُ بِمِثْلِ هَذَا ؛ وَمَنْ
نَظَرَ لِوَلَدِهِ وَاهْتَبَلَ بِهِ فَهُوَ فِي غَايَةِ السَّدَادِ وَالرُّشْدِ
لَهُ وَلِنَفْسِهِ ، فَوَفَّقَ اللَّهُ مُتَوَلِّي الْحُكْمِ يَوْمَئِذٍ وَأَمْضَى
النِّحْلَةَ عَلَى مَا أَفْتَيْنَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
{ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ
مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا بِحَالٍ ، وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ فِي قَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
{ إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } وَاخْتَارَهُ
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَاحْتَجَّ بِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَتِيمُ ، وَإِذَا
كَانَ فَقِيرًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ بِقَدْرِ فَقْرِهِ مِنْ مَالِ
الْيَتِيمِ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ غِنَاهُ ، وَلَمْ
يَكُنْ لِلْوَلِيِّ فِيهِ شَيْءٌ
.
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيُّ إنْ
كَانَ غَنِيًّا عَفَّ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْمَعْرُوفَ شُرْبُهُ اللَّبَنَ
وَرُكُوبُهُ الظَّهْرَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ فِي حَلْبٍ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ
مَنْسُوخٌ فَهُوَ بَعِيدٌ ، لَا أَرْضَاهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ } وَهُوَ الْجَائِزُ الْحَسَنُ ؛ وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } فَكَيْف يَنْسَخُ الظُّلْمُ الْمَعْرُوفَ ؟ بَلْ
هُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ فِي التَّجْوِيزِ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ مُغَايِرٌ لَهُ
؛ وَإِذَا كَانَ الْمُبَاحُ غَيْرَ الْمَحْظُورِ لَمْ يَصِحَّ دَعْوَى نَسْخٍ
فِيهِ ؛ وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ الْإِطْنَابِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَتِيمُ
فَلَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا
أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ
وَلَا مَأْمُورٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ إنْ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا
إنَّمَا يَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ ؛ فَسَقَطَ هَذَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْوَلِيَّ إنْ كَانَ
غَنِيًّا عَفَّ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ فَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ ؛ رُوِيَ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا أَنَا فِي بَيْتِ الْمَالِ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنْ
اسْتَغْنَيْت تَرَكْت ، وَإِنْ احْتَجْت أَكَلْت ؛ وَبِهِ أَقُولُ .
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ اللَّبَنِ ، وَمِثْلُهُ التَّمْرُ
، فَهُوَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : اشْرَبْ غَيْرَ
مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ لِلْحَلْبِ ؛ وَلِأَنَّ شُرْبَ اللَّبَنِ مِنْ
الضَّرْعِ ؛ وَأَكْلَ التَّمْرِ مِنْ الْجُذُوعِ أَمْرٌ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ
الْخَلْقِ مُتَسَامَحٌ فِيهِ .
فَإِنْ أَكَلَ هَلْ يَقْضِي ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ
؛ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إنْ أَكَلْت قَضَيْت .
وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ ؛ وَهُوَ
قَوْلُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ
ابْنِ عَبَّاسٍ .
فَأَمَّا مَنْ نَفَى الْقَضَاءَ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ
الْأَكْلَ لَهُ ، كَمَا أَنَّ النَّظَرَ عَلَيْهِ ؛ فَجَرَى مَجْرَى الْأُجْرَةَ .
وَأَمَّا مَنْ يَرَى الْقَضَاءَ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } فَمَنَعَ مِنْهُ ،
فَإِنْ فَعَلَ قَضَى .
وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ،
أَيْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ، وَيَقْضِي كَمَا يَقْضِي الْمُضْطَرُّ إلَى الْمَالِ
فِي الْمَخْمَصَةِ .
قَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ } ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَكَلَ .
الْمَعْنَى
: فَإِذَا رَدَدْتُمْ مَا أَكَلْتُمْ فَأَشْهِدُوا إذَا
غَرِمْتُمْ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ
لَهُ ؛ فَيَتَعَيَّنُ بِهِ الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالْمَعْرُوفُ هُوَ حَقُّ
النَّظَرِ ؛ وَقَدْ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ
: يُقَارِضُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَيَأْكُلُ حَظَّهُ مِنْ الرِّبْحِ ، فَكَذَلِكَ
يَأْخُذُ مِنْ صَمِيمِ الْمَالِ بِمِقْدَارِ النَّظَرِ ؛ هَذَا إذَا كَانَ
فَقِيرًا ؛ أَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِالْعِفَّةِ وَالْكَفِّ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُ عُمَرَ : " أَنَا كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ
إنْ اسْتَغْنَيْت تَرَكْت " أَلَيْسَ يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ الْأَكْلُ مِنْ
بَيْتِ الْمَالِ ؟ كَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ إنْ كَانَ غَنِيًّا الْأَكْلُ
مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ ؟ قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَ
عُمَرَ : " أَنَا كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنْ اسْتَغْنَيْت " دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ لَيْسَ كَالْوَصِيِّ ، وَلَكِنَّ عُمَرَ بِوَرَعِهِ
جَعَلَ نَفْسَهُ كَالْوَصِيِّ .
الثَّانِي : أَنَّ الَّذِي يَأْكُلُهُ الْخُلَفَاءُ وَالْوُلَاةُ
وَالْفُقَهَاءُ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ
لَهُمْ لِنَازِلِهِمْ وَمُنْتَابِهِمْ ؛ وَإِلَّا فَاَلَّذِي يَفْعَلُونَهُ فَرْضٌ
عَلَيْهِمْ ، فَكَيْف تَجِبُ الْأُجْرَةُ لَهُمْ ؛ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ ،
وَالْفَرْضِيَّةُ تَنْفِي الْأُجْرَةَ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ عَمَلًا غَيْرَ
مُعَيَّنٍ كَعَمَلِ الْخُلَفَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَالسُّعَاةِ
وَالْمُعَلِّمِينَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : مَنْ هُوَ
الْمُخَاطَبُ بِهَذَا كُلِّهِ ؟ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ الْأَيْتَامُ فِي
ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ : [ الْأَوَّلُ ] : يَتِيمٌ مَعْهُودٌ بِهِ ، كَقَوْلِ
سَعْدٍ : هُوَ ابْنُ أَخِي عَهِدَ إلَيَّ فِيهِ .
الثَّانِي : مَكْفُولٌ بِقَرَابَةٍ أَوْ جِوَارٍ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْكَافِلَ لَهُ نَاظِرٌ
كَمَا لَوْ وَصَّى إلَيْهِ الْأَبُ ، إلَّا أَنَّ الْكَافِلَ نَاظِرٌ فِي حِفْظِ
الْمَوْجُودِ ، وَالْمَعْهُودُ إلَيْهِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ
؛ فَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ عَرِيًّا عَنْ كَافِلٍ وَوَصِيٍّ فَالْمُخَاطَبُ
وَلِيُّ الْأَوْلِيَاءِ ، وَهُوَ السُّلْطَانُ ؛ فَهُوَ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ
لَهُ ، وَهُوَ وَلِيٌّ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ
: يَا مَنْ إلَيْهِ يَتِيمٌ بِكَفَالَةٍ أَوْ عَهْدٍ أَوْ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ ، افْعَلْ كَذَا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ وَالْكَافِلِ أَنْ يَحْفَظَ
الصَّبِيَّ فِي بَدَنِهِ وَمَالِهِ ؛ إذْ لَا يَصِحُّ الِابْتِلَاءُ إلَّا
بِذَلِكَ ، فَالْمَالُ يَحْفَظُهُ بِضَبْطِهِ وَالْبَدَنُ يَحْفَظُهُ بِأَدَبِهِ .
وَرُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ فِي حِجْرِي يَتِيمًا أَآكُلُ مِنْ مَالِهِ ؟
قَالَ : نَعَمْ ، غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا وَلَا وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ .
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَأَضْرِبُهُ ؟ قَالَ :
مَا كُنْت ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَكَ
} .
وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مُسْنَدًا فَلَيْسَ يَجِدُ
عَنْهُ أَحَدٌ مُلْتَحَدًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِصْلَاحُ ، وَإِصْلَاحُ
الْبَدَنِ أَوْكَدُ مِنْ إصْلَاحِ الْمَالِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُعَلِّمُهُ
الصَّلَاةَ ، وَيَضْرِبُهُ عَلَيْهَا ، وَيَكْفِهِ عَنْ الْحَرَامِ بِالْكَهْرِ
وَالْقَهْرِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ تَنْبِيهًا عَلَى التَّحْصِينِ وَإِرْشَادًا إلَى
نُكْتَةٍ بَدِيعَةٍ ؛ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَالٍ قُبِضَ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ بِإِشْهَادٍ
لَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِإِشْهَادٍ عَلَى دَفْعِهِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } وَهُوَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ ، فَلَوْ ضَاعَ قَبْلَ
قَوْلِهِ ، فَإِذَا قَالَ دَفَعْت لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِالْإِشْهَادِ ؛ لِأَنَّ
الضَّيَاعَ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَقْتَ ضَيَاعِهِ ،
فَلَا يُكَلَّفُ مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ ؛ وَالْبَيِّنَةُ يَقْدِرُ أَنْ
يُقِيمَهَا حَالَ الدَّفْعِ فَتَفْرِيطُهُ فِيهَا مُوجِبٌ عَلَيْهِ الضَّمَانَ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْوَدِيعَةِ مِثْلَهُ ،
وَهِيَ عِنْدَنَا مَحْمُولَةٌ وَنَظِيرَةٌ لَهُ .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ
وَقَالَا : إنَّهَا أَمَانَةٌ ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
قُلْنَا : لَوْ رَضِيَ أَمَانَتَهُ بِالرَّدِّ مَا
كَتَبَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ بِالْعَقْدِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } فِيهَا
ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ
قَتَادَةُ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ الْمِيرَاثَ
وَيَخُصُّونَ بِهِ الرِّجَالَ ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إذَا مَاتَ
وَتَرَكَ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا وَقَرَابَةً كِبَارًا اسْتَبَدَّ بِالْمَالِ
الْقَرَابَةُ الْكِبَارُ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَاتَ
وَتَرَكَ وَلَدًا أَصَاغِرَ وَأَخًا كَبِيرًا ، فَاسْتَبَدَّ بِمَالِهِ ، فَرَفَعَ
أَمَرَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ
الْعَمُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ الْوَلَدَ صَغِيرٌ لَا يَرْكَبُ وَلَا يَكْسِبُ
، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ } .
وَكَانَ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ تَصَرُّفًا بِجَهْلٍ
عَظِيمٍ ؛ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ الصِّغَارَ الضِّعَافَ كَانُوا أَحَقَّ بِالْمَالِ
مِنْ الْقَوِيِّ ؛ فَعَكَسُوا الْحُكْمَ وَأَبْطَلُوا الْحِكْمَةَ ؛ فَضَلُّوا
بِأَهْوَائِهِمْ وَأَخْطَئُوا فِي آرَائِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ
ثَلَاثُ فَوَائِدَ : إحْدَاهَا : بَيَانُ عِلَّةِ الْمِيرَاثِ ، وَهِيَ الْقَرَابَةُ .
الثَّانِي : عُمُومُ الْقَرَابَةِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ
مِنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ .
الثَّالِثُ :
إجْمَالُ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فَبَيَّنَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ خُصُوصَ الْقَرَابَةِ وَمِقْدَارَ
النَّصِيبِ ، وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ تَوْطِئَةً لِلْحُكْمِ وَإِبْطَالًا
لِذَلِكَ الرَّأْيِ الْفَاسِدِ ، حَتَّى وَقَعَ الْبَيَانُ الشَّافِي بَعْدَ
ذَلِكَ عَلَى سِيرَةِ اللَّهِ وَسُنَّتِهِ فِي إبْطَالِ آرَائِهِمْ وَسُنَّتِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ
كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } كَانَ أَشْيَاخُنَا قَدْ اخْتَلَفُوا عَنْ مَالِكٍ
فِي قِسْمَةِ الْمَتْرُوكِ عَلَى الْفَرَائِضِ إذَا كَانَ فِيهِ تَغْيِيرٌ عَنْ حَالِهِ
كَالْحَمَّامِ وَبَدْءِ الزَّيْتُونِ وَالدَّارِ الَّتِي تَبْطُلُ مَنَافِعُهَا
بِإِبْرَازِ أَقَلِّ السِّهَامِ مِنْهَا ؛ فَكَانَ ابْنُ كِنَانَةَ يَرَى ذَلِكَ ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا }
وَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَرْوِي عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِمَا فِيهِ
مِنْ الْمُضَارَّةِ ؛ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُضَارَّةَ
بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { غَيْرَ مُضَارٍّ } وَأَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } .
وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ
تَعَرُّضٌ لِلْقِسْمَةِ ؛ وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَ الْحَظِّ
وَالنَّصِيبِ فِي التَّرِكَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ
} وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا ؛ فَأَمَّا إبْرَازُ ذَلِكَ النَّصِيبِ فَإِنَّمَا
يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُولُ : قَدْ وَجَبَ
لِي نَصِيبٌ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَمَكِّنُونِي مِنْهُ .
فَيَقُولُ لَهُ شَرِيكُهُ : أَمَّا تَمْكِينُكَ عَلَى
الِاخْتِصَاصِ فَلَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ضَرَرٍ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ مِنْ إفْسَادِ الْمَالِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ وَتَنْقِيصِ
الْقِيمَةِ ، فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ
.
وَالْأَظْهَرُ سُقُوطُ الْقِسْمَةِ فِيمَا يُبْطِلُ
الْمَنْفَعَةَ وَيَنْقُصُ الْقِيمَةَ
.
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ
: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } فِي هَذِهِ الْآيَةِ
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ؛ قَالَهُ سَعِيدٌ
وَقَتَادَةُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ ، وَالْمَعْنَى فِيهَا
الْإِرْضَاخُ لِلْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ إذَا كَانَ الْمَالُ وَافِرًا
، وَالِاعْتِذَارُ إلَيْهِمْ إنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا ، وَيَكُونُ هَذَا عَلَى
هَذَا التَّرْتِيبِ بَيَانًا لِتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ
} وَأَنَّهُ فِي بَعْضِ الْوَرَثَةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ؛ فَيَكُونُ تَخْصِيصًا
غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، ثُمَّ يَتَعَيَّنُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ .
وَهَذَا تَرْتِيبٌ بَدِيعٌ ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ ثُمَّ
تَخْصِيصٌ ثُمَّ تَعْيِينٌ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ ، يُوصِي
الْمَيِّتُ لِهَؤُلَاءِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي نَقْلِ الْوَصِيَّةِ لَا مَعْنًى
لَهَا .
وَأَكْثَرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ أَضْغَاثٌ
وَآثَارٌ ضِعَافٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ اسْتِحْقَاقَ
الْوَرَثَةِ لِنَصِيبِهِمْ ، وَاسْتِحْبَابَ الْمُشَارَكَةِ لِمَنْ لَا نَصِيبَ
لَهُ مِنْهُمْ بِأَنْ يُسْهِمَ لَهُمْ مِنْ التَّرِكَةِ وَيَذْكُرَ لَهُمْ مِنْ
الْقَوْلِ مَا يُؤْنِسُهُمْ وَتَطِيبُ بِهِ نُفُوسُهُمْ .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقًا فِي
التَّرِكَةِ وَمُشَارَكَةً فِي الْمِيرَاثِ لِأَحَدِ الْجِهَتَيْنِ مَعْلُومٌ
وَلِلْآخَرِ مَجْهُولٌ ؛ وَذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ وَإِفْسَادٌ لِوَجْهِ
التَّكْلِيفِ .
الثَّانِي :
أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الصِّلَةُ ، وَلَوْ
كَانَ فَرْضًا يَسْتَحِقُّونَهُ لَتَنَازَعُوا مُنَازَعَةَ الْقَطِيعَةِ
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا } اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ نَهْيٌ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْمَوْتِ عَنْ التَّرْغِيبِ
لَهُ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْإِسْرَافِ الْمُضِرِّ بِالْوَرَثَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ نَهْيٌ لِلْمَيِّتِ عَنْ
الْإِعْطَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْمَسَاكِينٍ وَالضُّعَفَاءِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ نَهْيٌ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ
الْمَيِّتِ عَنْ تَرْغِيبِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ .
الرَّابِعُ :
أَنَّ الْآيَةَ رَاجِعَةٌ إلَى مَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ
الْيَتَامَى وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ ، فَذُكِّرُوا بِالنَّظَرِ فِي مَصْلَحَتِهِمْ
وَالْعَمَلِ بِمَا كَانَ يُرْضِيهِمْ أَنْ يُعْمَلَ مَعَ ذُرِّيَّاتِهِمْ
الضُّعَفَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ضَرَرٍ
يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ عَلَى ذُرِّيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ ، فَلَا
يَقُولُ إلَّا مَا يُرِيدُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ وَلَهُ .
الْآيَةُ
الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ
لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ
دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ
نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } اعْلَمُوا
عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ ،
وَعُمْدَةٌ مِنْ عُمُدِ الْأَحْكَامِ ، وَأُمٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ :
فَإِنَّ الْفَرَائِضَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ حَتَّى إنَّهَا ثُلُثُ الْعِلْمِ ،
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْعِلْمُ ثَلَاثٌ : آيَةٌ
مُحْكَمَةٌ ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ } .
وَكَانَ جُلَّ عِلْمِ الصَّحَابَةِ وَعُظْمَ مُنَاظَرَتِهِمْ
، وَلَكِنَّ الْخُلُقَ ضَيَّعُوهُ ، وَانْتَقِلُوا مِنْهُ إلَى الْإِجَارَاتِ
وَالسَّلَمِ وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّدْلِيسِ ، إمَّا لِدِينٍ نَاقِصٍ ،
أَوْ عِلْمٍ قَاصِرٍ ، أَوْ غَرَضٍ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا ظَاهِرٍ { وَرَبُّكَ
يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
فَضْلِ الْفَرَائِضِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا تَبْهَت مُنْكَرِي
الْقِيَاسِ وَتُخْزِي مُبْطِلِي النَّظَرِ فِي إلْحَاقِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ ،
فَإِنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِهَا إنَّمَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ إذْ النُّصُوصُ
لَمْ تُسْتَوْفَ فِيهَا ، وَلَا أَحَاطَتْ بِنَوَازِلِهَا ، وَسَتَرَى ذَلِكَ
فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ الْفَرَائِضَ وَالْحَجَّ
وَالطَّلَاقَ فَبِمَ يَفْضُلُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ ؟ وَقَالَ وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ
: كُنْت أَسْمَعُ رَبِيعَةَ يَقُولُ : مَنْ تَعَلَّمَ الْفَرَائِضَ مِنْ
غَيْرِ
عِلْمٍ بِهَا مِنْ الْقُرْآنِ مَا أَسْرَعَ مَا يَنْسَاهَا .
قَالَ مَالِكٌ : وَصَدَقَ .
وَقَدْ أَطَلْنَا فِيهَا النَّفَسَ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ ؛ فَأَمَّا الْآنَ فَإِنَّا نُشِيرُ إلَى نُكَتٍ تَتَعَلَّقُ
بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ ، وَفِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي الْمُخَاطَبِ بِهَا ، وَعَلَى مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ ؟ :
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِي الْمَوْتَى الْمَوْرُوثِينَ ،
وَالْخُلَفَاءِ الْحَاكِمِينَ ، وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ أَمَّا تَنَاوُلُهَا لِلْمَوْتَى
فَلْيَعْلَمُوا الْمُسْتَحَقِّينَ لِمِيرَاثِهِمْ بَعْدَهُمْ فَلَا يُخَالِفُوهُ
بِعَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ ؛ وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ : الْحَدِيثُ
الْأَوَّلُ : حَدِيثُ سَعْدٍ فِي الصَّحِيحِ : { عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي مَرَضٍ اشْتَدَّ بِي ،
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي
؛ أَفَأَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : لَا .
قُلْت : فَالثُّلُثَانِ ؟ قَالَ : لَا .
قُلْت : فَالشَّطْرُ ؟ قَالَ : لَا .
الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ؛ إنَّكَ أَنْ تَذَرَ
وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ
النَّاسَ } .
الثَّانِي :
مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : {
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ
أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ ، تَأْمُلُ الْغِنَى
وَتَخْشَى الْفَقْرَ ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت :
لِفُلَانٍ كَذَا ، وَلِفُلَانٍ كَذَا ، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا } .
الثَّالِثُ : مَا رَوَى مَالِكٌ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ
أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : " إنِّي كُنْتُ
نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ ، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِهِ
لَكَانَ لَكِ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ " .
فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَرْءَ أَحَقُّ
بِمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ ، فَإِذَا وُجِدَ
أَحَدُ سَبَبَيْ
زَوَالِهِ وَهُوَ الْمَرَضُ قَبْلَ وُجُودِ الثَّانِي ، وَهُوَ الْمَوْتُ مُنِعَ
مِنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ ، وَحُجِرَ عَلَيْهِ تَفْوِيتُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ
الْوَارِثِ بِهِ ، فَعَهِدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ إلَيْهِ ، وَوَصَّى بِهِ
لِيُعَلِّمَهُ فَيَعْمَلَ بِهِ ؛ وَوُجُوبُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى
سَبَبَيْنِ بِأَحَدِ سَبَبَيْهِ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ فِي الْفِقْهِ ؛ لِجَوَازِ
إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ ، وَبَعْدَ
الْخُرُوجِ ، وَقَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْقَتْلِ ، وَكَذَلِكَ صَحَّ سُقُوطُ
الشُّفْعَةِ بِوُجُودِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَالِ قَبْلَ الْبَيْعِ .
وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِلْخُلَفَاءِ الْحَاكِمِينَ
فَلْيَقْضُوا بِهِ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُتَخَاصِمِينَ .
وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ
فَلْيَكُونُوا بِهِ عَالِمِينَ ، وَلِمَنْ جَهِلَهُ مُبَيِّنِينَ ، وَعَلَى مَنْ
خَالَفَهُ مُنْكِرِينَ ، وَهَذَا فَرْضٌ يَعُمُّ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ ، وَهُوَ
فَنٌّ غَرِيبٌ مِنْ تَنَاوُلِ الْخِطَابِ لِلْمُخَاطَبِينَ ، فَافْهَمُوهُ
وَاعْمَلُوا بِهِ وَحَافِظُوا عَلَيْهِ وَاحْفَظُوهُ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا
يُوَرِّثُونَ الضُّعَفَاءَ مِنْ الْغِلْمَانِ وَلَا الْجَوَارِي ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ وَرَدَّ قَوْلَهُمْ .
الثَّانِي
: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ
، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدِينَ وَالْأَقْرِبَاءِ ؛ فَرَدَّ اللَّهُ
ذَلِكَ وَبَيَّنَ الْمَوَارِيثَ ، رَوَاهُ فِي الصَّحِيحِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ
عَقِيلٍ ، وَهُوَ مُقَارَبُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ ، رَوَى عَنْ { جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى جِئْنَا امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَهِيَ جَدَّةُ خَارِجَةَ
بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، فَزُرْنَاهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ ، فَعَرَّشَتْ لَنَا صَوْرًا
فَقَعَدْنَا تَحْتَهُ ، وَذَبَحَتْ لَنَا شَاةً
وَعَلَّقَتْ
لَنَا قِرْبَةً ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَتَحَدَّثُ إذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَطَلَعَ عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَتَحَدَّثْنَا ، ثُمَّ
قَالَ لَنَا : الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ
عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَتَحَدَّثْنَا ، فَقَالَ : الْآنَ يَأْتِيكُمْ
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ .
قَالَ : فَرَأَيْتُهُ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ مِنْ سَعَفِ الصُّورِ
يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّ شِئْتَ جَعَلْته عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَجَاءَ
حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا ، فَهَنِيئًا لَهُمْ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ ، فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِطَعَامِهَا فَتَغَدَّيْنَا
، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ
الظُّهْرِ ، فَقُمْنَا مَعَهُ مَا تَوَضَّأَ وَلَا أَحَدٌ مِنَّا ، غَيْرَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِكَفِّهِ جَرْعًا مِنْ
الْمَاءِ فَتَمَضْمَضَ بِهِنَّ مِنْ غَمَرِ الطَّعَامِ ؛ فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ
بِابْنَتَيْنِ لَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَاتَانِ بِنْتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ
قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَقَدْ اسْتَفَاءَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا
وَمِيرَاثَهُمَا كُلَّهُ ، فَلَمْ يَدْعُ لَهُمَا مَالًا إلَّا أَخَذَهُ ؛ فَمَا
تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَوَاَللَّهِ لَا تَنْكِحَانِ أَبَدًا إلَّا
وَلَهُمَا مَالٌ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي
أَوْلَادِكُمْ } الْآيَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : اُدْعُ لِي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِعَمِّهِمَا :
أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ ، وَلَك الْبَاقِي } .
فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَطَاءٍ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ : هُوَ
مَقْبُولٌ لِهَذَا الْإِسْنَادِ
.
الثَّالِثُ : مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ {
قُلْت : يَا
رَسُولَ اللَّهِ
؛ مَا تَرَى أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي ؟ فَنَزَلَتْ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي
أَوْلَادِكُمْ } } رَدٌّ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَإِبْطَالٌ
لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، إلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ
الْأَوَّلِ فَائِدَةً ؛ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُ فِي
صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا مَسْكُوتًا عَنْهُ ؛ مُقَرًّا عَلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعًا مُقَرًّا عَلَيْهِ لَمَا حَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَلَى عَمِّ الصَّبِيَّتَيْنِ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ
الْأَحْكَامَ إذَا مَضَتْ وَجَاءَ النَّسْخُ بَعْدَهَا إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي
الْمُسْتَقْبِلِ ، وَلَا يُنْقَضُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ
ظُلَامَةٌ وَقَعَتْ ، أَمَّا أَنَّ الَّذِي وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَأُخْرِجَتْ عَنْهَا أَهْلُ الْمَوَارِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فِي أَوْلَادِكُمْ
} يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَلَدٍ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ دُنْيَا أَوْ
بَعِيدًا ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ } وَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ أَدَم } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ
أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ } فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ كَانَ
لِصُلْبِ الْمَيْتِ دُنْيَا أَوْ بَعِيدًا .
وَيُقَالُ بَنُو تَمِيمٍ ؛ فَيَعُمُّ الْجَمِيعَ ؛
فَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ
: ذَلِكَ حَقِيقَةً فِي الْأَدْنَيْنَ مَجَازٌ فِي
الْأَبْعَدَيْنِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ
؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّوَلُّدِ ، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ
فِي الْجَمِيعِ فَقَدْ غَلَبَ مَجَازُ الِاسْتِعْمَالِ فِي إطْلَاقِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ
فِي الْأَدْنَيْنَ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْبُعَدَاءِ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ ؛ فَيُقَالُ لَيْسَ بِوَلَدٍ ، وَلَوْ كَانَ
حَقِيقَةً لَمَا سَاغَ نَفْيَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسَمِّي وَلَدَ الْوَلَدِ
وَلَدًا ، وَلَا يُسَمِّي بِهِ وَلَدَ الْأَعْيَانِ ، وَكَيْفَمَا
دَارَتْ
الْحَالُ فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى
الْجَمِيعِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : لَوْ حَبَسَ رَجُلٌ عَلَى
وَلَدِهِ لَانْتَقَلَ إلَى أَبْنَائِهِمْ ، وَلَوْ قَالَ صَدَقَةً فَاخْتَلَفَ
قَوْلُ عُلَمَائِنَا ؛ هَلْ تُنْقَلُ إلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ عَلَى
قَوْلَيْنِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا وَلَدَ لَهُ
وَلَهُ حَفَدَةَ لَمْ يَحْنَثْ
.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ ذَلِكَ فِي أَقْوَالِ
الْمَخْلُوقِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي عُمُومِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى
الْعُمُومِ كَمَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْبَارِي ؟ فَإِذَا قُلْنَا بِذَلِكَ فِيهِ
عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ كَلَامُ النَّاسِ عَلَى
الْعُمُومِ بِحَالٍ ، وَإِنْ حُمِلَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ .
الثَّانِي :
أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ يَرْتَبِطُ بِالْأَغْرَاضِ
وَالْمَقَاصِدِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَبْسِ التَّعْقِيبِ ، فَدَخَلَ فِيهِ
وَلَدُ الْوَلَدِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الصَّدَقَةِ التَّمْلِيكُ ؛ فَدَخَلَ فِيهِ
الْأَدْنَى خَاصَّةً وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مِنْ بَعْدُ إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ : { وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } فَدَخَلَ فِيهِ آبَاءُ الْآبَاءِ ،
وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ }
هَذَا الْقَوْلُ يُفِيدُ أَنَّ الذَّكَرَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأُنْثَى أَخَذَ
مِثْلَيْ مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى ، وَأَخَذَتْ هِيَ نِصْفَ مَا يَأْخُذُ
الذَّكَرُ ؛ وَلَيْسَ هَذَا بِنَصٍّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ ،
وَلَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ قَوِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُمْ يُحِيطُونَ
بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدُوا لَمَا كَانَ بَيَانًا لِسَهْمٍ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ ، فَاقْتَضَى الِاضْطِرَارُ إلَى بَيَانِ سِهَامِهِمْ الْإِحَاطَةَ
بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدُوا ؛ فَإِذَا انْضَافَ إلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ
مِنْ ذَوِي السِّهَامِ فَأَخَذَ سَهْمَهُ كَانَ الْبَاقِي أَيْضًا مَعْلُومًا ؛ فَيَتَعَيَّنُ
سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ ، وَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى
الْعُمُومِ ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْأَبَوَيْنِ بِالسُّدُسِ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالزَّوْجَيْنِ بِالرُّبْعِ وَالثُّمُنِ لَهُمَا عَلَى
تَفْصِيلِهِمَا ، وَبَقِيَ الْعُمُومُ وَالْبَيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فِي
أَوْلَادِكُمْ } عَامٌّ فِي الْأَعْلَى مِنْهُمْ وَالْأَسْفَلِ ؛ فَإِنْ
اسْتَوَوْا فِي الرُّتْبَةِ أَخَذُوهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا
فَكَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ حَجَبَ الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ ؛ لِأَنَّ
الْأَعْلَى يَقُولُ : أَنَا ابْنُ الْمَيِّتِ ، وَالْأَسْفَلَ يَقُولُ : أَنَا
ابْنُ ابْنِ الْمَيِّتِ ، فَلَمَّا اسْتَفَلَّتْ دَرَجَتُهُ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ
؛ لِأَنَّ الَّذِي يُدْلِي بِهِ يُقْطَعُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ
الْأَعْلَى ذَكَرًا سَقَطَ الْأَسْفَلُ ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى
أُنْثَى أَخَذَتْ الْأُنْثَى حَقَّهَا ، وَبَقِيَ الْبَاقِي لِوَلَدِ الْوَلَدِ
إنْ كَانَ ذَكَرًا ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ أُنْثَى أُعْطِيت الْعُلْيَا
النِّصْفَ ، وَأُعْطِيَتْ السُّفْلَى السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ؛
لِأَنَّا نُقَدِّرُهُمَا بِنْتَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ ،
فَاشْتَرَكَتَا فِي الثُّلُثِ بِحُكْمِ الْبِنْتِيَّةِ ، وَتَفَاوَتَتَا فِي
الْقِسْمَةِ بِتَفَاوُتِ الدَّرَجَة ؛
وَبِهَذِهِ
الْحِكْمَةُ جَاءَتْ السُّنَّةُ .
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى بِنْتَيْنِ أَخَذَتَا
الثُّلُثَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَسْفَلُ أُنْثَى لَمْ يَكُنْ لَهَا
شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِزَائِهَا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا ذَكَرٌ فَإِنَّهَا
تَأْخُذُ مَعَهُ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ
، إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " إنْ كَانَ الذَّكَرُ مِنْ
وَلَدِ الْوَلَدِ بِإِزَائِهَا رَدَّ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا
لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا
" ، مُرَاعِيًا
فِي ذَلِكَ .
ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْبَنَاتِ
وَإِنْ كَثُرْنَ شَيْئًا إلَّا الثُّلُثَيْنِ ؛ وَهَذَا سَاقِطٌ ، فَإِنَّ
الْمَوْضِعَ الَّذِي قَضَيْنَا فِيهِ بِاشْتِرَاكِ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ ابْنِ
أَخِيهَا وَاشْتِرَاكِ ابْنِ الِابْنِ مَعَ عَمَّتِهِ لَيْسَ حُكْمًا بِالسَّهْمِ
الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْله تَعَالَى : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ }
وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ بِالتَّعْصِيبِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اشْتِرَاكُهُمَا مَعَهُ إذَا
كَانَتَا بِإِزَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثَيْنِ ،
وَهَذَا قَاطِعٌ جِدًّا .
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّهُ لَوْ وَازَاهَا مَا رَدَّ
عَلَيْهَا ، وَلَا شَارَكَتْهُ مُرَاعَاةً لِهَذَا الظَّاهِرِ لَقِيلَ لَهُ : لَا
حُجَّةَ لَكَ فِي هَذَا الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ أُخِذَ بِالسَّهْمِ ،
وَهَذَا حَقٌّ أُخِذَ بِالتَّعْصِيبِ ؛ وَمَا يُؤْخَذُ بِالتَّعْصِيبِ يَجُوزُ
أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ بِخِلَافِ السَّهْمِ الْمَفْرُوضِ الْمُعَيَّنِ
؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ تَرَكَ عَشْرَ بَنَاتٍ وَابْنًا وَاحِدًا ، لَأَخَذَتْ
الْبَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ
بِالتَّعْصِيبِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الَّذِي يَجِبُ بِالسَّهْمِ ؛ وَفِي ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ بَيَانُهُ فِي الْفَرَائِضِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ }
وَهِيَ مُعْضِلَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ : فَإِنْ كُنَّ
اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ لَانْقَطَعَ
النِّزَاعُ ، فَلَمَّا جَاءَ الْقَوْلُ هَكَذَا مُشْكِلًا وَبَيَّنَ حُكْمَ
الْوَاحِدَةِ بِالنِّصْفِ وَحُكْمَ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ
بِالثُّلُثَيْنِ ، وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ الْبِنْتَيْنِ أُشْكِلَتْ الْحَالُ ،
فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : تُعْطَى الْبَنَاتُ النِّصْفَ ، كَمَا
تُعْطَى الْوَاحِدَةُ ؛ إلْحَاقًا لِلْبِنْتَيْنِ بِالْوَاحِدَةِ مِنْ طَرِيقِ
النَّظَرِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ ، وَأَنَّ
ذَلِكَ لَمَّا زَادَ عَلَى الْبِنْتَيْنِ فَتَخْتَصُّ الزِّيَادَةُ بِتِلْكَ
الْحَالِ .
الْجَوَابُ :
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ كَانَ
مُبَيِّنًا حَالَ الْبِنْتَيْنِ بَيَانَهُ لِحَالِ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَ
الْبِنْتَيْنِ لَكَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا ، وَلَكِنَّهُ سَاقَ الْأَمْرَ مَسَاقَ الْإِشْكَالِ
؛ لِتَتَبَيَّنَ دَرَجَةُ الْعَالِمِينَ ، وَتَرْتَفِعَ مَنْزِلَةُ
الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَيِّ الْمَرْتَبَتَيْنِ [ فِي ] إلْحَاقِ الْبِنْتَيْنِ
أَحَقُّ ؟ وَإِلْحَاقُهُمَا بِمَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ سِتَّةِ
أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ : {
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَجَبَ
لَهَا مَعَ أَخِيهَا الثُّلُثُ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَجِبَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ
أُخْتِهَا .
الثَّانِي :
أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ قَضَى فِي بِنْتٍ
وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ بِالسُّدُسِ لِبِنْتِ الِابْنِ ، وَالنِّصْفِ لِلْبِنْتِ تَكْمِلَةَ
الثُّلُثَيْنِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ } ، فَإِذَا كَانَ لِبِنْتِ الِابْنِ مَعَ
الْبِنْتِ الثُّلُثَانِ فَأَحْرَى وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ
أُخْتِهَا .
الثَّالِثُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالثُّلُثَيْنِ لِابْنَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ }
كَمَا قَدَّمْنَا ،
وَهُوَ
نَصٌّ .
الرَّابِعُ :
أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ : فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً
اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ } أَيْ اضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ فَمَا فَوْقَهَا .
الْخَامِسُ : أَنَّ النِّصْفَ سَهْمٌ لَمْ يُجْعَلْ
فِيهِ اشْتِرَاكٌ ؛ بَلْ شُرِعَ مُخْلَصًا لِلْوَاحِدَةِ ، بِخِلَافِ
الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّهُ سَهْمُ الِاشْتِرَاكِ بِدَلِيلِ دُخُولِ الثَّلَاثِ فِيهِ
فَمَا فَوْقَهُنَّ ؛ فَدَخَلَتْ فِيهِ الِاثْنَتَانِ مَعَ الثُّلُثِ دُخُولَ
الثَّلَاثِ مَعَ مَا فَوْقَهُنَّ
.
السَّادِسُ :
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْأَخَوَاتِ : {
وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } وَقَالَ : { فَإِنْ كَانَتَا
اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ } فَلَحِقَتْ الِابْنَتَانِ بِالْأُخْتَيْنِ
فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ ، وَحُمِلَتَا عَلَيْهِمَا ، وَلَحِقَتْ الْأَخَوَاتُ
إذَا زِدْنَ عَلَى اثْنَتَيْنِ بِالْبَنَاتِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ
وَحُمِلَتَا عَلَيْهِنَّ .
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : كَمَا حَمَلْنَا الِابْنَ
فِي الْإِحَاطَةِ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ عَلَى الْأَخِ ، بِدَلِيلِ
قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } وَهَذَا كُلُّهُ
لِيَتَبَيَّنَ بِهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَشْرُوعٌ ، وَالنَّصَّ قَلِيلٌ .
وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ السِّتَّةُ بَيِّنَةُ الْمَعْنَى ،
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَجْلَى مِنْ بَعْضٍ ؛ لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا يُبِينُ
الْمَقْصُودَ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } هَذَا قَوْلٌ
لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ عَلَا مِنْ الْآبَاءِ دُخُولَ مَنْ سَفُلَ مِنْ
الْأَبْنَاءِ فِي قَوْلِهِ : { أَوْلَادِكُمْ } لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ
: أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا مَثْنَى ، وَالْمَثْنَى لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ
وَالْجَمْعَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، وَالْأُمُّ الْعُلْيَا هِيَ
الْجَدَّةُ ، وَلَا يُفْرَضُ لَهَا الثُّلُثُ بِإِجْمَاعٍ ؛ فَخُرُوجُ الْجَدَّةِ
مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَقْطُوعٌ بِهِ ، وَتَنَاوُلُهُ لِلْأَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ فِي قَوْلِهِ : { أَوْلَادِكُمْ
} بَيَانَ الْعُمُومِ ، وَقَصَدَ هَاهُنَا بَيَانَ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْآبَاءِ وَهُمَا
الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَتَفْصِيلُ فَرْضِهِمَا دُونَ الْعُمُومِ ؛ فَأَمَّا
الْجَدُّ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ أَنَّهُ جَعَلَهُ أَبًا ، وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَةَ أَخْذًا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى :
{ يَا بَنِي آدَمَ } وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَسَاقُهُ بَيَانُ
التَّنْوِيعِ لَا بَيَانُ الْعُمُومِ ، وَمَقَاصِدُ الْأَلْفَاظِ أَصْلٌ يَرْجِعُ
إلَيْهِ .
وَاَلَّذِي نُحَقِّقُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَخَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ الْجَدِّ ؛ فَإِنَّ الْأَخَ
يَقُولُ : أَنَا ابْنُ أَبِي الْمَيِّتِ ، وَالْجَدُّ يَقُولُ : أَنَا أَبُو أَبِي
الْمَيِّتِ ، وَسَبَبُ الْبُنُوَّةِ أَقْوَى مِنْ سَبَبِ الْأُبُوَّةُ ؛ فَكَيْف يُسْقِطُ
الْأَضْعَفُ الْأَقْوَى ؛ وَهَذَا بَعِيدٌ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ
طُيُولِيَّةٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ
إيضَاحُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قِيَاسِيَّةٌ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ
الْأَلْفَاظِ ؛ فَأَمَّا الْجَدَّةَ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْجَدَّةَ أُمَّ الْأُمِّ
جَاءَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقَالَ لَهَا : لَا أَجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ
شَيْئًا ، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا ؛
فَإِنْ
وُجِدَ الْأَبُ وَالْأُمُّ لَمْ يَكُنْ لِلْجَدِّ وَالْجَدَّةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ
الْأَدْنَى يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَوْلَادِ ، وَإِنْ
عَدِمَا يَنْزِلُ الْأَبْعَدُ مَنْزِلَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ بَعْضُ النَّاسِ :
مَعْنَاهُ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى
أَخَذَتْ النِّصْفَ ، وَأَخَذَتْ الْأُمُّ السُّدُسَ ، وَأَخَذَ الْأَبُ الثُّلُثَ
؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ ، بَلْ يَأْخُذُ الْأَبُ السُّدُسَ سَهْمًا وَالسُّدُسَ
الْآخَرَ تَعْصِيبًا ، وَهُوَ مَعْنًى آخَرُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ نَصٌّ فِي الْآيَةِ
، إنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ } إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { الثُّلُثُ }
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : سَوَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ
مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ ، وَفَاضَلَ بَيْنَهُمَا مَعَ عَدَمِهِ فِي أَنْ جَعَلَ سَهْمَيْهِمَا
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا
يُدْلِيَانِ بِقَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ ، فَاسْتَوَيَا مَعَ
وُجُودِ الْوَلَدِ ؛ فَإِنْ عَدِمَ الْوَلَدُ فَضَلَ الْأَبُ الْأُمَّ
بِالذُّكُورَةِ وَالنُّصْرَةِ وَوُجُوبِ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ ، وَثَبَتَتْ
الْأُمُّ عَلَى سَهْمٍ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا اجْتَمَعَ الْآبَاءُ
وَالْأَوْلَادُ قَدَّمَ اللَّهُ الْأَوْلَادَ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ يُقَدِّمُ
وَلَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ يَرَاهُ فَوْقَهُ وَيَكْتَسِبُ لَهُ
؛ فَقِيلَ لَهُ : حَالُ حَفِيدِكَ مَعَ وَلَدِكِ كَحَالِكَ مَعَ وَلَدِكِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا
وَارِثَ لَهُ ، مَعَ عَدِمَ الْأَوْلَادِ إلَّا الْأَبَوَانِ ؛ فَكَانَ ظَاهِرُ
الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ زِيَادَةَ الْوَاوِ لِيُبَيِّنَ
أَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَّرَ عَنْ ثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ
أَسْقَطُوا الْإِخْوَةَ ، وَشَارَكَهُمْ الْأَبُ ، وَأَخَذَ حَظَّهُ مِنْ
أَيْدِيهِمْ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَنْ أُسْقِطُوا ، بَلْ أَوْلَى ، وَأَيْضًا
فَإِنَّ الْأَخَ بِالْأَبِ يُدْلِي فَيَقُولُ : أَنَا ابْنُ أَبِيهِ ، فَلَمَّا
كَانَ وَاسِطَتُهُ وَسَبَبُهُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ هُوَ الْأَبُ
كَانَ سَبَبُهُ أَوْلَى مِنْهُ وَمَانِعًا لَهُ ؛ فَيَكُونُ حَالُ الْوَالِدَيْنِ
عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا كَحَالِ الْوَالِدَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَيَجْتَمِعُ بِذَلِكَ لِلْأَبِ
فَرْضَانِ : السَّهْمُ ، وَالتَّعْصِيبُ ، وَهَذَا عَدْلٌ فِي الْحُكْمِ
ظَاهِرٌ
فِي الْحِكْمَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } الْمَعْنَى إنْ وُجِدَ
لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ
الْمِيرَاثِ فَهُمْ يُحْجَبُونَ وَلَا يَرِثُونَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ ،
بِخِلَافِ الِابْنِ الْكَافِرِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
، وَكَانَ دَلِيلُ ذَلِكَ ، وَعَاضَدَهُ ، وَبَسَطَهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : {
فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ } مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ ، فَصَارَ تَقْدِيرُ
الْكَلَامِ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ
الثُّلُثُ ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ
السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ، وَهَكَذَا يَزْدَوِجُ الْكَلَامُ وَيَصِحُّ
الِاشْتِرَاكُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَطْفُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَإِنْ
كَانَ لَهُ إخْوَةٌ وَلَا أَبَ لَهُ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ .
قُلْنَا : هَذَا سَاقِطٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَبْطُلُ فَائِدَةُ الْعَطْفِ .
الثَّانِي :
أَنَّهُ إبْطَالٌ لِفَائِدَةِ الْكَلَامِ مِنْ الْبَيَانِ
، فَإِنَّا كُنَّا نُعْطِي بِذَلِكَ الْأُمَّ السُّدُسَ ، وَمَا نَدْرِي مَا
نَصْنَعُ بِبَاقِي الْمَالِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : يُعْطِي لِلْإِخْوَةِ .
قُلْنَا
: وَهُمْ مَنْ ؟ أَوْ كَيْفَ يُعْطِي لَهُمْ ؟ فَيَكُونُ
الْقَوْلُ مُشْكَلًا غَيْرَ مُبَيَّنٍ وَلَا مُبِينٍ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
الثَّالِثُ
: أَنَّهُ كَانَ يَبْقَى قِسْمٌ مِنْ الْأَقْسَامِ
غَيْرُ مُبَيَّنٍ ، وَهُوَ إنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ وَلَهُ أَبٌ وَأُمٌّ
فَاعْتِبَارُهُ بِالْبَيَانِ أَوْلَى ، وَمَا صَوَّرُوهُ مِنْ أُمٍّ وَإِخْوَةٍ
قَدْ بُيِّنَ فِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ
امْرَأَةٌ } وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ الْكَلَامِ ، فَتَأَمَّلُوهُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ تَبَيَّنَ هَاهُنَا فَائِدَتَانِ :
إحْدَاهُمَا : حَجْبُ الْأُمِّ بِالْإِسْقَاطِ لَهُمْ .
الثَّانِي : حَجْبُ النُّقْصَانِ لِلْأُمِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
{ فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } هَذَا قَوْلٌ
يَقْتَضِي
بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ أَنَّهُمْ يَحْجُبُونَهَا
حَجْبَ نُقْصَانٍ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا لَا يَحْجُبَانِهَا ؛ وَغَرَضُهُ ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ
خِلَافُ التَّثْنِيَةِ لَفْظًا وَصِيغَةً ، وَهَذِهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ فَلَا
مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّثْنِيَةِ .
وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ أَنْ يَخْفَى عَلَى حَبْرِ
الْأُمَّةِ وَتُرْجَمَانِ الْقُرْآنِ وَدَلِيلِ التَّأْوِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَالْأُخْرَى مَسْأَلَةُ
الْعَوْلِ ؛ وَعَضَّدَ هَذَا الظَّاهِرَ بِأَنْ قَالَ : إنَّ الْأُمَّ أَخَذَتْ
الثُّلُثَ بِالنَّصِّ ، فَكَيْف يَسْقُطُ النَّصُّ بِمُحْتَمَلٍ .
وَهَذَا الْمَنْحَى مَائِلٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ .
وَلِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ سَبِيلٌ مَسْلُوكَةٌ
نَذْكُرُهَا وَنُبَيِّنُ الْحَقُّ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَذَلِكَ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ
: أَنَّهُ يَنْطَلِقُ لَفْظُ الْإِخْوَةِ عَلَى
الْأَخَوَيْنِ ؛ بَلْ قَدْ يَنْطَلِقُ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ ،
تَقُولُ الْعَرَبُ : نَحْنُ فَعَلْنَا ، وَتُرِيدُ الْقَائِلُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { هَذَانِ خَصْمَانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } وَقَالَ :
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرَابَ } ثُمَّ قَالَ : { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ }
وَقَالَ : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } وَقَالَ : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
} وَقَالَ : { بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } وَالرَّسُولُ وَاحِدٌ .
وَقَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا
يَقُولُونَ } يَعْنِي عَائِشَةَ ، وَقِيلَ عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ .
وَقَالَ : { وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ } وَكَانَا
اثْنَيْنِ كَمَا نُقِلَ فِي التَّفْسِيرِ .
وَقَالَ : { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } وَهُمَا طَرَفَانِ .
وَقَالَ :
{ إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } وَقَالَ : { أَفَمَنْ
كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } وَقَالَ : { الَّذِينَ
قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } وَكَانَ
وَاحِدًا .
وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ
فِي
اللُّغَةِ سَائِغٌ ، لَكِنْ إذَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ؛ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ ؟ .
الثَّانِي :
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ
: { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } فَحَمَلَ
الْعُلَمَاءُ الْبِنْتَيْنِ عَلَى الْأُخْتَيْنِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ
، وَحَمَلُوا الْأَخَوَاتِ عَلَى الْبَنَاتِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ
، وَكَانَ هَذَا نَظَرًا دَقِيقًا وَأَصْلًا عَظِيمًا فِي الِاعْتِبَارِ ،
وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ ، وَأَرَادَ الْبَارِي بِذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا
دُخُولَ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ
.
الثَّالِثُ : أَنَّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ لَمَّا وَقَعَ
بَيْنَ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ : إنَّ قَوْمَكَ
حَجَبُوهَا يَعْنِي بِذَلِكَ قُرَيْشًا ، وَهُمْ أَهْلُ الْفَصَاحَةِ
وَالْبَلَاغَةِ وَهُمْ الْمُخَاطَبُونَ ، وَالْقَائِمُونَ لِذَلِكَ ؛
وَالْعَامِلُونَ بِهِ ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَبْقَى لِنَظَرِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَجْهٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَوَّلَ عَلَى اللُّغَةِ فَغَيْرُهُ مِنْ
نَظَائِرِهِ وَمَنْ فَوْقَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْرَفُ بِهَا ، وَإِنْ عَوَّلَ
عَلَى الْمَعْنَى فَهُوَ لَنَا ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَيْنِ كَالْبِنْتَيْنِ كَمَا
بَيَّنَّا ، وَلَيْسَ فِي الْحُكْمِ بِمَذْهَبِنَا خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ
الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ فِي اللُّغَةِ وَارِدًا لَفْظَ
الِاثْنَيْنِ عَلَى الْجَمِيعِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا
أَوْ دَيْنٍ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا فَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ فُصُولِ
الْفَرَائِضِ ، وَأَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْخَلْقِ ؛ وَيَسَّرَ لَهُمْ
السَّبَبَ إلَى جَمْعِهِ بِوُجُوهٍ مُتْعَبَةٍ ، وَمَعَانٍ عَسِيرَةٍ ، وَرَكَّبَ
فِي جِبِلَّاتِهِمْ الْإِكْثَارَ مِنْهُ وَالزِّيَادَةَ عَلَى الْقُوتِ الْكَافِي
الْمُبَلِّغِ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ تَارِكُهُ بِالْمَوْتِ يَقِينًا ،
وَمُخَلِّفُهُ لِغَيْرِهِ ، فَمِنْ رِفْقِ الْخَالِقِ بِالْخَلْقِ صَرْفُهُ عِنْدَ
فِرَاقِ الدُّنْيَا ؛ إبْقَاءً عَلَى الْعَبْدِ وَتَخْفِيفًا مِنْ حَسْرَتِهِ
عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كَفَنِهِ
وَجِهَازِهِ إلَى قَبْرِهِ .
الثَّانِي : مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ مِنْ دَيْنِهِ .
الثَّالِثُ : مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ
خَيْرٍ لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ مَا فَاتَ فِي أَيَّامِ مُهْلَتِهِ .
الرَّابِعُ : مَا يَصِيرُ إلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ
الدَّانِيَةِ وَأَنْسَابِهِ الْمُشْتَبِكَةِ الْمُشْتَرَكَةِ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا قَدِمَ ؛ لِأَنَّهُ
أَوْلَى بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ حَاجَتَهُ الْمَاسَةَ فِي الْحَالِ
مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى دَيْنِهِ ، وَقَدْ كَانَ فِي حَيَاتِهِ لَا سَبِيلَ
لِقَرَابَتِهِ إلَى قُوتِهِ وَلِبَاسِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهِ .
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ
مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنِهِ ، وَفَرْضُ الدَّيْنِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ
الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ .
فَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمِيرَاثِ فِي
بَعْضِ الْمَالِ فَفِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِيَالَةٌ دِينِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ
لَوْ مَنَعَ جَمِيعَهُ لَفَاتَهُ بَابٌ مِنْ الْبِرِّ عَظِيمٌ ، وَلَوْ سُلِّطَ
عَلَيْهِ لَمَا أَبْقَى لِوَرَثَتِهِ بِالصَّدَقَةِ مِنْهُ شَيْئًا لِأَكْثَرِ
الْوَارِثِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ ؛ فَقَسَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ
الْمَالَ وَأَعْطَى الْخَلْقَ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ ،
وَأَبْقَى سَائِرَ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ ، كَمَا قَالَ
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23