5/ احكام القران
كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي
عَلَيْهِ
السَّلَامُ : { إنَّكَ إنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ
تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
مَعَ أَنَّهُ كَلَالَةٌ مِنْهُ بَعِيدٌ عَنْهُ .
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : " خَيْرٌ " هَاهُنَا
وُجُوهًا مُعْظَمُهَا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إلَى ذِكْرِهِ بِالْجَمِيلِ ،
وَإِحْيَاءُ ذِكْرِهِ هُوَ إحْدَى الْحَيَاتَيْنِ ، وَمَعْنًى مَقْصُودٌ عِنْدَ
الْعُقَلَاءِ ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي
طَرِيقِهِ فَقَالَ : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } وَأَخْبَرَ عَنْ
رَغْبَتِهِ فِيهِ فَقَالَ : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ }
وَإِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ عَظُمَ قَدْرُهُمْ ، وَشَرُفَ ذِكْرُهُمْ فِي
الطَّاعَةِ وَذِكْرُهُ .
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوْجُهَ
الثَّلَاثَةَ وَتَرَكَ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ ، وَإِنَّمَا
يَكُونُ مَتْرُوكًا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ ؛ وَلَمَّا جَعَلَ
اللَّهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ الْوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةً مَسُوغَةً لَهُ ،
وَكَّلَهَا إلَى نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ فِي أَعْيَانِ الْمُوصِي لَهُمْ ،
وَبِمِقْدَارِ مَا يَصْلُحُ لَهُمْ
.
وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مَفْرُوضَةً لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
إنَّ اللَّهَ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ؛ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ { خَبَّابٍ قَالَ :
هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ ، ثُمَّ قَالَ : وَمِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ
أُحُدٍ ، فَلَمْ نَجِدْ لَهُ مَا نُكَفِّنُهُ فِيهِ إلَّا نَمِرَةً كُنَّا إذَا
غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا
رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ } ؛ فَبَدَأَ
بِالْكَفَنِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
.
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ ، { عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَبَاهُ
اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَتَرَكَ
سِتَّ بَنَاتٍ
، وَتَرَكَ دَيْنًا ، فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَدْ عَلِمْت
أَنَّ وَالِدِي اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا ،
وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ .
قَالَ :
اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرَةٍ عَلَى حِدَةٍ
فَفَعَلْت : فَلَمَّا دَعَوْتُهُ وَحَضَرَ عِنْدِي وَنَظَرُوا إلَيْهِ كَأَنَّمَا
أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا
بَيْدَرًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : اُدْعُ أَصْحَابَكَ ؛ فَمَا زَالَ
يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي } .
فَقَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْمِيرَاثِ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ
قَالَ : { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إذْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ فَقَالُوا : صَلِّ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيْهِ
دَيْنٌ ؟ قَالُوا : لَا ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا
: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صَلِّ عَلَيْهَا .
فَقَالَ : هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ .
قَالَ : فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : ثَلَاثَةَ
دَنَانِيرَ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ
.
ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا : صَلِّ
عَلَيْهَا .
فَقَالَ : هَلْ تَرَكَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ
: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوا : ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ .
قَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ .
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ } ، فَجَعَلَ الْوَفَاءَ
بِمُقَابَلَةِ الدَّيْنِ .
وَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَالْمَعَانِي السَّالِفَةِ قَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ ،
وَأَنْتُمْ تُقَدِّمُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ
الْوَصِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا ؟ قُلْنَا
؛ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ " أَوْ " لَا تُوجِبُ
تَرْتِيبًا ،
إنَّمَا تُوجِبُ
تَفْصِيلًا ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : مِنْ بَعْدِ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ بَعْدِهِمَا
، وَلَوْ ذَكَرَهُمَا بِحَرْفِ الْوَاوِ لَأَوْهَمَ الْجَمْعَ وَالتَّشْرِيكَ ؛
فَكَانَ ذِكْرُهُمَا بِحَرْفِ " أَوْ " الْمُقْتَضِي التَّفْصِيلَ
أَوْلَى .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ ؛ لِأَنَّ
تَسَبُّبَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، وَالدَّيْنُ ثَابِتٌ مُؤَدًّى ذَكَرَهُ أَمْ
لَمْ يَذْكُرْهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ وُجُودَ الْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ
وُجُودِ الدَّيْنِ ؛ فَقُدِّمَ فِي الذِّكْرِ مَا يَقَعُ غَالِبًا فِي الْوُجُودِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ ذَكَرَ الْوَصِيَّةَ ، لِأَنَّهُ
أَمْرٌ مُشْكِلٌ ، هَلْ يَقْصِدُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ امْتِثَالُهُ أَمْ لَا ؟
لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ابْتِدَاءً تَامًّا مَشْهُورًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ
، فَقَدَّمَ الْمُشْكِلَ ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ فِي الْبَيَانِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً
ثُمَّ نُسِخَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، فَلَمَّا ضَعَّفَهَا النَّسْخُ قَوِيَتْ
بِتَقْدِيمِ الذِّكْرِ ؛ وَذِكْرُهُمَا مَعًا كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَلَّقَ
الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ .
لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ خُصِّصَتْ بِبَعْضِ الْمَالِ ؛
لِأَنَّهَا لَوْ جَازَتْ فِي جَمِيعِ الْمَالِ لَاسْتَغْرَقَتْهُ وَلَمْ يُوجَدْ
مِيرَاثٌ ؛ فَخَصَّصَهَا الشَّرْعُ بِبَعْضِ الْمَالِ ؛ بِخِلَافِ الدَّيْنِ ،
فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُنْشِئُهُ بِمَقَاصِدَ صَحِيحَةٍ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ،
بَيِّنَةِ الْمَنَاحِي فِي كُلِّ حَالٍ ؛ يَعُمُّ تَعَلُّقُهَا بِالْمَالِ كُلِّهِ .
وَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ وَظَهَرَ الْمَعْنَى فِي
تَخْصِيصِ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ قَدَّرَتْ ذَلِكَ الشَّرِيعَةُ
بِالثُّلُثِ ، وَبَيَّنَتْ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إلَيْهِ عَلَى لِسَانِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ ؛ { قَالَ
سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِي
مَالٌ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي
الْحَدِيثُ ، إلَى أَنْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ
خَيْرٌ
مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
فَظَهَرَتْ الْمَسْأَلَةُ قَوْلًا وَمَعْنًى
وَتَبَيَّنَتْ حِكْمَةً وَحُكْمًا
.
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَقْدِيمَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ
تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِي تَقْدِيمِ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ
عَلَى الْمِيرَاثِ ، فَقَالَ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا فَرَّطَ فِي زَكَاتِهِ
وَحَجِّهِ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إنْ أَوْصَى بِهَا
أُدِّيَتْ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْهَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ شَيْءٌ .
وَتَعَلُّقُ الشَّافِعِيُّ ظَاهِرٌ بِبَادِئِ الرَّأْيِ
، لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ ؛ فَلَزِمَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ
كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، لَا سِيَّمَا وَالزَّكَاةُ مَصْرِفُهَا إلَى
الْآدَمِيِّ وَمُتَعَلَّقُ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ إسْقَاطَ الزَّكَاةِ أَوْ
تَرْكَ الْوَرَثَةِ فُقَرَاءَ ، لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَرْكَ الْكُلِّ ، حَتَّى
إذَا مَاتَ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَالِهِ ؛ فَلَا يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ
حَقٌّ ؛ فَكَانَ هَذَا قَصْدًا بَاطِلًا فِي حَقِّ عِبَادَاتِهِ وَحَقِّ
وَرَثَتِهِ ؛ وَكُلُّ مَنْ قَصَدَ بَاطِلًا فِي الشَّرِيعَةِ نُقِضَ عَلَيْهِ
قَصْدُهُ ، تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ اُتُّهِمَ بِهِ إذَا ظَهَرَتْ
عَلَامَتُهُ ، كَمَا قَضَيْنَا بِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ لِلْقَاتِلِ ، وَقَدْ
مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا
تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَدْرُونَ فِي الدُّنْيَا
أَنَّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْآخِرَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ
الْجِنْسَيْنِ يَشْفَعُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
الثَّانِي : لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
؛ أَيُّهُمْ أَرْفَعُ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ الْأَمْرُ عَلَى
مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ : الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
لَمْ يُؤْمَنْ إذَا قَسَّمَ التَّرِكَةَ فِي الْوَصِيَّةِ ، حِيفَ أَحَدُكُمْ ،
لِتَفْضِيلِ ابْنٍ عَلَى بِنْتٍ ، أَوْ أَبٍ عَلَى أُمٍّ ، أَوْ وَلَدٍ عَلَى
وَلَدٍ ، أَوْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَى أَحَدٍ ، فَتَوَلَّى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَسْمَهَا بِعِلْمِهِ ، وَأَنْفَذَ فِيهَا حِكْمَتَهُ
بِحُكْمِهِ ، وَكَشَفَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، وَعَبَّرَ لَكُمْ رَبُّكُمْ
عَنْ وِلَايَةِ مَا جَهِلْتُمْ ، وَتَوَلَّى لَكُمْ بَيَانَ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ وَمَصْلَحَتُكُمْ
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً
أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ
وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
قِرَاءَتِهَا : قُرِئَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِهَا
مَكْسُورَةً ، فَإِنْ كَانَ بِالْفَتْحِ فَذَلِكَ عَائِدٌ لِلْمَيِّتِ ، وَيَكُونُ
قَوْلُهُ : { كَلَالَةً } حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ فِي يُورَثُ .
وَإِذَا قُرِئَتْ بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ عَائِدٌ إلَى
الْوَرَثَةِ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ
" كَلَالَةً " مَفْعُولًا يَتَعَدَّى
الْفِعْلُ إلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ بِالتَّشْدِيدِ ؛ وَإِنَّمَا فَائِدَتُهُ
تَضْعِيفُ الْفِعْلِ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي لُغَتِهَا : اخْتَلَفَ
أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : قَالَ
صَاحِبُ الْعَيْنِ : الْكَلَالَةُ : الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ .
الثَّانِي
: قَالَ أَبُو عَمْرٍو : مَا لَمْ يَكُنْ لَحًّا مِنْ
الْقَرَابَةِ فَهُوَ كَلَالَةٌ ، يُقَالُ : هُوَ ابْنُ عَمِّي لَحًّا ، وَهُوَ
ابْنُ عَمِّي كَلَالَةً .
الثَّالِثُ : وَهُوَ فِي مَعْنَى الثَّانِي : أَنَّ الْكَلَالَةَ
مَنْ بَعُدَ ، يُقَالُ : كَلَّتْ الرَّحِمُ إذَا بَعُدَ مَنْ خَرَجَ مِنْهَا .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ
وَلَا وَالِدَ وَلَا أَخٌ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الْكَلَالَةَ هُوَ الْمَيِّتُ
بِعَيْنِهِ ، كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَقِيمٌ وَرَجُلٌ أُمِّيٌّ .
السَّادِسُ : أَنَّ الْكَلَالَةَ هُمْ الْوَرَثَةُ ،
وَالْوُرَّاثُ الَّذِينَ يُحِيطُونَ بِالْمِيرَاثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّوْجِيهِ : أَمَّا
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فَيُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ
الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَوْجِيهُ
الرَّابِعِ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ قَرِيبٌ جِدًّا حِينَ جَمَعَهُ مَعَ أَخِيهِ صَلْبٌ وَاحِدٌ
وَارْتَكَضَا فِي رَحِمٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْتَقَمَا مِنْ ثَدْيٍ
وَاحِدَةٍ
، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : فَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحْمَى لَهُ وَمَوْلَى
الْكَلَالَةِ لَا يَغْضَبُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْمَيِّتُ نَفْسُهُ
فَقَدْ نَزَعَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ : وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ
كَلَالَةٍ عَنْ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُمْ
الْمُحِيطُونَ بِالْمِيرَاثِ نَزَعَ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ : كَلَّلَهُ
النَّسَبُ : أَحَاطَ بِهِ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ التَّاجُ إكْلِيلًا ؛ لِأَنَّهُ
يُحِيطُ بِجَوَانِبِ الرَّأْسِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هُوَ الَّذِي لَا وَالِدَ
لَهُ وَلَا وَلَدَ ، مَأْخُوذٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ ، أَيْ أَحَاطَ بِهِ ؛ كَأَنَّهُ
سَمَّاهُ بِضِدِّهِ كَالْمَفَازَةِ وَالسَّلِيمِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ : دَعْنَا مِنْ
تَرْتَانَ ، وَمَا لَنَا وَلِاخْتِلَافِ اللُّغَةِ وَتَتَبُّعُ الِاشْتِقَاقِ ؟
وَلِسَانِ الْعَرَبِ وَاسِعٌ ، وَمَعْنَى الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ ، وَظَاهِرُ
الْقُرْآنِ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ وَابْنَهُ وَالزَّوْجَاتِ
وَتَرَكَ الْإِخْوَةَ [ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَرَكَ
سِهَامَ الْفَرَائِضِ مَعَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالزَّوْجَاتِ وَتَرَكَ
الْإِخْوَةَ ] ؛ فَجَعَلَ هَذِهِ آيَتَهُمْ وَجَعَلَهُمْ كَلَالَةً اسْمًا
مَوْضُوعًا لُغَةً بِأَحَدِ مَعَانِي الْكَلَالَةِ مُسْتَعْمَلًا شَرْعًا ،
وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ فِي آيَةِ الصَّيْفِ سَمَّاهُ كَلَالَةً
، وَذَكَرَ فَرِيضَةً لَا أَبَ فِيهَا وَلَا ابْنَ ، فَتَحَقَّقْنَا بِذَلِكَ مُرَادَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكَلَالَةِ .
تَبْقَى هَاهُنَا نُكْتَةٌ تَفَطَّنَ لَهَا أَبُو
عَمْرٍو ، وَهِيَ إلْحَاقُ فَقْدِ الْأَخِ لِلْعَيْنِ أَوْ لِعِلَّةٍ
بِالْكَلَالَةِ ؛ لِأَنَّهَا نَازِلَةٌ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْأُولَى
، وَهِيَ هَذِهِ ؛ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى آيَةِ الصَّيْفِ : الْكَلَالَةُ
فَقْدُ الْأَبِ وَالِابْنِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَقْتَضِي ذَلِكَ
كُلَّهُ ؛ وَمُطْلَقُ اللُّغَةِ يَقْتَضِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِهَا
فَاسْتَعْمَلَهُ الشَّرْعُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ قَصْدًا لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ
بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ وَالْمَصَالِحِ ، فَهَذَا جَرَيَانُ الْأَمْرِ عَلَى الِاشْتِقَاقِ وَتَصْرِيفِ اللُّغَةِ ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ الْمَعْنَى عَلَى رَسْمِ الْفَتْوَى ، وَهِيَ
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْكَلَالَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْمًا اخْتَارُوا أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ
وَلَا وَالِدَ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَإِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ .
الثَّانِي : مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ
أَبٌ أَوْ إخْوَةٌ .
الثَّالِثُ : قَوْلٌ طَرِيفٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي التَّقْسِيمِ
الْأَوَّلِ ؛ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَالَةَ الْمَالُ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْمَالُ ، فَلَا وَجْهَ
لَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الَّذِي ذَهَبَ طَرَفَاهُ
الْأَسْفَلُ فَمُشْكِلٌ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ
أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ حَتَّى أَلْحَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِهَا ؛ فَقَالَ لَهُ : { أَلَّا
تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ } يَعْنِي الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ النِّسَاءِ .
وَرَوَى مَعْدَانُ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ : خَطَبَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ : إنِّي لَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا
هُوَ أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ الْكَلَالَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ الْجَدِّ
وَالْكَلَالَةِ وَمَا رَاجَعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْته فِي الْكَلَالَةِ ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا
أَغْلَظَ لِي فِيهَا حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي ، وَقَالَ : { يَا عُمَرُ
؛ أَمَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ } يَعْنِي الْآيَةَ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ
النِّسَاءِ .
قَالَ وَإِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي
بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا وَقَفَ فِي وَجْهِ عُمَرَ
فَمَتَى يُسْفَرُ لَنَا عَنْهُ وَجْهُ النَّظَرِ ؟ لَكِنَّ الْآنَ نَرِدُ فِي
اقْتِحَامِ هَذَا الْوَعْرِ بِنِيَّةٍ وَعِلْمٍ ، فَنَقُولُ فِيهِمَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
الْمُنْعِمُ : إنَّ الْكَلَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً لُغَةً مُتَوَارِدَةً
عَلَى مَعَانٍ مُتَمَاثِلَةٍ وَمُتَضَادَّةٍ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَبَصَّرَ مَوَارِدَهَا
فِي الشَّرِيعَةِ فَنَقُولُ : وَرَدَتْ فِي
آيَتَيْنِ
: إحْدَاهُمَا هَذِهِ ، وَالْأُخْرَى الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ كَمَا
تَقَدَّمَ ، فَأَمَّا هَذِهِ فَهِيَ الَّتِي لَا وَلَدَ فِيهَا وَلَا وَالِدَ
وَفِيهَا إخْوَةٌ لِأُمٍّ .
وَأَمَّا الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَهِيَ
الَّتِي لَا وَلَدَ ذَكَرًا فِيهَا ، وَهُمْ إخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ إخْوَةٌ
لِأَبٍ أَوْ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَجَدٌّ ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
لِبَيَانِ حَالِ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ ، وَجَاءَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ
النِّسَاءِ لِبَيَانِ إخْوَةِ الْأَعْيَانِ وَالْعَلَّاتِ حَتَّى يَقَعَ
الْبَيَانُ بِجَمِيعِ الْأَقْسَامِ ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَمَعَهُ وَشَرَحَهُ .
وَكَانَ عُمَرُ يَطْلُبُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصَّ الْقَاطِعَ لِلْعُذْرِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَيَانِ الْوَاقِعِ مَعَ الْإِطْلَاقِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ
إلَى الِاجْتِهَادِ بِالْأَخْذِ مِنْ اللُّغَةِ وَمُقَاطَعِ الْقَوْلِ وَمَرَابِطِ
الْبَيَانِ وَمَفَاصِلِهِ .
وَهَذَا نَصٌّ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَنَصٌّ فِي
التَّكَلُّمِ بِالرَّأْيِ الْمُسْتَفَادِ عِنْدَ النَّظَرِ الصَّائِبِ .
وَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ النَّظَرُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي
ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَالَةِ مِنْ " كَلَّ " أَيْ بَعُدَ ، وَمِنْ
" تَكَلَّلَ " أَيْ أَحَاطَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ
يَكُونَ عَلَى مَعْنَى السَّلْبِ ، كَمَا يُقَالُ فَازَ فِي الْمَفَازَةِ أَيْ
انْتَفَى لَهُ الْفَوْزُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِحَاطَةَ وُجِدَتْ مَعَ فَقْدِ
السَّبَبِ الَّذِي يَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ وَهُوَ قُرْبُ النَّسَبِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إنَّمَا قُلْنَا : إنَّ
الْكَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقْدُ الِابْنِ وَالْأَبِ ؛ لِأَنَّ
الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ يُحْجَبُونَ بِالْجَدِّ ، وَهُمْ الْمُرَادُونَ فِي
الْآيَةِ بِالْإِخْوَةِ إجْمَاعًا ، وَدَخَلَ فِيهَا الْجَدُّ الْخَارِجُ عَنْ
الْكَلَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ النَّسَبِ كَالْأَبِ الْمُتَوَلَّدِ عَنْهُ
الِابْنُ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ
فَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا : إنَّ الْجَدَّ أَيْضًا خَارِجٌ عَنْهَا
؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ مَعَ
الْجَدِّ
لَا تَأْخُذُ نِصْفًا ؛ إنَّمَا هِيَ مُقَاسِمَةٌ ، وَكَذَلِكَ الْأَخُ مُقَاسِمٌ
لَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ أَخْرَجْتُمْ الْجَدَّ عَنْهَا ؟
قُلْنَا : لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَقْتَضِي خُرُوجَهُ عَنْهَا ؛ إذْ حَقِيقَةُ
الْكَلَالَةِ ذَهَابُ الطَّرَفَيْنِ ، وَعَلَيْهِ مَبْنَى اللُّغَةِ ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ بَعِيدٌ ضَعِيفٌ .
وَأَفْسَدُهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْمَالُ ،
فَإِنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ لُغَةً وَلَا مَقِيسٍ مَعْنًى .
الثَّانِي :
أَنَّ الْجَدَّ يَرِثُ مَعَ ذُكُورِ وَلَدِ الْمُتَوَفَّى
فِي السُّدُسِ ، وَالْإِخْوَةُ لَا يَرِثُونَ مَعَهُمْ ، فَكَيْفَ يُشَارِكُ مَنْ يُسْقِطُ
الْإِخْوَةَ كُلَّهُمْ وَيَكُونُ كَأَحَدِهِمْ .
وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قَالَ حَبْرُ الْأُمَّةِ مَالِكُ
بْنُ أَنَسٍ : إنَّ امْرَأَةً لَوْ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا
وَإِخْوَتَهَا لِأَبِيهَا وَإِخْوَتَهَا لِأُمِّهَا وَجَدَّهَا : إنَّ النِّصْفَ
لِلزَّوْجِ ، وَالسُّدُسَ لِلْأُمِّ فَرِيضَةً ، وَلِلْجَدِّ مَا بَقِيَ ؛ قَالَ : لِأَنَّ
الْجَدَّ يَقُولُ : لَوْ لَمْ أَكُنْ كَانَ لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ مَا بَقِيَ ،
وَلَا يَأْخُذُ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ شَيْئًا ، فَلَمَّا حَجَبَتْ إخْوَةُ
الْأُمِّ عَنْهُ كُنْت أَنَا أَحَقَّ بِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْجَدِّ
السُّدُسَ ، وَلِلْإِخْوَةِ لِلْأَبِ السُّدُسَ كَهَيْئَةِ الْمُقَاسَمَةِ ،
وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي الْفَرَائِضِ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي آخِرِهَا مَا يَقْتَضِي التَّعْصِيبَ ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ : إنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ ، وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ السُّدُسَ ، وَلِلْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسَ بِحُكْمِ التَّعْصِيبِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : الْأَخَوَاتُ عُصْبَةٌ لِلْبَنَاتِ ، وَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا
وَأُخْتًا أَوْ ابْنَتَيْنِ وَأُخْتًا فَالنِّصْفُ لِلِابْنَةِ ، وَلِلْأُخْتِ مَا
بَقِيَ ، وَهُمَا ذَوَاتَا فَرْضٍ ، لَكِنْ إذَا اجْتَمَعَا سَقَطَ فَرْضُ
الْأَخَوَاتِ وَعَادَ سَهْمُهُنَّ إلَى التَّعْصِيبِ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا
تَقَدَّمَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ :
الِابْنَةُ تُسْقِطُ الْأُخْتَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنْ
امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ } فَتَأْخُذُ الْبِنْتُ
النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ لِلْعُصْبَةِ ، وَقَدْ سَبَقَ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ { أَنَّ مُعَاذًا قَضَى بِالْيَمَنِ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ
لِلِابْنَةِ النِّصْفَ ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ } ؛ وَبِهَذَا الْحَدِيثِ رَجَعَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ قَوْلِهِ ؛ فَصَارَ فَرْضُ الْأُخْتِ وَالْأَخَوَاتِ
بِالنَّصِّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ ، وَصَارَ فَرْضُهُنَّ التَّعْصِيبَ إنْ كَانَ
بِنْتًا ، وَسَقَطْنَ بِالذَّكَرِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، فَخَصَّتْ السُّنَّةُ بِرِوَايَةِ
ابْنِ مَسْعُودٍ عُمُومَ قَوْلِهِ : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : لَوْ كَانَ الْوَرَثَةُ أَخَوَيْنِ لِلْأُمِّ أَحَدُهُمَا ابْنُ
عَمٍّ ، أَوْ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ ؛ فَأَمَّا الصُّورَةُ
الْأُولَى فَاتَّفَقَ النَّاسُ فِيهَا أَنَّ الثُّلُثَ لَهُمَا بِسَبَبِ الْأُمِّ
، وَيَأْخُذُ الثَّانِي مَا بَقِيَ مِنْ الْمِيرَاثِ بِالتَّعْصِيبِ .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ : فَاخْتَلَفُوا فِيهَا ؛ فَقَالَ
الْجُمْهُورُ : لِمَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الْقَرَابَتَانِ السُّدُسُ بِحُكْمِ
الْأُمُومَةِ ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ .
وَقَالَ عُمَرُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ : الْمَالُ لِلْأَخِ
لِلْأُمِّ ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ
سَاوَاهُ فِي التَّعْصِيبِ ، وَفَضَلَهُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ ؛ فَكَانَ
مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي التَّعْصِيبِ كَالْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ
الْأَخِ مِنْ الْأَبِ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأُمِّ سَبَبٌ
يُفْرَضُ بِهِ فِي السِّهَامِ ، فَلَا يُرَجَّحُ بِهِ فِي التَّعْصِيبِ ، كَمَا
لَوْ كَانَ زَوْجَهَا ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْأَخَ الشَّقِيقَ فَإِنَّهُ لَا
يُفْرَضُ لَهُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ
.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ
الْمُشْتَرَكَةِ .
قُلْنَا :
إنَّمَا يُفْرَضُ فِيهَا لِوَلَدِ الْأُمِّ ، لَا
لِوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِيهِ وَلَدُ الْأَبِ
وَالْأُمِّ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { غَيْرَ مُضَارٍّ } وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى
الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ .
أَمَّا رُجُوعُهُ إلَى الْوَصِيَّةِ فَبِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ .
الثَّانِي : بِأَنْ يُوصِيَ لِوَارِثٍ .
فَأَمَّا إنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ
إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحُقُوقِهِمْ لَا لِحَقِّ
اللَّهِ .
وَأَمَّا إنْ أَوْصَى إلَى وَارِثٍ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ
الْمُبْدَنَةِ بِهِ أَهْلَ الْوَصَايَا فِي وَصَايَاهُمْ ، وَيَرْجِعُ مِيرَاثًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : تَبْطُلُ ،
وَلَا يَقَعُ بِهِ تَحَاصٌّ ، وَنَظَرُهُمَا بَيِّنٌ فِي إسْقَاطِ مَا زَادَ عَلَى
الثُّلُثِ لِبُطْلَانِهِ .
وَمَطْلَعُ نَظَرِ مَالِكٍ أَعْلَى ؛ لِأَنَّا نَتَبَيَّنُ
بِوَصِيَّتِهِ لِلْوَارِثِ مَعَ سَائِرِ الْوَصَايَا أَنَّهُ أَرَادَ تَنْقِيصَ
حَظِّ الْوَصَايَا وَتَخْصِيصَ وَارِثِهِ ، فَإِنْ بَطَلَ أَحَدُ الْقَصْدَيْنِ ،
لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُجَوِّزْهُ ، لَمْ يُبْطِلْ الْآخَرَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ
لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
فَيُرَدُّ مَا أَبْطَلَ الشَّرْعُ وَيَمْضِي مَا لَمْ يَعْتَرِضْ فِيهِ .
وَأَمَّا رُجُوعُ الْمُضَارَّةِ إلَى الدَّيْنِ
فَبِالْإِقْرَارِ فِي حَالَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا لِشَخْصٍ الْإِقْرَارُ لَهُ بِهِ
، كَمَا لَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ أَوْ لِصِدِّيقٍ
مُلَاطِفٍ لَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا تَحَقَّقْنَا
الْمُضَارَّةَ بِقُوَّةِ التُّهْمَةِ ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ
رَأْسًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصِحُّ .
وَمَطْلَعُ النَّظَرِ أَنَّا لَمَحْنَا أَنَّ
الْمَوْرُوثَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هِبَتَهُ لِوَارِثِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
أَوْ وَصِيَّتَهُ لَهُ لَا تَجُوزُ ، وَقَدْ فَاتَهُ نَفْعُهُ فِي حَالِ
الصِّحَّةِ عَمَدَ إلَى الْهِبَةِ فَأَلْقَاهَا بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ
لِتَجَوُّزِهَا ؛ وَيُعَضِّدُ هَذِهِ التُّهْمَةَ صُورَةُ الْقَرَابَةِ وَعَادَةُ
النَّاسِ بِقِلَّةِ الدِّيَانَةِ
.
وَمَطْلَعُ نَظَرِ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوٌ مِنْهُ ؛ لَكِنَّهُ
رَبَطَ الْأَمْرَ
بِصِفَةِ الْقَرَابَةِ
حِينَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ عَلَى التُّهْمَةِ ، كَمَا عُلِّقَتْ رُخَصُ
السَّفَرِ بِصُورَةِ السَّفَرِ حِينَ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى تَحْرِيرِ
الْمَشَقَّةِ وَوُجُودِهَا .
وَرَاعَى الشَّافِعِيُّ فِي نَظَرِهِ أَنَّ هَذِهِ
حَالَةُ إخْبَارٍ عَنْ حَقٍّ وَاجِبٍ يُضَافُ إلَى سَبَبٍ جَائِزٍ فِي حَالَةٍ
يُؤْمِنُ فِيهَا الْكَافِرُ ، وَيَتَّقِي فِيهَا الْفَاجِرُ ، وَيَتُوبُ فِيهَا
الْعَاصِي ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ ، وَجَوَّزَهُ .
فَإِنْ قَالَ : الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلَا
يُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَرَضُ .
قُلْنَا :
وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ حُجَّةً شَرْعِيَّةً [
فَإِنَّ الْهِبَةَ صِلَةٌ شَرْعِيَّةٌ ] ، وَلَكِنْ حَجَرَهَا الْمَرَضُ .
كَذَلِكَ تَحْجُرُ التُّهْمَةُ الْإِقْرَارَ ، وَكَمَا
رَدَّتْ التُّهْمَةُ الشَّهَادَةَ أَيْضًا .
وَأَمَّا نَظَرُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى صُورَةِ
الْقَرَابَةِ فَفِيهِ إلْغَاءُ الْعِلَّةِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا وَقَصْرٌ لَهَا
عَلَى مُورِدِهَا .
وَيَنْبَغِي أَنَّ تَطَّرِدَ الْعِلَّةُ حَيْثُ وُجِدَتْ
مَا لَمْ يَقِفْ دُونَهَا دَلِيلُ تَخْصِيصٍ ، فَعَلَى هَذَا إذَا وَجَدْنَا
التُّهْمَةَ فِي غَيْرِ الْقَرِيبِ مِنْ صَدِيقٍ مُلَاطِفٍ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ
الْإِقْرَارِ ، وَكَمْ مِنْ صَدِيقٍ أَلْصَقُ مِنْ قَرِيبٍ وَأَحْكُمُ عُقْدَةً
فِي الْمَوَدَّةِ .
تَكْمِلَةٌ : لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِضَ السِّهَامِ ، وَبَقِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ بَقِيَّةٌ مَسْكُوتٌ عَنْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْهُ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ } ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قُدِّمَ الْأَقْرَبُ فِي الْعَصَبَةِ عَلَى الْأَبْعَدِ ، كَالْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ ، وَابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَيُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبِ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ، هَكَذَا أَبَدًا .
تَخْصِيصٌ
: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي
أَوْلَادِكُمْ } الْفَرَائِضَ إلَى آخِرِهَا بِسِهَامِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا ،
ثُمَّ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ
وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ }
.
فَخَرَجَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ تَوَارُثُ الْكُفَّارِ
وَالْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا ، وَلَا يَحْجُبُهُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هُوَ وَإِنْ كَانَ لَا يَرِثُ
فَإِنَّهُ يَحْجُبُ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ : {
وَلِأَبَوَيْهِ } هُوَ الْمَذْكُورُ فِي : { إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } فَكَمَا
أَنَّ قَوْلَهُ : { وَلِأَبَوَيْهِ } لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْكُفَّارُ ؛ كَذَلِكَ قَوْلُهُ
: { إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْكَافِرُ .
تَحْقِيقُهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَعَلَتْهُ فِي بَابِ
الْإِرْثِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا كَالْمَعْدُومِ ، كَذَلِكَ فِي بَابِ الْحَجْبِ
فَإِنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيْ الْمِيرَاثِ ؛ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْكَافِرُ ، أَوْ
لَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَافِرِ أَصْلُهُ الْمِيرَاثُ ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْحَجْبِ
مُعَضِّدٌ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ فِي الْأَبْوَابِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْأَسْبَابُ الَّتِي يُسْتَحَقُّ
بِهَا الْمِيرَاثُ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ : نِكَاحٌ ، وَنَسَبٌ ، وَوَلَاءٌ .
فَأَمَّا النِّكَاحُ وَالنَّسَبُ فَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ
، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسْتَحَقُّ الْمِيرَاثُ
زَائِدًا عَلَى هَذَا بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ وَالِاتِّحَادِ فِي
الدِّيوَانِ .
وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ
الْمِيرَاثَ عِنْدَنَا يُسْتَحَقُّ بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ : نِكَاحٍ ، وَنَسَبٍ ،
وَوَلَاءٍ ، وَإِسْلَامٍ ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا : " وَإِسْلَامٍ " أَنَّ
بَيْتَ الْمَالِ عِنْدَنَا وَارِثٌ
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ بِوَارِثٍ .
وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
وَعَوَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَهِيَ آيَةٌ نُبَيِّنُهَا فِي
مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَصْلٌ
لَمَّا قَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْفَرَائِضَ مَقَادِيرَهَا ، وَقَرَّرَهَا
مَقَارِيرَهَا ، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا نَزَلَتْ فِي خِلَافَةِ
عُمَرَ عَارِضَةٌ ، وَهِيَ ازْدِحَامُ أَرْبَابِ الْفَرَائِضِ عَلَى الْفَرَائِضِ
، وَزِيَادَةُ فُرُوضِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ الْمَالِ ، مِثَالُ ذَلِكَ امْرَأَةٌ
تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُخْتَهَا وَأُمَّهَا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَلَمَّا أُلْقِيَتْ عِنْدَ
عُمَرَ ، وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا ، وَدَفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ :
وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَ اللَّهُ وَلَا أَيُّكُمْ أَخَّرَ ،
فَلَا أَجِدُ مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ أُقَسِّمَ عَلَيْكُمْ هَذَا الْمَالَ
بِالْحِصَصِ ، فَأَدْخَلَ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ عَوْلٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَزِيزِ ، إنَّ
الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا مَا جَعَلَ فِي الْمَالِ نِصْفًا
وَنِصْفًا وَثُلُثًا ، فَهَذَانِ النِّصْفَانِ قَدْ ذَهَبَا بِالْمَالِ ، فَأَيْنَ
الثُّلُثُ ؟ فَلْيَجِيئُوا فَلْنَضَعْ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكْنِ فَلْنَبْتَهِلْ .
قَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْبَصْرِيُّ : يَا ابْنَ
عَبَّاسٍ ؛ وَأَيُّهُمَا قَدَّمَ اللَّهُ ؟ وَأَيُّهُمَا أَخَّرَ ؟ قَالَ : كُلُّ
فَرِيضَةٍ لَمْ يُهْبِطْهَا اللَّهُ إلَّا إلَى فَرِيضَةٍ ، فَهِيَ الْمُقَدَّمُ ،
وَكُلُّ فَرْضٍ إذَا زَالَ رَجَعَ إلَى مَا بَقِيَ فَهُوَ الْمُؤَخَّرُ .
قَالَ الْقَاضِي : اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَا
قَالَ عُمَرُ ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ أَحَدٌ إلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ؛
وَذَلِكَ أَنَّ الْوَرَثَةَ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ
اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ ، فَأُعْطُوا عِنْدَ التَّضَايُقِ حُكْمَ الْحِصَّةِ ، أَصْلُهُ
الْغُرَمَاءُ إذَا ضَاقَ مَالُ الْغَرِيمِ عَنْ حُقُوقِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ
يَتَحَاصُّونَ بِمِقْدَارِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فِي رَأْسِ مَالِ الْغَرِيمِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ مُعْضِلَةٌ فِي الْآيَاتِ لَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُعِينَ عَلَى عِلْمِهَا ، وَفِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً ، لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، اللَّذَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَالٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مَمْدُودًا إلَى غَايَةٍ ، ثُمَّ وَقَعَ بَيَانُ الْغَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ مُتَّصِلٌ لَمْ يَرْفَعَ مَا بَعْدَهُ مَا قَبْلَهُ ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { اللَّاتِي } هُوَ جَمْعُ الَّتِي ؛ كَلِمَةٌ يُخْبَرُ بِهَا عَنْ الْمُؤَنَّثِ خَاصَّةً ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : " الَّذِي " يُخْبَرُ بِهِ عَنْ الْمُذَكَّرِ خَاصَّةً ، وَجَمْعُهُ الَّذِينَ ، وَقَدْ تُحْذَفُ التَّاءُ فَتَبْقَى الْيَاءُ السَّاكِنَةُ فَتَجْرِي بِحَرَكَتِهَا ، قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } ، فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ الْمَخْزُومِيُّ : مِنْ اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ حِسْبَةً وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ الْمُغَفَّلَا
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { الْفَاحِشَةَ } هِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ
تَعْظُمُ كَرَاهِيَتُهُ فِي النُّفُوسِ ، وَيَقْبُحُ ذِكْرُهُ فِي الْأَلْسِنَةِ
حَتَّى يَبْلُغَ الْغَايَةَ فِي جِنْسِهِ ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِشَهْوَةِ
الْفَرْجِ إذَا اُقْتُضِيَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا أَوْ
الْمُجْتَنَبِ عَادَةً ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الزِّنَا إجْمَاعًا ، وَفِي
اللِّوَاطِ بِاخْتِلَافٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللِّوَاطَ فَاحِشَةٌ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّاهُ بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } يُقَالُ : أَتَيْت مَقْصُورًا ؛ أَيْ جِئْت ، وَعَبَّرَ عَنْ الْفِعْلِ وَالْعَمَلِ بِالْمَجِيءِ ؛ لِأَنَّ الْمَجِيءَ إلَيْهِ يَكُونُ ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِعَارَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ نِسَائِكُمْ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
ذَلِكَ ؛ فَقَالَ الْأَكْثَرُ مِنْ الصَّحَابَةِ : إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ
الْأَزْوَاجُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : الْمُرَادُ الْجِنْسُ مِنْ
النِّسَاءِ ، وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ الْأَزْوَاجُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ } وَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ }
وَأَرَادَ الْأَزْوَاجَ فِي الْآيَتَيْنِ ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
الثَّالِثَةِ ، وَإِذَا كَانَ إضَافَةُ زَوْجِيَّةٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهَا إلَّا
اعْتِبَارُ الثُّيُوبَةِ ؛ قَالُوا : وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ
: إحْدَاهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْأُخْرَى ، وَكَانَتْ الْأَكْبَرُ لِلثَّيِّبِ ،
وَالْأَصْغَرُ لِلْبِكْرِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ
النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ وَعُمُومَهُ
، فَأَمَّا الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ
فَإِنَّمَا أَوْقَفْنَاهُ عَلَى الْأَزْوَاجِ ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ
مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيلَاءَ لَمَّا كَانَ مُجَرَّدًا
عَنْ النِّكَاحِ بِأَنْ يَحْلِفَ أَلَّا يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً
فَوَطِئَهَا يَحْنَثُ إذَا وَطِئَهَا إذَا تَزَوَّجَهَا ، وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَى
الْأَجَلِ فِي الزَّوْجَةِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ
فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَظُ لِلْأَعْظَمِ وَالْأَقَلُّ لِلْأَصْغَرِ ،
بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي النِّسَاءِ جَمِيعًا : إحْدَاهُمَا
فِي الثَّيِّبِ ، وَالْأُخْرَى فِي الْبِكْرِ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، وَسَيَأْتِي
بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا : إنَّ
الْحِكْمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى :
{ مِنْ نِسَائِكُمْ } بَيَانُ حَالِ الْمُؤْمِنَاتِ ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } يَعْنِي
مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .
وَقَالَ تَعَالَى : { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا
يَحُدُّ الْكَافِرَةَ إذَا زَنَتْ ، وَذَلِكَ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ } وَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، قَالَ تَعَالَى
: { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ } فَشَرَطَ غَايَةَ الشَّهَادَةِ فِي غَايَةِ الْمَعْصِيَةِ
لِأَعْظَمِ الْحُقُوقِ حُرْمَةً ، وَتَعْدِيدُ الشُّهُودِ بِأَرْبَعَةٍ حُكْمٌ
ثَابِتٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ؛ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ
قَدْ زَنَيَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ائْتُونِي بِأَعْلَمِ
رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَّا ، فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ
كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ ؟ قَالَا : نَجِدُ فِي
التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا
مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا .
قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟
قَالَا : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا وَكَرِهْنَا الْقَتْلَ .
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا وَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي
فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَمَهُمَا } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ
عُدُولًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الْبُيُوعِ
وَالرَّجْعَةِ ، فَهَذَا أَعْظَمُ ، وَهُوَ بِذَلِكَ أَوْلَى ، وَهُوَ مِنْ بَابِ
حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالدَّلِيلِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَلَا يَكُونُوا ذِمَّةٍ ،
وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى ذِمَّةٍ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ
الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ
الْقَتْلُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الزِّنَا ؟ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ
بِشَاهِدَيْنِ ، فَمَا هَذَا ؟
.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ ،
وَهُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ
الْإِلَهِيَّةَ
وَالْإِيَالَةَ الرَّبَّانِيَّةَ اقْتَضَتْ السَّتْرَ فِي الزِّنَا بِكَثْرَةِ
الشُّهُودِ ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي السَّتْرِ ، وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْقَتْلِ
بِشَاهِدَيْنِ ، بَلْ بِلَوْثٍ وَقَسَامَةٍ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْكُمْ }
الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الذُّكُورُ دُونَ الْإِنَاثِ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ
ذَكَرَ أَوَّلًا { مِنْ نِسَائِكُمْ } ثُمَّ قَالَ : { مِنْكُمْ } فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ الشَّاهِدُ غَيْرَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ
بَيْنَ الْأُمَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ شَهِدُوا } الْمَعْنَى :
فَاطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ الشُّهَدَاءَ ، فَإِنْ شَهِدُوا .
وَلَيْسَ هَذَا بِأَمْرِ وُجُوبٍ لِطَلَبِ الشَّهَادَةِ
، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَعْلِيمِ كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ ،
وَصِفَةُ الشَّهَادَةِ الَّتِي يَشْهَدُ بِهَا الشَّاهِدُ مَا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ مِنْ شَأْنِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ عَلَى مَا رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ
جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَى
نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ
يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ
عَلَيْهِ فِي الْخَامِسَةِ ، فَقَالَ
: أَنِكْتَهَا ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ : حَتَّى غَابَ
ذَلِكَ مِنْكَ فِيهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي
الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : هَلْ تَدْرِي
مَا الزِّنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي
الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَمَا تُرِيدُ مِنِّي
بِهَذَا الْقَوْلِ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ .
}
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ وَحَبْسِهِنَّ فِيهَا فِي
صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَكْثُرَ الْجُنَاةُ ، فَلَمَّا كَثُرَ الْجُنَاةُ
وَخُشِيَ فَوْتُهُمْ اُتُّخِذَ لَهُمْ سِجْنٌ .
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا السِّجْنِ ، هَلْ هُوَ حَدٌّ أَوْ
تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَوَعُّدٌ
بِالْحَدِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَدٌّ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ : زَادَ ابْنُ زَيْدٍ
أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُوتُوا يَعْنِي عُقُوبَةً لَهُمْ
حَيْثُ طَلَبُوا النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ .
ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْحَدِّ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } فَمَنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ ،
وَمَنْ كَانَ بِكْرًا جُلِدَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَدٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ عُقُوبَةً
مَمْدُودَةً إلَى غَايَةِ مُؤْذَنَةٍ بِأُخْرَى هِيَ النِّهَايَةُ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ حَدٌّ ، لِأَنَّهُ إيذَاءٌ
، وَإِيلَامٌ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْجِلْدِ ،
وَكُلُّ إيذَاءٍ وَإِيلَامٍ حَدٌّ ، لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَزَجْرٌ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ مَمْدُودٌ إلَى غَايَةٍ
إبْطَالًا لِقَوْلِ مَنْ رَأَى مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ :
إنَّهُ نُسِخَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا } رَوَى مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ
اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ
، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُرِبَ لِذَلِكَ
وَتَرَبَّدَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَلُقِيَ لِذَلِكَ ،
فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ : قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ،
الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ، الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ
وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ } .
.
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ : { الْبِكْرُ
تُجْلَدُ وَتُنْفَى ، وَالثَّيِّبُ تُجْلَدُ وَتُرْجَمُ } .
.
فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ
أَحْوَالٍ : بِكْرٌ تَزْنِي بِبِكْرٍ ، وَثَيِّبٌ تَزْنِي بِثَيِّبٍ .
الثَّالِثُ بِكْرٌ تَزْنِي بِثَيِّبٍ ، أَوْ ثَيِّبٌ
تَزْنِي بِبِكْرٍ ، لِقَوْلِهِ
: { الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى ، وَالثَّيِّبُ
تُرْجَمُ } .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الْبِكْرُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَمَّادٌ : لَا يُقْضَى
بِالنَّفْيِ حَدًّا إلَّا أَنْ يَرَاهُ الْحَاكِمُ [ تَعْزِيرًا ] ، وَاحْتَجَّا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَلَمْ يَذْكُرْ تَغْرِيبًا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى
النَّصِّ نَسْخٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
جَوَابٌ ثَانٍ : قَدْ رَدَدْتُمْ الْبَيِّنَةَ بِخَبَرٍ
لَا يَصِحُّ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
ذَكَرَ الْجَلْدَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الرَّجْمَ ، وَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ .
جَوَابٌ رَابِعٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَذْكُرْ الْإِحْصَانَ وَلَا الْحُرِّيَّةَ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ
الْآيَةِ بَيَانُ جِنْسِ الْحَدِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : الْمَرْأَةُ لَا تُغَرَّبُ
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ حِينَ تَعَلَّقُوا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ ،
وَالْمَعْنَى يَخُصُّهُ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ مِنْ الصِّيَانَةِ
وَالْحِفْظِ وَالْقَصْرِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالتَّبَرُّزِ اللَّذَيْنِ يَذْهَبَانِ
بِالْعِفَّةِ إلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرَّجُلُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : الْعَبْدُ لَا يُغَرَّبُ
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ بِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَيَخُصُّهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ
فَلْيَجْلِدْهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ، ثُمَّ قَالَ فِي
الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلْيَبِعْهَا ، وَلَوْ بِضَفِيرٍ } .
فَكَرَّرَ ذِكْرَ الْجَلْدِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ
التَّغْرِيبَ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَرَّرَهُ أَوْ ذَكَرَهُ .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّ الْمَعْنَى يَخُصُّهُ ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْ تَغْرِيبِ الْحُرِّ إيذَاؤُهُ بِالْحَيْلُولَةِ لَهُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَهْلِهِ ، وَالْإِهَانَةِ لَهُ ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي
الْعَبْدِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي أَصْلِ التَّغْرِيبِ : وَهُوَ أَنَّهُ أَجْمَعَ رَأْيُ خِيَارِ بَنِي إسْمَاعِيلَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الْحَرَمِ حَدَثًا غُرِّبَ مِنْهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ لَهُمْ أَوَّلُهُمْ ، فَصَارَتْ سُنَّةً لَهُمْ فِيهِ يَدِينُونَ بِهَا ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ اسْتَنَّ النَّاسُ إذَا أَحْدَثَ أَحَدٌ حَدَثًا غُرِّبَ عَنْ بَلَدِهِ ؛ وَتَمَادَى ذَلِكَ إلَى الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَقَرَّهُ فِي الزِّنَا خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْمَظَالِمَ يُمْكِنُ كَفُّ الظَّالِمِ عَنْهَا جَهْرًا ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا سِرًّا ، وَالزِّنَا لَيْسَ الْكَفُّ عَنْهُ بِكَامِلٍ حَتَّى يُغَرَّبَ عَنْ مَوْضِعِهِ ، فَلَا تَكُونُ لَهُ حِيلَةٌ فِي السِّرِّ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْعَوْدَةِ إلَيْهِ أَوْ إلَى مِثْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ خِلَافًا
لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ، وَمُتَعَلَّقُهُمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِ عَلِيٍّ ذَلِكَ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ .
وَقَوْلُنَا أَصَحُّ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَجَمَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْلِدْهُ ، فَتَرَكَهُ لَهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِعْلًا فِي كُلِّ مَنْ رَجَمَ ، وَقَوْلًا فِي قَوْلِهِ فِي
حَدِيثِ الْعَسِيفِ : { وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ
اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } مُسْقِطٌ لَهُ .
قَوْله تَعَالَى
: { وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } فِيهَا أَرْبَعُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّ الْإِذَايَةَ فِي الْأَبْكَارِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ
زَيْدٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي أَبْكَارِ الرِّجَالِ
وَثَيِّبِهِمْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ؛ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ الْأُولَى
مُؤَنَّثٌ ؛ فَاقْتَضَى النِّسَاءَ ؛ وَهَذَا لَفْظٌ مُذَكَّرٌ ، فَاقْتَضَى الرِّجَالَ
.
وَرَدَّ عَلَيْهِ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ
النَّحْوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَقَالُوا : إنَّ لَفْظَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ
يَصْلُحُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَالصَّوَابُ مَعَ مُجَاهِدٍ
؛ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَصٌّ فِي النِّسَاءِ بِمُقْتَضَى
التَّأْنِيثِ وَالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِنَّ الْمَخْصُوصِ لَهُنَّ ، فَلَا سَبِيلَ
لِدُخُولِ الرِّجَالِ فِيهِ ، وَلَفْظُ الثَّانِيَةِ يَحْتَمِلُ الرِّجَالَ
وَالنِّسَاءَ ، وَكَانَ يَصِحُّ دُخُولُ النِّسَاءِ مَعَهُمْ فِيهَا لَوْلَا أَنَّ
حُكْمَ النِّسَاءِ تَقَدَّمَ ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ لَوْ اسْتَقَلَّتْ لَكَانَتْ
حُكْمًا آخَرَ مُعَارِضًا لَهُ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ ، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَتْ
مَنُوطَةً بِهَا ، مُرْتَبِطَةً مَعَهَا ، مُحَالَةً بِالضَّمِيرِ عَلَيْهَا
فَقَالَ : { يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ } عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الرِّجَالَ
ضَرُورَةً .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : إنَّ قَوْلَهُ : { وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ
فَآذُوهُمَا } عَامٌّ فِي الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ، فَاقْتَضَى مَسَاقُ
الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي زِنَا النِّسَاءِ عُقُوبَةَ
الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ ، وَجَعَلَ فِي زِنَا الرِّجَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ
فِيهِمَا جَمِيعًا الْإِيذَاءَ ، فَاحْتَمَلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
: أَنْ يَكُونَ الْإِيذَاءُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ عُقُوبَةً لَهُمْ [ عُقُوبَةً
] دُونَ الْإِمْسَاكِ ، وَاحْتَمَلَ
الْإِيذَاءَ
وَالْإِمْسَاكَ حَمْلًا عَلَى النِّسَاءِ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَاهُنَا نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّ الْجَلْدَ بِالْآيَةِ وَالرَّجْمَ
بِالْحَدِيثِ نَسَخَ هَذَا الْإِيذَاءَ فِي الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْدُودًا
إلَى غَايَةٍ ، وَقَدْ حَصَلَ التَّعَارُضُ ؛ وَعُلِمَ التَّارِيخُ ، وَلَمْ
يُمْكِنْ الْجَمْعُ ، فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِالنَّسْخِ ؛ وَأَمَّا الْجَلْدُ
فَقُرْآنٌ نَسَخَ قُرْآنًا ، وَأَمَّا الرَّجْمُ فَخَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ نَسَخَ
قُرْآنًا ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُحَقِّقِينَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي
أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَأَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي قَبْلَ
هَذَا فِيهِ .
قَوْله تَعَالَى
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ
كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا
أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ
خَيْرًا كَثِيرًا } فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :
كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا مَاتَ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِزَوْجَتِهِ
مِنْ وَلِيِّهَا ، يَتَزَوَّجُهَا أَوْ يُنْكِحُهَا لِغَيْرِهِ ، وَرُبَّمَا
أَلْقَى أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِهِ عَلَيْهَا ثَوْبًا ، فَكَانَ أَوْلَى بِهَا ،
حَتَّى مَاتَ ابْنُ عَامِرٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ
، وَنَحْوُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ } الْقَوْلُ فِي الْعَضْلِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
؛ قِيلَ فِيهَا أُمِرُوا بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِنَّ إذَا لَمْ يَرِثُوهُنَّ .
وَقِيلَ : هَذَا خِطَابٌ لِلْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ
كَانُوا يَمْنَعُ الرَّجُلُ [ مِنْهُمْ ] امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ
حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثُهَا ؛ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
} قِيلَ : هُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ إذَا لَمْ يَتَّفِقُوا مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ
، نُهُوا أَنْ يُمْسِكُوهُنَّ عَلَى غَيْرِ عِشْرَةٍ جَمِيلَةٍ حَتَّى يَأْخُذُوا
مَا أَعْطُوهُنَّ .
وَقِيلَ : هُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْجَاهِلِيَّةُ نُهُوا أَنْ يَمْنَعُوا النِّسَاءَ
مِنْ النِّكَاحِ لِمَنْ أَرَدْنَ إذَا مَاتَ أَزْوَاجُهُنَّ ، وَلَا
يَحْبِسُوهُنَّ لِيَرِثُوا مِنْهُنَّ مَا وَرِثُوا مِنْ مُوَرِّثِهِمْ ، عُبِّرَ
عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
: " آتَيْتُمُوهُنَّ " لِأَنَّهُ إعْطَاءٌ فِي
الْحَقِيقَةِ عَلَى وَجْهِ الْمِيرَاثِ ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوهُ
عَلَى وَجْهِ الْغَصْبِ مِيرَاثًا أَيْضًا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ } وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قِيلَ :
الْفَاحِشَةُ الزِّنَا .
الثَّانِي : قِيلَ : النُّشُوزُ .
الثَّالِثُ :
قَالَ عَطَاءٌ : كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ
إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ أَخَذَ جَمِيعَ مَالِهَا الَّذِي سَاقَهُ لَهَا ، ثُمَّ
نَسَخَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِالْحُدُودِ .
الرَّابِعُ : قِيلَ : إنَّهُ كَانَ فِي الزِّنَا ثَلَاثَةُ
وُجُوهٍ ، قِيلَ لَهُمْ : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } الْآيَةَ ، ثُمَّ قِيلَ
لَهُمْ : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } فَجَازَ لَهُ
عَضْلُهَا عَنْ حَقِّهَا وَأَخْذُ مَالِهَا .
ثُمَّ نَزَلَتْ : { وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا
مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } فَهَذَا الْبِكْرَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي تَحْقِيقِ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ الْأَقْوَالِ : أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُ الزِّنَا وَالنُّشُوزُ
فَقَدْ بَيَّنَّا أَحْكَامَ جَوَازِ الْخُلْعِ وَأَخْذِ مَالِ الْمَرْأَةِ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَمُحْتَمَلٌ صَحِيحٌ
تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ ، لَكِنْ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّهُ نَسْخٌ ،
وَإِنْ كَانَ فِي التَّحْقِيقِ نَسْخًا ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَخَ الْبَاطِلَ ، وَلَكِنْ اللَّفْظَ مُجْمَلٌ يَنْطَلِقُ
عَلَيْهِ ، وَشَرْطٌ يَرْتَبِطُ بِهِ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مُبَيَّنٌ فِي
مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : كَانَ فِي الزِّنَا ثَلَاثَةُ
أَنْحَاءٍ فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ ، وَنَقْلٌ لَمْ يَصِحَّ ، وَتَقْدِيرٌ يَفْتَقِرُ
إلَى نَقْلٍ ثَابِتٍ ، وَلَمْ يَكُنْ ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ
عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ :
وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ
يَحْبِسَ امْرَأَةً كَرْهًا حَتَّى يَأْخُذَ مَالَهَا إذَا مَاتَتْ كَانَتْ غَيْرَ
زَوْجَةٍ أَوْ زَوْجَةً قَدْ سَقَطَ غَرَضُهُ فِيهَا ، وَسَقَطَتْ عِشْرَتُهُ الْجَمِيلَةُ
مَعَهَا ، وَلَا يَحِلُّ عَضْلُهَا عَنْ النِّكَاحِ لِغَيْرِهِمْ حَتَّى يَأْخُذَ
الزَّوْجُ مَا أَعْطَاهَا صَدَاقًا ، أَوْ لِيَأْخُذَ الْغَاصِبُ مَا
كَانَ أَخَذَ مِنْ مَالِ مُوَرِّثِهِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُنَّ ذَنْبٌ بِزِنًا أَوْ نُشُوزٍ لَا تَحْسُنُ مَعَهُ عِشْرَةٌ ، فَجَائِزٌ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِنِكَاحِهَا حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهَا مَالًا ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ عَامٌّ فِي الْأَزْوَاجِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَآخِرُهَا عِنْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَخْصُوصٌ بِالْأَزْوَاجِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
وَحَقِيقَةُ " عَشَرَ " فِي الْعَرَبِيَّةِ الْكَمَالُ وَالتَّمَامُ ،
وَمِنْهُ الْعَشِيرَةُ ، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ كَمُلَ أَمْرُهُمْ وَصَحَّ
اسْتِبْدَادُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ
.
وَعَشَرَةٌ تَمَامُ الْعَقْدِ فِي الْعَدَدِ ، وَيُعَشَّرُ
الْمَالُ لِكَمَالِهِ نِصَابًا
.
فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَزْوَاجَ إذَا
عَقَدُوا عَلَى النِّسَاءِ أَنْ يَكُونَ أُدْمَةُ مَا بَيْنَهُمْ وَصُحْبَتُهُمْ
عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ، فَإِنَّهُ أَهْدَأُ لِلنَّفْسِ ، وَأَقَرُّ
لِلْعَيْنِ ، وَأَهْنَأُ لِلْعَيْشِ ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ
ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يَجْرِيَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى سُوءِ
عَادَتِهِمْ فَيَشْتَرِطُونَهُ وَيَرْبِطُونَهُ بِيَمِينٍ ، وَمِنْ سُقُوطِ
الْعِشْرَةِ تَنْشَأُ الْمُخَالَعَةُ ، وَبِهَا يَقَعُ الشِّقَاقُ ، فَيَصِيرُ
الزَّوْجُ فِي شِقٍّ ، وَهُوَ سَبَبُ الْخُلْعِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } الْمَعْنَى : إنْ وَجَدَ الرَّجُلُ
فِي زَوْجَتِهِ كَرَاهِيَةً ، وَعَنْهَا رَغْبَةً ، وَمِنْهَا نُفْرَةً مِنْ
غَيْرِ فَاحِشَةٍ وَلَا نُشُوزٍ فَلْيَصْبِرْ عَلَى أَذَاهَا وَقِلَّةِ
إنْصَافِهَا ، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ .
أَخْبَرَنِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ بِالْمُهْدِيَةِ
، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ السُّيُورِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
قَالَ : كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنْ الْعِلْمِ
وَالدِّينِ فِي الْمَنْزِلَةِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ سَيِّئَةُ
الْعِشْرَةِ ، وَكَانَتْ تُقَصِّرُ فِي حُقُوقِهِ ، وَتُؤْذِيهِ بِلِسَانِهَا
فَيُقَالُ لَهُ فِي أَمْرِهَا فَيَسْدُلُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا ، وَكَانَ يَقُولُ
: أَنَا رَجُلٌ قَدْ أَكْمَلَ اللَّهُ عَلَيَّ النِّعْمَةَ فِي صِحَّةِ بَدَنِي
وَمَعْرِفَتِي ، وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي ، فَلَعَلَّهَا بُعِثَتْ عُقُوبَةً عَلَى
دِينِي ، فَأَخَاف إذَا فَارَقْتُهَا أَنْ تَنْزِلَ بِي عُقُوبَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهِيَةِ الطَّلَاقِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ
مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ
شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } فِيهَا أَرْبَعُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ الْفِرَاقَ
لِلْأَزْوَاجِ وَالِانْتِقَالَ بِالنِّكَاحِ مِنْ امْرَأَةٍ إلَى امْرَأَةٍ أَخْبَرَ
عَنْ دِينِهِ الْقَوِيمِ وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ فِي تَوْفِيَةِ حُقُوقِهِنَّ إلَيْهِنَّ
عِنْدَ فِرَاقِهِنَّ ؛ فَوَطْأَةٌ وَاحِدَةٌ حَلَالًا تُقَاوِمُ مَالَ الدُّنْيَا
كُلِّهِ ، نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ أَنْ يَعْتَرِضُوهُنَّ فِي صَدَقَاتِهِنَّ ،
إذْ قَدْ وَجَبَ ذَلِكَ لَهُنَّ وَصَارَ مَالًا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَآتَيْتُمْ
إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } فِيهِ جَوَازُ كَثْرَةِ الصَّدَاقِ ، وَإِنْ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ كَانُوا
يُقَلِّلُونَهُ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ
: " أَلَا لَا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ
مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا وَتَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ مَا أَصْدَقَ قَطُّ
امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا مِنْ بَنَاتِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
أُوقِيَّةً " فَقَامَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا عُمَرُ ،
يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَحْرُمُنَا أَنْتَ ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { وَآتَيْتُمْ
إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } فَقَالَ عُمَرُ : " امْرَأَةٌ
أَصَابَتْ وَأَمِيرٌ أَخْطَأَ
" .
وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ مِثْلُهُ إلَى
قَوْلِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ، زَادَ : فَإِنَّ الرَّجُلَ يُغَلِّي
بِالْمَرْأَةِ فِي صَدَاقِهَا .
فَتَكُونُ حَسْرَةٌ فِي صَدْرِهِ فَيَقُولُ : كُلِّفْت
إلَيْكَ عِرْقَ الْقِرْبَةِ .
قَالَ :
فَكُنْت غُلَامًا مَوْلُودًا لَمْ أَدْرِ مَا هَذَا ؛
قَالَ : وَأُخْرَى يَقُولُونَ لِمَنْ قُتِلَ فِي مَغَازِيكُمْ هَذِهِ : قُتِلَ
فُلَانٌ شَهِيدًا أَوْ مَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا ، وَلَعَلَّهُ أَنْ
يَكُونَ خَرَجَ
وَأُفْرِدَ دُونَ رَاحِلَتِهِ أَوْ أَعْجَزَهَا بِطَلَبِ النَّجَاةِ ، وَلَكِنْ
قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ
قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مَاتَ فَلَهُ الْجَنَّةُ } .
وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عُمَرُ عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيمِ
، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّدْبَ إلَى التَّعْلِيمِ ؛ وَقَدْ تَنَاهَى
النَّاسُ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى بَلَغَ صَدَاقُ امْرَأَةٍ أَلْفَ أَلْفٍ ، وَهَذَا
قَلَّ أَنْ يُوجَدَ مِنْ حَلَالٍ
.
وَقَدْ سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ رَجُلٍ غَالَى فِي صَدَاقِ
امْرَأَةٍ أَيَرُدُّهُ السُّلْطَانُ ؟ قَالَ : لَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ إلَى عَلِيٍّ
أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتَهُ مِنْ فَاطِمَةَ ، فَقَالَ : إنَّهَا صَغِيرَةٌ ،
فَقَالَ عُمَرُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : { إنَّ كُلَّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا نَسَبِي
وَصِهْرِي } ، فَلِذَلِكَ رَغِبْت فِي مِثْلِ هَذَا " .
فَقَالَ عَلِيٌّ : إنِّي أُرْسِلُهَا حَتَّى تَنْظُرَ
إلَى صِغَرِهَا ، فَأَرْسَلَهَا فَجَاءَتْ ، فَقَالَتْ : إنَّ أَبِي يَقُولُ :
هَلْ رَضِيت الْحُلَّةَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : قَدْ رَضِيتهَا .
فَأَنْكَحَهَا عَلِيٌّ فَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ
دِرْهَمٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { صَدَاقُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ } ،
وَرُوِيَ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ
.
وَرُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ } .
{ وَقَالَ لِرَجُلٍ : أَتَرْضَى أَنْ أُزَوِّجَكَ
فُلَانَةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ : أَتَرْضَيْنَ أَنْ أُزَوِّجَكِ
فُلَانًا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ .
فَزَوَّجَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكْتُبْ لَهَا
صَدَاقًا وَلَا أَعْطَاهَا شَيْئًا ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ
وَلَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ : إنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَنِي فُلَانَةَ ، فَلَمْ أُعَيِّنْ
لَهَا صَدَاقًا ، وَلَمْ أُعْطِهَا شَيْئًا ، وَإِنِّي أُعْطِيهَا مِنْ صَدَاقِهَا
سَهْمِي
بِخَيْبَرَ ، فَأَخَذَتْ سَهْمَهُ ذَلِكَ فَبَاعَتْهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ } .
وَزَوَّجَ عُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ بِنْتَ هَانِئِ بْنِ
قَبِيصَةَ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ .
وَعَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ مُطَرِّفًا
تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَشْرَةِ آلَافٍ أُوقِيَّةٍ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِنَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، يُقَالُ هِيَ خَمْسَةُ
دَرَاهِمَ .
{ وَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ } .
وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى نَعْلَيْنِ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَضِيَتْ عَنْ مَالِكِ بِهَاتَيْنِ
النَّعْلَيْنِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : لَوْ أَصْدَقَهَا
سَوْطًا جَازَ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : يُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَاقِ الرِّطْلُ
مِنْ الذَّهَبِ ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الْحَرَائِرِ مِثْلَ
أُجُورِ الْبَغَايَا : الدِّرْهَمُ وَالدِّرْهَمَيْنِ ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ
عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ ، خِلَافُ حَدِيثِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَخَاتَمِ الْحَدِيدِ ، وَسَيَأْتِي تَقْدِيرُ الْمَهْرِ
بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : {
قِنْطَارًا } قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
اُخْتُلِفَ فِي الْقِنْطَارِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ؛ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ ؛
قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَهُوَ الْأَوْلَى لِلصَّوَابِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ دِيَةُ أَحَدِكُمْ ؛ رُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ ؛
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ ؛
قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا
.
السَّادِسُ : أَنَّهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ
دِرْهَمٍ
؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ مِائَةُ رِطْلٍ ؛ قَالَهُ
قَتَادَةُ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ ؛
قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
التَّاسِعُ : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : وَهُوَ
مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ
.
الْعَاشِرُ : أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنْ غَيْرِ
تَحْدِيدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ
كُلُّهَا تَحَكُّمٌ فِي الْأَكْثَرِ ، وَقَدْ رُوِيَ بَعْضُهَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ الْمَالُ
الْكَثِيرُ الْوَزْنِ ، هَذَا عُرْفٌ عَرَبِيٌّ ، أَمَّا أَنَّ النَّاسَ لَهُمْ
فِي الْقِنْطَارِ عُرْفٌ مُعْتَادٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْقِنْطَارَ أَرْبَعَةُ
أَرْبَاعٍ ، وَالرُّبْعُ ثَلَاثُونَ رِطْلًا ، وَالرِّطْلُ اثْنَتَا عَشْرَةَ
أُوقِيَّةً ، وَالْأُوقِيَّةُ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَالدِّرْهَمُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ
حَبَّةً ، وَهِيَ سِتَّةُ دَوَانِيقَ ، فَمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَبِحَسَبِ
اتِّفَاقِهِمْ أَوْ بِحُكْمِ الْوُلَاةِ ، وَقَدْ رَدُّوا الدِّرْهَمَ مِنْ
سَبْعَةٍ ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مِنْ سِتَّةِ دَوَانِيقَ ، وَرَكَّبُوا
الدِّرْهَمَ الْأَكْبَرَ مِنْ ثَمَانِيَةِ دَوَانِيقَ عَلَى الدِّرْهَمِ
الْأَصْغَرِ ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ ، فَحَمَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ
زِيَادَةَ الْأَكْبَرِ عَلَى نُقْصَانِ الْأَصْغَرِ ، فَجَعَلُوهُمَا دِرْهَمَيْنِ
مُتَسَاوِيَيْنِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةُ دَوَانِيقَ ، وَجَعَلُوا
الدِّينَارَ دِرْهَمَيْنِ ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا ،
وَالْقِيرَاطُ ثَلَاثُ حَبَّاتٍ
.
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ
الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ عَنْ { عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ؛ قَالَ :
زَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ عَلَى
أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا بِوَزْنِ سِتَّةٍ } ؛
وَهَذَا ضَعِيفٌ ، إنَّمَا زَوَّجَهُ إيَّاهَا فِي الصَّحِيحِ عَلَى دِرْعِهِ
الْحُطَمِيَّةِ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى
بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } فِيهِ ثَلَاثُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { أَفْضَى } أَفْعَلُ مِنْ الْفَضَاءِ ، وَهُوَ
كُلُّ مَوْضِعٍ خَالٍ ، فَقَالَ : وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ، وَقَدْ كَانَتْ
الْخَلْوَةُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ ؟ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ
بِالْخَلْوَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
وَلِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٌ :
إحْدَاهُنَّ : يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ .
الثَّانِي : لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالْوَطْءِ .
الثَّالِثُ : يَسْتَقِرُّ بِالْخَلْوَةِ فِي بَيْتِ
الْإِهْدَاءِ .
وَالْأَصَحُّ اسْتِقْرَارُهُ بِالْخَلْوَةِ مُطْلَقًا ،
وَيَلِيهِ فِي بَيْتِ الْإِهْدَاءِ
.
وَأَمَّا وُقُوفُهُ عَلَى الْوَطْءِ فَضَعِيفٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا }
فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا
قَوْلُهُ : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
الثَّانِي : كَلِمَةُ النِّكَاحِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ،
وَهِيَ قَوْلُهُ : ( نَكَحَتْ )
.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوُهُ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ
فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ
فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ
} .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْمُزَنِيّ : لَا يَأْخُذُ الزَّوْجُ مِنْ الْمُخْتَلِعَةِ شَيْئًا
لِقَوْلِهِ : { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } إلَى قَوْلِهِ : { مِيثَاقًا
غَلِيظًا } .
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ : {
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ، فَنَسَخَ ذَلِكَ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ .
وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ بَكْرٍ إنْ أَرَادَتْ هِيَ
الْعَطَاءَ ، فَقَدْ { جَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِثَابِتٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ مَا سَاقَ إلَيْهَا وَصَدَّقَ } إنَّمَا
يَكُونُ النَّسْخُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ ، وَبِهِ يَتِمُّ
الْبَيَانُ ، وَتَسْتَمِرُّ فِي سُبُلِهَا الْأَحْكَامُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ
النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ
سَبِيلًا } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ النِّكَاحَ أَصْلُهُ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ،
فَتَجْتَمِعُ الْأَقْوَالُ فِي الِانْعِقَادِ وَالرَّبْطِ كَمَا تَجْتَمِعُ
الْأَفْعَالُ فِي الِاتِّصَالِ وَالضَّمِّ ، لَكِنَّ الْعَرَبَ عَلَى عَادَتِهَا
خَصَّصَتْ اسْمَ النِّكَاحِ بِبَعْضِ أَحْوَالِ الْجَمْعِ وَبَعْضِ مَحَالِّهِ ،
وَمَا تَعَلَّقَ بِالنِّسَاءِ ، وَاقْتَضَى تَعَاطِيَ اللَّذَّةِ فِيهَا ،
وَاسْتِيفَاءَ الْوَطَرِ مِنْهَا ، وَعَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ جَاءَتْ
الْآثَارُ وَالْآيَاتُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَا نَكَحَ
} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَلِمَةِ " مَا " هَلْ يُخْبَرُ بِهَا عَمَّا
يَعْقِلُ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي رِسَالَةِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ
أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ شَائِعٌ فِيهَا ، وَفِي الشَّرِيعَةِ .
وَجَهِلَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا الْمِقْدَارَ ، وَاخْتَلَفَتْ
عِبَارَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الْمَعْنَى وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ
آبَائِكُمْ يَعْنِي النِّكَاحَ الْفَاسِدَ الْمُخَالِفَ لِدِينِ اللَّهِ ؛ إذْ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْكَمَ وَجْهَ النِّكَاحِ ، وَفَصَّلَ شُرُوطَهُ .
وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ : وَلَا تَنْكِحُوا نِسَاءَ آبَائِكُمْ
، وَلَا تَكُونُ ( مَا ) هُنَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ؛ لِاتِّصَالِهَا بِالْفِعْلِ ،
وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي ، وَبِمَعْنَى مَنْ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ
: أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا تَلَقَّتْ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى
، وَمِنْهُ اسْتَدَلَّتْ عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ حَلَائِلَ الْآبَاءِ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا
وَسَاءَ سَبِيلًا } تَعَقَّبَ النَّهْيَ بِالذَّمِّ الْبَالِغِ الْمُتَتَابِعِ ؛
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ انْتِهَاءٌ مِنْ الْقُبْحِ إلَى الْغَايَةِ ،
وَذَلِكَ هُوَ خَلَفُ الْأَبْنَاءِ عَلَى حَلَائِلِ الْآبَاءِ ؛ إذْ كَانُوا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ
يَسْتَقْبِحُونَهُ وَيَسْتَهْجِنُونَ فَاعِلَهُ وَيُسَمُّونَهُ الْمَقْتِيَّ ؛
نَسَبُوهُ إلَى الْمَقْتِ .
فَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ فَلَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُمْ وَلَا يَبْلُغُ إلَى هَذَا الْحَدِّ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا : ثَلَاثُ آيَاتٍ
مُبْهَمَاتٍ : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ } ، و { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } ، {
وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ
مُبْهَمَةٌ ، وَإِنَّمَا النَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ ، فَلَا
يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَقَدَ عَلَيْهَا أَبُوهُ أَوْ
وَطِئَهَا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مَعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيمَا
تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا
مَا قَدْ سَلَفَ } .
يَعْنِي مِنْ فِعْلِ الْأَعْرَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛
فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَتْ الْحَمِيَّةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ ، فَيَكْرَهُ أَنْ
يَعْمُرَ فِرَاشَ أَبِيهِ غَيْرُهُ ، فَيَعْلُو هُوَ عَلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ
يَسْتَمِرُّ عَلَى الْعَادَةِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ ، فَعَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى
بِالْعَفْوِ عَمَّا مَضَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هُوَ
اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ، وَصَدَقُوا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِبَاحَةِ الْمَحْظُورِ
، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ عَفْوٍ سَحَبَ ذَيْلَهُ عَمَّا مَضَى مِنْ
عَمَلِهِمْ الْقَبِيحِ ؛ فَصَارَ تَقْدِيرُهُ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ
غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
مَعْنَى قَوْلِهِ : { كَانَ } أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَقْتِ وَالْفُحْشِ ، دَلِيلُهُ الْقَاطِعُ
: { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } ، وَهُوَ يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ
عَنْ صِفَتِهِ الَّتِي هُوَ كَائِنٌ عَلَيْهَا ، كَذَلِكَ فَسَّرَ هَذَا كُلَّهُ
الْحَبْرُ وَالْبَحْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ وَهَمَ الْقَاضِي أَبُو
إِسْحَاقَ وَالْمُبَرِّدُ فَقَالَا : إنَّ ( كَانَ ) زَائِدَةٌ هُنَا ، وَإِنَّمَا
الْمَعْنَى فِي زِيَادَتِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : فَكَيْفَ إذَا مَرَرْت
بِدَارِ قَوْمٍ وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامٌ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ
بِاللُّغَةِ وَالشَّعْرِ ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ زِيَادَةُ كَانَ هَاهُنَا ،
وَإِنَّمَا الْمَعْنَى وَجِيرَانٌ كِرَامٌ كَانُوا لَنَا مُجَاوِرِينَ ،
فَأَبَادَهُمْ الزَّمَانُ
وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ مَا كَانَ ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ، وَذَكَرْنَا مَنْ قَالَهَا قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا ، وَاسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : إذَا نَكَحَ الْأَبُ وَالِابْنُ نِكَاحًا فَاسِدًا حَرُمَ عَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ انْعَقَدَ لِصَاحِبِهِ عَقْدٌ فَاسِدٍ عَلَيْهِ مِنْ
النِّسَاءِ ، كَمَا يَحْرُمُ بِالصَّحِيحِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يَخْلُو
أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ
مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا وَلَا تَحْرِيمًا ، وَكَانَ
وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ تَعَلَّقَ بِهِ إلَى الْحُرْمَةِ
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّحِيحِ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا ، فَيَدْخُلَ
تَحْتَ مُطْلَقِ اللَّفْظِ ؛ وَالْفُرُوجُ إذَا تَعَارَضَ فِيهَا التَّحْلِيلُ
وَالتَّحْرِيمُ غُلِّبَ التَّحْرِيمُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : إذَا لَمَسَهَا الْأَبُ أَوْ الِابْنُ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا
فِي التَّحْرِيمِ كَالْوَطْءِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ هَلْ
يَتَعَلَّقُ بِاللَّمْسِ مِنْ التَّحْرِيمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ عَلَى
قَوْلَيْنِ ؛ فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مِثْلُهُ ؛ وَتَفْصِيلُ
بَيَانِهِ فِي الْمَسَائِلِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّمْسِ
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِالْجِمَاعِ
أَوْ الْعَقْدِ ؛ وَلَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ لُغَةً وَلَا
حَقِيقَةً .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
النِّكَاحَ هُوَ الِاجْتِمَاعُ ، وَإِذَا قَبَّلَ أَوْ عَانَقَ فَقَدْ وُجِدَ
الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ حَقِيقَةً ، فَوَجَبَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ النِّكَاحُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ
عَنْ الْعَقْدِ .
قُلْنَا :
لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ ، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ ،
يَتَصَرَّفُ الْمَعْنَى فِيهِمَا تَحْتَ اللَّفْظِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِ
أَدِلَّتِهِ وَاحْتِمَالَاتِهِ ، وَانْتِظَامِ الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ مَعَهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا نَظَرَ إلَيْهَا
بِلَذَّةٍ هُوَ وَأَبُوهُ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا ؛ نَصَّ عَلَيْهِ
مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ ، فَجَرَى مَجْرَى
النِّكَاحِ فِي التَّحْرِيمِ ؛ إذْ الْأَحْكَامُ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ
بِالْمَعَانِي لَا بِالْأَلْفَاظِ
.
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مِنْ
الِاجْتِمَاعِ بِالِاسْتِمْتَاعِ ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ اجْتِمَاعٌ وَلِقَاءٌ ،
وَفِيهِ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ اسْتِمْتَاعٌ ؛ وَقَدْ بَالَغَ فِي ذَلِكَ
الشُّعَرَاءُ فَقَالُوا : أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو وَإِيَّانَا
فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي نَعَمْ وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ وَيَعْلُوهَا
النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي فَكَيْفَ بِالنَّظَرِ وَالْمُجَالَسَةِ وَاللَّذَّةِ ؟ وَهَذَا
بَيِّنٌ .
الْآيَةُ
الثَّامِنَةُ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ
وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ
لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ
الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا
قَدْ سَلَفَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } قَدْ بَيَّنَّا بَيَّنَ اللَّهُ
لَكُمْ وَبَلَّغَكُمْ فِي الْعِلْمِ أَمَلَكُمْ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ
بِصِفَاتٍ لِلْأَعْيَانِ ، وَأَنَّ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ مَوْرِدًا لِلتَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ وَلَا مَصْدَرًا ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ
بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ ،
لَكِنَّ الْأَعْيَانَ لَمَّا كَانَتْ مَوْرِدًا لِلْأَفْعَالِ أُضِيفَ الْأَمْرُ
وَالنَّهْيُ وَالْحُكْمُ إلَيْهَا وَعُلِّقَ بِهَا مَجَازًا بَدِيعًا عَلَى
مَعْنَى الْكِنَايَةِ بِالْمَحِلِّ عَنْ الْفِعْلِ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ مِنْ
بَابِ قِسْمِ التَّسْبِيبِ فِي الْمَجَازِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ
الْآيَةِ مِنْ النَّسَبِ سَبْعًا وَمِنْ الصِّهْرِ سَبْعًا ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛
وَهُوَ أَصْلُ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَوَرَدَتْ مِنْ جِهَةِ مُبَيِّنَةٍ لِجَمِيعِهَا
بِأَخْصَرِ لَفْظٍ وَأَدَلِّ مَعْنًى فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ وَخَبَرَتْهُ الْعُلَمَاءُ .
وَنَحْنُ نُفَصِّلُ ذَلِكَ بِالْبَيَانِ فَنَقُولُ : الْأُمُّ :
عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ لَهَا عَلَيْكَ وِلَادَةٌ ، وَيَرْتَفِعُ نَسَبُكَ
إلَيْهَا بِالْبُنُوَّةِ ، كَانَتْ مِنْكَ عَلَى عَمُودِ الْأَبِ أَوْ عَلَى
عَمُودِ الْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَوْقَكَ .
وَالْبِنْتُ :
عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ لَك عَلَيْهَا وِلَادَةٌ
تَنْتَسِبُ إلَيْكَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ إذَا كَانَ مَرْجِعُهَا إلَيْكَ .
وَالْأُخْتُ : عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ
شَارَكَتْكَ فِي أَصْلَيْك : أَبِيكَ وَأُمِّكَ ، وَلَا تَحْرُمُ أُخْتُ الْأُخْتِ
إذَا لَمْ تَكُنْ لَكَ أُخْتًا ؛ فَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَلِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ ثُمَّ يُقَدَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ .
سَحْنُونٌ : هُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ
مِنْ غَيْرِهَا بِنْتَهَا مِنْ غَيْرِهِ .
وَتَفْسِيرُهَا أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ زَيْدٌ
زَوْجَتَانِ عَمْرَةُ وَخَالِدَةُ ، وَلَهُ مِنْ عَمْرَةَ وَلَدٌ اسْمُهُ عَمْرٌو
، وَمِنْ خَالِدَةَ بِنْتٌ اسْمُهَا سَعَادَةٌ ، وَلِخَالِدَةَ زَوْجٌ اسْمُهُ
عَمْرٌو ، وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ اسْمُهَا حَسْنَاءُ ، فَزَوَّجَ زَيْدٌ وَلَدَهُ
عَمْرًا مِنْ حَسْنَاءَ ، وَهِيَ أُخْتُ أُخْتِ عَمْرٍو ، وَهَذِهِ صُورَتُهَا لِتَكُونَ
أَثْبُتَ فِي النُّفُوسِ .
الْعَمَّةُ : هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ
شَارَكَتْ أَبَاكَ مَا عَلَا فِي أَصْلَيْهِ .
الْخَالَةُ :
هِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ شَارَكَتْ أُمَّكَ مَا عَلَتْ فِي
أَصْلَيْهَا ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ تَعَلُّقِ الْأُمُومَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَمِنْ تَفْصِيلِهِ تَحْرِيمُ عَمَّةِ الْأَبِ وَخَالَتِهِ ؛ لِأَنَّ
عَمَّةَ الْأَبِ أُخْتُ الْجَدِّ ، وَالْجَدُّ أَبٌ ، وَأُخْتُهُ عَمَّةٌ ،
وَخَالَةُ الْأَبِ أُخْتُ جَدَّتِهِ لِأُمِّهِ ، وَالْجَدَّةُ أُمٌّ ، فَأُخْتُهَا
خَالَةٌ ،
وَكَذَلِكَ
عَمَّةُ الْأُمِّ أُخْتُ جَدِّهَا لِأَبِيهَا ، وَجَدُّهَا أَبٌ وَأُخْتُهُ
عَمَّةٌ ، وَخَالَةُ أُمِّهَا جَدَّتُهُ .
وَالْجَدَّةُ أُمٌّ وَأُخْتُهَا خَالَةٌ ؛ وَتَتَرَكَّبُ
عَلَيْهِ عَمَّةُ الْعَمَّةِ ؛ لِأَنَّهَا عَمَّةُ الْأَبِ كَذَلِكَ ، وَخَالَةُ
الْعَمَّةِ خَالَةُ الْأُمِّ كَذَلِكَ ، وَخَالَةُ الْخَالَةِ خَالَةُ الْأُمِّ ،
وَكَذَلِكَ عَمَّةُ الْخَالَةِ عَمَّةُ الْأُمِّ ؛ فَتَضَمَّنَ هَذَا كُلَّهُ
قَوْله تَعَالَى : { وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ } بِالِاعْتِلَاءِ فِي الِاحْتِرَامِ
، وَلَمْ يَتَضَمَّنْهُ آيَةُ الْفَرَائِضِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمَوَارِيثِ ،
لِسَعَةِ الْحَجْرِ فِي التَّحْرِيمِ وَضِيقِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَمْوَالِ .
فَعِرْقُ التَّحْرِيمِ يَسْرِي حَيْثُ اطَّرَدَ ،
وَسَبَبُ الْمِيرَاثِ يَقِفُ أَيْنَ وَرَدَ ، وَلَا تَحْرُمُ أُمُّ الْعَمَّةِ
وَلَا أُخْتُ الْخَالَةِ ؛ وَصُورَةُ ذَلِكَ كَمَا قَرَرْنَا لَكَ فِي الْأُخْتِ .
بِنْتُ الْأَخِ ، وَبِنْتُ الْأُخْتِ : عِبَارَةٌ عَنْ
كُلِّ امْرَأَةٍ لِأَخِيكَ أَوْ لِأُخْتِكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ ، وَتَرْجِعُ
إلَيْهَا بِنِسْبَةٍ ؛ فَهَذِهِ الْأَصْنَافُ النِّسْبِيَّةُ السَّبْعَةُ .
وَأَمَّا الْأَصْنَافُ الصِّهْرِيَّةُ السَّبْعَةُ : {
أُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ }
وَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ بِالْقُرْآنِ ، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ الْمُحَرَّمِ
بِالرَّضَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا .
وَالْأُمُّ أَصْلٌ وَالْأُخْتُ فَرْعٌ ؛ فَنَبَّهَ
بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ
مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ
} .
وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَالَكَ تَنَوُّقُ فِي قُرَيْشٍ وَتَدَعُنَا ؟ قَالَ :
وَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قُلْت : نَعَمْ ، ابْنَةُ حَمْزَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ
الرَّضَاعَةِ } .
وَمِثْلُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَعْنَى حَدِيثُ { أُمِّ
حَبِيبَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ ، وَأَحَبُّ
مَنْ شَرَكَنِي فِي
خَيْرٍ
أُخْتِي .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي قُلْت : فَإِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تَنْكِحُ
ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ .
قَالَ : ابْنَةُ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ
: إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا
حَلَّتْ لِي ، إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي ، أَرْضَعَتْنِي أَنَا وَأَبَا سَلَمَةَ
ثُوَيْبَةُ ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتَكُمْ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ } .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَثُوَيْبَةُ هِيَ الَّتِي
أَرْضَعَتْ حَمْزَةَ أَيْضًا ، فَرُوِيَ أَنَّ هَذَا الرَّضَاعَ كَانَ فِي وَقْتٍ
وَاحِدٍ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتَيْنِ لِاتِّفَاقِ
أَهْلِ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ حَمْزَةَ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامَيْنِ ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا
الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ وَهِيَ الْمَصَّةُ } .
وَرَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ فِيمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخَتْ
بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ .
فَقَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ .
وَرَأَى مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْأَخْذَ بِمُطْلَقِ
الْقُرْآنِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ
وَتَعَلُّقٌ بِهِ ، وَقَدْ قَوِيَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْرِيمِ فِي الْأَبْضَاعِ
وَالْحَوْطَةِ عَلَى الْفُرُوجِ ؛ فَقَدْ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ لِمَنْ يَرَى
الْعُمُومَ وَمَنْ لَا يَرَاهُ
.
وَقَدْ رَامَ بَعْضُ حُذَّاقِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ
الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ أَنْ يُبْطِلَ التَّعَلُّقَ بِهَذَا الْعُمُومِ ؛ قَالَ
: لِأَنَّهُ سِيقَ لِيَتَبَيَّنَّ بِهِ وَجْهُ التَّحْرِيمِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ،
وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعْمِيمُ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ
إذَا سِيقَ قَصْدًا لِلْعُمُومِ ؛ وَذَلِكَ يُعْلَمُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ .
قَالَ الْقَاضِي : يَا لِلَّهِ وَلِلْمُحَقِّقِينَ مِنْ
رَأْسِ التَّحْقِيقِ الْجُوَيْنِيُّ ، يَأْتِي بِهَذَا الْكَلَامِ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ نَاظِرٍ فِي الْفِقْهِ شَادٍّ أَوْ مُنْتَهٍ
أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا فِي الْآيَةِ جَاءَتْ مَجِيئًا وَاحِدًا فِي الْبَيَانِ
فِي مَقْصُودٍ وَاحِدٍ ، فَلَوْ جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ لَا
يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ : { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ } لَمَا حُمِلَ أَيْضًا عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ : {
أُمَّهَاتُكُمْ } فَيُرْتَقَى بِهِنَّ إلَى الْجَدَّاتِ ، وَلَا بَنَاتُكُمْ
فَيَحُطُّ بِهِنَّ إلَى بَنَاتِ الْبَنَاتِ ، وَقَدْ رَأَى أَنَّهُنَّ لَمْ
يَعُمَّهُنَّ فِي الْمِيرَاثِ وَعَمَّهُنَّ هَاهُنَا فِي التَّحْرِيمِ ،
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَأُمَّهَاتُ
نِسَائِكُمْ
} كَانَ
يَنْبَغِي أَلَّا يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ
بِهِ كَمَا قَالَ سِيَاقُ الْعُمُومِ ، وَكَانَ ذَلِكَ لَوْ قُلْنَا بِهِ سَبَبًا
لِخَرْمِ قَاعِدَةِ الْآيَةِ .
وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي التَّلْخِيصِ وَالتَّمْحِيصِ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَا
مُتَعَلَّقَ فِيهَا .
أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَدِلَّةِ
؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَصْلُهُ
فَكَيْفَ يَثْبُتُ فَرْعُهُ ؟ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْإِمْلَاجَةِ فَمَعْنَاهُ كَانَ مِنْ
الْمَصِّ وَالْجَذْبِ مِمَّا لَمْ يُدَرُّ مَعَهُ لَبَنٌ وَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ .
وَيَتَحَقَّقُ وُصُولُ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ ،
فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِنَصِّ الْحَدِيثِ فِي
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ
ثُوَيْبَةُ } ، فَإِذَا مَصَّ لَبَنَهَا وَحَصَلَ فِي جَوْفِهِ فَهِيَ مُرْضِعَةٌ
، وَهِيَ أُمُّهُ ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ بِالْآيَةِ بِلَا مِرْيَةٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : كَانَ قَوْله تَعَالَى : {
وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ تَحْرِيمَ
الرَّضَاعِ فِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ ، إلَّا أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ وَقْتَهُ بِقَوْلِهِ : { وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلِينَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ
} ، فَبَيَّنَ زَمَانَهُ الْكَامِلَ ؛ فَوَجَبَ أَلَّا يُعْتَبَرَ مَا زَادَ
عَلَيْهِ .
وَقَدْ رَأَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ
مُحَرِّمٌ ؛ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهَا ، قَالَتْ : { جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ إنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا ، وَكَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ
أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ، وَيَرَانِي فُضُلًا ، وَقَدْ أَنْزَلَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِمْ مَا عَلِمْت ، فَكَيْفَ تَرَى يَا رَسُولَ
اللَّهِ فِيهِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْضِعِيهِ
خَمْسَ
رَضَعَاتٍ يَحْرُمُ بِلَبَنِهَا } .
فَكَانَتْ تَرَاهُ ابْنًا مِنْ الرَّضَاعَةِ ،
فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْخُذُ ، وَأَبَاهُ سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْنَ : وَاَللَّهِ مَا نَرَى ذَلِكَ إلَّا
رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَهْلَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ
لَمْ يَرَوْهُ حُكْمًا عَامًّا وَلَا قَضِيَّةً مُطْلَقَةً لِكُلِّ أَحَدٍ ، لَا
سِيَّمَا وَقَدْ رَدَّهُ عُمَرُ ، وَأَمَرَ بِأَدَبِ مَنْ أَرْضَعَ مِنْ
النِّسَاءِ كَبِيرًا .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ
مِنْ الثَّدْيِ ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ } .
نِظَامُ نَشْرٍ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ
كُلَّ شَخْصَيْنِ الْتَقَمَا ثَدْيًا وَاحِدًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي
زَمَانَيْنِ فَهُمَا أَخَوَانِ ، وَالْأُصُولُ مِنْهُمَا وَالْفُرُوعُ
بِمَنْزِلَةِ أُصُولِ الْأَنْسَابِ وَفُرُوعِهَا فِي التَّحْرِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : فِي لَبَنِ الْفَحْلِ : ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ وَفِي كُلِّ فَرِيقٍ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَى
عَائِشَةَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : وَاَللَّهِ لَا
آذَنُ لِأَفْلَحَ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَرْضَعَنِي ، إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي
الْمَرْأَةُ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أَفْلَحَ
أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ فَأَبَيْت أَنْ آذَنَ لَهُ
حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ ، فَقَالَ
: إنَّهُ عَمُّكَ فَلْيَلِجْ عَلَيْكَ } .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَعْيَانِ
الْعُلَمَاءِ .
وَرَأَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ
لَا يُحَرِّمُ ؛ وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ
إحْدَاهُمَا صَبِيًّا وَالْأُخْرَى صَبِيَّةً ، فَيَحْرُمُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَخَوَانِ لِأَبٍ مِنْ لَبَنٍ ؛ فَيَحْرُمَانِ
كَمَا يَحْرُمَانِ لَوْ كَانَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ مِنْ نَسَبٍ ، لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا
يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ نَصٌّ ، فَقَدْ
تَعَاضَدَا فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } اخْتَلَفَ النَّاسُ
فِيهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ؛ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَابْنِ
الزُّبَيْرِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبِنْتِ
لَا يُحَرِّمُ الْأُمَّ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا .
كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ
الْبِنْتَ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا
.
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّحَابَةُ : إنَّ
الْعَقْدَ عَلَى الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ وَلَا تَحْرُمُ الْبِنْتُ حَتَّى
يَدْخُلَ بِالْأُمِّ .
وَاخْتَلَفَ
النُّحَاةُ فِي الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ : { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فَقِيلَ : يَرْجِعُ إلَى
الرَّبَائِبِ وَالْأُمَّهَاتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَهْلِ الْكُوفَةِ .
وَقِيلَ يَرْجِعُ إلَى الرَّبَائِبِ خَاصَّةً ، وَهُوَ
اخْتِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، وَجَعَلُوا رُجُوعَ الْوَصْفِ إلَى
الْمَوْصُوفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْ الْعَامِلِ مَمْنُوعًا كَالْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ .
وَجَوَّزَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَرَأَوْا
أَنَّ عَامِلَ الْإِضَافَةِ غَيْرُ عَامِلِ الْخَفْضِ بِحَرْفِ الْجَرِّ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ
" مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ
" وَقَدْ رَدَّ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ الرِّوَايَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ أَنَّهُ مَذْهَبُ عَلِيٍّ خَاصَّةً ، كَمَا قَدْ اسْتَقَرَّ
الْيَوْمَ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَقْطَارِ أَنَّ الرَّبَائِبَ وَالْأُمَّهَاتِ
فِي هَذَا الْحُكْمِ مُخْتَلِفَاتٌ ، وَأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا هُوَ فِي
الرَّبَائِبِ .
وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ غَوَامِضِ
الْعِلْمِ وَأَخْذُهَا مِنْ طَرِيقِ النَّحْوِ يَضْعُفُ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ
الْعَرَبَ الْقُرَشِيِّينَ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بُلْغَتِهِمْ أَعْرَفُ
مِنْ غَيْرِهِمْ بِمَقْطَعِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمْ ؛ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ
وَخُصُوصًا عَلِيًّا مَعَ مِقْدَارِهِ فِي الْعِلْمَيْنِ ، وَلَوْ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ
فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ فَصَاحَتُهَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ ،
فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَاوَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ .
وَالْمَأْخَذُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ الْوَصْفُ إلَى
الرَّبَائِبِ خَاصَّةً .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهَا جَمِيعًا ؛
فَيُرَدُّ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ عَلَى التَّحْلِيلِ
فِي الْفُرُوجِ ، وَهَكَذَا هُوَ مَقْطُوعُ السَّلَفِ فِيهَا عِنْدَ تَعَارُضِ
الْأَدِلَّةِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ عَلَيْهَا .
الثَّانِي : رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ : أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا أَوْ
لَمْ يَدْخُلْ
فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أُمِّهَا ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً
فَدَخَلَ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا
فَلْيَنْكِحْهَا .
وَهَذَا إنْ صَحَّ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ ، لَكِنَّ
رِوَايَةَ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ تَضْعُفُ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْ نِسَائِكُمْ } لَفْظَةٌ
عَرَبِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُ
امْرَأَةٌ .
وَقَوْلُكَ : امْرُؤٌ وَامْرَأَةٌ ، كَقَوْلِكَ :
آدَمِيٌّ وَآدَمِيَّةٌ ، فَقَوْلُهُ : وَامْرَأَتُكَ كَقَوْلِهِ : وَآدَمِيَّتُكَ
، فَأُضِيفَتْ إلَيْكَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ وَجْهِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ
؛ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الَّتِي تُشْبِهُكَ أَوْ تُجَاوِرُكَ أَوْ
تَمْلِكُهَا أَوْ تَمْلِكُكَ ، أَوْ تَحِلُّ لَهَا أَوْ تَحِلُّ لَكَ .
وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى الشَّبَهِ وَالْجُوَارِ
مُحَالٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَسَّمْت مَا قَسَّمْت لَمْ تَجِدْ وَجْهًا إلَّا بَابَ
التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَلَهُ مَسَاقُ الْآيَةِ ،
وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ ؛ فَإِذَا حَلَّتْ لَهُ أَوْ مَلَكَهَا فَقَدْ
تَحَقَّقَتْ الْإِضَافَةُ الْمَقْصُودَةُ فَوَجَبَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ .
وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ فِي الرَّبَائِبِ ، لَوْلَا
التَّقْيِيدُ بِشَرْطِ الدُّخُولِ
.
فَإِنْ قِيلَ : فَاحْمِلُوا الْأُمَّهَاتِ عَلَى
الْبَنَاتِ .
قُلْنَا :
لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ الرُّخَصَ لَفَعَلْنَا ، وَلَكِنْ
إذَا تَعَارَضَ الدَّلِيلُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْفُرُوجِ
غَلَّبْنَا التَّحْرِيمَ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ فِي الْأُخْتَيْنِ مِنْ
مِلْكِ الْيَمِينِ لَمَّا تَعَارَضَ فِيهِمَا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ غُلِّبَ
التَّحْرِيمُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ بِالدُّخُولِ
هَاهُنَا النِّكَاحُ ، فَعَلَى هَذَا الرَّبَائِبُ وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ ؛
لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ غُلِّبَ عَلَى الرَّبَائِبِ بِاشْتِرَاطِ الْوَطْءِ فِي
أُمَّهَاتِهِنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ .
الْخَامِسُ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْصُوفِينَ
قَدْ انْقَطَعَ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَخَرَجَ مِنْهُ بِوَصْفِهِ ؛ فَإِنَّهُ
قَالَ : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ : { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ } ، فَوَصَفَ وَكَرَّرَ ، وَذَلِكَ الْوَصْفُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأُمَّهَاتِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } ، فَالْوَصْفُ الَّذِي يَتْلُوهُ يَتْبَعُهُ ، وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ لِبُعْدِهِ مِنْهُ وَانْقِطَاعِهِ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَرَبَائِبُكُمْ } وَاحِدَتُهَا رَبِيبَةٌ ،
فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ ، مِنْ قَوْلِك : رَبَّهَا يَرُبُّهَا ، إذَا
تَوَلَّى أَمْرَهَا ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، كَانَتْ فِي
حِجْرِ الرَّجُلِ أَوْ فِي حِجْرِ حَاضِنَتِهَا غَيْرِ أُمِّهَا ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا
أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } تَأْكِيدٌ لِلْوَصْفِ ، وَلَيْسَ
بِشَرْطٍ فِي الْحُكْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ عَنْ
عَلِيٍّ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ حَتَّى تَكُونَ فِي حِجْرِهِ .
قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الدُّخُولَ هُوَ الْجِمَاعُ ؛ قَالَهُ
الطَّبَرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : هُوَ التَّمَتُّعُ مِنْ
اللَّمْسِ أَوْ الْقُبَلِ ؛ قَالَهُ مَالِكٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ النَّظَرُ إلَيْهَا بِشَهْوَةٍ
؛ قَالَهُ عَطَاءٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ
قَدْ ذَكَرْنَاهَا .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهَا أَنَّ الْجِمَاعَ هُوَ
الْأَصْلُ ، وَيَحْتَمِلُ عَلَيْهِ اللَّمْسُ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ مِثْلُهُ ،
يَحِلُّ بِحِلِّهِ ، وَيَحْرُمُ بِحُرْمَتِهِ ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ ،
كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَ هَذَا
.
وَأَمَّا النَّظَرُ فَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ
يُحَرِّمُ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : لَا يُحَرِّمُ ؛ لِأَنَّهُ فِي
الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ شُبْهَةٌ فِي الزِّنَا ذَرِيعَةُ الذَّرِيعَةِ ، لَكِنَّ
الْأَمْوَالَ تَارَةً يُغَلَّبُ فِيهَا التَّحْلِيلُ وَتَارَةً يُغَلَّبُ فِيهَا التَّحْرِيمُ
، فَأَمَّا الْفُرُوجُ فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ فِيهَا عَلَى تَغْلِيبِ
التَّحْرِيمِ ، كَمَا أَنَّ النَّظَرَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ
شِرَاءٍ فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ إذَا حَلَّ ، أَصْلُهُ اللَّمْسُ وَالْوَطْءُ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلَابِكُمْ } : وَاحِدَتُهَا
حَلِيلَةٌ ، وَهِيَ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعَّلَةٍ ، أَيْ مُحَلَّلَةٍ .
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْآبَاءِ نِكَاحَ أَزْوَاجِ أَبْنَائِهِمْ
، كَمَا حَرَّمَ عَلَى الْأَبْنَاءِ نِكَاحَ أَزْوَاجِ آبَائِهِمْ فِي قَوْله
تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا
قَدْ سَلَفَ } فَكُلُّ فَرْجٍ حَلَّ لِلِابْنِ حَرُمَ عَلَى الْأَبِ أَبَدًا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : الْأَبْنَاءُ ثَلَاثَةٌ :
ابْنُ نَسَبٍ ، وَابْنُ رَضَاعٍ ، وَابْنُ تَبَنٍّ .
فَأَمَّا ابْنُ النَّسَبِ فَمَعْلُومٌ ، وَمَعْلُومٌ
حُكْمُهُ .
وَأَمَّا ابْنُ الرَّضَاعِ فَيَجْرِي مَجْرَى الِابْنِ
فِي جُمْلَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ مُعْظَمُهَا التَّحْرِيمُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } .
وَأَمَّا ابْنُ التَّبَنِّي فَكَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ
؛ إذْ تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : {
اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : مَا كُنَّا
نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَتْ : {
اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } ؛ وَهَذِهِ هِيَ
الْفَائِدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { مِنْ أَصْلَابِكُمْ } لِيَسْقُطَ وَلَدُ التَّبَنِّي ،
وَيَذْهَبَ اعْتِرَاضُ الْجَاهِلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ زَيْنَبَ زَوْجِ زَيْدٍ ، وَقَدْ كَانَ يُدْعَى لَهُ ،
فَنَهَجَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَمْعَ
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، كَمَا حَرَّمَ نِكَاحَ الْأُخْتِ ، وَالنَّهْيُ
يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ ، فَهُوَ عَامٌّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ
، وَقَدْ كَانَ تَوَقَّفَ فِيهَا مَنْ تَوَقَّفَ فِي أَوَّلِ وُقُوعِهَا ، ثُمَّ
اطَّرَدَ الْبَيَانُ عِنْدَهُمْ ، وَاسْتَقَرَّ التَّحْرِيمُ ؛ وَهُوَ الْحَقُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهِ فِي
تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ ، وَالْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ
، وَقَالَ : إنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ
يَكُنْ جَمْعًا فِي حِلٍّ فَهُوَ جَمْعٌ فِي حَبْسٍ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ
الْفَرْجِ ، وَهُوَ إذَا تَزَوَّجَ أُخْتَهَا فَقَدْ حَبَسَ الْمُتَزَوِّجَةَ
بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ الْحِلُّ وَالْوَطْءُ ، وَقَدْ
حَبَسَ أُخْتَهَا بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ اسْتِبْرَاءُ
الرَّحِمِ لِحِفْظِ النَّسَبِ ، فَحُرِّمَ ذَلِكَ بِالْعُمُومِ ؛ وَهِيَ مِنْ
مَسَائِلِ الْخِلَافِ الطَّوِيلَةِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا
هُنَالِكَ .
وَاَلَّذِي نَجْتَزِئُ بِهِ الْآنَ أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَجْمَعَ ؛ وَهَذَا لَيْسَ بِجَمْعٍ مِنْهُ ،
لِأَنَّ النِّكَاحَ اكْتَسَبَهُ ، وَالْعِدَّةُ أَلْزَمَتْهُ ، فَالْجَامِعُ
بَيْنَهُمَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي هَذَا
الْجَمْعِ كَسْبٌ يَرْجِعُ النَّهْيُ بِالْخِطَابِ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
{ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } لَيْسَ هَذَا مِنْ مِثْلِ [ قَوْلِهِ ] : { إلَّا مَا
قَدْ سَلَفَ } فِي نِكَاحِ مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ
قَطُّ بِشَرْعٍ ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ جَاهِلِيَّةٌ جُهَلَاءُ وَفَاحِشَةٌ
شَائِعَةٌ ؛ وَنِكَاحُ الْأُخْتَيْنِ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا فَنَسَخَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فِينَا .
الْآيَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ
إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ
مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ
إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى أَبُو الْخَلِيلِ صَالِحُ بْنُ
أَبِي مَرْيَمَ الضُّبَعِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { أَصَبْنَا
سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ ، فَكَرِهَتْهُنَّ
رِجَالٌ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } } .
وَقَدْ خَرَّجَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ مُسْلِمٌ
وَالْبُخَارِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : {
وَالْمُحْصَنَاتُ } : بِنَاءُ " ح ص ن " عَلَى الْمَنْعِ ، وَمِنْهُ
الْحِصْنُ ؛ لَكِنْ يَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ ؛
فَالْإِسْلَامُ حِصْنٌ ، وَالْحُرِّيَّةُ حِصْنٌ ، وَالنِّكَاحُ حِصْنٌ ،
وَالتَّعَفُّفُ حِصْنٌ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } ؛ وَهُوَ الْإِسْلَامُ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ، فَهُنَّ
الْحَرَائِرُ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } هُنَّ الْعَفَائِفُ .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: أَحْصَنَتْ ؟ يَعْنِي تَزَوَّجَتْ ؟ قَالَ : نَعَمْ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ
وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ } .
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
وَتَصْرِيفُهُ غَرِيبٌ ؛ يُقَالُ : أَحْصَنَ الرَّجُلُ
فَهُوَ مُحْصَنٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي
اسْمِ الْفَاعِلِ
، وَأَسْهَبَ فِي الْكَلَامِ فَهُوَ مُسْهَبٌ إذَا أَطَالَ الْقَوْلَ فِيهِ ،
وَأَلْفَجَ فَهُوَ مُلْفَجٌ إذْ كَانَ عَدِيمًا ، وَلَا رَابِعَ لَهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي إشْكَالِهَا : قَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَعْلَمُهَا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا يُفَسِّرُ
هَذِهِ الْآيَةَ لَضَرَبْت إلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ ، وَذَلِكَ لَا يَدْرِيهِ
إلَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ ، وَتَصَدَّى لِضَمِّ مُنْتَشِرِ
الْكَلَامِ ، وَتَرْتِيبِ وَضْعِهِ ، وَحِفْظِ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ :
الَّذِي تَحَصَّلَ عِنْدِي فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
الْمُحْصَنَاتِ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ
، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُمْ
.
وَقَالَهُ مَالِكٌ وَاخْتَارَهُ .
الثَّانِي : ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛
قَالَهُ عَلِيٌّ وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمَا .
الثَّالِثُ : مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ الْأَرْبَعِ
اللَّوَاتِي حَلَلْنَ لَهُ ؛ قَالَهُ عُبَيْدَةُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ ؛ قَالَهُ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ .
الْخَامِسُ : الْمَعْنَى لَا تَنْكِحُ الْمَرْأَةُ
زَوْجَيْنِ .
السَّادِسُ :
أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ
وَابْنُ شِهَابٍ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ فِي
قَوْلِهِ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
قَالُوا : بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا ؛ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأُبَيُّ ،
وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ .
وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : طَلَاقُ
الْأَمَةِ سِتَّةٌ : بَيْعُهَا وَعِتْقُهَا وَهِبَتُهَا وَمِيرَاثُهَا وَطَلَاقُ
زَوْجِهَا ، زَادَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
: وَانْتِزَاعُ سَيِّدِهَا لَهَا مِنْ مِلْكِ زَوْجِهَا
عَبْدَهُ .
الثَّانِي : يَعْنِي بِهِ الْمَرْأَةَ الْحَرْبِيَّةَ
إذَا سُبِيَتْ ؛ فَإِنَّ السِّبَاءَ يَفْسَخُ النِّكَاحَ .
الثَّالِثُ : قَوْلُهُ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } إلَّا
الْإِمَاءُ
وَالْأَزْوَاجُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ طَاوُسٍ ؛ وَقَالَ : زَوْجُكَ مَا مَلَكَتْ
يَمِينُكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي تَنْزِيلِ
الْأَقْوَالِ وَتَقْدِيرِهَا : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ ذَوَاتُ
الْأَزْوَاجِ ؛ فَذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُسْلِمَاتٌ
وَكَافِرَاتٌ ، وَالْمُسْلِمَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ : حَرَائِرُ وَإِمَاءٌ ،
فَيَعُمُّهُنَّ التَّحْرِيمُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَيَرْجِعُ
الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إلَى
بَعْضِهِنَّ وَهُنَّ الْإِمَاءُ ، أَوْ إلَى بَعْضِ الْبَعْضِ وَهُنَّ
الْمَسْبِيَّاتُ ؛ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِمَاءِ جُمْلَةً فَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ
أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ فِرَاقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا ،
وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمَسْبِيَّاتِ وَفِيهِ وَرَدَتْ الْآيَةُ فَيَكُونُ
التَّقْدِيرُ : حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ كُلَّ ذَاتِ زَوْجٍ ، إلَّا مَنْ
سَبَيْتُمْ .
وَعَلَى أَنَّهُنَّ جَمِيعَ الْإِمَاءِ يَكُونُ
التَّقْدِيرُ : حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ كُلَّ ذَاتِ زَوْجٍ إلَّا مَا مَلَكْتُمْ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ
فَيَكُونُ تَنْزِيلُ الْآيَةِ عِنْدَهُ : حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ مَنْ تَقَدَّمَ
تَحْرِيمًا مُدَبَّرًا ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ جَمِيعَ النِّسَاءِ إلَّا
بِمِلْكِ نِكَاحٍ أَوْ شِرَاءٍ ، وَكُلُّهُنَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ
إلَّا أَرْبَعٌ فَدَعْوَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ
الْأُولَى فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ فِي الْأَرْبَعِ ؛ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ
تَعَذَّرَ ذَلِكَ لَهُ لَفْظًا وَبَطَل مَعْنًى ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ مُقَدَّرٌ بِنَوْعٍ وَنَحْوٍ مِمَّا
تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ الْحَرَائِرُ فَيَكُونُ
تَقْدِيرُ الْآيَةِ : وَحَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ الْحَرَائِرَ مِنْ النِّسَاءِ ،
وَأَحْلَلْنَا لَكُمْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى
الْأَقْوَالِ : أَمَّا مَنْ خَصَّصَهَا فِي بَعْضِ النِّسَاءِ فَيُعْتَرَضُ
عَلَيْهِ أَنَّ الْبَعْضَ يَبْقَى حِلًّا ، وَالْآيَةُ
إنَّمَا
جَاءَتْ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ مِنْهُنَّ ، فَإِنْ بَقِيَ
مِنْ الْأَزْوَاجِ لَهُ مِنْ الْحَرَائِرِ أَوْ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ ، أَوْ كُلُّ
تَأْوِيلٍ يَقْتَضِي بَقَاءَ بَعْضِهِنَّ فَذَلِكَ بَعِيدٌ فِي التَّأْوِيلِ
مُفَسِّرٌ لِلتَّنْزِيلِ .
وَأَمَّا مَنْ عَمَّمَ جَمِيعَ الْمَسَائِلِ إلَّا
الْأَرْبَعَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا مَنْ عَمَّمَ فِي الْكُلِّ فَهُوَ الصَّحِيحُ ،
وَيَقَعُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فِي
الْإِمَاءِ أَوْ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ ؛ وَهَذَا مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ
الْعَظِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي الْمُخْتَارِ :
وَهَذَا الْمُشْكِلُ هُوَ الَّذِي مِلْنَا إلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَذَلِكَ
أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } رَاجِعٌ
إلَى الشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ فَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
} ، فَقَدْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يُطْلِقْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ
الشَّرِيعَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ بِأَنَّهَا مِلْكُ
الْيَمِينِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُ مِنْهُ مَا يَمْلِكُ مِنْهَا ، أَمَّا إنَّهُ لَهُ
عَلَيْهَا دَرَجَةٌ ، وَلَكِنْ نَقُولُ
: إنَّ قَوْلَهُ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
يَرْجِعُ إلَى الْإِمَاءِ ، وَقَوْلَهُ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يَرْجِعُ إلَى
مَنْ عَدَا الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا فِي الْإِمَاءِ
كُلِّهِنَّ ، فَإِنَّ مِلْكَ الْأَمَةَ الْمُتَجَدِّدِ عَلَى النِّكَاحِ
يُبْطِلُهُ ، فَمَوْضِعُ إشْكَالٍ عَظِيمٍ ، وَلِأَجْلِهِ تَرَدَّدَ فِيهِ
أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْدَ أَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّ مِلْكًا مُتَجَدِّدًا لَا يُبْطِلُ نِكَاحًا مُتَأَكَّدًا ، وَلَوْ أَنَّهُ
مَلَّكَ مَنْفَعَةَ رَقَبَتِهَا لِرَجُلٍ بِالْإِجَارَةِ ثُمَّ يَبِيعُهَا مَا أَبْطَلَ
الْمِلْكُ الْمُتَجَدِّدُ مِلْكَ مَنْفَعَةِ الرَّقَبَةِ ؛ فَمِلْكُ مَنْفَعَةِ
الْبُضْعِ أَوْلَى أَنْ يَبْقَى ، فَإِنَّ أَحَقَّ
الشُّرُوطِ
أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اُسْتُحِلَّتْ بِهِ الْفُرُوجُ ، فَعَقْدُ الْفَرْجِ
نَفْسِهِ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ بِهِ مِنْ عَقْدِ مَنْفَعَةِ الرَّقَبَةِ .
وَاَلَّذِي يَقْطَعُ الْعُذْرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ بَرِيرَةَ وَلَمْ يَجْعَلْ مَا طَرَأَ مِنْ الْعِتْقِ
عَلَيْهَا ، وَلَا مَا مَلَكَتْ مِنْ نَفْسِهَا ، مُبْطِلًا لِنِكَاحِ زَوْجِهَا ،
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كُلُّ مِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِيمَا
أَشَرْنَا إلَيْهِ هَاهُنَا مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْنَى كِفَايَةٌ لِمَنْ سَدَّدَ
النَّظَرَ ، فَوَضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْجَمِيعُ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ السَّبْيُ الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي بَيَانِهِ .
وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْأَرْبَعِ فَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } : هَذَا عُمُومٌ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِمَّنْ نَفَاهُ وَمِمَّنْ أَثْبَتَهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى عَدَّدَ الْمُحَرَّمَاتِ ، ثُمَّ قَالَ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ } ؛ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : الْمُرَادُ بِهِ مَنْ عَدَا الْقَرَابَةِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ
الْمَذْكُورَاتِ .
الثَّانِي : مَا دُونَ الْأَرْبَعِ .
الثَّالِثُ : مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : عَجَبًا لِلْأَوَائِلِ
كُلِّفُوا فَهَرَفُوا ؛ نَظَرُوا إلَى السُّدِّيِّ يَقُولُ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ
مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يَعْنِي مَا دُونَ الْأَرْبَعِ ، وَكَمْ حَرَامٍ بَعْدَ هَذَا
، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ فِيمَا زَادَ عَلَى
الْأَرْبَعِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَطَاءٍ : إنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى
الْقَرَابَةِ ، وَبَقِيَ الْأَجَانِبُ غَيْرَ مُبَيَّنَاتٍ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ
قَتَادَةَ ؛ بَلْ أَضْعَفُ ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ التَّحْلِيلَ إلَى الْإِمَاءِ
خَاصَّةً .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : اعْلَمُوا
وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ
دَفْعَةً ، وَلَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِي تَفْصِيلِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؛
وَإِنَّمَا جَاءَ نُجُومًا وَشُذِّرَ شُذُورًا لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ وَحِكْمَةٍ
بَالِغَةٍ ؛ فَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ مَعْدُودَاتٍ
مَشْرُوحَاتٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَهَا عَلَى السُّوَرِ
وَالْآيَاتِ ، وَقَسَّمَهَا عَلَى الْحَالَاتِ وَالْأَوْقَاتِ ؛ فَاجْتَمَعَتْ الْعُلَمَاءُ
وَكَمُلَتْ فِي الدِّينِ ، كَمَا كَمُلَ جَمِيعُهُ وَاسْتَوْثَقَ وَانْتَظَمَ
وَاتَّسَقَ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ } .
وَقَدْ بَلَغَ الْعُلَمَاءُ الْأَسْبَابَ الْمُبِيحَةَ
لِلدَّمِ إلَى عَشَرَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَعَدَدُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا
حَسْبَمَا رَتَّبْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا
الْكِتَابِ
وَغَيْرِهِ مِنْ النِّسَاءِ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً ، مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ
حُرِّمْنَ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا ، وَمِنْهُنَّ سِتَّ عَشْرَةَ تَحْرِيمُهُنَّ
لِعَارِضٍ .
فَأَمَّا الْأَرْبَعُ وَالْعِشْرُونَ فَهُنَّ : الْأُمُّ
، الْبِنْتُ ، الْأُخْتُ ، الْعَمَّةُ ، الْخَالَةُ ، بِنْتُ الْأَخِ ، بِنْتُ
الْأُخْتِ ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعٌ
.
وَمِنْ الرَّضَاعِ مِثْلُهُنَّ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ
الْأُمَّةِ ، كَمُلْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَحَلِيلَةُ الْأَبِ ، وَحَلِيلَةُ
الِابْنِ ، وَأُمُّ الزَّوْجَةِ ، وَرَبِيبَةُ الزَّوْجَةِ ، الْمَدْخُولِ بِهَا .
وَمِنْ الْجَمْعِ ثَلَاثٌ ؛ وَهُنَّ الْأُخْتَانِ
بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَالْمَرْأَةُ وَعَمَّتُهَا ، وَالْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا ،
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُلَاعَنَةُ
سَنَةً ، وَالْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي قَضَاءِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَزَوْجَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْوَجْهُ بِمَوْتِهِنَّ .
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ لِعَارِضٍ فَهُنَّ : الْخَامِسَةُ ،
وَالْمُزَوَّجَةُ ، وَالْمُعْتَدَّةُ ، وَالْمُسْتَبْرَأَة ، وَالْحَامِلُ ،
وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا ، وَالْمُشْرِكَةُ ، وَالْأَمَةُ الْكَافِرَةُ ،
وَالْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ لِوَاجِدِ الطُّولِ ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَةُ الِابْنِ ، وَالْمُحَرَّمَةُ ، وَالْمَرِيضَةُ ،
وَمَنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجِهِ اللَّاتِي لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ
بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهَا ، وَالْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ ، وَالْمَنْكُوحَةُ عِنْدَ
النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ وَالْمَنْكُوحَةُ عِنْدَ الْخُطْبَةِ بَعْدَ
التَّرَاكُنِ .
فَأَمَّا السَّبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُنَّ فَدَلِيلُهُنَّ
ظَاهِرٌ .
وَأَمَّا الْمُلَاعَنَةُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهَا ؛ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ تَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا فَإِنَّهُ إذَا أَكْذَبَ
نَفْسَهُ حَلَّ لَهُ رَجْعَتُهَا ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ
طَلَاقٌ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِلَفْظِ الزَّوْجِ كَالطَّلَاقِ ، مُفْتَقِرَةٌ
إلَى الْحَاكِمِ كَطَلَاقِ الْعِنِّينِ ، وَلِأَنَّهُ
سَبَبٌ
أَوْجَبَهُ اللِّعَانُ ، فَزَالَ بِالتَّكْذِيبِ ؛ فَنُفِيَ بِلِعَانِهِ وَيَعُودُ
بِتَكْذِيبِهِ .
وَالنُّكْتَةُ الْعُظْمَى لَهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا :
أَوْجَبَ حُرْمَةً لَأَوْجَدَ مَحْرَمِيَّةً كَالرِّضَاعِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعَانِي لَهُمْ ، وَالنَّظَائِرُ
وَالْأُصُولُ مَعَهُمْ ، وَلَيْسَ لَنَا نَحْنُ إلَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ .
لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا .
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَالِي ؟ قَالَ : لَا
مَالَ لَكَ .
إنْ كُنْت صَدَقْت عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت
مِنْ فَرْجِهَا ، وَإِنْ كُنْت كَذَبْت عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا } .
وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ
النَّظَرُ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مُحَرَّمًا قَبْلَ حِلِّهِ
فَحَرَّمَهُ أَبَدًا ؛ كَالْقَاتِلِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْمِيرَاثِ ،
وَالْمُسْتَبْرَأَة مُعْتَدَّةٌ ، الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ ، وَالْمَحِلُّ وَاحِدٌ ،
وَالسَّبَبُ وَاحِدٌ ؛ فَلَمَّا اتَّحَدَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالْحَامِلُ
أَوْقَعُ ، وَالدَّلِيلُ فِيهَا الْجَمْعُ ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا
قُرْآنِيَّةً ، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكَةُ ، وَالْأَمَتَانِ تَأْتِيَانِ
مُبَيِّنَتَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
وَأَمَّا أَمَةُ الِابْنِ فَكُلُّ مُحَرَّمٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَإِنَّ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ عَامٌّ فِي
النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ ، فَدَخَلَ فِيهِ تَحْرِيمُ مِلْكِ الْيَمِينِ ،
وَأَمَةُ الِابْنِ مِنْ حَلَائِلِ الِابْنِ لَفْظًا ، أَوْ مَعْنًى وَلَفْظًا ،
أَوْ مَعْنًى مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ ، وَالْكُلُّ فِي اقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ
دَرَجَاتٌ ، وَلَهُ مُقْتَضَيَاتٌ ؛ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ دَخَلَ فِيهِ
الْجَمْعُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِمَا بَيَّنَّاهُ .
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالْبُخَارِيُّ وَجَمَاعَةٌ : نِكَاحُ الْمُحَرَّمِ جَائِزٌ بِالْعَقْدِ دُونَ
الْوَطْءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ، وَلَا
عُمْدَةَ لَهُمَا فِيهِ إلَّا حَدِيثُ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ ، خَرَّجَهُ مَالِكٌ :
{ لَا
يَنْكِحُ
الْمُحْرِمُ ، وَلَا يُنْكَحُ } .
وَضَعَّفَ الْبُخَارِيُّ نُبَيْهَ بْنَ وَهْبٍ ،
وَتَعْدِيلُ مَالِكٍ وَعِلْمُهُ بِهِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِ كُلٍّ بُخَارِيٍّ
وَحِجَازِيٍّ ، فَلَا يُلْتَفَتُ لِغَيْرِهِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ فِي { مَيْمُونَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا مُحْرِمًا } ،
فَعَجَبًا لِلْبُخَارِيِّ يُدْخِلُهُ مَعَ عَظِيمِ الْخِلَافِ فِيهِ وَيَتْرُكُ
أَمْثَالَهُ ، وَلَا يُعَارَضُ حَدِيثُ نُبَيْهِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ
مَيْمُونَةَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ
.
وَالْمَسْأَلَةُ عَظِيمَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا نِكَاحُ الْمَرِيضِ فَمِنْ مَسَائِلِ
الْخِلَافِ ؛ وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ؛
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ؛ وَكَذَلِكَ الْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ لَا
تُزَوَّجَ بِحَالٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُزَوِّجُهَا
وَلِيُّهَا ، وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ ؛ فَأَفْسَدَ مَا بَنَى وَجَعَلَ
حَلًّا مُتَرَقَّبًا ، وَهِيَ طُيُولِيَّةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي التَّلْخِيصِ
وَغَيْرِهِ .
فَهَذِهِ جُمَلٌ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ثَبَتَتْ فِي
الشَّرِيعَةِ بِأَدِلَّتِهَا وَخُصَّتْ مِنْ قَوْلِهِ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ } .
وَتَرَكَّبَ عَلَى هَذَا مَا إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ ،
هَلْ يُثْبِتُ زِنَاهُ حُرْمَةً فِي فُرُوعِهَا وَأُصُولِهَا ؟ عَنْ مَالِكٍ فِي
ذَلِكَ رِوَايَتَانِ وَدَعْ مَنْ رَوَى ، وَمَا رُوِيَ .
أَقَامَ مَالِكٌ عُمْرَهُ كُلَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ
الْمُوَطَّأَ وَيَقْرَأَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيهِ : إنَّ الْحَرَامَ لَا
يُحَرِّمُ الْحَلَالَ ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيِّنَاهَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ }
: يَعْنِي بِالنِّكَاحِ أَوْ بِالشِّرَاءِ ، فَأَبَاحَ اللَّهُ الْحَكِيمُ
الْفُرُوجَ بِالْأَمْوَالِ وَالْإِحْصَانِ دُونَ السِّفَاحِ وَهُوَ الزِّنَا ؛
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ ، لَكِنْ رُخِّصَ فِي
جَوَازِ السُّكُوتِ عَنْهُ عِنْدَ الْعَقْدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْوِيضِ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ هُنَالِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ : قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
: { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } مُطْلَقًا ، فَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ
بِهَذَا الْإِطْلَاقِ فِي جَوَازِ الصَّدَاقِ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ،
وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْمَوْهُوبَةِ فِي الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ } .
وَلَنَا فِيهِ طُرُقٌ ؛ أَقْوَاهَا أَنَّ اللَّهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ اسْتِبَاحَةَ هَذَا الْعُضْوِ وَهُوَ
الْبُضْعُ إلَّا بِبَدَلٍ وَجَبَ أَنْ يَتَقَرَّرَ ذَلِكَ الْبَدَلُ ؛ بَيَانًا
لِخَطَرِهِ وَتَحْقِيقًا لِشَرَفِهِ ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
؛ وَحُقُوقُ اللَّهِ مُقَدَّرَةٌ كَالشَّهَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ
وَ [ نُصُبِ
] السَّرِقَةِ وَالدِّيَاتِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛
فَوَجَبَ أَنْ يَتَخَصَّصَ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ ، لَا
سِيَّمَا وَمَسَاقُ هَذَا اللَّفْظِ إيجَابُ الْبَدَلِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ
الْإِشَارَةَ بِعُمُومِهِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ خَاتَمِ الْحَدِيدِ فَخَاتَمٌ فِي
الْعُرْفِ يَتَزَيَّنُ بِهِ ، قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ ، وَهَذَا
ظَاهِرٌ ؛ فَتَأَمَّلْ تَحْقِيقَهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِالنِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْذُلَ فِيهِ
مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَتَحْقِيقُ الْمَالِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَطْمَاعُ ،
وَيُعْتَدُّ لِلِانْتِفَاعِ ، هَذَا رَسْمُهُ فِي الْجُمْلَةِ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ .
وَتَحْقِيقُ بَيَانِهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
أَنَّ مَنْفَعَةَ
الرَّقَبَةِ فِي الْإِجَارَةِ مَالٌ ، وَأَنَّ مَنْفَعَةَ التَّعْلِيمِ لِلْعِلْمِ
كُلِّهِ مَالٌ ، وَفِي جَوَازِ كَوْنِهِ صَادِقًا كَلَامٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي
سُورَةِ الْقَصَصِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا عِتْقُ الْأَمَةِ فَلَيْسَ بِمَالٍ .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : هُوَ مَالٌ يَجُوزُ
النِّكَاحُ بِمِثْلِهِ ، لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَعَلَهُ صَدَاقًا فِي نِكَاحِهِ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ
فَإِنَّهُ أَعْتَقَهَا بِتَزَوُّجِهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا } ، رَوَاهُ أَنَسٌ
فِي الصَّحِيحِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ بِخَصَائِصَ ، وَمِنْ
جُمْلَتِهَا أَنَّهُ كَانَ يَنْكِحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا صَدَاقٍ ، فَإِنَّهُ
كَانَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ أَرَادَ زَيْنَبَ
فَحُرِّمَتْ عَلَى زَيْدٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِمِثْلِ هَذَا .
وَقَدْ حَقَّقْنَا خَصَائِصَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ
، وَقَدْ عَضَّدَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنْ قَالُوا : إنَّ قَوْلَهُ : { فَإِنْ
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } ؛
وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعِتْقِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مُحْصِنِينَ } : قَالَ بَعْضُ
الْغَافِلِينَ : إنَّ قَوْلَهُ
: { مُحْصِنِينَ } يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ
النِّسَاءِ ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ ابْتَغُوهُنَّ غَيْرَ زَانِيَاتٍ ، وَلَوْ أَرَادَ
كَوْنَهَا حَالًا لِلنِّسَاءِ لَقَالَ : مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ كَمَا
فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا ؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { مُحْصِنِينَ } حَثُّ
الرِّجَالِ عَلَى حَظِّهِمْ الْمَحْمُودِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُمْ مِنْ الْإِحْصَانِ
دُونَ السِّفَاحِ ؛ قِيلَ لَهُمْ : ابْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ نِكَاحًا لَا
سِفَاحًا ، وَالسِّفَاحُ اسْمُ الزِّنَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } : يَعْنِي غَيْرَ زَانِينَ ، وَالسِّفَاحُ اسْمٌ لِلزِّنَا ،
سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَسْفَحُ الْمَاءَ أَيْ يَصُبَّهُ ، وَالسَّفْحُ الصَّبُّ
، وَالنِّكَاحُ سِفَاحٌ اشْتِقَاقًا ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَمْعُ
وَالضَّمُّ ، وَصَبُّ الْمَاءِ ؛ وَلَكِنَّ الشَّرِيعَةَ وَاللُّغَةَ خَصَّصَتْ
كُلَّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ مِنْ مَعْنَى مُطْلَقِهِ ؛ لِلتَّعْرِيفِ بِهِ عَلَى
عَادَتِهَا فِيمَا تُطْلِقُهُ مِنْ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْمَعَانِي
الْمُشْتَرَكَةِ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ
} : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِمْتَاعَ النِّكَاحِ
الْمُطْلَقِ ؛ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَإِحْدَى
رِوَايَتَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي
: أَنَّهُ مُتْعَةُ النِّسَاءِ بِنِكَاحِهِنَّ إلَى
أَجَلٍ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَرَأَ :
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَاَللَّهِ لَأَنْزَلَهَا
اللَّهُ كَذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ :
أَعْطَانِي ابْنُ عَبَّاسٍ مُصْحَفًا ، وَقَالَ : هَذَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ ،
وَفِيهِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا ؛ فَلَا
تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ يَعْنِي بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ .
أَمَّا إنَّهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّ الصَّدَاقَ
إذَا لَمْ يُسَمَّ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ بِالدُّخُولِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ فِي التَّفْوِيضِ ، وَأَمَّا مُتْعَةُ النِّسَاءِ فَهِيَ مِنْ غَرَائِبِ
الشَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّهَا أُبِيحَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حُرِّمَتْ
يَوْمَ خَيْبَرَ ، ثُمَّ أُبِيحَتْ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ ، ثُمَّ حُرِّمَتْ
بَعْدَ ذَلِكَ ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا يَشْفِي الصُّدُورَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } : سَمَّاهُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ أَجْرًا ، وَسَمَّاهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ
نِحْلَةً ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ ، وَكَانَتْ الْفَائِدَةُ
بِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْبَيَانُ لِحَالِ الصَّدَاقِ ، وَأَنَّهُ مِنْ
وَجْهٍ نِحْلَةٌ وَمِنْ وَجْهٍ عِوَضٌ
.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عِوَضٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ
: النِّكَاحُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبُيُوعِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ
الْبُيُوعِ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعِوَضِ وَتَعْرِيفِهِ وَإِبْقَاؤُهُ وَرَدُّهُ
بِالْعَيْبِ وَالْقِيَامُ فِيهِ بِالشُّفْعَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
أَحْكَامِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَرِيضَةً } : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْإِتْيَانِ لِيَخْلُصَ
الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْأَجْرِ ،
فَيَقْتَضِي التَّقْدِيرَ ؛ مَعْنَاهُ أَعْطُوهَا صَدَاقَهَا كَامِلًا ، وَلَا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ، كَمَا قَالَ : { وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا
فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
} .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } : إذَا وَجَبَ الْمَهْرُ وَعُلِمَ
فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ التَّرَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ فِي تَرْكِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ ، أَوْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ،
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ وَهُمَا مَالِكَانِ أَمَرَهُمَا
فَذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمَا مَنْ لَا
يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ فَذَلِكَ إلَى الْوَلِيِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ، وَكَمَا تُوجِبُ امْرَأَةٌ لِنَفْسِهَا صَدَاقَهَا ثُمَّ
تُسْقِطُهُ ، كَذَلِكَ يُوجِبُهُ وَلِيُّهَا لَهَا ثُمَّ يُسْقِطُهُ إذَا رَأَى
ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِيهِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الزِّيَادَةَ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ
وَبِالصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ تَلْحَقُهُمَا وَيَجْرِي مَجْرَاهُمَا فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَاتِ ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛ وَهِيَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَذْكُورَةٌ .
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ فَسْخَ
الْعَقْدِ وَتَجْدِيدِهِ صَرِيحًا فَمَلَكَاهُ عَنْهُمَا ، وَلَهُمَا أَنْ
يَتَصَرَّفَا فِيهِ كَيْفَ شَاءَا
.
الْآيَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ
مِنْ بَعْضٍ } فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي حِكْمَةِ الْآيَةِ : اُنْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى
مُرَاعَاةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ لِمَصَالِحِنَا وَحُسْنِ تَقْدِيرِهِ فِي تَدْبِيرِهِ
لِأَحْكَامِنَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ الرِّقَّ عَلَى الْخَلْقِ
عُقُوبَةً لِلْجَانِي وَخِدْمَةً لِلْمَعْصُومِ ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَلَّاقَةَ
قَدْ تَنْتَظِمُ بِالرِّقِّ فِي بَابِ الشَّهْوَةِ الَّتِي رَتَّبَهَا جِبِلَّةً ،
وَرَتَّبَ النِّكَاحَ عَلَيْهَا فِي اتِّحَادِ الْقُرُونِ وَتَرْتِيبِ النَّظَرِ ،
وَشَرَّفَهُ لِشَرَفِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ مِنْ وُجُودِ الْآدَمِيِّ
عَلَيْهِ صَانَ عَنْهُ مَحِلَّ الْمَمْلُوكِيَّةِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ فِيهَا سَبَبَ الْحِلِّ وَطَرِيقَ التَّحْرِيمِ ،
وَالِاسْتِمْتَاعُ يَكْفِي .
الثَّانِي : وَهُوَ الْمَقْصُودُ صِيَانَةُ النُّطْفَةِ
عَنْ التَّصْوِيرِ بِصُورَةِ الْإِرْقَاقِ .
الثَّالِثُ :
صِيَانَةٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ حِينَ كَثَّرَ شُرُوطَهُ
، وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ ، وَكَمَّلَ صِفَتَهُ ؛ وَقَدْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ
أَنَّ أَحْوَالَ الْخَلْقِ سَتَسْتَقِيمُ بِقِسْمَتِهِ إلَى ضِيقٍ وَسَعَةٍ وَضَرُورَةٍ
أَذِنَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ لِلْحُرِّ فِي تَعْرِيضِ نُطْفَتِهِ لِلْإِرْقَاقِ
، لِئَلَّا يَكُونَ مُرَاعَاةَ أَمْرٍ مَوْهُومٍ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ حَالٍ
مُتَوَقَّعَةٍ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْهَوَى يُجِيزُ
نِكَاحَ الْإِمَاءِ ، وَهَذَا مُنْتَهَى نَظَرُ الْمُحَقِّقِينَ فِي مُطَالَعَةِ
الْأَحْكَامِ مِنْ بَحْرِ الشَّرْعِ وَسَاحِلِ الْعَقْلِ ؛ فَاِتَّخَذُوهَا
مُقَدِّمَةً لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي فَهْمِ سِيَاقِ الْآيَةِ :
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي
سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ
الرُّخَصِ ،
كَقَوْلِهِ : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وَقَوْلِهِ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا } وَنَحْوُهُ .
فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تُلْحَقَ
بِالرُّخَصِ الَّتِي تَكُونُ مَقْرُونَةً بِأَحْوَالِ الْحَاجَةِ وَأَوْقَاتِهَا ،
وَلَا يَسْتَرْسِلُ فِي الْجَوَازِ اسْتِرْسَالَ الْعَزَائِمِ ؛ وَإِلَى هَذَا مَالَ
جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَصْلًا
، وَجَوَّزَ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُطْلَقًا ، وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَدْ جَهِلَ مَسَاقَ الْآيَةِ مَنْ ظَنَّ هَذَا فَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُبَحْ نِكَاحُ الْأَمَةِ
إلَّا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا عَدَمُ الطَّوْلِ ، وَالثَّانِي خَوْفُ
الْعَنَتِ ؛ فَجَاءَ بِهِ شَرْطًا عَلَى شَرْطٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَرَائِرَ مِنْ
الْمُؤْمِنَاتِ وَالْحَرَائِرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ذِكْرًا مُطْلَقًا ؛
فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِمَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ ذَكَرَهَا ذِكْرًا مَشْرُوطًا
مُؤَكَّدًا مَرْبُوطًا .
فَإِنْ قِيلَ
: حَلَّقْتُمْ عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ بِأَلْفَاظٍ
هَائِلَةٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ
فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ وَصْفًا أَوْ وَصْفَيْنِ فَأَرَدْتُمْ أَنْ يَكُونَ
الْآخَرُ بِخِلَافِهِ ، وَهَذَا دَلِيلُ الْخِطَابِ الَّذِي نَازَعْنَاكُمْ فِيهِ مُذْ
كُنَّا وَكُنْتُمْ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّا نَقُولُ : دَلِيلُ الْخِطَابِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِنَا ، وَقَدْ دَلَّلْنَا
عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَحَقَّقْنَاهُ تَحْقِيقًا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ
، وَمَنْ أَرَادَ دَرَاهُ .
الثَّانِي :
أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَسُوقَةً مَسَاقَ
دَلِيلِ الْخِطَابِ كَمَا بَيَّنَّا ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ
الْإِبْدَالِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ مَسُوقَةً مَسَاقَ شِبْهِ دَلِيلِ
الْخِطَابِ لَوْ قُلْنَا : انْكِحُوا الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ بِطَوْلٍ
وَعِنْدَ خَوْفِ عَنَتٍ ، فَأَمَّا وَقَدْ قَالَ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
} ؛ فَقَرَنَهُ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي رَتَّبَ عَلَيْهَا الْإِبْدَالَ فِي
الشَّرِيعَةِ وَأَدْخَلَهَا فِي بَابِهَا
بِعِبَارَتِهَا
وَمَعْنَاهَا لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهَا ، فَلَيْسَ لِرَجُلٍ
حَكَمَهُ اللَّهُ وَاضِعٌ .
وَمِنْ غَرِيبِ دَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّ الْبَارِي
تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْوَصْفَ بِالذَّكَرِ لِلتَّنْبِيهِ ، وَقَدْ يَخُصُّهُ
بِالْعُرْفِ ، وَقَدْ يَخُصُّهُ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى حَالَةِ
الْإِثْرَاءِ ، وَخَصَّ حَالَةَ الْإِمْلَاقِ بِالنَّهْيِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ
الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَرَّضَ الْأَبُ لَقَتْلِ الِابْنِ فِيهَا .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا
أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } خَصَّ حَالَةَ الْإِكْثَارِ وَالْإِثْرَاءِ الَّتِي
تَتَعَلَّقُ بِهَا النُّفُوسُ بِالنَّهْيِ ؛ فَأَمَّا إذَا وَقَعَ شَرْطٌ
بِقُدْرَةٍ فَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَدَلِيَّةِ وَالرُّخْصَةِ ، وَإِنْ وَقَعَ
بِتَنْبِيهٍ مَقْرُونًا بِحَالَةٍ أَوْ عَادَةً كَانَ ظَاهِرًا ، كَقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا
لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ } .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
وَبَيَّنَّا أَنَّ خَمْسَةً مِنْ الْأَدِلَّةِ تَقْتَضِي فِي الْمَعْنَى أَنَّ
نِكَاحَ الْأَمَةِ رُخْصَةٌ ، فَلَمَّا انْتَهَى النَّظَرُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ
، وَرَأَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ
رُخْصَةٌ ، وَأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بَعْدَ الطَّوْلِ تَحَكَّمَ فِي الطَّوْلِ ،
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَقَالَ : إنَّ الطَّوْلَ هُوَ وُجُودُ
الْحُرَّةِ تَحْتَهُ ، فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ ذُو طَوْلٍ ،
فَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، هَذَا تَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ .
وَتَحْقِيقُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الطَّوْلَ فِي لِسَانِ
الْعَرَبِ هُوَ الْقُدْرَةُ ، وَالنِّكَاحُ هُوَ الْوَطْءُ حَقِيقَةً ،
فَمَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَطَأَ حُرَّةً فَلْيَتَزَوَّجْ أَمَةً ،
وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةً فِي الَّذِي تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَلَا يُنْقَلُ إلَى
الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا
بِأَنْ قَالُوا : الطَّوْلُ هُوَ الْغِنَى وَالسَّعَةُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : {
اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ } .
وَالنِّكَاحُ هُوَ الْعَقْدُ ، فَمَعْنَاهُ مَنْ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ صَدَاقُ حُرَّةٍ فَلْيَتَزَوَّجْ أَمَةً ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْله تَعَالَى : {
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } ، وَهَذَا أَقْوَى أَلْفَاظِ الْحَصْرِ
، كَقَوْلِهِ فِي شُرُوطِ الْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ
أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَشْتَرِطُ خَوْفَ الْعَنَتِ .
فَإِنْ قِيلَ
، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ قَدَرَ عَلَى طَوْلِ كِتَابِيَّةٍ
هَلْ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ ، يَتَزَوَّجُهَا .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْف هَذَا ، وَهِيَ مِثْلُ الْمُسْلِمَةِ
الْحُرَّةِ ؟ وَالْقُدْرَةُ عَلَى مِثْلِ الشَّيْءِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ فِي
الْحُكْمِ .
قُلْنَا : لَيْسَا مِثْلَيْنِ بِأَدِلَّةٍ لَا تُحْصَى
كَثْرَةً وَقُوَّةً ، مِنْهَا أَنَّ إمَاءَهُمْ لَمْ تَسْتَوِ فَكَيْفَ
حَرَائِرُهُمْ ؟ وَمَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا نَشْتَرِطُهُ
نَحْنُ ، وَلَا نُلْحِقُ مُسْلِمَةً بِكَافِرَةٍ ، فَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ بِلَا كَلَامٍ
.
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ إمَامُ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِ "
أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " لَهُ : لَيْسَ نِكَاحُ الْأَمَةِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّ
الضَّرُورَةَ مَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ تَلَفُ عُضْوٍ ، وَلَيْسَ
فِي مَسْأَلَتِنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
.
قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ جَاهِلٍ بِمِنْهَاجِ الشَّرْعِ
أَوْ مُتَهَكِّمٍ لَا يُبَالِي بِمَا يَرِدُ الْقَوْلُ .
نَحْنُ لَمْ نَقُلْ إنَّهُ حُكْمٌ نِيطَ بِالضَّرُورَةِ
، إنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ بِالرُّخْصَةِ الْمَقْرُونَةِ
بِالْحَاجَةِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ ، وَحَالَةٌ
يُعْتَبَرُ فِيهَا ، وَمَنْ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ
الَّتِي تَكُونُ مَعَهَا الرُّخْصَةُ فَلَا يُعْنَى بِالْكَلَامِ مَعَهُ ، فَإِنَّهُ
مُعَانِدٌ أَوْ جَاهِلٌ ، وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ إتْعَابٌ لِلنَّفْسِ عِنْدَ مَنْ لَا
يَنْتَفِعُ بِهِ .
فَإِنْ
قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، هَلْ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ
أَمْ لَا ؟ قُلْنَا : اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا ؛ فَقَالَ مَالِكٌ : إذَا
خَشِيَ الْعَنَتَ مَعَ حُرَّةٍ وَاحْتَاجَ إلَى أُخْرَى ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى
صَدَاقِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ ؛ وَهَكَذَا مَعَ
كُلِّ حُرَّةٍ وَكُلِّ أَمَةٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْأَرْبَعِ بِظَاهِرِ
الْقُرْآنِ .
وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى : إذَا تَزَوَّجَ الْأَمَةَ
عَلَى الْحُرَّةِ رُدَّ نِكَاحُهُ ؛ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَرِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ الْأُولَى أَصَحُّ فِي
الدَّلِيلِ وَأَوْلَى ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ بِشَرْطٍ قَدْ وُجِدَ
وَكَمُلَ عَلَى الْأَمْرِ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ :
فَهَلْ تَكُونُ الْحُرَّةُ بِالْخِيَارِ فِي الْبَقَاءِ مَعَهَا أَوْ الْفِرَاقِ ؟
قُلْنَا : كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَيَجِيءُ
عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ رَضِيَ بِالسَّبَبِ الْمُحَقَّقِ رَضِيَ بِالْمُسَبَّبِ
الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهَا خِيَارٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ
عَلِمَتْ أَنَّ لَهُ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ ، وَعَلِمَتْ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ
عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ تَزَوَّجَ أَمَةً ، وَمَا شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهَا كَمَا شَرَطَتْ عَلَى نَفْسِهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي شُرُوطِ اللَّهِ
عِلْمُهَا ، وَهَذَا غَايَةُ التَّحْقِيقِ فِي الْبَابِ وَالْإِنْصَافِ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ } .
بِهَذَا اسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ
الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ نِكَاحَ
الْمُؤْمِنَةِ ، فَكَانَ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْإِيمَانُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ
وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ .
قُلْنَا :
لَيْسَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالتَّعْلِيلِ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي نِكَاحِهِنَّ ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي
الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَكْرِمُوا الْعَالِمَ وَاحْفَظُوا
الْغَرِيبَ لَكَانَ تَنْصِيصًا عَلَى الْحُكْمِ وَعَلَى عِلَّتِهِ ، وَهِيَ
الْعِلْمُ وَالْغُرْبَةُ فَيَتَعَدَّى الْإِكْرَامُ [ وَالْحِفْظُ ] لِكُلِّ
عَالَمٍ وَغَرِيبٍ ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى سِوَاهُمَا .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } ؛ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيلًا يَمْنَعُ مِنْ
النِّكَاحِ فِي الْمُشْرِكَاتِ
.
الثَّالِثُ :
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي الْإِحْلَالِ
وَلَا الْعِفَّةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ هَاهُنَا
الْحُرِّيَّةُ .
الرَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } فَلْيَنْكِحْ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ،
فَالْإِحْصَانُ هَاهُنَا فِي الْحُرِّيَّةِ قَطْعًا ، فَنَقَلْنَاهُ مِنْ حُرَّةٍ
مُؤْمِنَةٍ إلَى أَمَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : { وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } .
ثُمَّ قَالَ
: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ } يَعْنِي
حِلٌّ لَكُمْ ، { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ } حِلٌّ لَكُمْ أَيْضًا ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الْحَرَائِرَ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَاهُ
، فَأَفَادَتْ الْآيَةُ حِلَّ الْكِتَابِيَّةِ ، وَبَقِيَتْ الْأَمَةُ
الْكَافِرَةُ
تَحْتَ التَّحْرِيمِ .
فَإِنْ قِيلَ
: فَقَدْ قَالَ : { وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكَةٍ } ، فَخَايَرَ بَيْنَهُمَا ،
وَالْمُخَايَرَةُ لَا تَكُونُ بَيْنَ ضِدَّيْنِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ
عَنْهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : لَمَّا أَكْمَلَ اللَّهُ
تَعَالَى بَيَانَ الْمُحَرَّمَاتِ الْحَاضِرَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
لِلتَّكْلِيفِ ، وَقَالَ بَعْدَهُ
: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ، فَلَوْ
وَقَعَ هَذَا الْإِحْلَالُ بِنَصٍّ لَكَانَ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ
الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا نَسْخًا ، وَلَكِنَّهُ كَانَ عُمُومًا ،
فَجَرَى عَلَى عُمُومِهِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ
، وَلَوْ كَانَتْ أَلْفًا مَا أَثَّرَ فِي الْعُمُومِ ، فَكَيْفَ وَهِيَ عَلَى
هَذَا الْمِقْدَارِ ؟ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
} وَهُوَ عُمُومٌ خَرَجَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ وَبَقِيَ تَحْتَهُ صِنْفٌ
وَاحِدٌ ، وَهُمْ الْمُحَارِبُونَ ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ لَا فَصَاحَةً
وَلَا حِكْمَةً وَلَا دِينًا وَلَا شَرِيعَةً .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } : الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ
لَمَّا شَرَطَ الْإِيمَانَ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مَخْفِيٌّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ
سِوَاهُ أَحَالَ عَلَى الظَّاهِرِ فِيهِ ، وَقَالَ : { وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } فِيمَا أَضْمَرْتُمْ مِنْ الْإِيمَانِ ، كُلُّكُمْ
فِيهِ مَقْبُولٌ ، وَبِظَاهِرِهِ مَعْصُومٌ ، حَتَّى يَحْكُمَ فِيهِ الْحَكِيمُ ؛
وَلِذَلِكَ لَمَّا { جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ لَهُ : عَلَيَّ رَقَبَةٌ
وَأُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ .
قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ .
قَالَ : مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ : رَسُولُ اللَّهِ .
قَالَ :
أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } حَمْلًا عَلَى
الظَّاهِرِ مِنْ الْإِيمَانِ ، نَعَمْ وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ الْأَلْفَاظِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } .
قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ
أَنْتُمْ الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ
.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ
الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الشَّرَفِ ، وَرَدَّ عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ
تُسَمِّي وَلَدَ الْأَمَةِ هَجِينًا تَعْبِيرًا لَهُ بِنُقْصَانِ مَرْتَبَةِ
أُمِّهِ ، وَهَذَا أَمْرٌ أَدْخَلَتْهُ الْيَمَنِيَّةُ عَلَى الْمُضَرِيَّةِ مِنْ حَيْثُ
لَمْ تَشْعُرْ بِجَهْلِ الْعَرَبِ وَغَفَلْتهَا ؛ فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ ابْنُ
أَمَةٍ ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَى بَصِيرَةٍ مَا قَبِلَتْ هَذَا التَّعْبِيرَ ،
وَإِلَيْهَا يُرْجَعُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً ، ثُمَّ قَدَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
عَلَى حُرَّةٍ فَتَزَوَّجَهَا ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَلَمْ يَنْفَسِخْ .
وَقَالَ مَسْرُوقٌ : يَنْفَسِخُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ أُبِيحَ
لِلضَّرُورَةِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ ارْتَفَعَتْ الْإِبَاحَةُ ،
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَلَا
يُشْتَرَطُ فِي اسْتِدَامَتِهِ ، كَالْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ .
وَهَذَا لَا جَوَابَ عَنْهُ .
وَأَمَّا الْمَيْتَةُ فِي الضَّرُورَةِ فَتُفَارِقُ هَذَا
مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَازِمٌ ، وَتِلْكَ إبَاحَةٌ
مُجَرَّدَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا عَقْدٌ بِشُرُوطٍ ،
فَيُعْتَبَرُ بِشُرُوطِهِ ، بِخِلَافِ الْإِبَاحَةِ فِي الْمَيْتَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ
أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ
مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي : زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّ السَّيِّدَ إذَا
زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ صَدَاقٌ ، وَكَيْفَ
يَجُوزُ هَذَا وَنِكَاحٌ بِغَيْرِ صَدَاقٍ سِفَاحٌ ؟ وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ ،
وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ نِكَاحَ كُلِّ امْرَأَةٍ ، فَقَرَنَهُ بِذَكَرِ
الصَّدَاقِ فَقَالَ فِي الْإِمَاءِ
: { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
.
وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }
.
وَقَالَ أَيْضًا : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ؛ فَكَيْفَ يَخْلُو عَنْهُ
عَقْدُ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ بِأَنْ يَجِبَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ ، حَتَّى
أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ فِي الْعَقْدِ عَنْهُ لَوَجَبَ بِالْوَطْءِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي
إسْمَاعِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ تَعَرَّضَ
الْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ لِلرَّدِّ عَلَى إسْمَاعِيلَ ، فَرَدَّ
عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "
لَهُ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ الْهَرَّاسُ فِي
كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " ، فَتَعَرَّضُوا لِلِارْتِقَاءِ
فِي صُفُوفِهِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ
.
قَالَ الرَّازِيّ : يَجِبُ الْمَهْرُ وَيَسْقُطُ ؛ لِئَلَّا
تَكُونَ اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَيَسْقُطُ فِي الثَّانِي حِينَ
يَسْتَحِقُّهُ الْمَوْلَى ، لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُهُ ، وَالْمَوْلَى هُوَ
الَّذِي يَمْلِكُ مَالَهَا وَلَا يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ .
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : إنَّ الْمَهْرَ لَوْ وَجَبَ
لَوَجَبَ لِشَخْصٍ عَلَى شَخْصٍ ، فَمَنْ الَّذِي أَوْجَبَهُ ؟ وَعَلَى مَنْ
وَجَبَ ؟ فَإِنْ
قُلْت :
وَجَبَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ فَهَذَا مُحَالٌ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى
عَبْدِهِ ، وَوُجُوبِهِ لَا عَلَى أَحَدٍ مُحَالٌ ، وَكَمَا أَنَّ الْعَقْدَ
يَقْتَضِي الْإِيجَابَ كَذَلِكَ الْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِسْقَاطَ ، وَلَيْسَ
إيجَابُهُ ضَرُورَةَ الْإِسْقَاطِ ، كَمَا يُقَالُ إنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ
لِلِابْنِ ضَرُورَةَ الْعِتْقِ ؛ فَإِنَّ الْعِتْقَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ
الْمِلْكِ ، فَأَمَّا إسْقَاطُ الْمَهْرِ فَلَا يَقْتَضِي إثْبَاتَهُ ، فَوَجَبَ
أَلَّا يَجِبَ بِحَالٍ .
وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا
يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ أَصْلًا ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ وَلَا بُدَّ مِنْ
مَالِكٍ ، وَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ مَالِكًا ؛ فَامْتَنَعَ لِذَلِكَ
، وَعَادَ الْكَلَامُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ ؛ وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ هَلْ يَمْلِكُ
أَمْ لَا ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا قَوْلُ الرَّازِيّ : إنَّهُ يَجِبُ
وَيَسْقُطُ فَكَلَامٌ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَمْثِلَةٌ ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ
عَلَيْهَا وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا ؛ فَمِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ هُوَ فِيمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ :
أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفٍ
.
فَقَالَ سَيِّدُهُ : هُوَ حُرٌّ .
فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ كَلِمَةُ " هُوَ
حُرٌّ " يَتَضَمَّنُ عَقْدَ الْبَيْعِ ، وَوُجُوبَ الثَّمَنِ عَلَى
الْمُبْتَاعِ ، ثُمَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ ، وَوُجُوبَ الْمِلْكِ
لِلْمُبْتَاعِ ، وَخُرُوجَهُ عَنْ يَدِ الْبَائِعِ وَمِلْكَهُ وَالْعِتْقَ ،
وَيَجِبُ الْمِلْكُ ثُمَّ يَسْقُطُ
.
كُلُّ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ .
كَذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يَقُولَ : يَجِبُ الصَّدَاقُ
هَاهُنَا لِحِلِّ الْوَطْءِ ، ثُمَّ يَكُونُ مَا كَانَ .
وَمِمَّا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ نَحْنُ وَالشَّافِعِيَّةُ
إذَا اشْتَرَى الِابْنُ أَبَاهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَقْدُ الشِّرَاءِ وَيَحْصُلُ
الْمِلْكُ لِلِابْنِ ، ثُمَّ يَسْقُطُ الْمِلْكُ وَيُعْتَقُ ، وَيَجِبُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إذَا قَتَلَ
الْأَبُ ابْنَهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَيَسْقُطُ ، فَوُجُوبُهُ لِوُجُودِ عِلَّةِ
الْقِصَاصِ مِنْ الْعُدْوَانِ وَشَرْطُهُ
مِنْ
الْمُكَافَآتِ ، وَيَسْقُطُ لِعَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ
يَجِبَ لِلْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : يَنْتَقِلُ الْقِصَاصُ إلَى غَيْرِ
الْأَبِ مِنْ الْوَرَثَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا لَانْتَقَلَ
الْمِيرَاثُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَوْ
قَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا قُتِلَ بِهِ ، وَلَوْ قَتَلَ مُكَاتَبًا لَمْ يُتْرَكْ
وَفَاءً قُتِلَ بِهِ ، وَلَوْ قَتَلَ مُكَاتَبًا تُرِكَ وَفَاءً لَمْ يُقْتَلْ
بِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَاتَ
عَبْدًا وَالْقِصَاصُ لِسَيِّدِهِ
.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَاتَ حُرًّا وَيُدْفَعُ مِنْ
مَالِهِ كِتَابَتُهُ لِسَيِّدِهِ ، وَيَرِثُ مَالَهُ بَقِيَّةُ وَرَثَتِهِ ،
وَيَرِثُونَ قِصَاصَهُ ، فَانْتَصَبَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمُسْتَحَقِّ شُبْهَةً
فِي دَرْكِ الْقِصَاصِ .
وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيجَابَ
حُكْمٌ ، وَالِاسْتِيفَاءُ حُكْمٌ آخَرُ مُغَايِرٌ لَهُ ، وَأَسْبَابُهُمَا
تَخْتَلِفُ ؛ وَإِذَا اخْتَلَفَا سَبَبًا وَاخْتَلَفَا ذَاتًا كَيْفَ يَصِحُّ
لِمُحِقٍّ أَنْ يُنْكِرَ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ؟ بَلْ هُنَالِكَ
أَغْرُبُ مِنْ هَذَا ؛ وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ حُكْمٌ وَالِاسْتِقْرَارُ حُكْمٌ
آخَرُ ؛ فَإِنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ ، وَلَا يَسْتَقِرُّ بِالْوَطْءِ ؛
إذْ يَتَطَرَّقُ السُّقُوطُ إلَى جَمِيعِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ بِالرِّدَّةِ ، وَإِلَى
نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ .
وَقَدْ انْبَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَحْكَامٌ
كَثِيرَةٌ مِنْ الزَّكَاةِ ، إذَا كَانَ الصَّدَاقُ مَاشِيَةً وَغَيْرَهَا ؛
فَإِذَا كَانَ الِاسْتِقْرَارُ وَهُوَ وَصْفُ الْوُجُوبِ حُكْمًا انْفَرَدَ عَنْ
الْوُجُوبِ بِانْفِرَادِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُهُ أَصْلًا وَصِفَةً
فَذَلِكَ أَوْلَى .
وَأَمَّا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ : مَنْ الَّذِي أَوْجَبَ
عَلَيْهِ ؟ وَلِمَنْ وَجَبَ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : نَقَصَكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ عَدَلْتَ
عَنْهُ أَوْ تَعَمَّدْتَ تَرْكَهُ تَلْبِيسًا : وَهُوَ أَنْ يَجِبَ لِلْأَمَةِ
وَهِيَ الزَّوْجُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا ، كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ
لَهَا .
فَإِنْ قَالَ
:
لَيْسَتْ
الْأَمَةُ أَهْلًا لِلْمِلْكِ وَلَا لِلتَّمْلِيكِ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ ؛ بَلْ الْعَبْدُ أَهْلٌ
لِلْمِلْكِ وَالتَّمْلِيكِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
تَخْلِيصًا وَتَلْخِيصًا وَإِنْصَافًا ، وَحَقَّقْنَا فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ
أَنَّ عِلَّةَ الْمِلْكِ الْحَيَاةُ وَالْآدَمِيَّةُ ، وَإِنَّمَا انْغَمَرَ
وَصْفُ الْعَبْدِ بِالرِّقِّ لِلسَّيِّدِ ، وَلَكِنَّ الْعِلَّةَ بَاقِيَةٌ ، وَالْحُكْمُ
قَدْ يَتَرَكَّبُ عَلَيْهَا مَعَ وُجُودِ الْغَامِرِ لَهَا .
وَكَيْفَ لَا تَمْلِكُ الْأَمَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ فِي الْإِمَاءِ : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } .
فَأَضَافَ الْأُجُورَ إلَيْهِنَّ إضَافَةَ تَمْلِيكٍ ؟
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْعَقْدَ كَمَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ كَذَلِكَ [
الْمِلْكُ ] يَقْتَضِي الْإِسْقَاطَ
.
قُلْنَا لَهُ : فَذَكَرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مُقْتَضَاهُ
أَوْجَبَ بِالْعَقْدِ وَأَسْقَطَ بِالْمِلْكِ وَوَفَّرَ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ
حُكْمَهُ كَمَا فَعَلْنَا فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ إيجَابَهُ لَيْسَ ضَرُورَةً
لِلْإِسْقَاطِ بِخِلَافِ عِتْقِ الْقَرِيبِ فَإِنَّ إيجَابَهُ هُنَاكَ ضَرُورَةَ
الْعِتْقِ .
قُلْنَا :
وَإِيجَابُهُ الصَّدَاقُ هَاهُنَا ضَرُورَةَ الْحِلِّ ؛
إذْ جَعَلَهُ اللَّهُ عِلْمًا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ ،
وَنَصَّ عَلَى إيجَابِهِ فِي كُلِّ نِكَاحٍ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ النَّاكِحِينَ
مِنْ مَلِكٍ أَوْ مَمْلُوكٍ ؛ فَيَجِبُ لِلْأَمَةِ ، ثُمَّ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ
مِنْهَا ، وَلَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ حَقٌّ ،
فَلَا تُغَرَّ غُرُورًا بِمَا لَا تَحْصِيلَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُ .
وَهَلَّا قُلْتُمْ : يَجِبُ لِلْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ
، ثُمَّ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ مِنْ الْأَمَةِ ، ثُمَّ يَسْقُطُ ؛ وَسُقُوطُ الْحَقِّ
بِانْتِقَالِهِ مِنْ مَحِلٍّ إلَى مَحِلٍّ لَيْسَ غَرِيبًا فِي مَسَائِلِ
الْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَالدُّيُونِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْعِتْقَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ
الْمِلْكِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ الْحِلُّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ .
وَأَمَّا قَوْلُكَ : إنَّ الْقَوْلَ عَادَ إلَى أَنَّ
الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ فَيَا
حَبَّذَا عَوْدُهُ إلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ظَهَرْنَا فِيهِ عَلَيْكُمْ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْمَمْلُوكَةَ لَا تُنْكَحَ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا
يُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ وَسَيِّدِهِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ لَا أَمْرَ لَهُ ،
وَبَدَنُهُ كُلُّهُ مُسْتَغْرِقٌ بِحَقِّ السَّيِّدِ ؛ لَكِنَّ الْفَرْقَ
بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا فُسِخَ
النِّكَاحُ وَلَمْ يَجُزْ بِإِجَازَةِ السَّيِّدِ ، وَإِذَا جَوَّزَ السَّيِّدُ نِكَاحَ
الْعَبْدِ جَازَ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْأُنُوثَةِ فِي الْأَمَةِ يَمْنَعُ مِنْ
انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَلْبَتَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِإِذْنِ
أَهْلِهَا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ السَّيِّدُ الْعَقْدَ .
قُلْنَا : نَعَمْ ، يَجُوزُ ؛ وَلَكِنْ لَا تُبَاشِرُهُ
هِيَ ، بَلْ يَتَوَلَّاهُ مَنْ تَوَلَّاهُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيُّمَا عَبْدٍ
تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ } .
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : هُوَ حَسَنٌ .
وَحَدِيثٌ يَرْوِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ
عَنْ جَابِرٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } : هَذَا يَدُلُّ
عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى
أُجْرَةً ، وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ الْبُضْعِيَّةِ
؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْمَنْفَعَةَ يُسَمَّى أُجْرَةً .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
النِّكَاحُ مَا هُوَ ؟ بَدَنُ الْمَرْأَةِ ، أَوْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ ، أَوْ
الْحِلُّ ؟ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ عِنْدَ ذِكْرِنَا مَا
تُرَدُّ بِهِ الزَّوْجَةُ مِنْ الْعُيُوبِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى
وُجُوبِ الْمَهْرِ لِلْأَمَةِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ :
إنَّهُ عِوَضُ مَنْفَعَةٍ لَا يَكُونُ لِلْأَمَةِ ، أَصْلُهُ إجَازَةُ
الْمَنْفَعَةِ فِي الرَّقَبَةِ
.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ السَّيِّدَ إذَا زَوَّجَ
أَمَتَهُ فَقَدْ مَلَكَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ
لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ غَشَيَانِهَا بِالتَّزْوِيجِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَمْلِكُهُ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ ، فَهَذَا الْعَقْدُ لَهَا لَا لَهُ ، فَعِوَضَهُ لَهَا بِخِلَافِ
مَنَافِعِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا وَالْعَقْدُ عَلَيْهَا لِلسَّيِّدِ ، وَهَذَا
ظَاهِرٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إطْنَابٍ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : مَا يَعْنِي بِالْمَعْرُوفِ ؟ يَعْنِي الْوَاجِبَ ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ ، وَلَيْسَ يُرِيدُ بِهِ الْمَعْرُوفَ الَّذِي هُوَ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ ؛ وَسَتَرَاهُ مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } : يَعْنِي
عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ
الزَّانِيَةِ ، وَهُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَقَالَ إنَّهُ شَرَطَ فِي
النِّكَاحِ الْإِحْصَانَ وَهُوَ الْعِفَّةُ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ فِي سُورَةِ النُّورِ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : مَعْنَى قَوْلُهُ : مُحْصَنَاتٍ ،
أَيْ بِنِكَاحٍ لَا بِزِنًى ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا : { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } ، فَكَيْفَ يَقُولُ
بَعْدَ ذَلِكَ مَنْكُوحَاتٌ ، فَيَكُونُ تَكْرَارًا فِي الْكَلَامِ قَبِيحًا فِي النِّظَامِ
، وَإِنَّمَا شَرَطَ اللَّهُ ذَلِكَ صِيَانَةً لِلْمَاءِ الْحَلَالِ عَنْ الْمَاءِ
الْحَرَامِ ؛ فَإِنَّ الزَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا نِكَاحُهَا حَتَّى
تُسْتَبْرَأَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ
نِكَاحُهَا الْيَوْمَ لِمَنْ زَنَى بِهَا الْبَارِحَةَ ، وَلِمَنْ لَمْ يَزْنِ
بِهَا مَعَ شَغْلِ رَحِمِهَا بِالْمَاءِ ، فَهَذِهِ هِيَ الزَّانِيَةُ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَهَا ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ فَلَا يَسْقِ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } .
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ
حَتَّى تَضَعَ } ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ فِي وَطْءٍ وَنَسَبٍ لَهُمَا
حُرْمَةٌ .
وَذَلِكَ فِي وَطْءِ الْكُفَّارِ ؛ لَكِنْ إنْ لَمْ
يَكُنْ لِلْمَاءِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الرَّحِمِ حُرْمَةٌ فَلِلْمَاءِ الْوَارِدِ
عَلَيْهِ حُرْمَةٌ ، فَكَيْفَ يَمْتَزِجُ مَاءٌ بِمَاءٍ غَيْرِ مُحْتَرَمٍ ، وَفِي
ذَلِكَ خَلْطُ الْأَنْسَابِ الصَّحِيحَةِ بِالْمِيَاهِ الْفَاسِدَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا
زَانِيَةً } ، فَهِيَ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ ، اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ قَدِيمًا
وَحَدِيثًا ، وَالْمُتَحَصِّلُ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ كَانَتْ
تُسَافِحُ وَتَشْتَرِطُ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ كُنَّ نِسَاءٌ
مَعْلُومَاتٌ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فَيَتَزَوَّجْنَ الرَّجُلَ مِنْ فُقَرَاءِ
الْمُسْلِمِينَ لِتُنْفِقَ الْمَرْأَةُ مِنْهُنَّ عَلَيْهِ ، فَنَهَاهُمْ اللَّهُ
عَنْ ذَلِكَ } .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَحْوُهُ عَنْ
قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ عَنْ بَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ كَرَايَةِ
الْبَيْطَارِ ، وَكَانَتْ بُيُوتُهُنَّ تُسَمَّى الْمَوَاخِيرَ ، لَا يَدْخُلُ
إلَيْهِنَّ إلَّا زَانٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكٍ ، فَحَرَّمَ
اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
.
الثَّالِثُ :
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : لَا يَزْنِي الزَّانِي
إلَّا بِزَانِيَةٍ مِثْلِهِ أَوْ مُشْرِكَةٍ ، وَنَحْوُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ .
الرَّابِعُ
: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : نَسَخَهَا قَوْلُهُ
: { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ } .
وَقَالَ أَنَسٌ : مِنْ أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ أَكَّدَ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : {
كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ ، وَكَانَ رَجُلٌ
يَحْمِلُ الْأَسْرَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ .
قَالَ : وَكَانَتْ امْرَأَةُ بَغْيٍ بِمَكَّةَ يُقَالُ
لَهَا عَنَاقُ ، وَكَانَ صَدِيقًا لَهَا ، وَإِنَّهُ وَاعَدَ رَجُلًا مِنْ أَسْرَى
مَكَّةَ يَحْمِلُهُ .
قَالَ :
فَجِئْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى ظِلِّ حَائِطٍ مِنْ
حَوَائِطِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ قَالَ : فَجَاءَتْ عَنَاقُ
فَأَبْصَرَتْ سَوَادَ ظِلِّي بِجَنْبِ الْحَائِطِ ، فَلَمَّا انْتَهَتْ إلَيَّ
عَرَفَتْنِي ، فَقَالَتْ : مَرْثَدٌ ، فَقُلْت : مَرْثَدٌ .
فَقَالَتْ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا ، هَلُمَّ فَبِتْ
عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ .
قَالَ :
قُلْت : يَا عَنَاقُ ، حَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَا قَالَتْ
: يَا أَهْلَ الْخِيَامِ ، هَذَا الرَّجُلُ يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ
.
قَالَ :
حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، أَأَنْكِحُ عَنَاقَ ؟ فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا ، فَنَزَلَتْ : { الزَّانِي
لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : يَا مَرْثَدُ ، الزَّانِي لَا يَنْكِحُ وَقَرَأَهَا إلَى آخِرِهَا ،
وَقَالَ لَهُ : فَلَا تَنْكِحْهَا
} .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَغَايَا
مَعْلُومَاتٍ فَكَلَامٌ صَحِيحٌ
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ الزَّانِي لَا
يُزَانِي إلَّا زَانِيَةً فَمَا أَصَابَ فِيهِ غَيْرَهُ ، وَهِيَ مِنْ عُلُومِ
الْقُرْآنِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ مُعَلِّمِهِ الْمُعَظَّمِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : لَا يَنْكِحُ الْمَحْدُودُ إلَّا
مَحْدُودَةً ، وَهُوَ الْحَسَنُ ، يُرِيدُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : الزَّانِيَةُ
الَّتِي تَبَيَّنَ زِنَاهَا ، وَيَصِحُّ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهَا بِهِ ؛ وَذَلِكَ
لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَنْ نَفَذَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ وَقَبْلَ نُفُوذِ الْحَدِّ
هِيَ مُحْصَنَةٌ يَحُدُّ قَاذِفُهَا ، وَهُوَ الَّذِي مَنَعَ مِنْ نِكَاحِهَا
وَمَعَهُ نَتَكَلَّمُ وَعَلَيْهِ نَحْتَجُّ .
وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : إنَّ مَعْنَاهُ إذَا زَنَى
بِامْرَأَةٍ فَلَا يَتَزَوَّجُهَا فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا ، لَكِنَّ
مَخْرَجَهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ
الِاسْتِبْرَاءِ ، وَتَكُونُ الْآيَةُ مَسُوقَةً لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا
يَسْتَرْسِلُ عَلَى الْمِيَاهِ الْفَاسِدَةِ بِالنِّكَاحِ إلَّا زَانٍ أَوْ
مُشْرِكٍ كَمَا سَبَقَ ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ مَا اخْتَارَهُ عَالِمُ
الْقُرْآنِ ؛ قَالَ : الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءِ ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ
فِي الْبَغَايَا الْمُشْرِكَاتِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الزَّانِيَةَ مِنْ
الْمُسْلِمَاتِ حَرَامٌ عَلَى الْمُشْرِكِ ، وَأَنَّ الزَّانِيَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
حَرَامٌ عَلَيْهِ الْمُشْرِكَاتُ ، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الزَّانِي لَا
يَزْنِي إلَّا بِزَانِيَةٍ لَا تَسْتَحِلُّ الزِّنَا أَوْ بِمُشْرِكَةٍ
تَسْتَحِلُّهُ ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَزْنِي بِهَا إلَّا زَانٍ لَا يَسْتَحِلُّ
الزِّنَا
أَوْ مُشْرِكٌ يَسْتَحِلُّهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَمَا
فَهِمَ النَّسْخَ ؛ إذْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ
مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ بَلْ الْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَاضِدَةٌ لِهَذِهِ
الْآيَةِ وَمُوَافَقَةٌ لَهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ نِكَاحَ
الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي ، وَأَمَرَ بِنِكَاحِ الصَّالِحَاتِ وَالصَّالِحِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ
كَانَتْ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ فَكَذَلِكَ هُوَ مَعْنَاهَا ، وَهِيَ خَبَرٌ عَنْ
حُكْمِ الشَّرْعِ ، فَإِنْ وُجِدَ خِلَافُ الْمَخْبَرِ فَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } : كَانَتْ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ : مَشْهُورَاتٌ وَمُتَّخِذَاتُ أَخْدَانٍ ، وَكَانُوا بِعُقُولِهِمْ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ الزِّنَا وَيَحِلُّونَ مَا بَطَنَ ؛ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْجَمِيعِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَتَى وَفَتَاةً وَصْفٌ لِلْعَبِيدِ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَقُولَنَّ
أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي } .
وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ يُوشَعَ بْنَ
نُونٍ كَانَ عَبْدًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ
الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ
لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : مَعْنَى
الْإِحْصَانِ هَاهُنَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ ؛ فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ
الْإِسْلَامُ ؛ قَائِلُهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ
وَغَيْرُهُمْ .
وَقَالَ آخَرُونَ : أُحْصِنَّ : تَزَوَّجْنَ ؛ قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ
حُرَّةً وَالْأَمَةُ حُرًّا ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُحَدُّ الْكَافِرَةُ عَلَى
الزِّنَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ وَلَا النِّكَاحُ .
وَقُرِئَ أَحْصَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَأُحْصِنَّ
بِضَمِّهَا ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ قَالَ مَعْنَاهُ : أَسْلَمْنَ ،
وَالْإِسْلَامُ أَحَدُ مَعَانِي الْإِحْصَانِ .
وَمَنْ قَرَأَ أُحْصِنَّ بِالضَّمِّ قَالَ مَعْنَاهُ :
زُوِّجْنَ .
وَقَدْ يُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحْصَنَّ بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ زُوِّجْنَ ، فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِنَّ لِمَا وُجِدَ بِهِنَّ .
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُحْصِنَّ بِضَمِّ
الْهَمْزَةِ : أَسْلَمْنَ : مَعْنَاهُ مُنِعْنَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أَحْكَامِ الْكُفْرِ .
وَالظَّاهِرُ فِي الْإِطْلَاقِ هُوَ الْأَوَّلُ .
وَمَنْ شَرَطَ نِكَاحَ الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ لَا
مَعْنَى لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ
.
وَالْإِحْصَانُ هُوَ الْإِسْلَامُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ؛
لِأَنَّهُ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْإِحْصَانِ ، فَلَا يَنْزِلُ عَنْهُ إلَّا
بِدَلِيلٍ ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْكِحَ
الْحَرَائِرَ الْمُؤْمِنَاتِ فَلْيَنْكِحْ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ،
فَإِذَا أَسْلَمْنَ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنْ الْحَدِّ .
وَلَا يَتَنَصَّفُ الرَّجْمُ ، فَلْيَسْقُطْ
اعْتِبَارُهُ .
وَيَكُونُ الْمُرَادُ مَا يَتَشَطَّرُ وَهُوَ الْجَلْدُ
، وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ : فَإِذَا تَزَوَّجْنَ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا
عَلَى
الْأَبْكَارِ مِنْ الْعَذَابِ ، وَهُوَ الْجَلْدُ .
وَنَحْنُ أَسَدُّ تَأْوِيلًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: أَنَّ قَوْلَهُ : الْمُؤْمِنَاتُ ، يَقْتَضِي الْإِسْلَامَ .
فَقَوْلُهُ : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } يَجِبُ أَنْ
يُحْمَلَ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَرَّدَةٍ
.
الثَّانِي :
أَنَّ الْمُسْلِمَةَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ : {
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ، فَتَنَاوَلَهَا عُمُومُ هَذَا الْخِطَابِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَخُذُوا الْكَافِرَ بِهَذَا الْعُمُومِ .
قُلْنَا : الْكَافِرُ لَهُ عَهْدٌ أَلَّا نَعْتَرِضَ
عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالرَّقِيقُ لَا عَهْدَ لَهُ .
قُلْنَا :
الرِّقُّ عَهْدٌ إذَا ضُرِبَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ
بَعْدَهُ سَبِيلٌ إلَيْهِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَالْمَصْلَحَةِ
لِتَظَاهُرِهِ بِالْفَاحِشَةِ إنْ أَظْهَرَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : رَوَى
الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
الْجُهَنِيِّ { أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ
الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ
.
قَالَ : إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثَلَاثًا ثُمَّ
بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ } .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : لَا أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ
أَوْ الرَّابِعَةِ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ
لَمْ يُحْصِنْ } .
وَهَذَا نَصُّ عُمُومٍ فِي جَلْدِ مَنْ تَزَوَّجَ وَمَنْ
لَمْ يَتَزَوَّجْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
: يُقِيمُ السَّيِّدُ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ دُونَ رَأْي الْإِمَامِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقِيمُهُ إلَّا نَائِبُ
اللَّهِ وَهُوَ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى .
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ } وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْ يُقِيمُهُ ؛ فَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ ذَلِكَ إلَى السَّادَاتِ ، وَهُمْ
نُوَّابُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ ، كَمَا يَنُوبُ آحَادُ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْفَ يَتَّفِقُ لِلسَّيِّدِ أَنْ
يُقِيمَ حَدَّ الزِّنَا ؛ أَيُقِيمُهُ بِعِلْمِهِ أَمْ بِالشُّهُودِ فَيَتَصَدَّى
مَنْصِبَ قَاضٍ وَتُؤَدَّى عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ ؟ قُلْنَا : قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ
زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبُ عَلَيْهَا } .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ .
وَالزِّنَا يَتَبَيَّنُ بِالشَّهَادَةِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ
عِنْدَ الْحَاكِمِ ؛ أَوْ بِالْحَمْلِ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ السَّيِّدُ إلَى
الْإِمَامِ ، وَلَكِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَيْهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْ حَمْلِهَا إذَا وَضَعَتْهُ
وَفَصَلَتْ مِنْ نِفَاسِهَا ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ أَمَةً
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا الْحَدَّ ، فَوَجَدْتهَا
حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ ، فَخِفْت إنْ أَنَا جَلَدْتهَا أَنْ أَقْتُلَهَا فَتَرَكْتهَا
فَأَخْبَرْته .
فَقَالَ : أَحْسَنْت } .
وَلِهَذَا خَاطَبَ السَّادَاتِ بِذِكْرِ الْإِمَاءِ
اللَّاتِي يَتَبَيَّنُ زِنَاهُنَّ بِالْحَمْلِ ، وَسَكَتَ عَنْ الْعَبِيدِ
الَّذِينَ لَا يَظْهَرُ زِنَاهُمْ إلَّا بِالشَّهَادَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : دَخَلَ الذُّكُورُ تَحْتَ الْإِنَاثِ فِي قَوْلِهِ : {
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } بِعِلَّةِ
الْمَمْلُوكِيَّةِ ، كَمَا دَخَلَ الْإِمَاءُ تَحْتَ قَوْلِهِ : { مَنْ أَعْتَقَ
شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ } ؛ بِعِلَّةِ سِرَايَةِ الْعِتْقِ وَتَغْلِيبِ حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَلَى حَقِّ الْمِلْكِ .
وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ : {
وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ } دُخُولَ الْمُحْصَنِينَ فِيهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَنَتِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ
الزِّنَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
.
الثَّانِي : أَنَّهُ الْإِثْمُ .
الثَّالِثُ : الْعُقُوبَةُ .
الرَّابِعُ : الْهَلَاكُ .
الْخَامِسُ :
قَالَ الطَّبَرِيُّ : كُلُّ مَا يُعْنِتُ الْمَرْءَ
عَنَتٌ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُعْنِتُهُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَمَنْ خَافَ شَيْئًا
مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُهُ ، وَأَصْلُهُ الزِّنَا كَمَا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ فَعَلَيْهِ عُوِّلَ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } :
يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ إرْقَاقِ
الْوَلَدِ وَجَوَازِ خَوْفِ هَلَاكِ الْمَرْءِ ؛ فَاجْتَمَعَتْ فِيهِ مَضَرَّتَانِ
دُفِعَتْ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى ، فَقُدِّمَ الْمُتَحَقِّقُ عَلَى
الْمُتَوَهَّمِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْعَزْلَ حَقُّ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لِلرَّجُلِ لَكَانَ
لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيَعْزِلَ ، فَيَنْقَطِعَ خَوْفُ إرْقَاقِ الْوَلَدِ فِي
الْغَالِبِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ
لِلْمَرْأَةِ حَقٌّ إلَّا فِي الْإِيلَاجِ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ
إنَّمَا عَقْدٌ لِلْوَطْءِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لَهُ فِيهِ حَقٌّ
، وَكَمَا أَنَّ لِلرَّجُلِ فِيهِ حَقَّ الْغَايَةِ وَهُوَ الْإِيلَاجُ
وَالتَّكْرَارُ فَلِلْمَرْأَةِ فِيهِ غَايَةُ الْإِنْزَالِ وَتَمَامُ ذَوْقِ
الْعُسَيْلَةِ ، فَبِهِ تُتِمُّ اللَّذَّةُ لِلْفَرِيقَيْنِ ؛ فَإِنْ أَرَادَ
الرَّجُلُ إسْقَاطَ حَقِّهِ وَالْوُقُوفَ دُونَ هَذِهِ الْغَايَةِ فَلِلْمَرْأَةِ
حَقُّ بُلُوغِهَا .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } الْآيَةُ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ
مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْلُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ :
وَهُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ، قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً } : التِّجَارَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُعَاوَضَةِ ،
وَمِنْهُ الْأَجْرُ الَّذِي يُعْطِيهِ الْبَارِي عِوَضًا عَنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
الَّتِي هِيَ بَعْضٌ مِنْ فَضْلِهِ ، فَكُلُّ مُعَاوَضَةٍ تِجَارَةٌ عَلَى أَيِّ
وَجْهٍ كَانَ الْعِوَضُ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ : { بِالْبَاطِلِ } أَخْرَجَ مِنْهَا كُلَّ
عِوَضٍ لَا يَجُوزُ شَرْعًا مِنْ رِبًا أَوْ جَهَالَةٍ أَوْ تَقْدِيرِ عِوَضٍ
فَاسِدٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَوُجُوهِ الرِّبَا ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مُعَاوِضٍ إنَّمَا
يَطْلُبُ الرِّبْحَ إمَّا فِي وَصْفِ الْعِوَضِ أَوْ فِي قَدْرِهِ ؛ وَهُوَ أَمْرٌ
يَقْتَضِيهِ الْقَصْدُ مِنْ التَّاجِرِ لَا لَفْظُ التِّجَارَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : مِنْ جُمْلَةِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بَيْعُ الْعُرْبَانِ ،
وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْكَ السِّلْعَةَ وَيُعْطِيكَ دِرْهَمًا عَلَى أَنَّهُ إنْ
اشْتَرَاهَا تَمَّمَ الثَّمَنَ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهَا فَالدِّرْهَمُ لَكَ ،
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ
بَيْعِ الْعُرْبَانِ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا شُرِطَ الْعِوَضُ
فِي أَكْلِ الْمَالِ وَصَارَتْ تِجَارَةً خَرَجَ عَنْهَا كُلُّ عَقْدٍ لَا عِوَضَ
فِيهِ يَرِدُ عَلَى الْمَالِ ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ
مُطْلَقُ اللَّفْظِ ، وَجَازَتْ عُقُودُ الْبُيُوعَاتِ بِأَدِلَّةٍ أُخَرَ مِنْ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : الرِّبْحُ هُوَ مَا يَكْتَسِبُهُ
الْمَرْءُ زَائِدًا عَلَى قِيمَةِ مُعَوِّضِهِ فَيَأْذَنُ لَهُ فِيهِ إذَا كَانَ
مَعَهُ أَصْلُ الْعِوَضِ فِي الْمُعَامَلَةِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الرِّبْحُ
بِحَسَبِ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ إلَى عَقْدِ الصَّفْقَةِ
فَالزِّيَادَةُ أَبَدًا تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَاجِ ؛ إنْ احْتَاجَ الْبَائِعُ
أَعْطَى زَائِدًا عَلَى الثَّمَنِ مِنْ قِيمَةِ سِلْعَتِهِ ، وَإِنْ احْتَاجَ الْمُشْتَرِي
أَعْطَى زَائِدًا مِنْ الثَّمَنِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ يَسِيرًا فِي الْغَالِبِ ،
فَإِنْ كَانَ الرِّبْحُ مُتَفَاوِتًا فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ؛
فَأَجَازَهُ جَمِيعُهُمْ ، وَرَدَّهُ مَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ إذَا كَانَ
الْمَغْبُونُ لَا بَصَرَ لَهُ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ ، وَلِذَا جَوَّزَهُ فَرَاعَى
أَنَّ الْمَغْبُونَ مُفْرِطٌ ؛ إذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ
وَيُشَاوِرَ مَنْ يَعْلَمُ أَوْ يُوَكِّلَهُ ، وَإِذَا رَدَدْنَاهُ فَلِأَنَّهُ
مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ؛ إذْ لَيْسَ تَبَرُّعًا وَلَا مُعَاوَضَةً ؛ فَإِنَّ
الْمُعَاوَضَةَ عِنْدَ النَّاسِ لَا تَخْرُجُ إلَى هَذَا التَّفَاوُتِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخِلَابَةِ ، وَالْخِلَابَةُ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا
مَعَ ضَعْفِهَا كَالْغِلَابَةِ
وَهُوَ
الْغَصْبُ ، مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا مَعَ قُوَّتِهَا ، وَتَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } .
أَلَا تَرَى أَنَّ تَلَقِّيَ الرَّكْبَانِ يَتَعَلَّقُ
بِهِ الْخِيَارُ عِنْدَ تَبَيُّنِ الْحَالِ ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَقَدْ
قَرَّرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ ، فَلْنَجْمَعْ الْكَلَامَ عَلَى
الْآيَةِ فِيهَا كُلِّهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا : خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ التَّبَرُّعَاتُ
كُلُّهَا ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ الشَّرْعُ التِّجَارَةَ وَبَقِيَ غَيْرُهَا عَلَى
مُقْتَضَى النَّهْيِ حَتَّى نَسَخَهَا قَوْلُهُ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَأْكُلُوا } ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ لَمْ تَقْتَضِ
تَحْرِيمَ التَّبَرُّعَاتِ ؛ وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ الْمُعَاوَضَةِ
الْفَاسِدَةِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ
وَالْمَنْسُوخِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ } : وَهُوَ حَرْفٌ أُشْكِلَ عَلَى الْعُلَمَاءِ حَتَّى
اضْطَرَبَتْ فِيهِ آرَاؤُهُمْ :
قَالَ بَعْضُهُمْ : التَّرَاضِي هُوَ التَّخَايُرُ
بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مِنْ الْمَجْلِسِ ، وَبِهِ قَالَ
ابْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَشُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَابْنُ سِيرِينَ
، وَالشَّافِعِيُّ ، وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ : {
الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ }
وَقَالَ آخَرُونَ : إذَا تَوَاجَبَا بِالْقَوْلِ فَقَدْ تَرَاضَيَا ، يُرْوَى عَنْ
عُمَرَ وَغَيْرِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالصَّحَابَةُ .
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ
الْآيَةِ : إلَّا تِجَارَةً تَعَاقَدْتُمُوهَا وَافْتَرَقْتُمْ بِأَبْدَانِكُمْ
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ فِيهَا ؛ وَهَذِهِ دَعْوَى إنَّمَا يَدُلُّ مُطْلَقُ
الْآيَةِ عَلَى التِّجَارَةِ عَلَى الرِّضَا ، وَذَلِكَ يَنْقَضِي بِالْعَقْدِ ،
وَيَنْقَطِعُ بِالتَّوَاجُبِ ، وَبَقَاءِ التَّخَايُرِ فِي الْمَجْلِسِ لَا
تَشْهَدُ لَهُ الْآيَةُ لَا نُطْقًا وَلَا تَنْبِيهًا ، وَكُلُّ
آيَةٍ
وَرَدَتْ فِي ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُدَايِنَةِ وَالْمُعَامَلَةِ
إنَّمَا هِيَ مُطْلَقَةٌ لَا ذِكْرَ لِلْمَجْلِسِ فِيهَا وَلَا لِافْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ
مِنْهَا ؛ كَقَوْلِهِ : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } ؛ فَإِذَا عَقَدَ وَلَمْ
يُبْرِمْ لَمْ يَكُنْ وَفَاءٌ ، وَإِذَا عَقَدَ وَرَجَعَ عَنْ عَقْدِهِ لَمْ
يَكُنْ بَيْنَ الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ فَرْقٌ ، بَلْ السُّكُوتُ خَيْرٌ مِنْهُ ،
لِأَنَّهُ تَعَبٌ وَلَا الْتَزَمَ وَلَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ ، فَتَبَيَّنَ
الْأَمْرُ ، وَتَقَدَّمَ الْعُذْرُ ، وَإِذَا عَقَدَ وَحَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ
كَلَامُهُ تَعَبًا وَلَغْوًا ، وَمَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ ، وَقَدْ
أَخْبَرَ بِلِسَانِهِ عَنْ عَقْدِهِ وَرِضَاهُ ، فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ بَعْدَ
هَذَا ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ : { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ } ، فَإِذَا أَمْلَى وَكَتَبَ وَأَعْطَى الْأُجْرَةَ ثُمَّ عَادَ وَمَحَا
مَا كَتَبَ كَانَ تَلَاعُبًا وَفَسْخًا لِعَقْدٍ آخَرَ قَدْ تَقَرَّرَ .
وَكَذَلِكَ قَالَ : { وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } ،
وَإِذَا حَلَّهُ فَقَدْ بَخَسَهُ كُلَّهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ } ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَشْهَدُونَ ؟ وَلَمْ يَلْزَمْ عَقْدٌ وَلَا
انْبَرَمَ أَمْرٌ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ } يَلْزَمُ مِنْهُ مَا لَزِمَ
مِنْ قَوْلِهِ : { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } فَيُضِيفُ
عَقْدًا إلَى غَيْرِ عَقْدٍ ، وَيَرْتَهِنُ إلَى غَيْرِ وَاجِبٍ وَاعْتِبَارُ
خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَحْدَهُ مُبْطِلٌ لِهَذَا كُلِّهِ ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ
أَوْلَى أَنْ يُرَاعَى ؟ وَأَيُّ الْحَالَيْنِ أَقْوَى أَنْ يُعْتَبَرَ ؟ فَإِنْ
قِيلَ : أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ
فِي أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَنْقَضِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ .
قُلْنَا : الْغَالِبُ ضِدُّهُ ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ
بَقَاءُ الشُّهُودِ حَتَّى يَقُومَ الْمُتَعَاقِدَانِ ؟ هَذَا لَمْ يُعْهَدْ
وَلَمْ يُتَّفَقْ .
فَإِنْ تَعَلَّقُوا
بِخَبَرِ ابْنِ
عُمَرَ وَغَيْرِهِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْقُرْآنِ إلَى
الْأَخْبَارِ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا
يَجِبُ ، فَلَا نُدْخِلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : هَذَا نَصٌّ عَلَى
إبْطَالِ بَيْعِ الْمُكْرَهِ لِفَوَاتِ الرِّضَا فِيهِ ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى
إبْطَالِ أَفْعَالِهِ كُلِّهَا حَمْلًا عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا تَقْتُلُوا أَهْلَ مِلَّتِكُمْ .
الثَّانِي : لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .
الثَّالِثُ : لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا
نُهِيتُمْ عَنْهُ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَكُلُّهَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَقْعَدَ
مِنْ بَعْضٍ فِي الدِّينِ مِنْ اللَّفْظِ وَاسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ : وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ
تَحْتَهُ ، وَلَكِنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ مِنْ النَّظَرِ ؛ وَهِيَ أَنَّ هَذَا
الَّذِي اخْتَرْنَاهُ يَسْتَوْفِي الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ فِي لَفْظِ الْقَتْلِ
، وَعَلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى صَرِيحِ الْقَتْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ : {
أَنْفُسَكُمْ } مَجَازًا أَيْضًا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْمَجَازِ
فَمَجَازٌ يَسْتَوْفِي الْمَعْنَى وَيَقُومُ بِالْكُلِّ أَوْلَى ؛ وَهَذَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } ،
فَتَدَبَّرُوهُ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا
} : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَالْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ لَا
يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَتَّصِفُ بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ
، إلَّا فَرْعٌ وَاحِدٌ مِنْهَا وَهُوَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ ، فَإِنَّ
فِعْلَهُ يَتَّصِفُ إجْمَاعًا بِالْعُدْوَانِ ؛ فَلَا جَرَمَ يُقْتَلُ عِنْدَنَا
بِمَنْ قَتَلَهُ ، وَلَا يَنْتَصِبُ الْإِكْرَاهُ عُذْرًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ
فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا } : اُخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِهِ ؛
فَقِيلَ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } إلَى هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ
مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ وَعِيدُهُ فِيهِ .
وَقِيلَ :
إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ
وَعِيدِهِ جَاءَ مَعَهُ مَخْصُوصًا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ
أَيْضًا ؛ إذْ لَا تَنَاقُضَ فِيهِ ؛ بَلْ فِيهِ تَأْكِيدٌ [ لَهُ ] .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : هَاهُنَا دَقِيقَةٌ
أَغْفَلَهَا الْعُلَمَاءُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا إذَا نَزَلَتْ لَا نَعْلَمُ هَلْ
كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مَا سَبَقَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إلَى
هُنَا مُنَزَّلًا مَكْتُوبًا ، أَمْ نَزَلَ جَمِيعُهُ بَعْدَ نُزُولِهَا ؟ وَإِذَا
عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَقَدَّمَ نُزُولًا وَكِتَابَةً لَا يَقْتَضِي
قَوْلُهُ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ
دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ دُونَ جَمِيعِ مَا فِيهِ مِنْ
مَمْنُوعٍ مُحَرَّمٍ .
فَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ : { ذَلِكَ } يَرْجِعُ إلَى
قَوْلِهِ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } يَقِينًا ؛ وَغَيْرُهُ مُحْتَمَلٌ
مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا
وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : يُرْوَى { أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
، تَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو ؟ وَيَذْكُرُ الرِّجَالُ وَلَا نَذْكُرُ ؟ وَلَنَا
نِصْفُ الْمِيرَاثِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَلَا
تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي حَقِيقَةِ التَّمَنِّي : وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِرَادَةِ
يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبِلِ ، كَالتَّلَهُّفِ نَوْعٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ
عَنْ التَّمَنِّي ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعَلُّقَ الْبَالِ بِالْمَاضِي وَنِسْيَانَ
الْآجِلِ ، وَلِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ ،
وَتَفَطَّنَ الْبُخَارِيُّ لَهُ فَعَقَدَ لَهُ فِي جَامِعِهِ كِتَابًا فَقَالَ :
كِتَابُ التَّمَنِّي ، وَأَدْخَلَ فِيهِ أَبْوَابًا وَمَسَائِلَ هُنَاكَ تُرَى
مُسْتَوْفَاةً بَالِغَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْمُرَادُ هَاهُنَا
النَّهْيُ عَنْ التَّمَنِّي الَّذِي تَسْتَحْسِنُهُ عِنْدَ الْغَيْرِ حَتَّى يَنْتَقِلَ
إلَيْكَ ، وَهُوَ الْحَسَدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ .
أَمَّا أَنَّهُ يَجُوزُ تَمَنِّي مِثْلِهِ وَهِيَ
الْغِبْطَةُ ، فَيُسْتَحَبُّ الْغَبْطُ فِي الْخَيْرِ ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا حَسَدَ إلَّا فِي
اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ يَتْلُو الْقُرْآنَ ، وَآخَرُ يَعْمَلُ الْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُهَا } .
هَذَا مَعْنَاهُ .
قَالَ : اعْمَلُوا وَلَا تَتَمَنَّوْا ، فَلَيْتَكُمْ
قُمْتُمْ بِمَا أُوتِيتُمْ ، وَاسْتَطَعْتُمْ مَا عِنْدَكُمْ .
وَأَحْسَنُ عِبَارَةٍ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ :
كُنْ طَالِبَ حُقُوقِ مَوْلَاكَ وَلَا تَتَّبِعْ مُتَعَلِّقَاتِ هَوَاكَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ الْمَالَ
وَمَا يَدْرِيهِ لَعَلَّ هَلَاكَهُ فِيهِ .
وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا تَمَنَّاهُ لِلدُّنْيَا ،
وَأَمَّا إذَا تَمَنَّاهُ لِلْخَيْرِ فَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّرْعُ كَمَا تَقَدَّمَ
؛ فَيَتَمَنَّاهُ الْعَبْدُ لِيَصِلَ بِهِ إلَى الرَّبِّ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا
يَشَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا
وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَمَّا
نَصِيبُهُمْ فِي الْأَجْرِ فَسَوَاءٌ ؛ كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ،
لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ .
وَأَمَّا نَصِيبُهُمْ فِي مَالِ الدُّنْيَا فَبِحَسَبِ
مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ ، وَرَكَّبَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ مِنْ
التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ رَتَّبَ أَنْصِبَاءَهُمْ ، فَلَا تَتَمَنَّوْا مَا
حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَأَحْكَمَ بِمَا عَلِمَ وَدَبَّرَ حُكْمَهُ .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ
مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمَوْلَى فِي
لِسَانِ الْعَرَبِ يَنْطَلِقُ عَلَى ثَمَانِيَةِ مَعَانٍ ، قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي
كِتَابِ " الْأَمَدِ " وَغَيْرِهِ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْوَلِيِّ وَهُوَ
الْقُرْبُ ، وَتَخْتَلِفُ دَرَجَاتُ الْقُرْبِ وَأَسْبَابُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَاهُ مَوْلَى الْعَصَبَةِ
؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ
: { مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } .
وَلَيْسَ بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إلَّا
الْعَصَبَةُ ، وَيُفَسِّرُهُ وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا أَبْقَتْ
الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمَوْلَى الْمُنْعِمُ
بِالْعِتْقِ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لِلْوَلَاءِ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } .
وَلَيْسَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ نَسِيبًا
وَلَا وَارِثًا ؛ وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُكْمُ النَّسَبِ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ ،
فَكَأَنَّ الْوَلَاءَ أُبُوَّةٌ لِأَنَّهُ أَوْجَدَهُ بِالْعِتْقِ حُكْمًا ، كَمَا
أَوْجَدَ الْأَبُ ابْنَهُ بِالِاكْتِسَابِ لِلْوَطْءِ حِسًّا .
قَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : هُوَ وَارِثٌ
؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّسَبِ إذَا ثَبَتَ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ
يَثْبُتَ مِنْ الْأُخْرَى ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } .
وَاسْتَهَانَ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا الْكَلَامِ ، وَهِيَ فِي
غَايَةِ الْإِشْكَالِ ، وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا هُوَ
فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ بِالْعِتْقِ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ
لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ
.
الثَّانِي
: أَنَّ الْإِنْعَامَ بِالْعِتْقِ لَا مُقَابِلَ لَهُ
إلَّا الْعِتْقُ مِنْ النَّارِ حَسْبَمَا قَابَلَهُ [ بِهِ ] النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ : { أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ
مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ
} .
وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي مُتَعَلَّقٌ إلَّا
الْإِجْمَاعُ السَّابِقُ لِطَاوُسٍ فِيهِ وَلِمَنْ قَالَهُ بَعْدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } : اخْتَلَفَ النَّاسُ
فِيهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، فَتَارَةً قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ
أَيُّهُمَا مَاتَ وِرْثَهُ الْآخَرُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُولُوا
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ
مَعْرُوفًا } يَعْنِي تُؤْتُوهُمْ مِنْ الْوَصِيَّةِ جَمِيلًا وَإِحْسَانًا فِي الثُّلُثِ
الْمَأْذُونِ فِيهِ .
وَتَارَةً قَالَ : كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا
قَدِمُوا الْمَدِينَةَ حَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَهُمْ ، فَكَانَ الْأَنْصَارِيُّ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيَّ ، وَالْمُهَاجِرِيُّ
يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، ثُمَّ انْقَطَعَ ذَلِكَ
فَلَا تَوَاخِيَ بَيْنَ أَحَدٍ الْيَوْمَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ كَانُوا
يَتَبَنَّوْنَ الْأَبْنَاءَ ، فَرَدَّ اللَّهُ الْمِيرَاثَ إلَى ذَوِي
الْأَرْحَامِ وَالْعَصَبَةِ ، وَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْوَصِيَّةِ .
وَقَدْ أَحْكَمَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ بَيَانًا
بِمَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْهَانًا
قَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
الصَّحِيحِ : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } قَالَ : وَرَثَةٌ ، { وَاَلَّذِينَ
عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ
يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي
آخَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ
: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } نُسِخَتْ .
ثُمَّ قَالَ
: وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ النَّصْرِ
وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوَصَّى لَهُ ،
وَهَذَا غَايَةٌ لَيْسَ لَهَا مَطْلَبٌ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :
حُكْمُ الْآيَةِ بَاقٍ مَنْ يَرِثُ بِهِ وَبِالِاشْتِرَاكِ فِي الدُّيُونِ
لِاشْتِرَاكِهِمَا عِنْدَهُ فِي الْعَقْدِ ، وَهَذَا بَابٌ قَدْ
اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَاهُنَا مَعْنَى الْآيَةِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهَا مَعْنًى .
الْآيَةُ
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ
بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ
اللَّهُ وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلًا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } .
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : {
جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ :
إنَّ زَوْجِي لَطَمَ وَجْهِي .
قَالَ : بَيْنَكُمَا الْقِصَاصُ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ } .
قَالَ حَجَّاجُ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ : فَأَمْسَكَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } } .
قَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ : سَمِعْت الْحَسَنَ يَقْرَؤُهَا : مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَقْضِيَ إلَيْكَ وَحْيَهُ ، بِالنُّونِ وَنَصْبِ الْيَاءِ مِنْ
" وَحْيَهُ " .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { قَوَّامُونَ
} : يُقَالُ قَوَّامٌ وَقَيِّمٌ ، وَهُوَ فَعَّالٌ وَفَيْعَلٌ مِنْ قَامَ ،
الْمَعْنَى هُوَ أَمِينٌ عَلَيْهَا يَتَوَلَّى أَمْرَهَا ، وَيُصْلِحُهَا فِي
حَالِهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَلَيْهَا لَهُ الطَّاعَةُ وَهِيَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الزَّوْجَانِ
مُشْتَرَكَانِ فِي الْحُقُوقِ ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : {
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } بِفَضْلِ الْقَوَّامِيَّةِ ؛ فَعَلَيْهِ
أَنْ يَبْذُلَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ ، وَيُحْسِنَ الْعِشْرَةَ وَيَحْجُبَهَا ، وَيَأْمُرَهَا
بِطَاعَةِ اللَّهِ ، وَيُنْهِيَ إلَيْهَا شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ
وَصِيَامٍ إذَا وَجَبَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَيْهَا الْحِفْظُ لِمَالِهِ ،
وَالْإِحْسَانُ إلَى أَهْلِهِ ، وَالِالْتِزَامُ لِأَمْرِهِ فِي الْحَجَبَةِ
وَغَيْرِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَقَبُولِ
قَوْلِهِ
فِي الطَّاعَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { بِمَا
فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } : الْمَعْنَى إنِّي جَعَلْت
الْقَوَّامِيَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ لِأَجْلِ تَفْضِيلِي لَهُ
عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : الْأَوَّلُ : كَمَالُ الْعَقْلِ
وَالتَّمْيِيزِ .
الثَّانِي :
كَمَالُ الدِّينِ وَالطَّاعَةِ فِي الْجِهَادِ
وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى الْعُمُومِ ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتٍ عَقْلٍ
وَدِينٍ أَسْلَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ .
قُلْنَ :
وَمَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَلَيْسَ
إحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ اللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي وَلَا تَصُومُ ؛ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ
دِينِهَا .
وَشَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ
الرَّجُلِ ، فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا } .
وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ
بِالنَّقْصِ ، فَقَالَ : { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى } .
الثَّالِثُ : بَذْلُهُ الْمَالَ مِنْ الصَّدَاقِ
وَالنَّفَقَةِ ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا هَاهُنَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ } : يَعْنِي مُطِيعَاتٌ ،
وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقُنُوتِ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ } : يَعْنِي غَيْبَةَ زَوْجِهَا ، لَا تَأْتِي فِي
مَغِيبِهِ بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ مِنْهَا فِي حُضُورِهِ ؛ وَقَدْ قَالَ
الشَّعْبِيُّ : إنَّ شُرَيْحًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ
لَهَا زَيْنَبُ .
قَالَ : فَلَمَّا تَزَوَّجْتهَا نَدِمْت حَتَّى أَرَدْت
أَنْ أُرْسِلَ إلَيْهَا بِطَلَاقِهَا
.
فَقُلْت : لَا أَعْجَلُ حَتَّى يُجَاءَ بِهَا .
قَالَ :
فَلَمَّا جِيءَ بِهَا تَشَهَّدَتْ ثُمَّ قَالَتْ :
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ نَزَلْنَا مَنْزِلًا لَا نَدْرِي مَتَى نَظْعَنُ مِنْهُ ،
فَانْظُرْ الَّذِي تَكْرَهُ ، هَلْ تَكْرَهُ زِيَارَةَ الْأَخْتَانِ ؟ فَقُلْت : أَمَّا بَعْدُ
فَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ ، لَا أَكْرَهُ الْمُرَافَقَةَ ، وَإِنِّي لَأَكْرَهُ
مُلَالِ الْأَخْتَانِ قَالَ : فَمَا شَرَطْتُ شَيْئًا إلَّا وَفَتْ بِهِ قَالَ :
فَأَقَامَتْ سَنَةً ثُمَّ جِئْت يَوْمًا وَمَعَهَا فِي الْحَجَلَةِ إنْسٌ ،
فَقُلْت : إنَّا لِلَّهِ .
فَقَالَتْ : أَبَا أُمَيَّةَ ، إنَّهَا أُمِّي ،
فَسَلَّمَ عَلَيْهَا .
فَقَالَتْ : اُنْظُرْ فَإِنْ رَابَكَ شَيْءٌ مِنْهَا
فَأَوْجِعْ رَأْسَهَا .
قَالَ : فَصَحِبَتْنِي ثُمَّ هَلَكَتْ قَبْلِي .
قَالَ : فَوَدِدْت أَنِّي قَاسَمْتهَا عُمْرِي أَوْ
مِتُّ أَنَا وَهِيَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ
.
وَقَالَ شُرَيْحٌ : رَأَيْت رِجَالًا يَضْرِبُونَ
نِسَاءَهُمْ فَشُلَّتْ يَمِينِي يَوْمَ أَضْرِبُ زَيْنَبَا الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى
: { بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } : يَعْنِي بِحِفْظِ اللَّهِ
، وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ لِلْعَبْدِ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ ؛
فَإِنَّهُ إذَا شَاءَ أَنْ يَحْفَظَ عَبْدَهُ لَمْ يَخْلُقْ لَهُ إلَّا قُدْرَةَ الطَّاعَةِ
، فَإِنْ تَوَالَتْ كَانَتْ لَهُ عِصْمَةٌ وَلَا تَكُونُ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ
نُشُوزَهُنَّ } : قِيلَ فِيهِ : تَظُنُّونَ ، وَقِيلَ تَتَيَقَّنُونَ ؛ وَلِكُلِّ
وَجْهٍ مَعْنًى يَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَرْكِيبِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { نُشُوزَهُنَّ
} : يَعْنِي امْتِنَاعَهُنَّ مِنْكُمْ ؛ عَبَّرَ عَنْهُ بِالنُّشُوزِ ، وَهُوَ
مِنْ النَّشَزِ : الْمُرْتَفَعُ مِنْ الْأَرْضِ ، وَإِنَّ كُلَّ مَا امْتَنَعَ
عَلَيْكَ فَقَدْ نَشَزَ عَنْكَ حَتَّى مَاءُ الْبِئْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةِ : قَوْله تَعَالَى : { فَعِظُوهُنَّ
} : وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِاَللَّهِ فِي التَّرْغِيبِ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ ثَوَابٍ
، وَالتَّخْوِيفِ لِمَا لَدَيْهِ مِنْ عِقَابٍ ، إلَى مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَرِّفُهَا
بِهِ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي إجْمَالِ الْعِشْرَةِ ، وَالْوَفَاءِ بِذِمَامِ
الصُّحْبَةِ ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الطَّاعَةِ لِلزَّوْجِ ، وَالِاعْتِرَافِ
بِالدَّرَجَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ إلَى أَحَدٍ
لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا } .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } :
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ فِي فِرَاشِهِ ؛ قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : لَا يُكَلِّمُهَا ، وَإِنْ وَطِئَهَا ؛
قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَأَبُو الضُّحَى
.
الثَّالِثُ :
لَا يَجْمَعُهَا وَإِيَّاهُ فِرَاشٌ وَلَا وَطْءٌ حَتَّى
تَرْجِعَ إلَى الَّذِي يُرِيدُ ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
وَغَيْرِهِمْ .
الرَّابِعُ : يُكَلِّمُهَا وَيُجَامِعُهَا ، وَلَكِنْ
بِقَوْلٍ فِيهِ غِلَظٌ وَشِدَّةٌ إذَا قَالَ لَهَا تَعَالِي ؛ قَالَهُ سُفْيَانُ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : مَا ذَكَرَهُ مَنْ تَقَدَّمَ مُعْتَرَضٌ
، وَذَكَرَ ذَلِكَ ، وَاخْتَارَ أَنَّ مَعْنَاهُ يُرْبَطْنَ بِالْهِجَارِ وَهُوَ
الْحَبْلُ فِي الْبُيُوتِ ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمَضَاجِعِ ، إذْ لَيْسَ
لِكَلِمَةِ { اُهْجُرُوهُنَّ } إلَّا أَحَدُ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ .
فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ
الْهَذَيَانُ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُدَاوَى بِذَلِكَ ، وَلَا مِنْ الْهَجْرِ
الَّذِي هُوَ مُسْتَفْحَشٌ مِنْ الْقَوْلِ ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِهِ ؛
فَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ إلَّا أَنْ تَرْبِطُوهُنَّ بِالْهِجَارِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : يَا لَهَا هَفْوَةٌ مِنْ
عَالِمٍ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَإِنِّي لَأَعْجَبَكُمْ مِنْ ذَلِكَ ؛ إنَّ
الَّذِي أَجْرَأَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُصَرِّحَ
بِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ ، هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةَ الزُّبَيْرِ
بْنِ الْعَوَّامِ كَانَتْ تَخْرُجُ حَتَّى عُوتِبَ فِي ذَلِكَ .
قَالَ : وَعَتَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى ضَرَّتِهَا ،
فَعَقَدَ شَعْرَ وَاحِدَةٍ بِالْأُخْرَى ، وَضَرَبَهُمَا ضَرْبًا شَدِيدًا ،
وَكَانَتْ الضَّرَّةُ أَحْسَنُ اتِّقَاءً ، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ لَا تَتَّقِي ؛
فَكَانَ الضَّرْبُ بِهَا أَكْثَرَ وَآثَرَ ؛ فَشَكَتْهُ إلَى أَبِيهَا أَبِي
بَكْرٍ ؛ فَقَالَ لَهَا : أَيْ بُنَيَّةَ اصْبِرِي ؛ فَإِنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ
صَالِحٌ ،
وَلَعَلَّهُ
أَنْ يَكُونَ زَوْجَكِ فِي الْجَنَّةِ ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا
ابْتَكَرَ بِالْمَرْأَةِ تَزَوَّجَهَا فِي الْجَنَّةِ .
فَرَأَى الرَّبْطَ وَالْعَقْدَ مَعَ احْتِمَالِ
اللَّفْظِ مَعَ فِعْلِ الزُّبَيْرَ ، فَأَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لِذَلِكَ .
وَعَجَبًا لَهُ مَعَ تَبَحُّرِهِ فِي الْعُلُومِ وَفِي
لُغَةِ الْعَرَبِ كَيْفَ بَعُدَ عَلَيْهِ صَوَابُ الْقَوْلِ ، وَحَادَ عَنْ
سَدَادِ النَّظَرِ ؛ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ أَخْذِ
الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ الْمُفْضِيَةِ بِسَالِكِهَا إلَى
السَّدَادِ ؛ فَنَظَرْنَا فِي مَوَارِدِ " هـ ج ر " فِي لِسَانِ
الْعَرَبِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ فَوَجَدْنَاهَا سَبْعَةً : ضِدَّ الْوَصْلِ .
مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْقَوْلِ .
مُجَانَبَةُ الشَّيْءِ ، وَمِنْهُ الْهَجْرَةُ .
هَذَيَانُ الْمَرِيضِ .
انْتِصَافُ النَّهَارِ .
الشَّابُّ الْحَسَنِ .
الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ فِي حِقْوِ الْبَعِيرِ ثُمَّ
يُشَدُّ فِي أَحَدِ رُسْغَيْهِ
.
وَنَظَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَوَارِدِ فَأَلْفَيْنَاهَا
تَدُورُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْبَعْدُ عَنْ الشَّيْءِ فَالْهَجْرُ قَدْ
بَعُدَ عَنْ الْوَصْلِ الَّذِي يَنْبَغِي مِنْ الْأُلْفَةِ وَجَمِيلِ الصُّحْبَةِ
، وَمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْقَوْلِ قَدْ بَعُدَ عَنْ الصَّوَابِ ،
وَمُجَانَبَةُ الشَّيْءِ بُعْدٌ مِنْهُ وَأَخْذٌ فِي جَانِبٍ آخَرَ عَنْهُ ،
وَهَذَيَانُ الْمَرِيضِ قَدْ بَعُدَ عَنْ نِظَامِ الْكَلَامِ ، وَانْتِصَافُ
النَّهَارِ قَدْ بَعُدَ عَنْ طَرَفَيْهِ الْمَحْمُودَيْنِ فِي اعْتِدَالِ
الْهَوَاءِ وَإِمْكَانِ التَّصَرُّفِ
.
وَالشَّابُّ الْحَسَنُ قَدْ بَعُدَ عَنْ الْعَابِ ،
وَالْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْبَعِيرُ قَدْ أَبْعَدَهُ عَنْ اسْتِرْسَالِهِ
فِي تَصَرُّفِهِ وَاسْتِرْسَالِ مَا رُبِطَ عَنْ تَقَلْقُلِهِ وَتَحَرُّكِهِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَكَانَ مَرْجِعُ الْجَمِيعِ
إلَى الْبُعْدِ فَمَعْنَى الْآيَةِ : أَبَعِدُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ .
وَلَا يُحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ الَّذِي
ذَكَرَهُ الْعَالَمُ ، وَهُوَ لَا يَنْبَغِي لِمِثْلِ السُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ
فَكَيْفَ أَنْ يَخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ ، فَاَلَّذِي قَالَ : يُوَلِّيهَا
ظَهْرَهُ
جَعَلَ الْمَضْجَعَ
ظَرْفًا لِلْهَجْرِ ، وَأَخَذَ الْقَوْلَ عَلَى أَظْهَرْ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ
حَبْرُ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْأَقَلِّ ، وَهِيَ
مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الْأُصُولِ .
وَاَلَّذِي قَالَ يَهْجُرُهَا فِي الْكَلَامِ حَمَلَ
الْأَمْرَ عَلَى الْأَكْثَرِ الْمُوفِي ، فَقَالَ : لَا يُكَلِّمُهَا وَلَا
يُضَاجِعُهَا ، وَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ كَمَا يَقُولُ : اُهْجُرْهُ فِي اللَّهِ
، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَالِكٍ
.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي
تَفْسِيرِ الْآيَةِ : بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ لَهُ
نِسَاءٌ فَكَانَ يُغَاضِبُ بَعْضَهُنَّ ، فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَتُهَا يَفْرِشُ
فِي حُجْرَتِهَا وَتَبِيتُ هِيَ فِي بَيْتِهَا فَقُلْت لِمَالِكٍ : وَذَلِكَ لَهُ
وَاسِعٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى : {
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
} وَاَلَّذِي قَالَ : لَا يُكَلِّمُهَا وَإِنْ وَطِئَهَا
فَصَرَفَهُ نَظَرُهُ إلَى أَنْ جَعَلَ الْأَقَلَّ فِي الْكَلَامِ ، وَإِذَا وَقَعَ
الْجِمَاعُ فَتْرُكِ الْكَلَامِ سَخَافَةٌ ، هَذَا وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ .
وَاَلَّذِي قَالَ : يُكَلِّمُهَا بِكَلَامٍ فِيهِ غِلَظٌ
إذَا دَعَاهَا إلَى الْمَضْجَعِ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ
الْقَوْلِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ الْقَوْلِ فِي الرَّأْي ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَ التَّثْرِيبَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَهُوَ
الْعِقَابُ بِالْقَوْلِ ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ مَعَ ذَلِكَ بِالْغِلْظَةِ عَلَى
الْحُرَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاضْرِبُوهُنَّ } ثَبَتَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ ،
إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا ؛
لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ،
وَعَلَيْهِنَّ أَلَّا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، فَإِنْ فَعَلْنَ
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، فَإِنْ انْتَهَيْنَ
فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاشِزَ لَا
نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ ، وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ الْبَذَاءُ لَيْسَ
الزِّنَا كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ ، فَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّرْبَ ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُبَرِّحًا ، أَيْ
لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ عَلَى الْبَدَنِ يَعْنِي مِنْ جُرْحٍ أَوْ كَسْرٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : مِنْ أَحْسَنِ
مَا سَمِعْت فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ؛ قَالَ
: يَعِظُهَا فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا
ضَرَبَهَا ، فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا بَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، فَيَنْظُرَانِ مِمَّنْ الضَّرَرُ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ
الْخُلْعُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عَطَاءٌ :
لَا يَضْرِبُهَا وَإِنْ أَمَرَهَا وَنَهَاهَا فَلَمْ تُطِعْهُ ، وَلَكِنْ يَغْضَبُ
عَلَيْهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ ،
فَإِنَّهُ مِنْ فَهْمِهِ بِالشَّرِيعَةِ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ
عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هَاهُنَا أَمْرُ إبَاحَةٍ ، وَوَقَفَ عَلَى
الْكَرَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ : { إنِّي
لَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ يَضْرِبُ أَمَتَهُ عِنْدَ غَضَبِهِ ، وَلَعَلَّهُ أَنْ
يُضَاجِعَهَا مِنْ يَوْمِهِ } .
وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ { أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُؤْذِنَ فِي ضَرْبِ النِّسَاءِ ، فَقَالَ :
اضْرِبُوا ، وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ } .
فَأَبَاحَ وَنَدَبَ إلَى التَّرْكِ .
وَإِنَّ فِي الْهَجْرِ لَغَايَةَ الْأَدَبِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَا
يَسْتَوُونَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُقْرَعُ بِالْعَصَا وَالْحُرَّ
تَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ ؛ وَمِنْ النِّسَاءِ ، بَلْ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَا
يُقِيمُهُ إلَّا الْأَدَبُ ، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَلَهُ أَنْ
يُؤَدِّبَ ، وَإِنْ تَرَكَ فَهُوَ أَفْضَلُ .
قَالَ بَعْضُهُمْ وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَا أَسْوَأُ أَدَبِ
وَلَدِكِ فَقَالَ : مَا أُحِبُّ اسْتِقَامَةَ وَلَدِي فِي فَسَادِ دِينِي .
وَيُقَالُ : مِنْ حُسْنِ خُلُقِ السَّيِّدِ سُوءُ أَدَبِ
عَبْدِهِ .
وَإِذَا لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلرَّجُلِ
زَوْجَةً صَالِحَةً وَعَبْدًا مُسْتَقِيمًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُهُ
مَعَهُمَا إلَّا بِذَهَابِ جُزْءٍ مِنْ دِينِهِ ، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ .
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بَعْدَ الْهَجْرِ وَالْأَدَبِ فَلَا
تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا
.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا
فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا
إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } .
وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : وَهِيَ مِنْ
الْآيَاتِ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَلَمْ نَجِدْ لَهَا فِي بِلَادِنَا
أَثَرًا ؛ بَلْ لَيْتَهُمْ يُرْسِلُونَ إلَى الْأَمِينَةِ ، فَلَا بِكِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى ائْتَمَرُوا ، وَلَا بِالْأَقْيِسَةِ اجْتَزَوْا ، وَقَدْ نَدَبْت إلَى
ذَلِكَ فَمَا أَجَابَنِي إلَى بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ الشِّقَاقِ إلَّا قَاضٍ
وَاحِدٌ ، وَلَا إلَى الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ إلَّا قَاضٍ آخَرُ
، فَلَمَّا وَلَّانِي اللَّهُ الْأَمْرَ أَجْرَيْت السُّنَّةَ كَمَا يَنْبَغِي ،
وَأَرْسَلْت الْحَكَمَيْنِ ، وَقُمْت فِي مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ كَمَا عَلَّمَنِي
اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْأَدَبِ لِأَهْلِ بَلَدِنَا لِمَا
غَمَرَهُمْ مِنْ الْجَهَالَةِ ؛ وَلَكِنْ أَعْجَبُ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ
لِلْحَكَمَيْنِ عِنْدَهُ خَبَرٌ ، وَهُوَ كَثِيرًا مَا يَتْرُكُ الظَّوَاهِرَ وَالنُّصُوصَ
لِلْأَقْيِسَةِ ؛ بَلْ أَعْجَبُ أَيْضًا مِنْ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ مَا
نَصُّهُ : الَّذِي يُشْبِهُ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّهُ فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ
مَعًا حَتَّى يَشْتَبِهَ فِيهِ حَالَاهُمَا ، وَذَلِكَ أَنِّي وَجَدْت اللَّهَ
سُبْحَانَهُ أَذِنَ فِي نُشُوزِ الزَّوْجِ بِأَنْ يُصَالَحَا ، وَبَيَّنَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ، وَبَيَّنَ فِي نُشُوزِ الْمَرْأَةِ
بِالضَّرْبِ ، وَأَذِنَ فِي خَوْفِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
بِالْخُلْعِ ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بِرِضَاءِ الْمَرْأَةِ ، وَحُظِرَ
أَنْ يَأْخُذُ الرَّجُل مِمَّا أَعْطَى شَيْئًا إنْ أَرَادَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ
زَوْجٍ ، فَلَمَّا أَمَرَ فِيمَنْ خِفْنَا الشِّقَاقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَكَمَيْنِ
دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ ، فَلَمَّا
كَانَ كَذَلِكَ بَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَا
يَبْعَثُ الْحَكَمَيْنِ إلَّا مَأْمُونَيْنِ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ
وَتَوْكِيلِهِمَا
لِلْحَكَمَيْنِ
بِأَنْ يَجْمَعَا أَوْ يُفَرِّقَا إذَا رَأَيَا ذَلِكَ .
وَوَجَدْنَا حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : هَذَا مُنْتَهَى كَلَامِ
الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابُهُ يَفْرَحُونَ بِهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُلْتَفَتُ
إلَيْهِ وَلَا يُشْبِهُ نِصَابَهُ فِي الْعِلْمِ ، وَقَدْ تَوَلَّى الْقَاضِي
أَبُو إِسْحَاقَ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْصِفْهُ فِي الْأَكْثَرِ .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِي الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالْإِنْصَافِ
وَالتَّحْقِيقِ أَنْ نَقُولَ : أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي يُشْبِهُ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّهُ
فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ بَلْ هُوَ نَصُّهُ ، وَهِيَ مِنْ
أَبْيَنِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَأَوْضَحِهَا جَلَاءً ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } .
وَمَنْ خَافَ مِنْ امْرَأَتِهِ نُشُوزًا وَعَظَهَا ؛
فَإِنْ أَنَابَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ ؛ فَإِنْ ارْعَوَتْ وَإِلَّا
ضَرَبَهَا ، فَإِنْ اسْتَمَرَّتْ فِي غُلَوَائِهَا مَشَى الْحَكَمَانِ إلَيْهِمَا
؛ وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانٌ .
وَدَعْهُ لَا يَكُونُ نَصًّا يَكُونُ ظَاهِرًا ،
فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ الشَّافِعِيُّ يُشْبِهُ الظَّاهِرَ فَلَا نَدْرِي مَا
الَّذِي يُشْبِهُ الظَّاهِرَ ؟ وَكَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ : { وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } ؛ فَنَصَّ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَيَقُولُ هُوَ :
يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا عَمَّهُمَا وَأَذِنَ فِي خَوْفِهِمَا أَلَّا
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ بِالْخُلْعِ ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بِرِضَا
الْمَرْأَةِ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، وَهُوَ نَصُّهُ .
ثُمَّ قَالَ
: فَلَمَّا أَمَرَ بِالْحَكَمَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ
حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ بِأَنْ
يَنْفُذَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا ، فَتَتَحَقَّقُ الْغَيْرِيَّةُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا يَبْعَثُ الْحَكَمَيْنِ إلَّا
مَأْمُونَيْنِ فَصَحِيحٌ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ
بِتَوْكِيلِهِمَا
فَخَطَأٌ صُرَاحٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَاطَبَ غَيْرَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خَافَا
الشِّقَاقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِإِرْسَالِ الْحَكَمَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ
الْمُخَاطَبُ غَيْرَهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ بِتَوْكِيلِهِمَا ، وَلَا
يَصِحُّ لَهُمَا حُكْمٌ إلَّا بِمَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ
كُلِّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يُخَالِفُ الْآخَرَ ، وَذَلِكَ لَا
يُمْكِنُ هَاهُنَا .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَإِنْ خِفْتُمْ
} : قَالَ السُّدِّيُّ : يُخَاطِبُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ إذَا ضَرَبَهَا
فَشَاقَّتْهُ ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ لِحَكَمِهَا : قَدْ وَلَّيْتُكَ أَمْرِي
وَحَالِي كَذَا ؛ وَيَبْعَثُ الرَّجُلُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَيَقُولُ لَهُ :
حَالِي كَذَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمَالَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : الْمُخَاطَبُ
السُّلْطَانُ ، وَلَمْ يَنْتَهِ رَفْعُ أَمْرِهِمَا إلَى السُّلْطَانِ ،
فَأَرْسَلَ الْحَكَمَيْنِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ يَكُونُ السُّلْطَانَ ، وَقَدْ
يَكُونُ الْوَلِيَّيْنِ إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ مَحْجُورَيْنِ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُخَاطَبَ الزَّوْجَانِ
فَلَا يَفْهَمُ كِتَابَ اللَّهِ كَمَا قَدَّمْنَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ السُّلْطَانُ فَهُوَ
الْحَقُّ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ : إنَّهُ قَدْ يَكُونُ
الْوَلِيَّيْنِ فَصَحِيحٌ ، وَيُفِيدُهُ لَفْظُ الْجَمْعِ ، فَيَفْعَلُهُ
السُّلْطَانُ تَارَةً ، وَيَفْعَلُهُ الْوَصِيُّ أُخْرَى .
وَإِذَا أَنْفَذَ الْوَصِيَّانِ حَكَمَيْنِ فَهُمَا
نَائِبَانِ عَنْهُمَا ، فَمَا أَنْفَذَاهُ نَفَذَ ، كَمَا لَوْ أَنْفَذَهُ
الْوَصِيَّانِ .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ ، وَأَيُّوبُ عَنْ
عُبَيْدَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ ؛ قَالَ : جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ
وَمَعَهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ ، فَأَمَرَهُمْ فَبَعَثُوا حَكَمًا مِنْ
أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ : أَتَدْرِيَانِ
مَا عَلَيْكُمَا ؟ إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا ، وَإِنْ
رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا .
فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : رَضِيت بِمَا فِي كِتَابِ
اللَّهِ لِي وَعَلَيَّ .
وَقَالَ الزَّوْجُ ، أَمَّا الْفُرْقَةُ
فَلَا .
فَقَالَ : لَا تَنْقَلِبْ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ
الَّذِي أَقَرَّتْ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ : فَبُنِيَ عَلَى أَنَّ
الْأَمْرَ إلَى الْحَكَمَيْنِ اللَّذَيْنِ بُعِثَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ
لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ وَلَا نَهْيٌ .
فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا مَضَيَا مِنْ عِنْدِ
عَلِيٍّ : رَضِيت بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِي وَعَلَيَّ .
وَقَالَ الزَّوْجُ : لَا أَرْضَى .
فَرَدَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ تَرْكَهُ الرِّضَا بِمَا فِي
كِتَابِ اللَّهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ،
أَوْ يُنَفِّذَ مَا فِيهِ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْأَدَبِ ، فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ
لَمْ يَقُلْ لَهَا : أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ إنَّمَا كَانَ يَقُولُ :
أَتَدْرِيَانِ بِمَا وُكِّلْتُمَا ، وَيَسْأَلُ الزَّوْجَيْنِ مَا قَالَا لَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } : هَذَا نَصٌّ
مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَنَّهُمَا قَاضِيَانِ لَا وَكِيلَانِ ،
وَلِلْوَكِيلِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى ، وَلِلْحُكْمِ اسْمٌ فِي
الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى ، فَإِذَا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا فَلَا يَنْبَغِي لِشَاذٍّ فَكَيْفَ لِعَالَمٍ أَنْ يُرَكِّبَ مَعْنَى
أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَذَلِكَ تَلْبِيسٌ وَإِفْسَادٌ لِلْأَحْكَامِ ،
وَإِنَّمَا يَسِيرَانِ بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَيُخْلِصَانِ النِّيَّةَ لِوَجْهِ
اللَّهِ ، وَيَنْظُرَانِ فِيمَا عِنْدَ الزَّوْجَيْنِ بِالتَّثَبُّتِ ، فَإِنْ
رَأَيَا لِلْجَمْعِ وَجْهًا جَمَعَا ، وَإِنْ وَجَدَاهُمَا قَدْ أَنَابَا
تَرَكَاهُمَا ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ تَزَوَّجَ
فَاطِمَةَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، فَقَالَتْ : اصْبِرْ لِي وَأُنْفِقُ
عَلَيْكَ ، وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَتْ : يَا بَنِي هَاشِمٍ ، لَا يُحِبُّكُمْ
قَلْبِي أَبَدًا ، أَيْنَ الَّذِينَ أَعْنَاقُهُمْ كَأَبَارِيقِ الْفِضَّةِ ،
تَرِدُ أُنُوفُهُمْ قَبْلَ شِفَاهِهِمْ ، أَيْنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ؟ أَيْنَ
شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ؟ فَيَسْكُتُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا وَهُوَ
بَرِمٌ .
فَقَالَتْ لَهُ : أَيْنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ؟
فَقَالَ : عَلَى يَسَارِكِ فِي النَّارِ إذَا دَخَلْتِ ، فَنَشَرَتْ عَلَيْهَا
ثِيَابَهَا .
فَجَاءَتْ عُثْمَانَ ، فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ ؛
فَأَرْسَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ : مَا كُنْت لِأُفَرِّقَ بَيْنَ
شَيْخَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ
.
فَأَتَيَاهُمَا فَوَجَدَاهُمَا قَدْ سَدًّا عَلَيْهِمَا
أَبْوَابَهُمَا ، وَأَصْلَحَا أَمْرَهُمَا .
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا لَمَّا أَتَيَا اشْتَمَّا
رَائِحَةً طَيِّبَةً وَهُدُوًّا مِنْ الصَّوْتِ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ :
ارْجِعْ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَا قَدْ اصْطَلَحَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَفَلَا نَمْضِي فَنَنْظُرَ
أَمْرَهُمَا ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ
: فَنَفْعَلُ مَاذَا ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :
أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَئِنْ دَخَلْت
عَلَيْهِمَا
فَرَأَيْت الَّذِي أَخَافُ عَلَيْهِمَا مِنْهُ لَأَحْكُمَنَّ عَلَيْهِمَا ثُمَّ
لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا .
فَإِنْ وَجَدَاهُمَا قَدْ اخْتَلَفَا سَعْيًا فِي
الْأُلْفَةِ ، وَذَكَّرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِالصُّحْبَةِ ؛ فَإِنْ أَنَابَا
وَخَافَا أَنْ يَتَمَادَى ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَا ظَهَرَ فِي الْمَاضِي
، فَإِنْ يَكُنْ مَا طَلَعَا عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي يُخَافُ مِنْهُ التَّمَادِي
فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ
وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَقَالَ
الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ : هُمَا شَاهِدَانِ يَرْفَعَانِ الْأَمْرَ إلَى السُّلْطَانِ ، وَيَشْهَدَانِ
بِمَا ظَهَرَ إلَيْهِمَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ
.
وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَدَّمْنَا
مِنْ أَنَّهُمَا حَكَمَانِ لَا شَاهِدَانِ .
فَإِذَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : تَكُونُ الْفُرْقَةُ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا لِوُقُوعِ الْخَلَلِ
فِي مَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنْ الْأُلْفَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ .
فَإِنْ قِيلَ
: إذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ
الزَّوْجَةِ فَظُهُورُ الظُّلْمِ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ
الظَّالِمِ حَقُّ الْمَظْلُومِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ .
قُلْنَا : هَذَا نَظَرٌ قَاصِرٌ ، يُتَصَوَّرُ فِي
عُقُودِ الْأَمْوَالِ ؛ فَأَمَّا عُقُودُ الْأَبْدَانِ فَلَا تَتِمُّ إلَّا
بِالِاتِّفَاقِ وَالتَّآلُفِ وَحُسْنِ التَّعَاشُرِ ؛ فَإِذَا فُقِدَ ذَلِكَ لَمْ
يَكُنْ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَجْهٌ ، وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفُرْقَةِ .
وَبِأَيِّ
وَجْهٍ رَأَيَاهَا مِنْ الْمُتَارَكَةِ أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ
الزَّوْجَةِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : جَازَ وَنَفَذَ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا .
قَالَ الطَّبَرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُؤْخَذُ مِنْ
مَالِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِرِضَاهُ ، وَبِهِ قَالَ كُلَّ مَنْ جَعَلَهُمَا
شَاهِدَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا حَكَمَانِ لَا شَاهِدَانِ ، وَأَنَّ
فِعْلَهُمَا يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ فِعْلُ الْحَاكِمِ فِي الْأَقْضِيَةِ ،
وَكَمَا يَنْفُذُ فِعْلُ الْحَكَمَيْنِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَهِيَ أُخْتُهَا .
وَالْحِكْمَةُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ ، فَخَصَّ
الشَّرْعَ هَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ بِحَكَمَيْنِ ؛ لِيَنْفُذَ حُكْمُهُمَا
بِعِلْمِهِمَا ، وَتَرْتَفِعَ بِالتَّعْدِيدِ التُّهْمَةُ عَنْهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ ائْتَمَنَاهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُمَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا أَصْدَقَهَا ، وَلَا يَسْتَوْعِبَانِهِ لَهُ ، وَعِنْدَهُ بَعْضُ الظُّلْمِ ، رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَشْهَبَ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ
بَيْنَهُمَا } : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ : هُمَا الْحَكَمَانِ إذَا
أَرَادَا الْإِصْلَاحَ وَفَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُمَا
اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَوْفِيقِهِ فَقَدْ صَلُحَ أَمْرُهُمَا وَأَمْرُ
الزَّوْجَيْنِ ، فَكُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ ، وَالْأَصْلُ
هِيَ النِّيَّةُ ، فَإِذَا صَلُحَتْ صَلُحَتْ الْحَالُ كُلُّهَا ، وَاسْتَقَامَتْ
الْأَفْعَالُ وَقُبِلَتْ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : الْأَصْلُ فِي الْحَكَمَيْنِ
أَنْ يَكُونَا مِنْ الْأَهْلِ ؛ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَهْلَ
أَعْرَفُ بِأَحْوَالِ الزَّوْجَيْنِ ، وَأَقْرَبُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ الزَّوْجَانِ
إلَيْهِمَا ؛ فَأَحْكَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْرَ بِأَهْلِهِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَهْلٌ
، أَوْ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ لِعَدَمِ الْعَدَالَةِ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَخْتَارُ حَكَمَيْنِ عَدْلَيْنِ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا كَيْفَمَا كَانَ عَدَمُ
الْحَكَمَيْنِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَا
جَارَيْنِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْحَكَمَيْنِ مَعْلُومٌ ، وَاَلَّذِي
فَاتَ بِكَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِهِمَا يَسِيرٌ ، فَيَكُونُ الْأَجْنَبِيُّ
الْمُخْتَارُ قَائِمًا مَقَامَهُمَا ، وَرُبَّمَا كَانَ أَوْفَى مِنْهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : إذَا حَكَمَا بِالْفِرَاقِ فَإِنَّهُ بَائِنٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا كُلِّيٌّ ،
وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ .
أَمَّا الْكُلِّيُّ فَكُلُّ طَلَاقٍ يُنَفِّذُهُ
الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ بَائِنٌ .
الثَّانِي :
أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ
هُوَ الشِّقَاقُ ، وَلَوْ شُرِعَتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ لَعَادَ الشِّقَاقُ ، كَمَا
كَانَ أَوَّلَ دُفْعَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يُفِيدُ شَيْئًا ؛ فَامْتَنَعَتْ الرَّجْعَةُ
لِأَجَلِهِ .
فَإِنْ أَوْقَعَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ؛ قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ : يَنْفُذُ
.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ : لَا يَكُونُ
إلَّا وَاحِدَةً .
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَنْفُذُ
أَنَّهُمَا حَكَمَا فَيُنَفَّذُ مَا حَكَمَا بِهِ .
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُمَا لَا يَكُونُ
فَوْقَ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَا يُطَلِّقُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ، كَذَلِكَ
الْحَكَمَانِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَرَدُّهُ الْمَسْأَلَةَ إلَى
مَسْأَلَةِ خِيَارِ الْأُمَّةِ حَزْمٌ ، وَالْأَصْلُ وَاحِدٌ ، وَالْأَدِلَّةُ
مُتَدَاخِلَةٌ وَمُتَقَارِبَةٌ فَلْيَطْلُبْ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فَإِنْ حَكَمَ
أَحَدُهُمَا بِوَاحِدَةٍ ، وَالْآخَرُ بِثَلَاثٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ :
يَنْفُذُ الْوَاجِبُ ، و هِيَ الْوَاحِدَةُ الَّتِي اتَّفَقَا عَلَيْهَا وَيَلْغُو
مَا زَادَ .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ ،
لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِثْلُ قَوْلِ
ابْنِ حَبِيبٍ .
وَلَوْ طَلَّقَ أَحَدُهُمَا طَلْقَةً وَالْآخَرُ
طَلْقَتَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ تَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ .
وَقَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَصَحُّ ، كَالشَّاهِدَيْنِ
إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَدَدِ قُضِيَ بِالْأَقَلِّ .
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23