ج8// احكام القران
كتاب : أحكام القرآن لابن العربي
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } فِيهِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يُسْجَنُ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ،
وَأَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي غَيْرِ بَلَدِ
الْجِنَايَةِ .
الثَّانِي : يُنْفَى إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ ؛ قَالَهُ
أَنَسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَغَيْرُهُمْ .
الثَّالِثُ : يُخْرَجُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ
أَبَدًا ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
الرَّابِعُ :
يُطْلَبُونَ بِالْحُدُودِ أَبَدًا فَيَهْرُبُونَ مِنْهَا
؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُسْجَنَ ، فَيَكُونُ السِّجْنُ لَهُ
نَفْيًا مِنْ الْأَرْضِ ، وَأَمَّا نَفْيُهُ إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ فَعَوْنٌ لَهُ
عَلَى الْفَتْكِ .
وَأَمَّا نَفْيُهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَشُغْلٌ لَا
يُدَانُ بِهِ لِأَحَدٍ ، وَرُبَّمَا فَرَّ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ ثَانِيَةً .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُطْلَبُ أَبَدًا وَهُوَ
يَهْرُبُ مِنْ الْحَدِّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَزَاءٍ ،
وَإِنَّمَا هُوَ مُحَاوَلَةُ طَلَبِ الْجَزَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ } قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا أُخِذَ فِي
الْحِرَابَةِ نَصَّابًا .
قُلْنَا : أَنْصِفْ مِنْ نَفْسِك أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
وَوَفِّ شَيْخَكَ حَقَّهُ لِلَّهِ
.
إنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
فَاقْتَضَى هَذَا قَطْعَهُ فِي حَقِّهِ .
وَقَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ : { إنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَاقْتَضَى بِذَلِكَ تَوْفِيَةَ
الْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَقِّهِ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّارِقِ أَنَّ قَطْعَهُ فِي نِصَابٍ
وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ ، وَبَقِيَتْ الْمُحَارَبَةُ عَلَى عُمُومِهَا .
فَإِنْ أَرَدْت أَنْ تَرُدَّ الْمُحَارَبَةَ إلَى
السَّرِقَةِ كُنْتَ مُلْحِقًا الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَخَافِضًا الْأَرْفَعَ
إلَى الْأَسْفَلِ ، وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ .
وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ وَهُوَ
يَطْلُبُ النَّفْسَ إنْ وَقَى الْمَالَ بِهَا عَلَى السَّارِقِ وَهُوَ يَطْلُبُ
خَطْفَ الْمَالِ ، فَإِنْ شَعَرَ بِهِ فَرَّ ، حَتَّى إنَّ السَّارِقَ إذَا دَخَلَ
بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ الْمَالَ ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ أَوْ صِيحَ عَلَيْهِ
وَحَارَبَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُحَارِبٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ .
[ قَالَ الْقَاضِي ] : وَكُنْت فِي أَيَّامِ حُكْمِي بَيْنَ
النَّاسِ إذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ
يَسْحَبُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ نَائِمٌ ، وَأَصْحَابُهُ
يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ ؛
فَافْهَمُوا هَذَا مِنْ أَصْلِ الدِّينِ ، وَارْتَفِعُوا إلَى يَفَاعِ الْعِلْمِ
عَنْ حَضِيضِ الْجَاهِلِينَ .
وَالْمُسْكِتُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْحِرْزَ
، فَلَوْ كَانَ الْمُحَارِبُ مُلْحَقًا بِالسَّارِقِ لِمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا
عَلَى حِرْزٍ .
وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يَقُولَ : أَحَدُ شَرْطَيْ
السَّرِقَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُحَارِبِ كَالْحِرْزِ وَالتَّعْلِيلِ
النِّصَابُ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : إذَا صَلَبَ الْإِمَامُ الْمُحَارِبَ فَإِنَّهُ يَصْلُبُهُ حَيًّا
: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصْلُبُهُ مَيِّتًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } ، فَبَدَأَ بِالْقَتْلِ .
قُلْنَا : نَعَمْ الْقَتْلُ مَذْكُورٌ أَوَّلًا ، وَلَكِنْ
بَقِيَ أَنَّا إذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ هَاهُنَا هُوَ
الْخِلَافُ .
وَالصَّلْبُ حَيًّا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَى
وَأَفْضَحُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَعْنَى الرَّدْعِ الْأَصْلَحِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا مَنْ قَتَلَ ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : مِنْهُمَا أَنَّهُ
تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ فِي الدِّمَاءِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ
الْمُكَافَأَةُ كَالْقِصَاصِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ
عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ ، مِنْ
التَّخْوِيفِ وَسَلْبِ الْمَالِ ، فَإِنْ انْضَافَتْ إلَيْهِ إرَاقَةُ الدَّمِ
فَحُشَ ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُرَاعَى مَالُ مُسْلِمٍ مِنْ كَافِرٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَافِلَةِ
فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ ، وَلَمْ يَقْتُلْ بَعْضٌ ، قُتِلَ الْجَمِيعُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُقْتَلُ إلَّا مَنْ قَتَلَ .
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ
وَتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَيُعَضِّدُ هَذَا أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ
شُرَكَاءُ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُ جَمِيعُهُمْ .
وَقَدْ اتَّفَقَ مَعَنَا عَلَى قَتْلِ الرِّدْءِ وَهُوَ
الطَّالِعُ ، فَالْمُحَارِبُ أَوْلَى
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ .
الثَّانِي : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَقَدْ حَارَبُوا
بِأَرْضِ الشِّرْكِ .
الثَّالِثُ : إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ :
إلَّا الَّذِينَ تَابُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ ؛ قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ ؛ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : وَفِي حُقُوقِ
الْآدَمِيِّينَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مَالٌ يُعْرَفُ ، أَوْ يَقُومَ
وَلِيٌّ يَطْلُبُ دَمَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ وَالْقِصَاصُ مِنْهُ .
الْخَامِسُ : قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : لَا
يُطْلَبُ بِشَيْءٍ لَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَلَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْآيَةَ فِي
الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ إنَّ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ
تَابُوا } عَائِدٌ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ إلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِمَّنْ هُوَ بِأَرْضِ الشِّرْكِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ طَرِيفٌ ، وَلَهُ
وَجْهٌ طَرِيفٌ ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ } يُعْطِي أَنَّهُمْ بِغَيْرِ أَرْضِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَلَكِنْ
كُلُّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَأْخُذُهُ الْأَحْكَامُ وَتَسْتَوْلِي
عَلَيْهِ الْقُدْرَةُ ، وَهَذَا إذَا تَبَيَّنْتَهُ لَمْ يَصِحَّ تَنْزِيلُهُ ؛
فَإِنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ،
فَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ إلَى الْجَبَلِ ، وَتَوَسَّطَ الْبَيْدَاءَ فِي مَنَعَةٍ فَلَا
تَتَّفِقُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِجَرِّ جَيْشٍ وَنَفِيرِ قَوْمٍ ؛ فَلَا
يُقَالُ : إنَّا قَادِرُونَ عَلَيْهِ
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ ،
فَيَرْجِعُ إلَى الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ .
قُلْنَا : إنَّا نَقُولُ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ فِي
الْحُقُوقِ كُلِّهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي
الْحُقُوقِ كُلِّهَا فَقَدْ عَلِمْنَا
بُطْلَانَ
ذَلِكَ بِمَا قَامَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا
يَغْفِرُهَا الْبَارِّي سُبْحَانَهُ إلَّا بِمَغْفِرَةِ صَاحِبِهَا ، وَلَا
يُسْقِطُهَا إلَّا بِإِسْقَاطِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ
حَقٍّ .
قُلْنَا :
هَذِهِ مَغْفِرَةٌ عَامَّةٌ بِلَا خِلَافٍ
لِلْمَصْلَحَةِ فِي التَّحْرِيضِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى الدُّخُولِ فِي
الْإِسْلَامِ ؛ فَأَمَّا مَنْ الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُسْقِطُ
عَنْهُ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَرْبَابُهَا .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الشَّهَادَةِ : إنَّهَا تُكَفِّرُ كُلَّ خَطِيئَةٍ إلَّا الدَّيْنَ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ حُكْمَهَا أَنَّهَا
تُكَفِّرُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : إنَّ
الْإِمَامَ لَا يَتَوَلَّى طَلَبَهَا ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا أَرْبَابُهَا
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَصَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ بِوَكِيلٍ
لِمُعَيِّنِينَ مِنْ النَّاسِ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُعِينَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ
نَائِبُهُمْ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُجْمَلَةِ الْمُبْهَمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ
بِمُعَيَّنَةٍ .
وَأَمَّا إنْ عَرَفْنَا بِيَدِهِ مَالًا لِأَحَدٍ
أَخَذَهُ فِي الْحِرَابَةِ فَلَا نُبْقِيه فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ غَصْبٌ ، وَنَحْنُ
نُشَاهِدُهُ ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْمُنْكَرِ لَا يَجُوزُ ، فَيَكُونُ بِيَدِ صَاحِبِهِ
الْمُسْلِمِ حَتَّى يَأْخُذَهُ مَالِكُهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ وَأَخِيهِ الَّذِي
يُوقِفُهُ الْإِمَامُ عِنْدَهُ
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ } فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي شَرَحَ
حَقِيقَةِ السَّرِقَةِ : وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى خُفْيَةٍ مِنْ الْأَعْيُنِ
، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ قَطْعِ النَّبَّاشِ مِنْ مَسَائِلِ
الْخِلَافِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ فِي كُتُبِهِ .
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ : السَّارِقُ هُوَ
الْمُعْلِنُ وَالْمُخْتَفِي .
وَقَالَ ثَعْلَبٌ : هُوَ الْمُخْتَفِي ، وَالْمُعْلِنُ
عَادٍ .
وَبِهِ نَقُولُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنْ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ بَيَّنَّا
مَعْنَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ .
وَقُلْنَا
: إنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَجْتَمِعَانِ فِي الِاسْمِ
وَيَرِدَانِ عَلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ وَلِلتَّعْيِينِ ، وَكِلَاهُمَا تَعْرِيفٌ بِمَنْكُورٍ
عَلَى مَرَاتِبَ ؛ فَإِنْ دَخَلَتْ لِتَخْصِيصِ الْجِنْسِ فَمِنْ فَوَائِدِهَا
صَلَاحِيَةُ الِاسْمِ لِلِابْتِدَاءِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
و { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَإِنْ دَخَلَتْ لِلتَّعْيِينِ فَفَوَائِدُهُ
مُقَرَّرَةٌ هُنَالِكَ ، وَهِيَ إذَا اقْتَضَتْ تَخْصِيصَ الْجِنْسِ أَفَادَتْ
التَّعْمِيمَ فِيهِ بِحُكْمِ حَصْرِهَا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ
عَنْهَا وَالْمُتَعَلِّقُ بِهَا صَالِحًا فِي رَبْطِهِ بِهَا دُونَ مَا سِوَاهَا ،
وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً .
وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْوَقْفِ فِي هَذَا الْبَابِ
وَغَيْرِهِ كَمَا أَنْكَرُوا جَمِيعَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْخِيصِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } عَامٌّ فِي كُلِّ
سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَدًّا عَلَى مَنْ
يَرَى أَنَّهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ ، وَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْمُجْمَلَ
، وَلَا الْعَامَّ ؛ فَإِنَّ السَّرِقَةَ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً لُغَةً إذْ
لَيْسَتْ لَفْظَةً شَرْعِيَّةً بِاتِّفَاقٍ رُبِطَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ
تَخْصِيصًا ، وَعُلِّقَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ بِالْحُكْمِ رَبْطًا ، فَقَدْ
أَفَادَتْ الْمَقْصُودَ ، وَجَرَتْ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ وَالْعُمُومِ ، إلَّا
فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
قَرَأَهَا : " وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ " ؛ لِيُبَيِّنَ
إرَادَةَ الْعُمُومِ .
وَاَلَّذِي يَقْطَعُ لَك بِصِحَّةِ إرَادَةِ الْعُمُومِ
أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ
لِحَصْرِ الْجِنْسِ ، وَهُوَ الْعُمُومُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ : وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِالنَّصْبِ
، وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ .
قَالَ سِيبَوَيْهِ هِيَ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ فِي
الْأَمْرِ وَالنَّهْي فِي هَذَا النَّصْبُ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْكَلَامِ تَقَدُّمَ
الْفِعْلَ ، وَهُوَ فِيهِ أَوْجَبُ ، وَإِنَّمَا قُلْت زَيْدًا ضَرَبَهُ ،
وَاضْرِبْهُ مَشْغُولُهُ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَكُونَانِ إلَّا بِالْفِعْلِ
، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِضْمَارِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ .
قَالَ الْقَاضِي : أَصْلُ الْبَابِ قَدْ أَحْكَمْنَاهُ
فِي الْمُلْجِئَةِ ، وَنُخْبِتُهُ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ
وَمَفْعُولِ ، فَإِذَا أَخْبَرْت بِهِمْ أَوْ عَنْهُمْ خَبَرًا غَرِيبًا كَانَ
عَلَى سِتِّ صِيَغٍ : الْأُولَى : ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا .
الثَّانِيَةُ : زَيْدٌ ضَرَبَ عَمْرًا .
الثَّالِثَةُ : عَمْرًا ضَرَبَ زَيْدٌ .
الرَّابِعَةُ : ضَرَبَ عَمْرًا زَيْدٌ .
الْخَامِسَةُ : زَيْدٌ عَمْرًا ضَرَبَ .
السَّادِسَةُ : عَمْرًا زَيْدٌ ضَرَبَ .
فَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ نَظْمٌ مُهْمَلٌ لَا
مَعْنَى لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَجَاءَ مِنْ هَذَا جَوَازُ تَقْدِيمِ
الْمَفْعُولِ ، كَمَا جَازَ تَقَدُّمُ الْفَاعِلِ ، بَيْدَ أَنَّهُ إذَا قَدَّمْت
الْمَفْعُولَ بَقِيَ بِحَالِهِ إعْرَابًا ، فَإِذَا قَدَّمْت الْفَاعِلَ خَرَجَ
عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ فِي الْإِعْرَابِ ، وَبَقِيَ الْمَعْنَى الْمُخْبَرُ عَنْهُ
، وَحَدَثَ فِي تَرْتِيبِ الْخَبَرِ مَا أَوْجَبَ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ ، وَهُوَ
الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى الِابْتِدَاءُ ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْبَابِ
الْأَدَوَاتُ الَّتِي وُضِعَتْ لِتَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَهِيَ كَثِيرَةٌ أَوْ
الْمَقَاصِدِ وَهِيَ أَصْلٌ فِي التَّغْيِيرِ ، وَمِنْهَا وَضْعُ الْأَمْرِ
مَوْضِعَ الْخَبَرِ ، تَقُولُ : اضْرِبْ زَيْدًا .
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ اسْتِدْعَاءَ إيقَاعِ
الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ هُنَالِكَ فَاعِلٌ سَقَطَ فِي إسْنَادِ
الْفِعْلِ ، وَثَبَتَ فِي تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ وَارْتِبَاطِهِ ، وَتَكُونُ
لَهُ صِيغَتَانِ : إحْدَاهُمَا هَذِهِ
.
وَالثَّانِيَةُ : زَيْدًا اضْرِبْ ، كَمَا كَانَ فِي
الْخَبَرِ ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ
صِيغَةٌ ثَالِثَةٌ
، فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ مَفْعُولًا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهُ أَلَّا يَأْتِيَ
إلَّا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ ، وَلَكِنْ رَفَعُوهُ
لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بَعْدُ ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ وُقُوعُهُ
بِهِ فَيُخْبِرُ عَنْهُ ، ثُمَّ يَقْتَضِي الْفِعْلَ فِيهِ ، فَإِنْ اقْتَضَى
وَلَمْ يُخْبِرْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَنْصُوبًا ، وَإِنْ أَخْبَرَ وَلَمْ يَقْتَضِ
لَمْ يَكُنْ إلَّا مَرْفُوعًا ، فَهُمَا إعْرَابَانِ لِمَعْنَيَيْنِ ، فَلَمْ
يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ .
تَتْمِيمٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقُلْت : زَيْدٌ
فَاضْرِبْهُ فَإِنْ نَصَبْته فَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ ، وَإِنْ رَفَعْته فَعَلَى
تَقْدِيرِ الِابْتِدَاءِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى قَصْدِ الْمُخْبِرِ ، وَيَكُونُ
تَقْدِيرُهُ مَعَ النَّصْبِ اضْرِبْ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ ، فَأَمَّا إذَا طَالَ
الْكَلَامُ فَقُلْت : زَيْدًا فَاقْطَعْ يَدَهُ كَانَ النَّصْبُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ
الْكَلَامَ يَطُولُ فَيَقْبُحُ الْإِضْمَارُ فِيهِ لِطُولِهِ .
وَهَذَا قَالَبُ سِيبَوَيْهِ أَفْرَغْنَا عَلَيْهِ .
وَأَقُولُ :
إنَّ الْكَلَامَ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ ،
أَوْ كَانَتْ الْفَاءُ فِيهِ مُنَزَّلَةً عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِهِ فَإِنَّ
الرَّفْعَ فِيهِ أَعْلَى ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ لَهُ ، فَلَا يَبْقَى لِتَقْدِيرِ
الْمَفْعُولِ إلَّا وَجْهٌ بَعِيدٌ ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ عَلَى
الِاخْتِصَاصِ .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ ، لَا طَرِيقَ
لِلْإِجْمَالِ إلَيْهَا ، فَالسَّرِقَةُ تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةِ مَعَانٍ : فِعْلٌ
هُوَ سَرِقَةٌ ، وَسَارِقٌ ، وَمَسْرُوقٌ مُطْلَقٌ ، وَمَسْرُوقٌ مِنْهُ ،
وَمَسْرُوقٌ فِيهِ .
فَهَذِهِ خَمْسَةُ مُتَعَلِّقَاتٍ يَتَنَاوَلُ
الْجَمِيعَ عُمُومُهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ .
أَمَّا السَّرِقَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا .
وَأَمَّا السَّارِقُ ، وَهِيَ [ الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ ] .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : [ السَّارِقُ ] : فَهُوَ
فَاعِلٌ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ
الِاخْتِفَاءِ عَنْ الْأَعْيُنِ ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ شَرَطَتْ فِيهِ سِتَّةَ
مَعَانٍ : الْعَقْلُ : لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يُخَاطَبُ عَقْلًا .
وَالْبُلُوغُ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لَا
يَتَوَجَّه إلَيْهِ الْخِطَابُ شَرْعًا
.
وَبُلُوغُ الدَّعْوَةِ : لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَدِيثَ
عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُثَافَنْ حَتَّى يَعْرِفَ الْأَحْكَامَ ، وَادَّعَى
الْجَهْلَ فِيمَا أَتَى مِنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَظَهَرَ صِدْقُهُ لَمْ
تَجِبْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ كَالْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ
الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إذَا وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ لَا
حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي لَهُ فِيهَا ، وَالْحُدُودُ تَسْقُطُ
بِالشُّبُهَاتِ ، فَهَذَا الْأَبُ وَإِنْ كَانَ جَاءَ بِصُورَةٍ السَّرِقَةِ فِي
أَخْذِ الْمَالِ خِفْيَةً فَإِنَّ لَهُ فِيهِ سُلْطَانَ الْأُبُوَّةِ وَتَبَسُّطَ الِاسْتِيلَاءِ
، فَانْتَصَبَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ ، وَهِيَ [
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ] .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : [ مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ ] : فَهُوَ كُلُّ مَالٍ تَمْتَدُّ
إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ ، وَيَصْلُحُ عَادَةً وَشَرْعًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ ،
فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ لَمْ يَنْفَعْ تَعَلُّقُ الطَّمَاعِيَةِ فِيهِ ،
وَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِفَاعُ مِنْهُ ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَثَلًا .
وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي قَطْعَ سَارِقِ
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِإِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْنَى
فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ ،
فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَطَعَ فِي دِرْهَمٍ .
وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ لَمْ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ كَانَ ذَا شَوَاذٍّ ، وَلَا يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ ، بَلْ يَقْطَعُ
الْمُنْصِفُ أَنَّ سَرِقَةَ التَّافِهِ لَغْوٌ ، وَسَرِقَةَ الْكَثِيرِ قَدْرًا
أَوْ صِفَةً مَحْسُوبٌ ، وَالْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَى الْفَصْلِ فِيهِ بِحَدٍّ
تَقِفُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُ ، فَتَوَلَّى الشَّرْعُ تَحْدِيدَهُ بِرُبْعِ
دِينَارٍ .
وَفِي الصَّحِيحِ ، عَنْ عَائِشَةَ : " مَا طَالَ
عَلَيَّ وَلَا نَسِيت : الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَرَوَى أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا قَدْ بَيَّنَّا
ضَعْفَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ
الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } قُلْنَا
: هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ ، كَمَا جَاءَ
فِي مَعْرَضِ التَّرْغِيبِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ
قَطَاةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } .
وَقِيلَ :
إنَّ هَذَا مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ؛ وَذَلِكَ
أَنَّهُ إذَا ظَفِرَ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ سَرَقَ الْكَثِيرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ؛
فَبِهَذَا تَنْتَظِمُ الْأَحَادِيثُ ، وَيَجْتَمِعُ الْمَعْنَى وَالنَّصُّ فِي نِظَامِ
الصَّوَابِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : وَمِنْهُ كُلُّ مَالٍ يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ
الْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ وَيُبْتَاعُ وَتَمْتَدُّ
إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ ، وَتُبْذَلُ فِيهِ نَفَائِسُ الْأَمْوَالِ .
وَشُبْهَةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ
التَّغَيُّرِ وَالْفَسَادِ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِيهِ لَمَا لَزِمَ
الضَّمَانُ لِمُتْلِفِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَمِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ
أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ ؛ كَجَوَاهِرِ الْأَرْضِ وَمَعَادِنِهَا ، وَشِبْهِ
ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ ،
فَتَنْتَصِبُ إبَاحَةُ أَصْلِهِ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ .
قُلْنَا :
لَا تَضُرُّ إبَاحَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ إذَا طَرَأَ
التَّحْرِيمُ ، كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ قَوْمٍ ، فَإِنَّ وَطْأَهَا
حَرَامٌ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْد خُلُوصِهَا لِأَحَدِهِمْ ، وَلَا تُوجِبُ الْإِبَاحَةُ
الْمُتَقَدِّمَةُ شُبْهَةً .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرِ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ } .
رَوَاهُ قَلِيلَهْ وَأَبُو دَاوُد .
وَانْفَرَدَ قَلِيلَهْ : { وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ
إلَّا فِيمَا أَوَاهُ الْمَرَاحُ
} .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : وَمِنْهُ مَا إذَا سَرَقَ
حُرًّا صَغِيرًا .
قَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَقِيلَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ .
قُلْنَا :
هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَالِ ؛ وَلَمْ يُقْطَعُ
السَّارِقُ فِي الْمَالِ لِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا قُطِعَ لِتَعَلُّقِ النُّفُوسِ
بِهِ ، وَتَعَلُّقِهَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْعَبْدِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ : وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ
يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مَالُهُ مُحْتَرَمًا بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَقَدْ حُرِّمَ مَالُهُ
وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } ، إنَّ مَالَ الزَّوْجَيْنِ مُحْتَرَمٌ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمَا
حَلَالًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَعَاقَدَا بِعَقْدٍ يَتَعَدَّى إلَى
الْمَالِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَأَحَدُ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ : لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَقْتَضِي الْخِلْطَةَ
وَالتَّبَسُّطَ .
وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْكَلَامَ فِيمَا يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ صَاحِبِهِ .
وَالثَّانِي :
أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَالِ زَوْجِهِ تَبَسُّطٌ
لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِوَطْءِ جَارِيَتِهَا ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا ، وَهِيَ : [ الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ] .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ السَّارِقِ مِنْ ذِي رَحِمٍ ] : إنَّ مَنْ
سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مُحْرِمٍ لِمِثْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، خِلَافًا
لِأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الرَّحِمِ لَوْ وَطِئَهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ
الْحَدُّ ، فَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مَالَهَا ، وَشُبْهَةُ الْمَحْرَمِيَّةِ لَا
تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَالِ .
وَإِنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا سَرَقَ الْعَبْدُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ ، أَوْ
السَّيِّدُ مِنْ عَبْدِهِ : فَلَا قَطْعَ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ
لِسَيِّدِهِ ، فَلَمْ يَقْطَعْ أَحَدٌ بِأَخْذِ مَالِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ أَخْذٌ
لِمَالِهِ ، وَإِنَّمَا إذَا سَرَقَ الْعَبْدُ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِإِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ وَبِقَوْلِ الْخَلِيفَةِ : " غُلَامُكُمْ سَرَقَ
مَتَاعَكُمْ " ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ الْأَبِ فِي الْبَابَيْنِ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَهِيَ [
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
] .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : [ مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ] : فَهُوَ الْحِرْزُ
الَّذِي نُصِبَ عَادَةً لِحِفْظِ الْأَمْوَالِ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ .
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْحِرْزِ الْأَثَرُ
وَالنَّظَرُ .
أَمَّا الْأَثَرُ : فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ } .
وَأَمَّا النَّظَرُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمْوَالَ خُلِقَتْ
مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ بِالْحِكْمَةِ
الْأَوَّلِيَّةِ الَّتِي بَيِّنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حُكِمَ فِيهَا
بِالِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ شَرْعًا ، وَبَقِيَتْ الْأَطْمَاعُ
مُعَلَّقَةً بِهَا ، وَالْآمَالُ مُحَوَّمَةً عَلَيْهَا ، فَتَكُفُّهَا
الْمُرُوءَةُ وَالدِّيَانَةُ فِي أَقَلِّ الْخَلْقِ ، وَيَكُفُّهَا الصَّوْنُ وَالْحِرْزُ
عَنْ أَكْثَرِهِمْ ، فَإِذَا أَحَرَزهَا مَالِكُهَا فَقَدْ اجْتَمَعَ بِهَا
الصَّوْنَانِ ، فَإِذَا هُتِكَا فَحُشَتْ الْجَرِيمَةُ فَعَظُمَتْ الْعُقُوبَةُ ؛
وَإِذَا هُتِكَ أَحَدُ الصَّوْنَيْنِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ الضَّمَانُ
وَالْأَدَبُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ الْحِرْزِ فِي
الصَّوْنِ شَيْءٌ ، لَمَّا كَانَ غَايَةَ الْإِمْكَانِ رَكَّبَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ
غَايَةَ الْعُقُوبَةِ مِنْ عِنْدِهِ رَدْعًا وَصَوْنًا ، وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ
عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ؛ لِاقْتِضَاءِ لَفْظِهَا
، وَلَا تَضْمَنُ حِكْمَتُهَا وُجُوبَهُ ، وَلَمْ أَعْلَمْ مَنْ تَرَكَ
اعْتِبَارَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا تَحَصَّلَ لِي مَنْ يُهْمِلُهُ مِنْ
الْفُقَهَاءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ يُذْكَرُ ، وَرُبَّمَا نُسِبَ إلَى مَنْ
لَا قَدْرَ لَهُ ، فَلِذَلِكَ أَعْرَضْت عَنْ ذِكْرِهِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى
أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ
لِعَدَمِ الْحِرْزِ فِيهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَهْتِكْ حِرْزًا لَمْ يُلْزِمْهُ
أَحَدٌ قِطْعًا .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ الشَّرِيكِ ] : لَمَّا ثَبَتَ اعْتِبَارُ
النِّصَابِ فِي الْقَطْعِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ ،
فَاجْتَمَعُوا عَلَى إخْرَاجِ نِصَابٍ مِنْ حِرْزِهِ ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ
بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهِ ، أَوْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ
إخْرَاجَهُ إلَّا بِتَعَاوُنِهِمْ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ
إلَّا بِالتَّعَاوُنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ جَمِيعُهُمْ بِاتِّفَاقٍ مِنْ
عُلَمَائِنَا .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُخْرِجهُ وَاحِدٌ وَاشْتَرَكُوا
فِي إخْرَاجِهِ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
لَا قَطْعَ فِيهِ .
وَالثَّانِي : فِيهِ الْقَطْعُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُقْطَعُ
فِي السَّرِقَةِ الْمُشْتَرِكُونَ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ فِي حِصَّتِهِ نِصَابٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي النِّصَابِ وَمَحَلِّهِ حِينَ لَمْ يَقْطَعْ إلَّا مِنْ سَرَقَ نِصَابًا ،
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ .
وَدَلِيلُنَا : الِاشْتِرَاكُ فِي الْجِنَايَةِ لَا
يُسْقِطُ عُقُوبَتَهَا ، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْلِ ، وَمَا أَقْرَبَ مَا
بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّا قَتَلْنَا الْجَمَاعَةَ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ ، صِيَانَةً
لِلدِّمَاءِ ، لِئَلَّا يَتَعَاوَنَ عَلَى سَفْكِهَا الْأَعْدَاءُ ، وَكَذَلِكَ
فِي الْأَمْوَالِ مِثْلُهُ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَاعَدَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى
أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَطْعِ يَدِ رَجُلٍ قُطِعُوا ، وَلَا
فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا اشْتَرَكُوا فِي السَّرِقَةِ فَإِنْ نَقَبَ وَاحِدٌ
الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ آخَرُ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقَبَ وَلَمْ يَسْرِقْ ، وَالْآخَرَ سَرَقَ مِنْ
حِرْزٍ مَهْتُوكِ الْحُرْمَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ شَارَك فِي النَّقْبِ
وَدَخَلَ وَأَخَذَ قُطِعَ .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنْ كَانَ
بَيْنَهُمَا تَعَاوُنٌ وَاتِّفَاقٌ قُطِعَا ، وَإِنْ نَقَبَ سَارِقٌ وَجَاءَ آخَرُ
لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَدَخَلَ النَّقْبَ وَسَرَقَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ
شَرْطِ الْقَطْعِ وَهُوَ الْحِرْزُ ، وَفَصْلُ التَّعَاوُنِ قَدْ تَقَدَّمَ وَدَلِيلُنَا
عَلَيْهِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي النَّبَّاشِ : قَالَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ :
يُقْطَعُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مَالًا مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ لَا مَالِكَ
لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ السَّرِقَةَ ؛ لِأَنَّهُ فِي
مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ سَاكِنٌ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّرِقَةُ بِحَيْثُ
تُتَّقَى الْأَعْيُنُ ، وَيُتَحَفَّظُ مِنْ النَّاس ، وَعَلَى نَفْي السَّرِقَةِ
عَوَّلَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
وَقُلْنَا : إنَّهُ سَارِقٌ ؛ لِأَنَّهُ تَدَرَّعَ اللَّيْلَ لِبَاسًا ، وَاتَّقَى
الْأَعْيُنَ ، وَتَعَمَّدْ وَقْتًا لَا نَاظِرَ فِيهِ وَلَا مَارَّ عَلَيْهِ ؛
فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتِ تَبَرُّزِ النَّاسِ لِلْعِيدِ وَخُلُوِّ
الْبَلَدِ مِنْ جَمِيعِهِمْ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْقَبْرَ غَيْرُ حِرْزٍ
فَبَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حِرْزَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُمَكَّنَةِ فِيهِ
كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُ الْمَيِّتِ عَارِيًّا ، وَلَا
يُنْفَقُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ دَفْنِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَنَ إلَّا مَعَ
أَصْحَابِهِ ؛ فَصَارَتْ هَذِهِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ ذَلِكَ حِرْزُهُ ،
وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَمْ
نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } لَيَسْكُنَ فِيهَا حَيًّا
وَيُدْفَنَ فِيهَا مَيِّتًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ عُرْضَةٌ لِلتَّلَفِ فَكُلُّ
مَا يَلْبَسُهُ الْحَيُّ أَيْضًا مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ وَالْإِخْلَاقِ بِلِبَاسِهِ
، إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَعْجَلُ مِنْ الثَّانِي .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا سَرَقَ السَّارِقُ وَجَبَ
الْقَطْعُ عَلَيْهِ وَرَدُّ الْعَيْنِ ؛ فَإِنْ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ مَعَ
الْقَطْعِ الْقِيمَةُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ
عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْغُرْمُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ
فِي الْحَالَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ
مَعَ الْغُرْمِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالًا مِنْ اللَّهِ } وَلَمْ يَذْكُرْ غُرْمًا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ
، وَهِيَ نَسْخٌ ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ ،
أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ ، وَأَمَّا بِنَظَرٍ فَلَا يَجُوزُ قُلْنَا : لَا
نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ
فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
} مُطْلَقًا
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْطَى لِذَوِي الْقُرْبَى إلَّا
أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ ؛ فَزَادَ عَلَى النَّصِّ بِغَيْرِ نَصٍّ مِثْلِهِ مِنْ
قُرْآنٍ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ
.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فَعَوَّلُوا عَلَى
أَنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَلَا
يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، كَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ
قَوِيٌّ ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أُقِيمَ عَلَى السَّارِقِ الْحَدُّ فَلَا ضَمَانَ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَنَّ الْإِتْبَاعَ بِالْغُرْمِ
عُقُوبَةٌ ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ ، وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ ، وَعَلَيْهِ
عَوَّلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ ، وَهُوَ كَلَامٌ مُخْتَلُّ اللَّفْظِ .
وَصَوَابُهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
مِنْ أَنَّ الْقَطْعَ وَاجِبٌ فِي الْبَدَنِ ، وَالْغُرْمَ عَلَى الْمُوسِرِ
وَاجِبٌ فِي الْمَالِ ، فَصَارَا
حَقَّيْنِ
فِي مَحَلَّيْنِ .
وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقُلْنَا : يَثْبُتُ الْغُرْمُ
عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، كَمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَطْعَ فِي الْبَدَنِ
وَالْغُرْمَ وَهُوَ مَحَلٌّ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يَجُزْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ
الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةَ فِي مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ ،
وَالْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ يَنْقُضُ هَذَا الْأَصْلَ ؛ لِأَنَّهُ
يُجْمَعُ مَعَ الْقِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ إلَّا أَنْ يَطَّرِدَ
أَصْلُنَا ، فَنَقُولُ : إذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجِبْ
الْمَهْرُ ، وَإِنَّ الْجَزَاءَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُعْسِرٌ ، سَقَطَتْ
الْقِيمَةُ عَنْهُ ، فَحِينَئِذٍ تَطَّرِدُ الْمَسْأَلَةُ وَيَصِحُّ الْمَذْهَبُ ؛
أَمَّا أَنَّهُ قَدْ رَوَى النَّسَائِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَغْرَمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إذَا أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ
الْحَدَّ } .
فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُعْسِرِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : إنْ شَاءَ أَغْرَمَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَإِنْ شَاءَ
قَطَعَهُ وَلَمْ يُغْرِمْهُ ؛ فَجَعَلَ الْخِيَارَ إلَيْهِ ؛ وَالْخِيَارُ إنَّمَا
يَكُونُ لِلْمَرْءِ بَيْنَ حَقَّيْنِ هُمَا لَهُ ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَيَّرَ الْعَبْدُ فِيهِ
كَالْحَدِّ وَالْمَهْرِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : إذَا سَرَقَ الْمَالَ مِنْ الَّذِي سَرَقَهُ وَجَبَ
عَلَيْهِ الْقَطْعُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَرَقَ مِنْ
غَيْرِ الْمَالِكِ ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ
لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ ، وَيَدَ السَّارِقِ كَلَا يَدٍ .
فَإِنْ قِيلَ : اجْعَلُوا حِرْزَهُ كَلَا حِرْزٍ .
قُلْنَا : الْحِرْزُ قَائِمٌ ، وَالْمِلْكُ قَائِمٌ ،
وَلَمْ يَبْطُلْ الْمِلْكُ فِيهِ ، فَيَقُولُوا لَنَا : أَبْطِلُوا الْحِرْزَ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا تَكَرَّرَتْ السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي
الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ قُطِعَ ثَانِيًا فِيهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَلَيْسَ لِلْقَوْمِ دَلِيلٌ يُحْكَى ، وَلَا سِيَّمَا
وَقَدْ قَالَ مَعَنَا : إذَا تَكَرَّرَ الزِّنَا يُحَدُّ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا
اعْتِرَاضَهُمْ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأَبْطَلْنَاهُ .
وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ إذَا مَلَكَ السَّارِقُ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ
] : إذَا مَلَكَ السَّارِقُ قَبْلَ أَنْ يُقْطَعَ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ
بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ سَقَطَ الْقَطْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاَللَّهُ
تَعَالَى يَقُولُ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ
يُسْقِطْهُ شَيْءٌ وَلَا تَوْبَةُ السَّارِقِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّ التَّوْبَةَ
تُسْقِطُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُدُودَهُ ، وَعَزَوْهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ،
وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } .
وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْوُجُوبِ ، فَوَجَبَ
حَمْلُ جَمِيعِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ
.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ
دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَدَّ الْمُحَارِبِ
قَالَ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } .
وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدَّ السَّارِقِ ، وَقَالَ فِيهِ : {
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ }
فَلَوْ كَانَ ظُلْمُهُ فِي الْحُكْمِ مَا غَايَرَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا ، وَيَا مَعْشَرَ
الشَّافِعِيَّةِ ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَيْنَ الدَّقَائِقُ الْفِقْهِيَّةُ
وَالْحِكَمُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَسْتَنْبِطُونَهَا فِي غَوَامِضِ
الْمَسَائِلِ ، أَلَمْ تَرَوْا إلَى الْمُحَارِبِ الْمُسْتَبِدِّ بِنَفْسِهِ ،
الْمُجْتَرِئِ بِسِلَاحِهِ ، الَّذِي يَفْتَقِرُ الْإِمَامُ مَعَهُ إلَى
الْإِيجَافِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، كَيْف أَسْقَطَ جَزَاءَهُ بِالتَّوْبَةِ
اسْتِنْزَالًا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ ، كَمَا فُعِلَ بِالْكَافِرِ فِي مَغْفِرَةِ
جَمِيعِ مَا سَلَفَ اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ .
فَأَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي ، وَهُمْ فِي قَبْضَةِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَتَحْتَ حُكْمِ الْإِمَامِ ، فَمَا الَّذِي يُسْقِطُ عَنْهُمْ
مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ ؟ أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْمُحَارِبِ ،
وَقَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا الْحَالَةُ وَالْحِكْمَةُ ؟
هَذَا لَا
يَلِيقُ بِمِثْلِكُمْ ، يَا مَعْشَرَ الْمُحَقِّقِينَ .
وَأَمَّا مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ ، فَقَدْ {
قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ لَهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ } .
خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ حُكْمُ سَارِقِ الْمُصْحَفِ ] : قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَا يَنْفَعُ
إلَّا أَنْ مَنَعَ بَيْعَهُ وَتَمَلُّكَهُ .
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قُلْنَا لَهُ : إذَا اشْتَرَى
رَجُلٌ وَرَقًا وَكَتَبَ فِيهِ الْقُرْآنَ لَا يُبْطِلُ مَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ
كَلَامِ اللَّهِ مِلْكَهُ ، كَمَا لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهُ لَوْ كَتَبَ فِيهِ حَدِيثَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ
تَرَتَّبْ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْقَطْعِ
.
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }
اعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ
يُتَعَرَّضْ فِي الْقُرْآنِ لِذِكْرِهَا ، وَلَكِنَّ الْعُمُومَ لَمَّا كَانَ
يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ وَنُظَرَاءَهُ ذَكَرْنَا أُمَّهَاتِ النَّظَائِرِ ،
لِئَلَّا يَطُولَ عَلَيْكُمْ الِاسْتِيفَاءُ ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ
التَّخْصِيصِ لِهَذَا الْعُمُومِ ، لِتَعْلَمُوا كَيْفِيَّةَ اسْتِنْبَاطِ
الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَكَذَا عَقَدْنَا فِي كُلِّ
آيَةٍ وَسَرَدْنَا ، فَافْهَمُوهُ مِنْ آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ ؛ إذْ لَوْ
ذَهَبْنَا إلَى ذِكْرِ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ لَصَعُبَ
الْمَرَامُ .
وَمِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا
وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
} ، فَنَذْكُرُ وَجْهَ إيرَادِهَا لُغَةً ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ : ثُمَّ نُفِيضُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَمَامِهَا ، فَإِنَّهَا
عَظِيمَةُ الْإِشْكَالِ لُغَةً لَا فِقْهًا ، فَنَقُولُ : إنْ قِيلَ : كَيْفَ
قَالَ : فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ، وَإِنَّمَا هُمَا يَمِينَانِ " ؟ قُلْت
: لَمَّا تَوَجَّهَ هَذَا السُّؤَالُ وَسَمِعَهُ النَّاسُ لَمْ يَحُلْ أَحَدٌ
مِنْهُمْ بِطَائِلٍ مِنْ فَهْمِهِ
.
أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَتَقَبَّلُوهُ ، وَتَكَلَّمُوا
عَلَيْهِ ، وَتَابَعَهُمْ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ حُسْنَ ظَنٍّ بِهِمْ
مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ لِكَلَامِهِمْ ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الْأَعْضَاءِ
اثْنَانِ ، فَحُمِلَ الْأَقَلُّ عَلَى الْأَكْثَرِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ :
بُطُونُهُمَا وَعُيُونُهُمَا ، وَهُمَا اثْنَانِ ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِثْلَهُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْعَرَبَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ
بَيْنَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَا فِيهِ مِنْهُ اثْنَانِ ،
فَجَعَلَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ جَمْعًا إذَا ثُنِّيَ ، وَمَعْنَى
ذَلِكَ أَنَّهُ وَإِنْ جُعِلَ جَمْعًا فَالْإِضَافَةُ تَثْنِيَةٌ ، لَا سِيَّمَا
وَالتَّثْنِيَةُ
جَمْعٌ ،
وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ اثْنَانِ رَجُلَانِ ، وَلَكِنْ رَجُلَانِ يَدُلُّ
عَلَى الْجِنْسِ وَالتَّثْنِيَةِ جَمِيعًا ، وَذُكِرَ كَذَلِكَ اخْتِصَارًا ،
وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : قُلُوبُهُمَا فَالتَّثْنِيَةُ فِيهِمَا قَدْ بَيَّنَتْ
لَك عَدَدَ قَلْبٍ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ :
وَمَهْمَهَيْنِ قَذْفَيْنِ مَرَّتَيْنِ ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ
الثَّالِثُ : قَالَ سِيبَوَيْهِ : إذَا كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُجْمَعْ إذَا
أَرَدْت بِهِ التَّثْنِيَةَ ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ : وَضَعَا رِحَالَهُمَا ،
وَتُرِيدُ رَحْلَيْ رَاحِلَتَيْهِمَا ، وَإِلَى مَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ
الرَّابِعِ ، وَيَشْتَرِكُ الْفُقَهَاءُ مَعَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ فِي كُلِّ جَسَدٍ
يَدَانِ ، فَهِيَ أَيْدِيهِمَا مَعًا حَقِيقَةٌ ، وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادَ
الْيُمْنَى مِنْ كُلِّ جَسَدٍ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، جَرَى هَذَا الْجَمْعُ عَلَى
هَذِهِ الصِّفَةِ ، وَتُؤَوَّلُ كَذَلِكَ .
الْخَامِسُ :
أَنَّ ذِكْرَ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ عِنْدَ
التَّثْنِيَةِ أَفْصَحُ مِنْ ذِكْرِهِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ مَعَ التَّثْنِيَةِ
؛ فَهَذَا مُنْتَهَى مَا تَحَصَّلَ لِي مِنْ أَقْوَالِهِمْ ، وَقَدْ تَتَقَارَبُ
وَتَتَبَاعَدُ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ عَنْهُمْ
فِي الْخَامِسِ ، مِنْ أَنَّهُمْ بَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ
وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ تُقْطَعُ الْأَيْدِي
وَالْأَرْجُلُ ، فَيَعُودُ قَوْلُهُ
: أَيْدِيَهُمَا إلَى أَرْبَعَةٍ ، وَهِيَ جَمْعٌ فِي
الْآيَتَيْنِ ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ ؛ فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَصَاحَتِهِ ،
وَلَوْ قَالَ : فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمْ لَكَانَ وَجْهًا ؛ لِأَنَّ
السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ لَمْ يُرَدْ بِهِمَا شَخْصَيْنِ خَاصَّةً ، وَإِنَّمَا هُمَا
اسْمًا جِنْسٍ يَعُمَّانِ مَا لَا يُحْصَى إلَّا بِالْفِعْلِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ
، وَلَكِنَّهُ جَمْعٌ لِحَقِيقَةِ الْجَمْعِ فِيهِ .
وَبَيَانُ
مَا قُلْنَا مِنْ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي
ذَلِكَ كَثِيرًا مَآلُهُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تُقْطَعُ
يَمِينُ السَّارِقِ خَاصَّةً ، وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ قَالَهُ
عَطَاءٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَقْطَعُ الْيُسْرَى وَلَا يَعُودُ
عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي رِجْلِ رَجُلٍ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ :
تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ
رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ
رِجْلُهُ الْيُمْنَى ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَلَيْسَ عَلَى غَلَطِهِ
غِطَاءٌ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَبْلَهُ قَالُوا خِلَافَهُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا } ، فَجَاءَ بِالْجَمْعِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَقْوَالِ النُّحَاةِ
قُلْنَا : ذَلِكَ يَكُونُ تَأْوِيلًا مَعَ الضَّرُورَةِ إذَا جَاءَ دَلِيلٌ
يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ ، فَيُرْجَعُ إلَيْهِ ، فَبَطَلَ مَا قَالَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ
حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّمَا سَرَقَ .
قَالَ : اقْطَعُوا يَدَهُ .
قَالُوا :
ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى
عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ كُلُّهَا } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ
يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ ثَالِثَةً
فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ رَابِعَةً فَقَطَعَ رِجْلَهُ } .
أَمَّا النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد فَرَوَيَاهُ عَنْ
الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ .
وَأَمَّا الدَّارَقُطْنِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا ، وَرَوَاهُ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا .
وَقَالَ الْحَارِثُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ
تَمَّمَ
قَطْعَهُ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِهِ فِي الْخَامِسَةِ ؛ وَهَذَا يُسْقِط
قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
فِي قَطْعِ الْيَمِينِ أَنَّهُ قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ
أَمَرَ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَا ؛ بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى .
قَالَ لَهُ : دُونَك .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَثْبُتُ رِجَالًا .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : إذَا
سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، وَاتْرُكُوا
لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا الطَّعَامَ ، وَيَسْتَنْجِي بِهَا مِنْ الْغَائِطِ ،
وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانَ أَقْطَعَ
الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَإِنَّمَا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِعَدَمِ الْيُمْنَى .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : مِنْ تَوَابِعِهَا أَنَّ عُمُومَ
قَوْله تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } يَقْتَضِي قَطْعَ يَدِ
الْآبِقِ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ بُسْرِ
بْنِ أَرْطَاةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ
} .
وَرَوَى النَّسَائِيّ : { فِي الْغَزْوِ } .
فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي السَّفَرِ فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ
عَلَى الْآبِقِ ، وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ ؛ لِأَجْلِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ
الْعَامِّ لَا يُقَالُ فِيهِ يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّاذُّ النَّادِرُ
الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُعَمِّمُ لَفْظَهُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ ، فَضْلًا
عَنْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَصَدَهُ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْغَزْوِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَقَالُوا : إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْغَانِمِينَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَظُّهُ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَلَا يُقْطَعُ وَلَا يُحَدُّ عِنْدَ
بَعْضِ الْعُلَمَاءِ .
وَقِيلَ : يُقْطَعُ وَيُحَدُّ لِعَدَمِ تَعْيِينِ
حَظِّهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ
يُورَثُ عَنْهُ وَتُؤَدَّى مِنْهُ دُيُونُهُ ، فَصَارَ كَالْجَارِيَةِ
الْمُشْتَرَكَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا وَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ فَقَتَلَ السَّارِقُ
رَجُلًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ وَيَدْخُلُ
الْقَطْعُ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ
لِلْمُسْتَحِقَّيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُوَفَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ كَمَا
قَالَ مَالِكٌ : الْقَتْلُ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ .
قُلْنَا : إنَّ الَّذِي نَخْتَارُ أَنَّ حَدًّا لَا
يُسْقِطُ حَدًّا .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ ، هَلْ
هُوَ شَرْعُنَا خَاصَّةً أَمْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ؟ فَقِيلَ : كَانَ شَرْعُ مَنْ
قَبْلَنَا اسْتِرْقَاقَ السَّارِقِ
.
وَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ مُوسَى ؛ فَعَلَى
الْأَوَّلِ الْقَطْعُ فِي شَرْعِنَا نَاسِخٌ لِلرِّقِّ .
وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَوْكِيدًا لَهُ ،
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَدَّ كَانَ مُطْلَقًا فِي
الْأُمَمِ كُلِّهَا قَبْلَنَا ، وَلَمْ يُبَيِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّتَهُ ، إذْ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا
أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا
عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَأَيْمُ
اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } .
الْآيَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْك
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ
مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ
فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ
شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوك
شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْت فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ
يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إنَّا
أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا
اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا
تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ { أَبِي لُبَابَةَ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَانَهُ } .
الثَّانِي
: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ { بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ
، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَكَوَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالُوا لَهُ : إنَّ النَّضِيرَ يَجْعَلُونَ خَرَاجَنَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ خَرَاجِهِمْ .
وَيَقْتُلُونَ مِنَّا مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ ، وَإِنْ
قَتَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنَّا وَدَوْهُ
أَرْبَعِينَ
وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ } .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي { الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ : إنَّ رَجُلًا
مِنَّا وَامْرَأَةً زَنَيَا ؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ فَقَالُوا :
نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ ، إنَّ
فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ ، فَأَتَوْا بِهَا فَوَضَعَ
أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا
بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : ارْفَعْ يَدَكَ .
فَرَفَعَ يَدَهُ ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ .
فَقَالُوا : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ ، فِيهَا آيَةُ
الرَّجْمِ .
فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا }
.
هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ [ وَالْبُخَارِيُّ ] وَمُسْلِمٌ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد
.
قَالَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ :
{ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ : ائْتُونِي
أَعْلَمَ رَجُلَيْنِ فِيكُمْ فَجَاءُوا بِابْنَيْ صُورِيَّا ، فَنَشَدَهُمَا
اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمَرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ قَالَا : نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ
إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ
فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا .
قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟
قَالَ : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا ، فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ .
فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالشُّهُودِ ، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا
مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ
.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرَجْمِهِمَا فَرُجِمَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُخْتَارِ مِنْ
ذَلِكَ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ :
إنَّهَا فِي شَأْنِ أَبِي لُبَابَةَ وَمَا قَالَ عَلِيٌّ
عَنْ النَّبِيِّ لِبَنِي قُرَيْظَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ
قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ ، وَمَا شَكَوْهُ مِنْ التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ
فَإِنَّهُ
ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ تَحْكِيمًا مِنْهُمْ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَكْوًى .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، كِلَاهُمَا فِي وَصْفِ
الْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَكَّمُوهُ ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَ الزَّانِيَيْنِ .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُصَالَحُونَ
، وَعُمْدَةُ الصُّلْحِ أَلَّا يَعْرِضَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ ، وَإِنْ تَعَرَّضُوا
لَنَا وَرَفَعُوا أَمَرَهُمْ إلَيْنَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا رَفَعُوهُ
ظُلْمًا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَةٍ ، أَوْ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرِيعَةُ ؛
فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ
وَشِبْهِهِ لَمْ يُمَكَّنْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِيهِ .
وَإِذَا كَانَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ
وَيَحْكُمُونَنَا فِيهِ وَيَتَرَاضَوْا بِحُكْمِنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ فَإِنَّ
الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ ، وَإِنْ شَاءَ
أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ أَعْرَضَ
.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ
يُعْرِضَ عَنْهُمْ .
قُلْت :
وَإِنَّمَا أَنْفَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ، لِيُحَقِّقَ تَحْرِيفَهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ وَتَكْذِيبَهُمْ
وَكَتْمَهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ
.
وَمِنْهُ صِفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالرَّجْمُ عَلَى مَنْ زَنَا مِنْهُمْ .
وَعَنْهُ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ
: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا
مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } فَيَكُونُ ذَلِكَ
مِنْ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ ، وَحُجَجِهِ الْبَيِّنَةِ ، وَبَرَاهِينِهِ
الْمُثَبِّتَةِ لِلْأُمَّةِ ، الْمُخْزِيَةِ لِلْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِي التَّحْكِيمِ مِنْ الْيَهُودِ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا
جَاءَ الْأَسَاقِفَةُ وَالزَّانِيَانِ فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ حَكَمَ
أَوْ لَا ؟ لِأَنَّ إنْفَاذَ الْحُكْمِ حَقُّ الْأَسَاقِفَةِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : إذَا حَكَّمَ الزَّانِيَانِ
الْإِمَامَ جَازَ إنْفَاذُهُ الْحُكْمَ ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْأَسَاقِفَةِ ؛
وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا
لَنَفَذَ [ حُكْمُهُ ] وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْحَاكِمِ ؛ فَالْكِتَابِيُّونَ
بِذَلِكَ أَوْلَى ، إذْ الْحُكْمُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلْحَاكِمِ عَلَى النَّاسِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ .
وَقَالَ عِيسَى ، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : لَمْ
يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ ، إنَّمَا كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ ، وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ عِيسَى عَنْهُ إنَّمَا نَزَعَ بِهِ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ
{ أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ فَدَكَ ، وَكَانُوا
حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمُ الْمَرْأَةِ
الزَّانِيَةِ يَسْرَةُ ، وَكَانُوا بَعَثُوا إلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ
لَهُمْ : اسْأَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا ، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْمِ
فَخُذُوهُ مِنْهُ وَاقْبَلُوهُ ، وَإِنْ أَفْتَى بِهِ فَاحْذَرُوهُ ، وَهَذِهِ
فِتْنَةٌ أَرَادَهَا اللَّهُ فِيهِمْ فَنَفَذَتْ ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَنْ أَعْلَمُ يَهُودَ
فِيكُمْ ؟ قَالُوا : ابْنُ صُورِيَّا
.
فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فِي فَدَكَ ، فَجَاءَ فَنَشَدَهُ
اللَّهَ ، فَانْتَشَدَ لَهُ وَصَدَّقَهُ بِالرَّجْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ
لَهُ : وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ ، إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ
، ثُمَّ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ ، فَبَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ .
} وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ
بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالُهُمْ عَهْدًا وَأَمَانًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْدَ
ذِمَّةٍ وَدَارٍ لَكَانَ لَهُمْ حُكْمُ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَالْعَدْلُ فِيهِمْ ،
فَلَا حُجَّةَ لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي هَذَا ، وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِقَوْلِهِ : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } .
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْجَاسُوسَ بِقَوْلِهِ : { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك } ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْجَوَاسِيسُ ، وَلَمْ يَعْرِضْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتْ الْأَحْكَامُ ، وَلَا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : لَمَّا حَكَّمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الرُّجُوعُ ، وَكُلُّ مَنْ
حَكَّمَ رَجُلًا فِي الدِّينِ فَأَصْلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ .
قَالَ مَالِكٌ : إذَا حَكَّمَ رَجُلٌ رَجُلًا
فَحُكْمُهُ مَاضٍ ، وَإِنْ رُفِعَ إلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يَكُون جَوْرًا
بَيِّنًا .
وَقَالَ سَحْنُونٌ : يُمْضِيه إنْ رَآهُ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ
وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالطَّالِبِ ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا
يُحَكَّمُ فِيهَا إلَّا السُّلْطَانَ
.
وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ اخْتَصَّ بِهِ
الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيمُ فِيهِ وَنَفَذَ تَحْكِيمُ الْمُحَكَّمِ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : التَّحْكِيمُ جَائِزٌ ، وَهُوَ
غَيْرُ لَازِمٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوَى قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ آحَادُ
النَّاسِ الْوُلَاةَ وَالْحُكَّامَ ، وَلَا يَأْخُذُ آحَادُ النَّاسِ الْوِلَايَةَ
مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَسَنَعْقِدُ فِي تَعْلِيمِ التَّحْكِيمِ مَقَالًا يُشْفِي إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إشَارَتُهُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُحَكَّمٍ فَإِنَّهُ هُوَ
مُفَعَّلٌ مِنْ حَكَّمَ ، فَإِذَا قَالَ : حَكَّمْت ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ
لَغْوًا أَوْ مُفِيدًا ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مُفِيدًا ، فَإِذَا أَفَادَ
فَلَا يَخْلُو أَنْ يُفِيدَ التَّكْثِيرَ كَقَوْلِك : كَلَّمْته وَقَلَّلْته ،
أَوْ يَكُونَ بِمَعْنَى جَعَلْت لَهُ ، كَقَوْلِك : رَكَّبْته وَحَسَّنْته ، أَيْ
جَعَلْت لَهُ مَرْكُوبًا وَحُسْنًا ؛ وَهَذَا يُفِيدُ جَعَلْتُهُ حَكَمًا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ إنَّمَا
هُوَ حَقُّهُمْ لَا حَقُّ الْحَاكِمِ ، بَيْدَ أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى
التَّحْكِيمِ خَرْمٌ لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ وَمُؤَدٍّ إلَى تَهَارُجِ النَّاسِ
تَهَارُجَ الْحُمُرِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ فَاصِلٍ ؛ فَأَمَرَ الشَّرْعُ بِنَصْبِ
الْوَالِي لِيَحْسِمَ قَاعِدَةَ الْهَرَجِ ، وَأَذِنَ فِي التَّحْكِيمِ تَخْفِيفًا
عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّةِ التَّرَافُعِ ، لِتَتِمَّ الْمَصْلَحَتَانِ ،
وَتَحْصُلَ الْفَائِدَتَانِ .
وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ سِوَاهُ لَا يَلْحَظُونِ
الشَّرِيعَةَ بِعَيْنِ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ
وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى الْمَصَالِحِ ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْمَقَاصِدَ ،
وَإِنَّمَا يَلْحَظُونَ الظَّوَاهِرَ وَمَا يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهَا ، وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْقَبَسِ فِي شَرْحِ مُوَطَّأِ مَالِكِ
بْنِ أَنَسٍ .
وَلَمْ أَرْوِ فِي التَّحْكِيمِ حَدِيثًا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ
الْآنَ إلَّا مَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْقَاضِي الْعِرَاقِيُّ ، أَخْبَرَنَا
الْجَوْنِيُّ ، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ ، أَخْبَرَنَا قَلِيلَهْ ،
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ
الْمِقْدَامِ بْنَ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ شُرَيْحٍ ، عَنْ أَبِيهِ { هَانِئٍ قَالَ
: لَمَّا وَفَدَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ
قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ وَهُمْ يُكَنُّونَهُ أَبَا الْحَكَمِ ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ ،
وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ : إنَّ قَوْمِي
إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ ، فَرَضِيَ كِلَا
الْفَرِيقَيْنِ .
فَقَالَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَك مِنْ الْوَلَدِ
؟ قَالَ : لِي شُرَيْحٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ ، وَمُسْلِمٌ .
قَالَ : فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ؟ قَالَ : شُرَيْحٌ .
قَالَ : فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ وَدَعَا لَهُ
وَلِوَلَدِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : كَيْفَ أَنْفَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ؟ : اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ جَوَابُ الْعُلَمَاءِ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ
الْإِسْلَامِ ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَنْ زَنَى مِنْهُمْ وَقَدْ تَزَوَّجَ
عَلَيْهِ الرَّجْمُ ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْإِمَامُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ
الْإِسْلَامُ فِي الْإِحْصَانِ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : حَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَهَادَةِ الْيَهُودِ ، إذْ
شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ، فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا حَتَّى يَقُومَ
الدَّلِيلُ عَلَى تَرْكِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ،
وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا ، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ
الْحَقِّ فِي الدَّلِيلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ؛ قَالَهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ
الْقَاسِمِ .
الثَّالِثُ :
إنَّمَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ ، وَلَا يَحْكُمُ
الْحَاكِمُ الْيَوْمَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ؛ قَالَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي الْمُخْتَارِ : أَمَّا
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِمْ ، وَسَأَلُوهُ عَنْ
أَمْرِهِمْ ، فَفِي هَذَا يَكُونُ النَّظَرُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ،
مُخْبِرًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِيهِ :
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ
فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } وَأَخْبَرَ
أَنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ ، فَقَالَ { فَإِنْ جَاءُوكَ } .
ثُمَّ خَيَّرَهُ فَقَالَ : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
ثُمَّ قَالَ
لَهُ : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَالْقِسْطُ هُوَ
الْعَدْلُ ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ شُهُودٌ مِنَّا
عُدُولٌ ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْكُفَّارِ عَدْلٌ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَفَضِيحَةَ الْيَهُودِ حَسْبَمَا
شَرَحْنَا ؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ .
وَلَوْ نَظَرَ إلَى الْحُكْمِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ
لَمَا أَرْسَلَ إلَى ابْنِ صُورِيَّا ، وَلَكِنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُجُوهُ فِيهِ مِنْ قَبُولِ التَّحْكِيمِ
وَإِنْفَاذِهِ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، وَهِيَ الْحَقُّ حَتَّى
يُنْسَخَ ، وَبِشَهَادَةِ الْيَهُودِ ، وَذَلِكَ دِينٌ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ
بِالْعُدُولِ مِنَّا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ : وَمُحَمَّدٌ مِنْهُمْ ؛ يَحْكُمُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمُطْلَقُهُ فِي قَوْلِهِ : { النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } ، آخِرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ ؛
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَافِرُونَ وَالظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ كُلُّهُ
لِلْيَهُودِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَافِرُونَ لِلْمُشْرِكِينَ ،
وَالظَّالِمُونَ لِلْيَهُودِ ، وَالْفَاسِقُونَ لِلنَّصَارَى ، وَبِهِ أَقُولُ ؛
لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرِ بْنِ
زَيْدٍ ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ .
قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ
عَنْ الْمِلَّةِ ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ .
وَهَذَا يَخْتَلِفُ إنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى
أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ ، وَإِنْ
حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى
أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ
بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ
فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمْ الظَّالِمُونَ } .
فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : [ فِي سَبَبِ النُّزُولِ ] : قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ :
لَمَّا رَأَتْ قُرَيْظَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
حَكَمَ بِالرَّجْمِ وَكَانُوا يُخْفُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ ، قَالُوا : يَا
مُحَمَّد : اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إخْوَاننَا بَنِي النَّضِيرِ ، وَكَانَ
بَيْنَهُمْ دَمٌ ، وَكَانَتْ النَّضِيرُ تَتَعَزَّزُ عَلَى قُرَيْظَةَ فِي
دِمَائِهَا وَدِيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَالُوا : لَا نُطِيعُك فِي الرَّجْمِ ، وَلَكِنَّا
نَأْخُذُ بِحُدُودِنَا الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا ، فَنَزَلَتْ : { وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ،
وَنَزَلَتْ : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْمَعْنَى : فَمَا بَالُهُمْ
يُخَالِفُونَ فَيَقْتُلُونَ النَّفْسَيْنِ بِالنَّفْسِ وَيَفْقَئُونَ
الْعَيْنَيْنِ بِالْعَيْنِ ؛ وَكَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عِنْدَهُمْ الْقِصَاصُ
خَاصَّةً ، فَشَرَّفَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَمَةَ بِالدِّيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : تَعَلَّقَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ : يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ ؛
لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ .
قَالَتْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ : هَذَا خَبَرٌ عَنْ
شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا .
وَقُلْنَا نَحْنُ لَهُ : هَذِهِ الْآيَةُ ، إنَّمَا
جَاءَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ
وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلًا بِرَجُلٍ ، وَنَفْسًا بِنَفْسٍ ،
وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ
أَحْوَالِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فَلَيْسَ لَهُ
تَعَرُّضٌ فِي ذَلِكَ ، وَلَا سِيقَتْ الْآيَةُ لَهُ ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ الْأَلْفَاظُ
عَلَى الْمَقَاصِدِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا عُمُومٌ
يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَبُ مِنْ بَعْضٍ ؛ { عَنْ عَلِيٍّ ، وَقَدْ سُئِلَ : هَلْ
خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ :
لَا ، إلَّا مَا فِي هَذَا ، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ ، وَإِذَا
فِيهِ : الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ
، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } .
وَقَالَ :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }
فَاقْتَضَى لَفْظُ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مُسْلِمٍ
وَكَافِر ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ مَوْجُودٌ بِهِ ، فَلَا تَسْتَوِي
نَفْسٌ مُبِيحُهَا مَعَهَا مَعَ نَفْسٍ قَدْ تَطَهَّرَتْ عَنْ الْمُبِيحَاتِ ،
وَاعْتَصَمَتْ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعِصَمِ .
وَقَدْ ذَكَر بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نُكْتَةً حَسَنَةً
، قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ
أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنْهُمْ تَعَادُلُ نَفْسًا ؛
فَإِذَا الْتَزَمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ فِي مِلَّتِنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي مِلَّتِنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنَّا تُقَابِلُ نَفْسًا ، فَأَمَّا مُقَابَلَةُ كُلِّ نَفْسٍ مِنَّا بِنَفْسٍ مِنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْآيَةِ ، وَلَا مِنْ مَوَارِدِهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ : قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } يُوجِبُ قَتْلَ الْحُرِّ
بِالْعَبْدِ خَاصَّةً .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يُوجِبُ ذَلِكَ أَخْذَ نَفْسِهِ
بِنَفْسِهِ ، وَأَخْذَ أَطْرَافِهِ بِأَطْرَافِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ فِي
الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا .
وَنَخُصُّ هَذَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا
شَخْصَانِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ السَّلَامَةِ
فِي الْخِلْقَةِ فَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَنْفُسِ ، وَيُقَالُ
لِلْآخَرَيْنِ : إنَّ نَقْصَ الرِّقِّ الْبَاقِيَ فِي الْعَبْدِ مِنْ آثَارِ
الْكُفْرِ يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ ؛ فَلَا يَصِحُّ
أَنْ يُؤْخَذَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنْ
السِّلَعِ يَصْرِفُهُ الْحُرُّ كَمَا يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ } يُوجِبُ قَتْلَ الرَّجُلِ [ الْحُرِّ ] بِالْمَرْأَةِ [ الْحُرَّةِ ]
مُطْلَقًا ؛ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاجُعِ ،
فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ خُيِّرَ وَلِيُّهَا ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ
دِيَتَهَا ، وَإِنْ شَاءَ أُعْطِيَ نِصْفَ الْعَقْلِ .
وَقَتَلَ الرَّجُلَ .
وَعُمُومُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ ، فَإِنْ
أَحَبُّوا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ } .
وَالْمَعْنَى يُعَضِّدُهُ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا
قَتَلَ الْمَرْأَةَ فَقَدْ قَتَلَ مُكَافِئًا لَهُ فِي الدَّمِ ، فَلَا يَجِبُ
فِيهِ زِيَادَةٌ كَالرَّجُلَيْنِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا تُقْتَل الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ
؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
قُلْنَا : هَذَا عُمُومٌ تَخُصُّهُ حِكْمَتُهُ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَتَلَ مَنْ قَتَلَ صِيَانَةً لِلْأَنْفُسِ عَنْ الْقَتْلِ
، فَلَوْ عَلِمَ الْأَعْدَاءُ أَنَّهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ
عَنْهُمْ لَقَتَلُوا عَدُوَّهُمْ فِي جَمَاعَتِهِمْ ، فَحَكَمْنَا بِإِيجَابِ
الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ رَدْعًا لِلْأَعْدَاءِ ، وَحَسْمًا لِهَذَا الدَّاءِ ،
وَلَا كَلَامَ لَهُمْ عَلَى هَذَا
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ : إذَا جَرَحَ
أَوْ قَطَعَ الْيَدَ أَوْ الْأُذُنَ ثُمَّ قَتَلَ فُعِلَ بِهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } الْآيَةَ ؛ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا أَخَذَ ، وَيُفْعَلُ
بِهِ كَمَا فَعَلَ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ قَصْدَ بِذَلِكَ الْمُثْلَةَ
فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ مُضَارَبَتِهِ لَمْ
يُمَثَّلْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
التَّشَفِّيَ ، وَإِمَّا إبْطَالَ الْعُضْوِ .
وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَالْقَتْلُ يَأْتِي عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَيْسَ بِقِصَاصٍ [ وَلَا انْتِصَافٍ ] ؛
لِأَنَّ الْمَقْتُولَ تَأَلَّمَ بِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ [ كُلِّهَا ] وَبِالْقَتْلِ
، فَلَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْقِصَاصِ مِنْ أَنْ يَأْلَمَ كَمَا آلَمَ ، وَبِهِ
أَقُولُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَذَكَرَ الْعَيْنَ وَالْأَنْفَ وَالْأُذُنَ
وَالسِّنَّ وَتَرَكَ الْيَدَ ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ
: أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بِهَا يُفْعَلُ [ كُلُّ ] ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ حَالِ الْيَدَيْنِ
، بِخِلَافِ الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ ، فَإِنَّ الْيُسْرَى لَا تُسَاوِي
الْيُمْنَى ؛ فَتَرَكَ الْقَوْلَ فِيهَا لِتَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى : {
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } .
ثُمَّ يَقَعُ النَّظَرُ فِيهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ الْيَدَ بِالْيَدِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ ؛
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ ، وَفِيهِ إشْكَالٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } قَرَأَ بِالرَّفْعِ
وَالنَّصْبِ ، فَالنَّصْبُ إتْبَاعٌ لِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ وَالرَّفْعُ ،
وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى حَالِ النَّفْسِ
قَبْلَ دُخُولِ أَنْ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ .
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا كُتِبَ فِي التَّوْرَاةِ ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } لَا يَخْلُو أَنْ
يَكُونَ فَقَأَهَا ، أَوْ أَذْهَبَ بَصَرَهَا وَبَقِيَتْ صُورَتُهَا ، أَوْ
أَذْهَبَ بَعْضَ الْبَصَرِ .
وَقَدْ أَفَادَنَا كَيْفِيَّةَ الْقِصَاصِ مِنْهَا
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ
بِمِرْآةٍ فَحُمِّيَتْ ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَى الْعَيْنِ الْأُخْرَى قُطْنًا ، ثُمَّ
أُخِذَتْ الْمِرْآةُ بِكَلْبَتَيْنِ فَأُدْنِيَتْ مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى سَالَ
إنْسَانُ عَيْنِهِ .
فَلَوْ أَذْهَبَ رَجُلٌ بَعْضَ بَصَرِهِ فَإِنَّهُ
تُعْصَبُ عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ
وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَصَرُ الْمَضْرُوبِ فَيُعَلَّمَ ، ثُمَّ
تُغَطَّى عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ
وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ ، فَحَيْثُ انْتَهَى الْبَصَرُ عَلَّمَ ، ثُمَّ يُقَاسُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَسَّاحَةِ ، فَكَيْفَ كَانَ الْفَضْلُ نَسَبًا ،
وَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ مَعَ الْأَدَبِ الْوَجِيعِ وَالسِّجْنِ
الطَّوِيلِ ؛ إذْ الْقِصَاصُ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَلَا يَزَالُ
هَذَا يُخْتَبَرُ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ لِئَلَّا يَتَدَاهَى الْمَضْرُوبُ
فَيَنْقُصَ مِنْ بَصَرِهِ ، لِيَكْثُرَ حَظُّهُ مِنْ مَالِ الضَّارِبِ ؛ وَلَا
خِلَافَ فِي هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : لَوْ فَقَأَ أَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ : قِيلَ : لَا قَوَدَ
عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ .
وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ شَاءَ فَقَأَ عَيْنَهُ ، وَإِنْ
شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً
.
وَمُتَعَلَّقُ عُثْمَانَ [ أَنَّهُ ] فِي الْقِصَاصِ
مِنْهُ أَخَذَ جَمِيعَ الْبَصَرِ بِبَعْضِهِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَاوَاةِ .
وَمُتَعَلَّقُ الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى : {
الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَمُتَعَلَّقُ مَالِكٍ أَنَّ الْأَدِلَّةَ لَمَّا
تَعَارَضَتْ خُيِّرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ
أَوْلَى فَإِنَّهُ أَسْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا فَقَأَ صَحِيحٌ عَيْنَ أَعْوَرَ : فَعَلَيْهِ
الدِّيَةُ كَامِلَةً عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : فِيهِ نِصْفُ
الدِّيَةِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ .
وَلَكِنْ عُلَمَاؤُنَا قَالُوا : إنَّ مَنْفَعَةَ الْأَعْوَرِ
بِبَصَرِهِ كَمَنْفَعَةِ السَّالِمِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ
مِثْلُ دِيَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَالُوا : إذَا ضَرَبَ سِنَّهُ فَاسْوَدَّتْ
فَفِيهَا دِيَتُهَا كَامِلَةً ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهَا حُكُومَةٌ ، وَهَذَا
عِنْدِي خِلَافٌ يَئُولُ إلَى وِفَاقٍ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ سَوَادُهَا أَذْهَبَ
مَنْفَعَتَهَا ، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ صُورَتُهَا كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ
وَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ ، فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ .
وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا شَيْءٌ أَوْ
جَمِيعُهَا لَمْ يَجِبْ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ
حُكُومَةٌ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا ضُرِبَ
سِنُّهُ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ
عَنْهُ سَنَدًا وَلَا فِقْهًا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَالَ مَالِكٌ : إذَا أَخَذَ الْكَبِيرُ دِيَةَ ضِرْسِهِ
، ثُمَّ ثَبَتَتْ .
فَلَا يَرُدُّهَا .
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : يَرُدُّهَا ؛ لِأَنَّ
عِوَضَهَا قَدْ ثَبَتَ ، أَصْلُهُ سِنُّ الصَّغِيرِ ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّ هَذَا
ثَبَاتٌ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالنَّادِرِ
كَسَائِرِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، فَلَوْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فَرَدَّهَا
صَاحِبُهَا فَالْتَحَمَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
عَطَاءٌ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ثَانِيَةً ، وَإِنْ رَدَّهَا أَعَادَ كُلَّ
صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ
.
وَكَذَلِكَ
لَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَأَلْصَقَهَا بِحَرَارَةِ الدَّمِ فَالْتَزَقَتْ مِثْلُهُ
، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا .
وَقَالَ عَطَاءٌ : يَجْبُرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى
قَلْعِهَا ؛ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ أَلْصَقَهَا ؛ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ ، وَقَدْ
جَهِلَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ رَدَّهَا وَعَوْدَهَا لِصُورَتِهَا مُوجِبٌ
عَوْدَهَا لِحُكْمِهَا ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَانَتْ فِيهَا لِلِانْفِصَالِ ، وَقَدْ
عَادَتْ مُتَّصِلَةً ، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ لَيْسَتْ صِفَاتٍ لِلْأَعْيَانِ ،
وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ تَعُودُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا
وَإِخْبَارِهِ عَنْهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَسْقُطُ عَنْ قَالِعِ السِّنِّ
دِيَتُهَا ، وَإِنْ رَجَعَتْ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِقَلْعِهَا ،
وَذَلِكَ لَا يَنْجَبِرُ .
قُلْنَا :
إنَّمَا وَجَبَتْ لِفَقْدِهَا وَذَهَابِ مَنْفَعَتِهَا ؛
فَإِذَا عَادَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ عَيْنَهُ فَفَقَدَ
بَصَرَهُ ، فَلَمَّا قَضَى عَلَيْهِ عَادَ بَصَرُهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ قَلْعِ السِّنِّ الزَّائِدِ ] : فَلَوْ كَانَتْ
لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَقُلِعَتْ فَفِيهَا حُكُومَةٌ ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ
الْأَمْصَارِ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ
، وَلَيْسَ فِي التَّقْدِيرِ دَلِيلٌ ، فَالْحُكُومَةُ أَعْدَلُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ قَطْعِ أُذُنَيْ رَجُلٍ ] : قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الَّذِي يَقْطَعُ أُذُنَيْ رَجُلٍ : عَلَيْهِ حُكُومَةٌ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي السَّمْعِ ، وَيُقَاسُ كَمَا يُقَاسُ الْبَصَرُ ، فَإِنْ أَجَابَ جَوَابَ مَنْ يَسْمَعُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ أُحْلِفَ ، لَقَدْ صُمَّتْ مِنْ ضَرْبِ هَذَا ، وَأُغْرِمَ دِيَتَهُ ، وَمِثْلُهُ فِي الْيَمِينِ فِي الْبَصَرِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : اللِّسَانُ : اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْقَوَدِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ، وَالْعِلَّةُ فِي التَّوَقُّفِ عَنْ الْقَوَدِ فِيهِ عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ فَالْقَوَدُ هُوَ الْأَصْلُ ، وَيُخْتَبَرُ بِالْكَلَامِ فَمَا نَقَصَ مِنْ الْحُرُوفِ فَبِحِسَابِهِ مِنْ الدِّيَةِ تَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ .
فَإِنْ
قَلَعَ لِسَانَ أَخْرَسَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ
: [ إذَا قَلَعَ لِسَانُ أَخْرَس
] : فَفِيهِ حُكُومَةٌ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : فِيهِ الدِّيَةُ ، يُقَالُ لَهُ
: إذَا أَسْقَطْت الْقَوَدَ فَلَا يَبْقَى إلَّا الْحُكُومَةُ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ
قَرِينَةُ الْقَوَدِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : [ الْيَمِينُ بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ بِالْيَسَارِ ] :
إذَا قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ أَوْ يَسَارَهُ لَمْ يُؤْخَذْ الْيَمِينُ إلَّا بِالْيَمِينِ
وَالْيَسَارُ إلَّا بِالْيَسَارِ عِنْدَ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : تُؤْخَذُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ
وَالْيَسَارُ بِالْيَمِينِ نَظَرًا إلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي الصُّورَةِ
وَالِاسْمِ ، وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمَنْفَعَةِ ، وَهُمَا فِيهَا
مُتَفَاوِتَتَانِ أَشَدَّ تَفَاوُتًا مِمَّا بَيْنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَإِذَا
لَمْ تُؤْخَذْ الْيَدُ بِالرِّجْلِ فَلَا تُؤْخَذُ يُمْنَى بِيُسْرَى .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ : نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَعْضَاءِ وَتَرَكَ بَاقِيَهَا لِلْقِيَاسِ عَلَيْهَا ، وَكُلُّ عُضْوٍ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا أَمْكَنَ وَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ بَطَلَتْ مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَتْ صُورَتُهُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ ، وَفِيهِ الدِّيَةُ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَوَدِ فِيهِ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْأَعْضَاءِ وَالصُّوَرِ بَيَّنَّاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ حُكْمُ الْجُرُوحِ ] : لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ وَخَصَّ مَا خَصَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : {
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } فَعَمَّ بِمَا نَبَّهَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ : { كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثَنِيَّةَ
جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ ، فَأَتَوْا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ .
فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ : لَا وَاَللَّهِ ، لَا تُكْسَر ثَنِيَّتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : يَا أَنَسُ ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ
وَقَبِلُوا الْأَرْشَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ
لَأَبَرَّهُ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : [ فَهُوَ
كَفَّارَةُ لَهُ هُوَ ] الْمَجْرُوحُ
.
وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْجَارِحُ .
وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ هَلْ هُوَ فِي الضَّمِيرَيْنِ
وَاحِدٌ أَوْ كُلُّ ضَمِيرٍ يَعُودُ إلَى مُضْمَرٍ ثَانٍ ؟ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ
أَنَّهُ يَعُودُ إلَى وَاحِدِ الضَّمِيرَيْنِ جَمِيعًا ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي
أَنَّهُ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ فَأَسْقَطَهُ كَفَّرَ مِنْ ذُنُوبِهِ
بِقَدْرِهِ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ
فَيَهَبُهُ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً ، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً } .
وَاَلَّذِي يَقُولُ : إنَّهُ إذَا عَفَا عَنْهُ
الْمَجْرُوحُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ، فَلَا مَعْنَى
لَهُ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ
لَفَاسِقُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : نَزَلَتْ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَقِيلَ :
{ جَاءَ ابْنُ صُورِيَّا ، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ ،
وَكَعْبُ بْنُ أُسَيْدَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ ، فَقَالُوا لَهُ : نَحْنُ أَحْبَارَ يَهُودَ
، إنْ آمَنَّا لَك آمَنَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ بِك ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ
خُصُومَةٌ فَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْك لِتَقْضِيَ لَنَا عَلَيْهِمْ ، وَنُؤْمِنُ بِك
وَنُصَدِّقُك ؛ فَأَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } } بِمَعْنَى وَاحِدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ قَوْمٌ : هَذَا نَاسِخٌ
لِلتَّخْيِيرِ ، وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ ؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ
أَرْبَعَةٌ مِنْهَا : مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ بِتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ
وَالْمُتَأَخِّرِ .
وَهَذَا مَجْهُولٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ،
فَامْتَنَعَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى ،
وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوك عَنْ بَعْضِ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك } قَالَ قَوْمٌ : مَعْنَاهُ عَنْ كُلِّ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ إلَيْك ، وَالْبَعْضُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكُلِّ قَالَ الشَّاعِرُ :
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَغْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ
حِمَامُهَا وَيُرْوَى : أَوْ يَرْتَبِطْ .
أَرَادَ كُلَّ النُّفُوسِ ، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْله
تَعَالَى : { وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ { بَعْضَ } عَلَى حَالِهَا فِي
هَذِهِ الْآيَةِ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّجْمُ أَوْ الْحُكْمُ الَّذِي
كَانُوا أَرَادُوهُ وَلَمْ يَقْصِدُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الْكُلِّ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ ، وَابْنِ أُبَيٍّ ؛ وَذَلِكَ { أَنَّ
عُبَادَةَ تَبَرَّأَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
حِلْفِ قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ كَانَ لَهُ حِلْفُهُمْ مِثْلُ مَا لِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أُبَيٍّ ، وَتَمَسَّكَ ابْنُ أُبَيٍّ بِهِمْ ، وَقَالَ : إنِّي رَجُلٌ
أَخَافُ الدَّوَائِرَ .
} الثَّانِي
: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُوَازُونَ يَهُودَ قُرَيْظَةَ
وَنَصَارَى نَجْرَانَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رِيفٍ ، وَكَانُوا يَمِيرُونَهُمْ
وَيُقْرِضُونَهُمْ ، فَقَالُوا : كَيْفَ نَقْطَعُ مَوَدَّةَ قَوْمٍ إذَا أَصَابَتْنَا
سَنَةٌ فَاحْتَجْنَا إلَيْهِمْ وَسَعَوْا عَلَيْنَا الْمَنَازِلَ وَعَرَضُوا
عَلَيْنَا الثِّمَارَ إلَى أَجَلٍ ، فَنَزَلَتْ ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ
نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ
} .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ ؛ فَأَمَّا نُزُولُهَا فِي أَبِي لُبَابَةَ فَمُمْكِنٌ
؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى يَهُودِ [ بَنِي قُرَيْظَةَ ] إلَى حَلْقِهِ بِأَنَّهُمْ
إنْ نَزَلُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ
الذَّبْحُ فَخَانَهُ ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا
إلَى ذَلِكَ فِيهِمَا .
وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ ذَكَرَ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ لَا تَخُصُّ بِهِ أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اتَّخَذَ بِالْيَمَنِ كَاتِبًا ذِمِّيًّا ، فَكَتَبَ إلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيًّا فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ ، وَلَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ ، ، فَقَرَأَ : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُوَضَّحًا ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ بَيَانُ تَمَامِ الْآيَةِ ، ثُمَّ جَاءَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى عَامَّةً فِي نَفْيِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ الْكُفَّارِ أَجْمَعِينَ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا
هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَانَ
الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ إلَى
الصَّلَاةِ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ وَسَخِرُوا مِنْهُ ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ
الْأَذَانِ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، أَمَّا إنَّهُ ذُكِرَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى
الِاخْتِصَاصِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ
النَّصَارَى ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ ، إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ :
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : حُرِقَ الْكَاذِبُ ،
فَسَقَطَتْ فِي بَيْتِهِ شَرَارَةٌ مِنْ نَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ ، فَتَعَلَّقَتْ
النَّارُ بِالْبَيْتِ فَأَحْرَقَتْهُ ، وَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ الْكَافِرَ مَعَهُ ؛ فَكَانَتْ
عِبْرَةً لِلْخَلْقِ .
وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ .
وَقَدْ كَانُوا يُمْهِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَسْتَفْتِحُوا فَلَا يُؤَخَّرُوا بَعْدَ
ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَةُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ ، يَغْزُ حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ ، وَإِلَّا أَغَارَ } ؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : رَوَى
الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ
الْمُسْلِمُونَ إذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَتَجَنَّبُونَ الصَّلَاةَ
فَيَجْتَمِعُونَ ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي
ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ النَّصَارَى .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : اتَّخِذُوا قَرْنًا مِثْل قَرْنِ
الْيَهُودِ ؛ فَقَالَ عُمَرُ : أَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بِلَالُ ؛ قُمْ
فَنَادِ بِالصَّلَاةِ } .
وَفِي الْمُوَطَّإِ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ زَيْدٍ قَالَ : { لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَلَ حَتَّى يُضْرَبَ بِهِ فَيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ
طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا ، فَقُلْت لَهُ : يَا عَبْدَ
اللَّهِ ، تَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ ؟ فَقَالَ لِي : مَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ فَقُلْت
: نَدْعُو بِهِ لِلصَّلَاةِ .
قَالَ : أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ
ذَلِكَ ؟ فَقُلْت : بَلَى .
فَقَالَ : تَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ
أَكْبَرُ فَذَكَرَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ .
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت ، فَقَالَ : إنَّهَا لِرُؤْيَا
حَقٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، قُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا
رَأَيْت فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ .
فَفَعَلْت
} .
{ فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ الْأَذَانَ خَرَجَ مُسْرِعًا ،
فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛
وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ ، لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ الَّذِي رَأَى .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ
} .
وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ
اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَذَانِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ
وَمَسَائِلِهِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ
.
الْآيَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَهَى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ مِنْ
طَرِيقَيْهِ : فِي التَّوْحِيدِ ، وَفِي الْعَمَلِ ؛ فَغُلُوُّهُمْ فِي
التَّوْحِيدِ نِسْبَتُهُمْ لَهُ الْوَلَدَ سُبْحَانَهُ ، وَغُلُوُّهُمْ فِي
الْعَمَلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ فِي التَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّكْلِيفِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَتَرْكَبُنَّ
سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى
لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصِّحَاحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ
امْرَأَةً مِنْ اللَّيْلِ تُصَلِّي ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قِيلَ :
الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ كُلَّهُ .
فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ : إنَّ
اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ } .
وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ هَذَا
الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا
قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى }
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِأَنَّا نَتَّبِعُ مَنْ قَبْلَنَا فِي سُنَنِهِ ، وَكَانَتْ الْكَفَرَةُ قَدْ
شَبَّهَتْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ فِي الْوَلَدِ ، وَشَبَّهَتْ هَذِهِ
الْأُمَّةُ الْبَارِيَ تَعَالَى بِالْخَلْقِ فِي مَصَائِبَ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي
الْأُصُولِ لَا تَقْصُرُ فِي الْبَاطِلِ عَنْ الْوَلَدِ ، وَغَلَتْ طَائِفَةٌ فِي
الْعَمَلِ حَتَّى تَرَهَّبَتْ وَتَرَكَتْ النِّكَاحَ ، وَوَاظَبَتْ عَلَى
الصَّوْمِ ، وَتَرَكَتْ الطَّيِّبَاتِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي } .
وَسَنَكْشِفُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ هَاهُنَا
بِالِاخْتِصَارِ ؛ إذْ قَدْ بَيَّنَّاهُ بِالطُّولِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ،
وَخُصُوصًا فِي قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } .
وَهِيَ
: .
الْآيَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ
لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عَلِيٌّ
، وَالْمِقْدَادُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ،
وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ ، جَلَسُوا فِي
الْبُيُوتِ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا كَفِعْلِ النَّصَارَى مِنْ تَحْرِيمِ
طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ
أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ كَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ
النِّسَاءَ وَالزِّينَةَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَتَرَهَّبُوا ، وَلَا
يَأْكُلُوا لَحْمًا وَلَا وَدَكًا ؛ وَقَالُوا : نَقْطَعُ مَذَاكِيرَنَا ، وَنَسِيحُ
فِي الْأَرْضِ ، كَمَا فَعَلَ الرُّهْبَانُ .
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ عَنْهُ ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَنْكِحُ
النِّسَاءَ ، وَيَأْكُلُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ ، وَيُفْطِرُ
وَيَصُومُ ، وَأَنَّهُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي ، وَقَالَ لَهُمْ
: { إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ ، فَشَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
.
أُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ ،
اُعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ ،
وَآتُوا الزَّكَاةَ ، وَصُومُوا رَمَضَانَ ، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا ،
وَاسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ
} .
وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ ، رُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ
.
الثَّانِي : رُوِيَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَوَاحَةَ ضَافَهُ ضَيْفٌ ، فَانْقَلَبَ ابْنُ رَوَاحَةَ وَلَمْ يَتَعَشَّ .
فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ : مَا عَشَّيْتِيهِ ؟ فَقَالَتْ :
كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلًا ، فَانْتَظَرْتُك أَنْ تَأْتِيَ .
قَالَ : حَرَمْت ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي ،
فَطَعَامُك
عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته .
فَقَالَتْ هِيَ : وَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ لَمْ
تُذَقْهُ .
وَقَالَ الضَّيْفُ : هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته
إنْ لَمْ تَذُوقُوهُ .
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ رَوَاحَةَ قَالَ : قَرِّبِي
طَعَامَك ، كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ ، وَغَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحْسَنْت .
وَنَزَلَتْ الْآيَةُ : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ
اللَّهُ .
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ : { فَقَالُوا :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا ، فَنَزَلَتْ : { لَا
يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } } .
الثَّالِثُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
{ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي إذَا أَصَبْت اللَّحْمَ انْتَشَرْت
لِلنِّسَاءِ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَةٌ ، فَحَرَّمْت عَلَيَّ اللَّحْمَ ، فَنَزَلَتْ
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ } إلَى { مُؤْمِنِينَ
} } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : صَحِيحَةُ الْإِرْسَالِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : ظَنَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ طَرِيقُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ رَفْضِ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ وَالنِّسَاءِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } فَكَانَتْ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا
بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَشَرِيعَتُنَا بِالسَّمْحَةِ الْحَنِيفِيَّةِ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ
نَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّبَتُّلِ ، وَلَوْ
أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا } .
وَاَلَّذِي يُوجِبُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمَ ، وَيَقْطَعُ
الْعُذْرَ ، وَيُوَضِّحُ الْأَمْرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ لِنَبِيِّهِ :
{ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ بِفِعْلِهِ ؛ وَشَرَحَ أَنَّهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ،
وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ ، وَلَيْسَ بِتَرْكِ الْمُبَاحَاتِ ، { وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا وَجَدَهُ ،
وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ تُبْتَاعُ بِعِشْرِينَ جَمَلًا ، وَيُكْثِرُ مِنْ الْوَطْءِ
، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ ذَلِكَ } ، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ لِسُنَّةِ
عِيسَى فَلَيْسَ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا إذَا كَانَ الدِّينُ قِوَامًا ، وَلَمْ
يَكُنْ الْمَالُ حَرَامًا ؛ فَأَمَّا إذَا فَسَدَ الدِّينُ عِنْدَ النَّاسِ ،
وَعَمَّ الْحَرَامُ فَالتَّبَتُّلُ وَتَرْكُ اللَّذَّاتِ أَوْلَى ، وَإِذَا وُجِدَ
الْحَلَالُ فَحَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ
وَكَانَ داتشمند رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول : إذْ عَمَّ الْحَرَامُ وَطَبَقَ
الْبِلَادَ ، وَلَمْ يُوجَدْ حَلَالٌ اُسْتُؤْنِفَ الْحُكْمُ ، وَصَارَ الْكُلُّ
مَعْفُوًّا عَنْهُ ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ أَحَقَّ بِمَا فِي يَدِهِ مَا لَمْ
يَعْلَمْ صَاحِبَهُ .
وَأَنَا أَقُولُ : إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنْقَاسٌ إذَا
انْقَطَعَ الْحَرَامُ ، فَأَمَّا وَالْغَصْبُ مُتَمَادٍ ، وَالْمُعَامَلَاتُ
الْفَاسِدَةُ مُسْتَمِرَّةٌ ، وَلَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ مِنْ حَرَامٍ إلَّا إلَى
حَرَامٍ فَأَشْبَهَ الْمَعَاشُ مَنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ قَدِيمُ الْمِيرَاثِ يَأْكُلُ
مِنْ غَلَّتِهُ ، وَمَا رَأَيْت فِي رِحْلَتِي أَحَدًا يَأْكُلُ مَالًا حَلَالًا
مَحْضًا إلَّا سَعِيدًا الْمَغْرِبِيَّ ، كَانَ يَخْرُجُ فِي صَائِفَةِ
الْخِطْمِيِّ ، فَيَجْمَعُ مِنْ زَرِيعَتِهِ قُوَّتَهُ وَيَطْحَنُهَا
وَيَأْكُلُهَا بِزَيْتٍ يَجْلِبُهُ الرُّومُ مِنْ بِلَادِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : إذَا قَالَ : هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَلَالِ
عَدَا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهُ كِذْبَةٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا ،
وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا حَرَّمَهُ .
هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَكْثَرِ
الصَّحَابَةِ ؛ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ الْمُتَقَدِّمُ .
وَفِي حَدِيثِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُمْ { أَنَّهُمْ حَلَفُوا
بِاَللَّهِ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْكَفَّارَةِ } ، فَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي
حَنِيفَةَ بِمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ ، وَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ
حَرَامٌ فَمَوْضِعُهَا سُورَةُ التَّحْرِيمِ ، وَاَللَّهُ يُسَهِّلُ فِي
الْبُلُوغِ إلَيْهَا بِعَوْنِهِ
.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
فِيهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
: الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : لَغْوٌ وَمُنْعَقِدَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا لَغْوَ
الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
.
وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ فَهِيَ
الْمُنْفَعِلَةُ مِنْ الْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : حِسِّيٌّ
كَعَقْدِ الْحَبْلِ ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ ؛ وَهُوَ رَبْطُ الْقَوْلِ
بِالْقَصْدِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ ، يَعْزِمُ بِقَلْبِهِ أَوَّلًا مُتَوَاصِلًا
مُنْتَظِمًا ، ثُمَّ يُخْبِرُ عَمَّا انْعَقَدَ مِنْ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : صُورَةُ الْيَمِينِ اللَّغْوِ
وَالْمُنْعَقِدَةِ عَلَى هَذَا وَاحِدَةٌ ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا
: قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَلْتَزِمَ بِذَلِكَ الِاحْتِفَاءِ ، وَنَكْشِفَ عَنْهُ
الْخَفَاءَ ، فَنَقُولُ : إنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ مَا قُلْنَاهُ .
وَاللَّغْوَ ضِدُّهُ وَالْيَمِينَ اللَّغْوَ سَبْعُ
مُتَعَلِّقَاتٍ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ : الْمُتَعَلِّقُ الْأَوَّلُ : الْيَمِينُ
مَعَ النِّسْيَانِ ، فَلَا شَكَّ فِي إلْغَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذْ قَصَدَ زَيْدًا
فَتَلَفَّظَ بِعَمْرٍو فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ قَصْدِهِ ،
فَهِيَ لَغْوٌ مَحْضٌ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ
فَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ يُحْكَى
.
وَالْمُتَعَلِّقُ الثَّالِثُ : فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ
عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا ، فَيَنْزِلْ بِهِ كَذَا ، فَهَذَا قَوْلٌ
لَغْوٌ فِي طَرِيقِ الْكَفَّارَةِ ، وَلَكِنَّهُ مُنْعَقِدٌ فِي الْعَقْدِ
مَكْرُوهٌ ، وَرُبَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا
يَدْعُوَنَّ
أَحَدُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ ، فَرُبَّمَا صَادَفَ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ
فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهَا } .
وَالْمُتَعَلِّقُ الرَّابِعُ : فِي يَمِينِ
الْمَعْصِيَةِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ
تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عِبَادَةً ، وَالْحَالِفَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ
تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ مَعْصِيَةً ، وَيُقَالُ لَهُ : لَا تَفْعَلْ فَكَفَّرَ ،
فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ فَجَرَ فِي إقْدَامِهِ وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ
قَصَدَ بِقَلْبِهِ الْفِعْلَ أَوْ الْكَفَّ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ يَتَأَتَّى
فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
.
وَهَذَا ظَاهِرٌ .
وَالْمُتَعَلِّقُ الْخَامِسُ : فِي يَمِينِ الْغَضَبِ
مَوْضِعُ فِتْنَةٍ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ : يَمِينُ الْغَضَبِ لَا
يَلْزَمُ ، وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى حَدِيثٍ يُرْوَى : { لَا يَمِينَ فِي
إغْلَاقٍ } ، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ ، وَالْإِغْلَاقُ : الْإِكْرَاهُ ؛ لِأَنَّهُ
تُغْلِقُ الْأَبْوَابَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَتَرُدُّهُ إلَى مَقْصِدِهِ ، وَقَدْ { حَلَفَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضِبًا أَلَّا يَحْمِلَ
الْأَشْعَرِيِّينَ وَحَمَلَهُمْ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ إنِّي
لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي } .
وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ جِدًّا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ : لَا
وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ
.
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :
نَزَلَتْ : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } فِي
قَوْلِ الرَّجُلِ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ .
قُلْنَا : هَذَا صَحِيحٌ ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَكْثَرَ
الرَّجُلُ فِي يَمِينِهِ مِنْ قَوْلِ
: لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ، عَلَى
أَشْيَاءَ يَظُنُّهَا كَمَا قَالَ ، فَتَخْرُجُ بِخِلَافِهِ .
أَوْ عَلَى حَقِيقَةٍ ، فَهِيَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ :
قِسْمًا يُظَنُّ وَقِسْمًا يُعْقَدُ ، فَلَا يُؤَاخَذُ مِنْهَا فِيمَا وَقَعَ
عَلَى ظَنٍّ ، وَيُؤَاخَذُ فِيمَا عَقَّدَ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ
أَحَدٌ
أَنَّ قَوْلَهُ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ، فِيمَا يَعْتَقِدُهُ
وَيُعَقِّدُهُ أَنَّهُ لَغْوٌ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِيهِ وَالتَّهَافُتِ
بِهِ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ } فَنُهِيَ عَنْهَا وَلَا يُؤَاخَذُ إذَا فَعَلَهَا .
هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ الْقَوْلُ اللَّغْوُ ،
وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَأَنَّهُ
الْيَمِينُ عَلَى ظَنٍّ يَخْرُجُ بِخِلَافِهِ .
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ فِي أَيِّ قِسْمٍ هِيَ ؟ : قُلْنَا هِيَ مَسْأَلَةٌ
عُظْمَى وَدَاهِيَةٌ كُبْرَى تَكَلَّمَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ، وَقَدْ أَفَضْنَا
فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
وَوَجْهُ إشْكَالِهَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لَا
كَفَّارَةَ فِيهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ ، فَلَا تَقَعُ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ
، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ الْمُنْعَقِدَةِ ،
تَلْزَمُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ
.
وَحَلُّهُ طَوِيلٌ ؛ اخْتِصَارُهُ أَنَّ الْآيَةَ
وَرَدَتْ بِقِسْمَيْنِ : لَغْوٌ ، وَمُنْعَقِدَةٌ خَرَجَتْ عَلَى الْغَالِبِ فِي
أَيْمَانِ النَّاسِ ؛ فَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ فَلَا يَرْضَى بِهَا ذُو
دِينٍ أَوْ مُرُوءَةٍ ، وَيَحِلُّ الْإِشْكَالُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قِسْمَيْ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ ، فَدَعْ مَا
بَعْدَهَا يَكُونُ مِائَةَ قِسْمٍ فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ مُنْعَقِدَةٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ
بِالْقَلْبِ ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى .
قُلْنَا : عَقْدُ الْقَلْبِ إنَّمَا يَكُونُ عَقْدًا
إذَا تُصُوِّرَ حِلُّهُ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي صَوَّرَهُ
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مَوْجُودٌ فِي يَمِينِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَا
كَفَّارَةَ فِيهَا ؛ فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَصْدِ لَا يَكْفِي فِي
الْكَفَّارَةِ ، هَذَا وَقَدْ فَارَقَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الْحِلَّ .
وَكَيْفَ تَنْعَقِدُ ؟ وَقَدْ مَهَدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي حَقِيقَةِ الْيَمِينِ : قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ ،
وَهِيَ رَبْطُ الْعَقْدِ بِالِامْتِنَاعِ وَالتَّرْكِ أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى
فِعْلٍ بِمَعْنَى مُعَظَّمٍ حَقِيقَةً أَوْ اعْتِقَادًا .
وَالْمُعَظَّمُ حَقِيقَةً ، كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا
دَخَلْت الدَّارَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ
.
وَالْمُعَظَّمُ اعْتِقَادًا ، كَقَوْلِهِ : إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ .
وَالْحُرِّيَّةُ مُعَظَّمَةٌ عِنْدَهُ ، لِاعْتِقَادِهِ
عَظِيمَ مَا يَخْرُجُ عَنْ يَدِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالطَّلَاقِ .
وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } .
فَسَمَّى الْحَالِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ حَالِفًا .
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ :
إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ،
وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ النَّذْرِ لَا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ .
وَالنَّذْرُ يَمِينٌ حَقِيقَةً ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَفَّارَةُ النَّذْرِ
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : إذَا قَالَ : أَقْسَمْت عَلَيْك ، أَوْ أَقْسَمْت لَيَكُونَنَّ
كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا إذَا قَصَدَ بِاَللَّهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى يُذْكَرَ
بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ؛ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ ،
فَلَا يَكُونُ يَمِينًا .
قُلْنَا :
إنْ كَانَ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ فَقَدْ نَوَاهُ ،
وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ
مَا نَوَى } .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا
وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى فَهِيَ يَمِينٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا قَالَ : وَعِلْمِ
اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا .
وَظَنَّ قَوْمٌ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَهُ
أَنَّهُ يُنْكِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ قَالَ : إذَا حَلَفَ : وَقُدْرَةِ اللَّهِ كَانَتْ يَمِينًا .
وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ
الْعِلْمَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْلُومِ ، وَهُوَ الْمُحْدَثُ ، فَلَا
يَكُونُ يَمِينًا ، وَذُهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ أَيْضًا تَنْطَلِقُ عَلَى
الْمَقْدُورِ ، وَكُلُّ كَلَامٍ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ فَهُوَ حُجَّتُنَا فِي
الْمَعْلُومِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ : وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : إذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلِيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَلِأَنَّ هَذَا يُنْتَقَضُ بِمَنْ قَالَ : وَآدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ ، فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } فِيهِ
ثَلَاثُ قِرَاءَاتِ : عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ ، وَعَقَدْتُمْ
بِتَخْفِيفِ الْقَافِ ، وَعَاقَدْتُمْ بِالْأَلِفِ .
فَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ أَضْعَفُهَا رِوَايَةً وَأَقْوَاهَا
مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ فَعَلْتُمْ مِنْ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَإِذَا قُرِئَ عَاقَدْتُمْ فَهُوَ فَاعَلْتُمْ ، وَذَلِكَ
يَكُونُ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي مِنْ حَلَفَ لِأَجْلِهِ فِي
كَلَامٍ وَقَعَ مَعَهُ ، وَقَدْ يَعُودُ ذَلِكَ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ
فَإِنَّهُ رَبَطَ بِهِ الْيَمِينَ ، وَقَدْ يَكُونُ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ ،
كَقَوْلِك : طَارَقَ النَّعْلَ ، وَعَاقَبَ اللِّصَّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ
فِي اللِّصِّ خَاصَّةً .
وَإِذَا قَرَأَ عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ فَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: قَالَ مُجَاهِدٌ : تَعَمَّدْتُمْ
.
الثَّانِي : قَالَ الْحَسَنُ : مَعْنَاهُ مَا تَعَمَّدْت
بِهِ الْمَأْثَمَ فَعَلَيْك فِيهِ الْكَفَّارَةُ .
الثَّالِثُ :
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : التَّشْدِيدُ يَقْتَضِي
التَّكْرَارَ ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا كَرَّرَ
الْيَمِينَ .
الرَّابِعُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : التَّشْدِيدُ
لِلتَّأْكِيدِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ :
مَا تَعَمَّدْتُمْ فَهُوَ صَحِيحٌ يَعْنِي مَا قَصَدْتُمْ إلَيْهِ احْتِرَازًا
مِنْ اللَّغْوِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ مَا تَعَمَّدْتُمْ فِيهِ
الْمَأْثَمَ فَيَعْنِي بِهِ مُخَالَفَةَ الْيَمِينِ ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ
الْكَفَّارَةُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَسَنَانِ يَفْتَقِرَانِ إلَى تَحْقِيقٍ ،
وَهُوَ بَيَانُ وَجْهِ التَّشْدِيدِ ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَهُ عَلَى
التَّكْرَارِ ، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ لِضَعْفِهِ .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { وَإِنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ
فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت
عَنْ يَمِينِي } .
فَذَكَرَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي
الْيَمِينِ
الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّرْ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ : إنَّ التَّشْدِيدَ فِي
التَّأْكِيدِ مَحْمُولٌ عَلَى تَكْرَارِ الصِّفَاتِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا : "
وَاَللَّهِ " يَقْتَضِي جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ
الْعُلْيَا ، فَإِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ :
وَاَللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ التَّغْلِيظِ
بِالْأَلْفَاظِ ؟ قُلْنَا : لَا تَغْلِيظَ عِنْدَنَا بِالْأَلْفَاظِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَإِنْ غَلَّظْنَا فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا
لَيْسَ بِمُغَلَّظٍ لَيْسَ بِيَمِينٍ ، وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى الْإِرْهَابِ عَلَى
الْحَالِفِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ اللَّهَ تَعَالَى حَدَثَ لَهُ غَلَبَةُ
حَالٍ مِنْ الْخَوْفِ ، وَرُبَّمَا اقْتَضَتْ لَهُ رَعْدَةً ، وَقَدْ يَرْهَبُ
بِهَا عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلْيَهُودِ : { وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } فَأَرْهَبَ عَلَيْهِمْ
بِالتَّوْحِيدِ ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ .
وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّشْدِيدَ
عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْقِدُ عَلَى الْمَعْنَى بِالْقَصْدِ
إلَيْهِ ، ثُمَّ يُؤَكِّدُ الْحَلِفَ بِقَصْدٍ آخَرَ ، فَهَذَا هُوَ الْعَقْدُ
الثَّانِي الَّذِي حَصَلَ بِهِ التَّكْرَارُ أَوْ التَّأْكِيدُ ، بِخِلَافِ
اللَّغْوِ فَإِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ وَفَاتَهُ التَّأْكِيدُ بِالْقَصْدِ
الصَّحِيحِ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : الْيَمِينُ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقْتَضِي تَحْرِيمَ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَلْخِيصِ
الطَّرِيقَتَيْنِ الْعِرَاقِيَّةِ وَالْخُرَاسَانِيَّة عَلَى التَّمَامِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَالَ : حَرَّمْت عَلَى
نَفْسِي هَذَا الطَّعَامَ ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛
لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ .
وَلَمَّا رَأَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ مَسْأَلَةَ أَبِي
حَنِيفَةَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ مُرَكَّبَةٌ عَلَى الْيَمِينِ أَنْكَرُوا لَهُ
أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ ، وَكَانَ هَذَا لِأَنَّ النُّظَّارَ تَحْمِلُهُمْ
مُقَارَعَةُ الْخُصُومِ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمُنَاقَضَاتِ وَتَرْكِ
التَّحْقِيقِ ، وَالنَّظَّارُ الْمُحَقِّقُ يَتَفَقَّدُ الْحَقَائِقَ ، وَلَا
يُبَالِي عَلَى مَنْ دَار النَّظَرُ ، وَلَا مَا صَحَّ مِنْ مَذْهَبٍ .
وَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ
فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَدْ مَنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ حَتَّى يُكَفِّرَ ، فَإِنْ
أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهَا ؛
وَالِامْتِنَاعُ هُوَ التَّحْرِيمُ بِعَيْنِهِ ، وَالْبَارِي تَعَالَى هُوَ
الْمُحَرِّمُ وَهُوَ الْمُحَلِّلُ ، وَلَكِنَّ تَحْرِيمَهُ يَكُونُ ابْتِدَاءً
كَمُحَرَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ يُعَلِّقُهَا عَلَيْهِ
مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ ، كَتَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ ، وَالتَّحْرِيمِ
بِالْيَمِينِ .
وَيَرْفَعُ التَّحْرِيمُ الْكَفَّارَةَ مَفْعُولَةً أَوْ
مَعْزُومًا عَلَيْهَا .
وَيَرْفَعُ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ النِّكَاحَ بِحَسَبِ
مَا رَتَّبَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَبَيَّنَ مِنْ الشُّرُوطِ .
هَذَا لُبَابُهُ ، وَتَمَامُهُ فِي التَّلْخِيصِ ،
فَلْيُنْظَرْ فِيهِ [ بَاقِي قِسْمَيْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ فِيهِ لَغُنْيَةُ
الْأَلْبَابِ ] .
وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا
قَدْ اجْتَمَعُوا وَاعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الْأَطَايِبِ مِنْ الطَّعَامِ وَالزِّينَةِ مِنْ الثِّيَابِ وَاللَّذَّةِ مِنْ النِّسَاءِ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَلِأَجْلِهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمْ ؛ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَحْلِفُوا ، وَلَكِنَّهُمْ اعْتَقَدُوا ، فَقَدْ دَخَلَتْ مَسْأَلَتُهُمْ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُلْحِقَ قَوْلَهُ : حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ ، بِقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت ، تَبَيَّنَ لَكُمْ نُقْصَانُ هَذَا الْإِلْحَاقِ وَفَسَادُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ حَرَّمَ وَأَكَّدَ التَّحْرِيمَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا قَالَ : حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ ، فَتَحْرِيمُهُ وَحْدَهُ دُونَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ يَلْحَقُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَقْرُونِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ إسْقَاطِهِ هَذَا الْإِلْحَاقَ ؟ لَا يَخْفَى تَهَاتُرُهُ عَلَى أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : إذَا لَمْ يُؤَكِّدْ الْيَمِينَ
أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ، وَإِذَا أَكَّدَهَا أَعْتَقَ رَقَبَةً .
قِيلَ لِنَافِعٍ : مَا التَّأْكِيدُ ؟ قَالَ : أَنْ
تَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ مِرَارًا ؛ وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا يَشْهَدُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ
الْأَثَرِ وَلَا مِنْ النَّظَرِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : إذَا
انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ كَمَا قَدَّمْنَا حَلَّتْهَا الْكَفَّارَةُ أَوْ
الِاسْتِثْنَاءُ ، وَكِلَاهُمَا رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّهُ
يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ نَسْقًا عَلَيْهَا لَا يَكُونُ مُتَرَاخِيًا
عَنْهَا .
الثَّانِي : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ : يَكُونُ
مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اعْتِقَادًا أَوْ بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْهَا ، فَإِنْ بَدَا
لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُدْرِكُ الْيَمِينَ الِاسْتِثْنَاءَ
[ وَلَوْ ] بَعْدَ سَنَةٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } إلَى آخِرِ
الْآيَةِ إلَى قَوْلِهِ : { مُهَانًا
} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ عَامٍ
نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ تَابَ
} .
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى
أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَلْ يَحِلُّ الْيَمِينَ بَعْدَ عَقْدِهَا [ أَوْ
يَمْنَعُهَا مِنْ الِانْعِقَادِ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِحِلِّ
الْيَمِينِ ] ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
إنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهَ
} [ فَجَاءَ ] فِيهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ
الْيَمِينِ لَفْظًا فَكَذَلِكَ يَكُونُ عَقْدًا .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخَارِجٌ عَنْ
اللُّغَةِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ تَابَ }
فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي
لَوْحِهِ ؛ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولُهَا لِحِكْمَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى
ذَلِكَ فِيهَا ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ؛ أَمَّا إنَّهُ يَتَرَكَّبُ عَلَيْهَا
فَرْعٌ حَسَنٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ
، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ، وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ
الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ ، وَاسْتَثْنَى فِي الْيَمِينِ
الثَّانِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَيْضًا مَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ
الَّذِي
يَرْفَعُ الْيَمِينَ لِمُدَّةٍ وَلِسَبَبٍ أَوْ لِمَشِيئَةِ أَحَدٍ ، وَلَمْ
يُظْهِرْ شَيْئًا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ إرْهَابًا عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ ،
فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينَانِ عَلَيْهِ وَهَذَا فِي
الطَّلَاق مَا لَمْ تَحْضُرْهُ الْبَيِّنَةُ ، فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَةٌ لَمْ
يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَاهُ ، لِئَلَّا يَكُونَ نَدَمًا .
وَقَدْ تَيَقَّنَّا التَّحْرِيمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ،
فَلَا يَنْفَعُهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاءَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَافِعًا
لَهُ وَحْدَهِ إذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا .
نُكْتَةٌ : كَانَ أَبُو الْفَضْلِ الْمَرَاغِيُّ يَقْرَأُ
بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ، فَكَانَتْ الْكُتُبُ تَأْتِي إلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ ،
فَيَضَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ ، وَلَا يَقْرَأُ مِنْهَا وَاحِدًا مَخَافَةَ أَنْ
يَطَّلِعَ فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجُهُ أَوْ يَقْطَعُ بِهِ عَنْ طَلَبِهِ ،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ ، وَقَضَى غَرَضًا مِنْ الطَّلَبِ ،
وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ شَدَّ رَحْلَهُ ، وَأَبْرَزَ كُتُبَهُ ، وَأَخْرَجَ
تِلْكَ الرَّسَائِلِ وَقَرَأَ مِنْهَا مَا لَوْ أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهَا قَرَأَهَا
فِي وَقْتِ وُصُولِهَا مَا تَمَكَّنَ بَعْدَهَا مِنْ تَحْصِيلِ حَرْفٍ مِنْ
الْعِلْمِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ قاشه ،
وَخَرَجَ إلَى بَابِ الْحَلْبَةِ طَرِيقِ خُرَاسَانَ ، وَتَقَدَّمَهُ الْكَرِيُّ بِالدَّابَّةِ
، وَأَقَامَ هُوَ عَلَى فَامِيٍّ يَبْتَاعُ مِنْهُ سُفْرَتَهُ ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ
يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ إذْ سَمِعَهُ يَقُولُ لِفَامِيٍّ آخَرَ : أَيْ فُلَ ،
أَمَا سَمِعْت الْعَالِمَ يَقُولُ يَعْنِي الْوَاعِظَ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ ، لَقَدْ اشْتَغَلَ بَالِي
بِذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ سَمِعْته يَقُولُهُ : وَظَلَلْتُ فِيهِ مُتَفَكِّرًا ؛
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ : { وَخُذْ
بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } .
وَمَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ
حِينَئِذٍ : قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ فَلَمَّا سَمِعْته يَقُولُ ذَلِكَ قُلْت :
بَلَدٌ يَكُونُ الْفَامِيُّونَ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ
الْمَرْتَبَةِ
أَخْرُجُ عَنْهُ إلَى الْمَرَاغَةِ ؟ لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا ؛ وَاقْتَفَى أَثَرَ
الْكَرِيِّ ، وَحَلَّلَهُ مِنْ الْكِرَاءِ ، وَصَرَفَ رَحْلَهُ .
وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي الْأَفْضَلِ : مِنْ اسْتِمْرَارِ الْبِرِّ فِي
الْيَمِينِ أَوْ الْحِنْثِ إلَى الْكَفَّارَةِ : فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { لَأَنْ يَلِجَ
أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ
يُعْطِيَ عَنْهَا كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْتِيَ أَمْرًا لَا يَجُوزُ فَالْبِرُّ وَاجِبٌ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي الصَّحِيحَيْنِ حِينَ { نَبَذَ
خَاتَمَ الذَّهَبِ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا } .
وَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَكْرُوهٍ فَالْبِرُّ مَكْرُوهٌ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى وَاجِبٍ عَصَى وَالْحِنْثُ وَاجِبٌ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُبَاحٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ
إلَيْهِ : فَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ مُضِرًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِنْثُ .
وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ مَنْفَعَةٌ اُسْتُحِبَّ لَهُ
الْحِنْثُ .
وَفِيهِ جَاءَ قَوْلُهُ : { لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ
فِي أَهْلِهِ بِيَمِينِهِ } إلَى آخِرِهِ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ : لِعُلَمَائِنَا رِوَايَتَانِ
: إحْدَاهُمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : لَا يَجُوزُ ؛
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
.
وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ قَدْ أَفَضْنَا فِيهَا عِنْدَ
ذِكْرِنَا مَسَائِلَ الْخِلَافِ بِالتَّحْقِيقِ الْكَامِلِ ، وَهَا هُنَا مَا
يَحْتَمِلُ بَعْضَ ذَلِكَ ، فَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ
الْقُرْآنِ : قَالَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } ، فَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ
الْحَلِفُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَّا وَمِنْهُمْ :
مَعْنَاهُ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ
لِرَفْعِ الْإِثْمِ ، وَمَا لَمْ يَحْنَثْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَا يُرْفَعُ ،
فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَرْفَعُ الْمُسْتَقْبَلَ
، وَإِنَّمَا تَرْفَعُ الْمَاضِيَ مِنْ الْإِثْمِ ، فَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه
ظَاهِرُ قَوْلِنَا : الْكَفَّارَةُ ، وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تُقَدَّرُ
الْآيَةُ بِقَوْلِهِ : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ
وَحَنِثْتُمْ .
وَتَعَلَّقَ الَّذِينَ جَوَّزُوا التَّقْدِيمَ بِأَنَّ
الْيَمِينَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : {
ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } فَأَضَافَ الْكَفَّارَةَ إلَى
الْيَمِينِ .
وَالْمَعَانِي تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا وَأَكَّدُوا
ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: أَنَّ الْحِنْثَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ،
كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا جَاءَ فُلَانٌ غَدًا مِنْ سَفَرِهِ ، وَلَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ
غَدًا .
الثَّانِي : أَنَّ شُهُودَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ عَلَى
الزَّوْجِ إذَا رَجَعُوا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصَّدَاقُ ، وَلَوْلَا كَوْنُ
الْيَمِينِ سَبَبًا مَا ضَمِنُوا مَا لَا تَعَلُّقَ بِهِ بِالتَّفْوِيتِ ؛ لِأَنَّ
التَّفْوِيتَ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ
الْحِنْثُ لَا بِالْيَمِينِ .
وَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي حَدِيثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنْ النَّظَرِ فِي الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى ، وَهِيَ
الْمَحِلُّ الثَّانِي ، فَوَجَدْنَا الْآثَارَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ
مُخْتَلِفَةً فِي ذَلِكَ : رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، وَأَبُو
هُرَيْرَةَ ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ قَالَ أَبُو
مُوسَى : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِنِّي
إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا
مِنْهَا إلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ، وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } .
وَقَدْ رُوِيَ لَنَا { فَلِيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ
وَلْيَفْعَلْ } .
قَالَ عَدِيٌّ : فَلْيُكَفِّرْهَا وَلِيَأْتِ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ ؛ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْحِنْثِ أَوْلَى ؛
لِأَنَّا إذَا رَدَدْنَا حَدِيثَ تَقْدِيمِ الْحِنْثِ إلَى حَدِيثِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ
يُسْقِطُهُ ، وَرَدُّ حَدِيثِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ إلَى تَقْدِيمِ الْحِنْثِ
يُثْبِتُهُمَا جَمِيعًا .
وَأَمَّا الْمَعَانِي فَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ ، فَمَنْ
أَرَادَ التَّلْخِيصَ مِنْهَا فَلْيَنْظُرْهَا فِي التَّلْخِيصِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكِتَابِ الْخِلَالَ
الثَّلَاثَ مُخَيِّرًا فِيهَا ، وَعَقَّبَ عِنْدَ عَدَمِهَا بِالصِّيَامِ
فَالْخُلَّةُ الْأُولَى هِيَ الْإِطْعَامُ ، وَبَدَأَ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ
الْأَفْضَلَ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ لِغَلَبَةِ الْحَاجَةِ فِيهَا عَلَى الْخَلْقِ
، وَعَدَمِ شِبَعِهِمْ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَى
التَّخْيِيرِ ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ خِلَالِهَا .
وَعِنْدِي أَنَّهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ ؛ فَإِنْ
عَلِمْت مُحْتَاجًا فَالْإِطْعَامُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّك إذَا أَعْتَقْت لَمْ
تَرْفَعْ حَاجَتَهُمْ وَزِدْت مُحْتَاجًا حَادِيَ عَشَرَ إلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ
تَلِيه ، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ [ غَلَبَةَ ] الْحَاجَةِ بَدَأَ بِالْمُهِمِّ
الْمُقَدَّمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَقَوْلُهُ : { تُطْعِمُونَ }
يَحْتَمِلُ طَعَامَهُمْ بَقِيَّةَ عُمْرِهِمْ ، وَيَحْتَمِلُ غَدَاءً وَعَشَاءً ؛
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَكْلَةِ الْيَوْمِ وَسَطًا فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ وَشِبَعًا فِي غَيْرِهَا ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ :
تَتَقَدَّرُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِي الْبُرِّ بِنِصْفِ صَاعٍ ، وَفِي التَّمْرِ
وَالشَّعِيرِ بِصَاعٍ .
وَأَصْلُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَسَطَ
فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَعْلَى وَالْخِيَارِ ، وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أَيْ عُدُولًا خِيَارًا .
وَيَنْطَلِقُ عَلَى مَنْزِلَةٍ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ ،
وَنِصْفًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ ، وَإِلَيْهِ يُعْزَى الْمِثْلُ الْمَضْرُوبُ :
" خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا
" .
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ
بِمَعْنَى الْخِيَارِ هَاهُنَا مَتْرُوكٌ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ
الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مَعْلُومَةً
عَادَةً ، وَمِنْهُ مَنْ قَدَّرَهَا كَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ
عَلَى ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ صَغِيرٍ قَالَ : { قَامَ
فِينَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا ، فَأَمَرَ
بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ
رَأْسٍ ، أَوْ صَاعِ بُرٍّ بَيْنَ اثْنَيْنِ } ، وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَانُ وَابْنُ
الْمُبَارَكِ .
وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ صَاعٌ مِنْ الْكُلِّ
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَشْهُورٌ .
وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ
الْوَسَطُ مِنْ الْجِنْسِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَإِنَّمَا يُخْرِجُ الرَّجُلُ مِمَّا يَأْكُلُ .
وَقَدْ زَلَّتْ هَاهُنَا جُمْلَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛
فَقَالُوا : إنَّهُ إذَا كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَأْكُلُ النَّاسُ الْبُرَّ
فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ ، وَهَذَا سَهْوٌ بَيِّنٌ ، فَإِنَّ
الْمُكَفِّرَ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إلَّا الشَّعِيرَ لَمْ
يُكَلَّفْ أَنْ يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ } .
فِي مَوْضِعٍ كَانَ فِيهِ الشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ
أَكْثَرَ مِنْ الْبُرِّ ، وَالْبُرُّ أَكْثَرَ مِنْ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ ،
فَإِنَّمَا فَصَّلَ ذِكْرَهُمَا لِيُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ فَرْضَهُ مِمَّا يَأْكُلُ
مِنْهَا ، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ بِهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ وَالْقَدْرَ
جَمِيعًا ، وَذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ الْعَدْلُ مِنْ الْقَدْرِ
.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ .
وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ مُجْمَلُ قَوْلِهِ :
صَدَقَةٌ ، وَلَمْ يُجْمِلْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ ، بَلْ قَالَ { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، وَقَدْ
كَانَ عِنْدَهُمْ جِنْسُ مَا يُطْعِمُونَ وَقَدْرُهُ مَعْلُومًا ، وَوَسَطُ
الْقَدْرِ مُدٌّ ، وَأَطْلَقَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَقَالَ : { فَإِطْعَامُ
سِتِّينَ مِسْكِينًا } .
فَحُمِلَ عَلَى الْأَكْثَرِ ، وَهَذِهِ سَبِيلُ مَهْيَعٌ
، وَلَمْ يُرَدَّ مُطْلَقُ ذَلِكَ إلَى مُقَيَّدِهِ ، وَلَا عَامُّهُ إلَى خَاصِّهِ ، وَلَا مُجْمَلُهُ إلَى مُفَسَّرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَا بُدَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ تَمْلِيكِ
الْمَسَاكِينِ مَا يَخْرُجُ لَهُمْ ، وَدَفْعِهِ إلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ
وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ
جَازَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ ؛ وَهِيَ
طُيُولِيَةٌ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ
: إنَّ التَّمْكِينَ مِنْ الطَّعَامِ إطْعَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } .
فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي الْآيَةِ .
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَالَ : إنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ
التَّمْلِيكُ حَقِيقَةً قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ } ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ( أَطْعَمَ
) مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى مَفْعُولَيْنِ ، كَقَوْلِنَا أَعْطَيْته
، فَيَقُولُ : طَعِمَ زَيْدٌ ، وَأَطْعَمْته أَيْ جَعَلْته يَطْعَمُ ،
وَحَقِيقَتُهُ بِالتَّمْلِيكِ هَذِهِ بِنِيَّةِ النَّظَرِ لِلْفَرِيقَيْنِ .
وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ
، فَمَنْ يَدَّعِي التَّمْلِيكَ هُوَ الَّذِي يُخَصِّصُ الْعُمُومَ فَعَلَيْهِ
الدَّلِيلُ ، وَنَخُصُّهُ نَحْنُ بِالْقِيَاسِ حَمْلًا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا الْيَوْمِ } .
فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ .
وَهَذَا بَالِغٌ ، وَلَا سِيَّمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ
الْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ التَّامُّ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ الْمِسْكِينُ
مِنْ الطَّعَامِ تَمَكُّنَ الْمَالِكِ ، كَالْكِسْوَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا
أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَفَّارَةِ الْمَدْفُوعَةِ إلَى الْمِسْكِينِ ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا
إلَّا التَّمْلِيكُ ، أَصْلُهُ الْكِسْوَةُ وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا دَفَعَهَا إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُجْزِيهِ ، وَكَذَلِكَ فِي
كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَتَعَلَّقَ بِالْآيَةِ وَهِيَ عَكْسُ الْأُولَى ؛
لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعَهُمْ ، وَنَحْنُ نَفْتَقِرُ إلَى تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ
، وَمَعَنَا نَحْنُ ظَاهِرُ الْعَدَدِ وَذِكْرُهُ وَهُمْ يُحَاوِلُونَ إسْقَاطَهُ بِالْمَعْنَى .
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : {
فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
} .
فَذَكَرَ الْإِطْعَامَ وَالْمَطْعُومَ فَتَعَيَّنَا .
فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامَ
سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قُلْنَا :
الْإِطْعَامُ مَصْدَرٌ ، وَالْمَصْدَرُ مُقَدَّرٌ مَعَ
الْفِعْلِ ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّحْرِيرِ وَالصِّيَامِ ، وَكَذَلِكَ هُنَا ،
وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ : فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا
، كَلَامُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِاللِّسَانِ ؛ فَإِنَّ الْإِطْعَامَ يَتَعَدَّى
إلَى مَفْعُولَيْنِ ، وَلَا يَنْتَظِمُ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ، بِخِلَافِ
مَفْعُولَيْ ظَنَنْت ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجُوزُ فِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى
أَحَدِهِمَا ، وَلَا يَجُوزُ فِي مَفْعُولَيْ ظَنَنْت أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى
أَحَدِهِمَا أَصْلًا ، فَإِنْ صَرَّحَ بِأَحَدِهِمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ فَهُوَ
مُضْمَرٌ ؛ فَأَمَّا أَنْ يُقَدِّرَ مَا أَضْمَرَ وَيُسْقِطَ مَا صَرَّحَ
فَكَلَامٌ غَبِيٌّ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ،
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَقَلُّ مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ ، وَبِهِ
قَالَ إبْرَاهِيمُ وَمُغِيرَةُ : مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ بِنَاءً عَلَى
أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَعَلَّ قَوْلَ الْمُخَالِفِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ
الِاسْمُ يُمَاثِلُ مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ ؛ فَإِنَّ مِئْزَرًا وَاحِدًا
تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ ، وَيَقَعُ بِهِ الِاسْمُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأَقَلِّ .
وَمَا كَانَ أَحَرَصَنِي عَلَى أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ
لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا كِسْوَةٌ تَسْتُرُ عَنْ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ،
كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ طَعَامًا يُشْبِعُهُ مِنْ الْجُوعِ فَأَقُولُ بِهِ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِمِئْزَرٍ وَاحِدٍ فَلَا أَدْرِيه ،
وَاَللَّهُ يَفْتَحُ لِي وَلَكُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ بِمَعُونَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : لَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ عَنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :
تُجْزِئُ ، وَهُوَ يَقُولُ : تُجْزِئُ الْقِيمَةُ فِي الزَّكَاةِ ، فَكَيْفَ فِي الْكَفَّارَةِ
؟ وَعُمْدَتُهُ أَنَّ الْغَرَضَ سَدُّ الْخُلَّةِ ، وَرَفْعُ الْحَاجَةِ ،
فَالْقِيمَةُ تُجْزِئُ فِيهِ .
قُلْنَا : إنْ نَظَرْتُمْ إلَى سَدِّ الْخُلَّةِ
فَأَيْنَ الْعِبَادَةُ ؟ وَأَيْنَ نَصُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَعْيَانِ
الثَّلَاثَةِ وَالِانْتِقَالُ بِالْبَيَانِ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ ؛ وَلَوْ
كَانَ الْمُرَادُ الْقِيمَةَ لَكَانَ فِي ذِكْرِ نَوْعٍ وَاحِدٍ مَا يُرْشِدُ
إلَيْهِ وَيُغْنِي عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا دَفَعَ الْكِسْوَةَ إلَى ذِمِّيٍّ أَوْ الطَّعَامَ
لَمْ يُجْزِهِ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ
يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمَسْكَنَةِ ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَةِ ،
فَعَلَيْنَا التَّخْصِيصُ ، فَتَخْصِيصُهُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقُولَ : هُوَ
كَافِرٌ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ فِي الْكَفَّارَةِ حَقًّا كَالْحَرْبِيِّ .
أَوْ نَقُولَ : جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ يَجِبُ إخْرَاجُهُ
لِلْمَسَاكِينِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ ، أَصْلُهُ الزَّكَاةُ .
وَقَدْ اتَّفَقْنَا مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
دَفْعُهَا لِلْمُرْتَدِّ ، فَكُلُّ دَلِيلٍ خَصَّ بِهِ الْمُرْتَدَّ فَهُوَ
دَلِيلُنَا فِي الذِّمِّيِّ .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } : سَمِعْت
، عَنْ الْبَائِسِ أَنَّهُ قَالَ : يُجْزِئُ الْمَعِيبُ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ
الْعَيْبَ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا يُفْسِدُ جَارِحَةً ، وَلَا مُعْظَمَ
مَنْفَعَتِهَا ، كَثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ كَفٍّ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَإِنْ أَرَادَ الْعَيْبَ الْمُطْلَقَ فَقَدْ خَسِرَتْ
صَفْقَتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا
مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَعْتِقُ امْرَأً مُسْلِمًا إلَّا كَانَ فِكَاكُهُ مِنْ
النَّارِ ، كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِعُضْوٍ حَتَّى الْفَرْجِ بِالْفَرْجِ } ؛
وَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعِيبَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَلَا
تَكُونُ كَافِرَةً ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهَا ؛ لِأَنَّهَا
قُرْبَةٌ وَاجِبَةٌ ، فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ مَحِلًّا لَهَا كَالزَّكَاةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي التَّلْخِيصِ ، وَهِيَ
طُيُولِيَةٌ فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } الْمُعْدَمُ
لِلْقُدْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ : إمَّا
لِمَغِيبِ الْمَالِ عَنْ الْحَالِفِ ، أَوْ لِعَدَمِ ذَاتِ الْيَدِ ؛ فَإِنْ كَانَ
لِمَغِيبِ الْمَالِ فَحَيْثُ كَانَ ثَاوِيًا كَانَ كَعَدَمِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي
بَلَدٍ آخَرَ ، وَوَجَدَ مِنْ يُسَلِّفُهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ ، وَإِنْ لَمْ
يَجِدْ مَنْ يُسَلِّفُهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ : يَنْتَظِرُ إلَى بَلَدِهِ ، وَذَلِكَ
لَا يَلْزَمُهُ ؛ بَلْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا يَنْبَغِي
أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي
الذِّمَّةِ ، وَالشَّرْطُ مِنْ الْعَدَمِ قَدْ تَحَقَّقَ ، فَلَا وَجْهَ
لِتَأْخِيرِ الْأَمْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : فِي
تَحْدِيدِ الْعَدَمِ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مَنْ لَمْ يَجِدْ : مَنْ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ
.
وَقَالَ الْحَسَنُ : دِرْهَمَانِ .
وَقِيلَ : مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ
مَالِهِ الَّذِي يَعِيشُ مِنْهُ مَعَ عِيَالِهِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ .
وَقِيلَ :
مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا قُوتُ يَوْمِهِ
وَلَيْلَتِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ ؛ فَهَذِهِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا دَلِيلٌ يَقُومُ عَلَيْهِ ، وَلَا سِيَّمَا
مَنْ قَالَ بِدِرْهَمٍ وَدِرْهَمَيْنِ
.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ أَطْعَمَ
كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّ جُمُعَةٍ مِسْكِينًا حَتَّى يُتِمَّ كَفَّارَتَهُ .
وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَلَا يُعْطِيهَا إلَّا مَنْ كَانَ
لَهُ فَوْقَ قُوتِ سَنَةٍ .
وَأَمَّا الرَّقَبَةُ فَقَدْ تَفَطَّنَ مَالِكٌ
لِلْحَقِّ ، فَقَالَ : إنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا رَقَبَةً أَوْ دَارًا لَا
فَضْلَ فِيهِمَا ؛ أَوْ عَرَضًا ثَمَنَ رَقَبَةٍ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْعِتْقُ ،
فَذَكَرَ الدَّارَ وَالْعَرَضَ وَالرَّقَبَةَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ رَمَقًا ، لَكِنْ
لَمْ يَذْكُرْ مَا مَعَهُ غَيْرُهُمَا ، هَلْ يُعْتِقُ الرَّقَبَةَ الَّتِي
كَانَتْ تُعَيِّشُهُ بِخَرَاجِهَا وَكَسْبِهَا أَمْ عِنْدَهُ فَضْلٌ غَيْرُهَا ؟
فَإِنْ
كَانَتْ الرَّقَبَةُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُعَيِّشُهُ بِخَرَاجِهَا فَلَا سَبِيلَ
إلَى عِتْقِهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ التَّفْصِيلِ ذَلِكَ
عَلَى التَّرَاخِي ، وَلَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ فَلْيَتَرَيَّثْ فِي ذَلِكَ حَتَّى
يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُ .
أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوْتُ أَوْ يُؤْثِرَ
الْعِتْقَ ، أَوْ الْإِطْعَامَ بِسَبَبٍ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
} قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ مُتَتَابِعَاتٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُجْزِئُ
التَّفْرِيقُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، إذْ التَّتَابُعُ صِفَةٌ لَا تَجِبُ إلَّا
بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ ، وَقَدْ عُدِمَا فِي مَسْأَلَتِنَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُعْطَى فِي الْكَفَّارَةِ
الْخُبْزُ ، وَالْإِدَامُ زَيْتٌ أَوْ كِشْكٌ أَوْ كَامِخٌ أَوْ مَا تَيَسَّرَ ،
وَهَذِهِ زِيَادَةٌ مَا أَرَاهَا عَلَيْهِ وَاجِبَةً .
أَمَّا إنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَعَ الْخُبْزِ
السُّكَّرَ نَعَمْ وَاللَّحْمَ ، وَأَمَّا تَضْمِينُ الْإِدَامِ لِلطَّعَامِ
مَعْنًى يَتَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : بَدَأَ اللَّهُ فِي
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالْأَهْوَنِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ ، فَإِذَا
شَاءَ انْتَقَلَ إلَى الْأَعْلَى وَهُوَ الْإِعْتَاقُ ، وَبَدَأَ فِي الظِّهَارِ
بِالْأَشَدِّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَنْتَقِلَ لَمْ
يَقْدِرْ ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ لَهُ تَأْوِيلًا بِالْعِرَاقِ حَيْثُ الْبُرُّ
ثَلَاثُمِائَةٍ رِطْلٍ بِدِينَارٍ إذَا طُلِبَ ، فَإِذَا زُهِدَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ
لَهُ ثَمَنٌ .
فَأَمَّا بِالْحِجَازِ حَيْثُ الْبُرُّ فِيهِ إذَا
رَخُصَ أَرْبَعَةُ آصُعٍ وَخَمْسَةُ آصُعٍ بِدِينَارٍ فَإِنَّ الْعَبْدَ فِيهِ
أَرْخَصُ ، وَالْحَاجَةَ إلَى الطَّعَامِ أَعْظَمُ ، فَقَدْ يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ
بِدِينَارٍ ، وَلَكِنْ يُخْرِجُهُ مِنْ الرِّقِّ إلَى الْجُوعِ ، وَيَتَفَادَى
مِنْهُ سَيِّدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
إذَا حَلَفْتُمْ } { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ :
الْأَوَّلُ : احْفَظُوهَا ، فَلَا تَحْلِفُوا فَتَتَوَجَّهُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ
التَّكْلِيفَاتُ .
الثَّانِي : احْفَظُوهَا إذَا حَنِثْتُمْ ؛ فَبَادِرُوا
إلَى مَا لَزِمَكُمْ .
الثَّالِثُ : احْفَظُوهَا فَلَا تَحْنَثُوا ؛ وَهَذَا
إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْبُرُّ أَفْضَلَ أَوْ الْوَاجِبَ .
وَالْكُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ الْحِفْظِ صَحِيحٌ عَلَى
وَجْهِهِ الْمَذْكُورِ وَصِفَتِهِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَيْهِ ، فَلْيُرَكَّبْ عَلَى
ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا
فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْعَقْلَ وَالْمَالَ "
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ }
.
فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ :
" اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا "
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
} ؛ فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ
لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلَى قَوْلِهِ : {
مُنْتَهُونَ } ؛ فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : "
انْتَهَيْنَا .
انْتَهَيْنَا
" .
وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُلَاحَاةٍ جَرَتْ
بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ .
وَهُمَا عَلَى شَرَابٍ لَهُمَا ، وَقَدْ انْتَشَيَا ،
فَتَفَاخَرَتْ الْأَنْصَارُ وَقُرَيْشٌ ، فَأَخَذَ الْأَنْصَارِيُّ لَحْيَيْ
جَمَلٍ فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَفَزَرَهُ ، فَنَزَلَتْ
الْآيَةُ .
وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ عِتْبَانُ
بْنُ مَالِكٍ ، رَوَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ
يَجْرِيَ بَيْنَ سَعْدٍ وَبَيْنِ عِتْبَانَ مَا يُوجِبُ نُزُولَ الْآيَةِ كَمَا
رَوَى الطَّبَرِيُّ ، فَيُدْعَى عُمَرُ فَتُقْرَأُ عَلَيْهِ ، كَمَا رَوَى
التِّرْمِذِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ :
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَصَدْرِ هَذِهِ
السُّورَةِ .
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ : فَهُوَ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ لَا
سَبِيلَ إلَى عَمَلِهِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ
يَمُوتَ ذِكْرُهُ وَيُمْحَى رَسْمُهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : {
رِجْسٌ } : وَهُوَ النَّجَسُ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِحَجَرَيْنِ
وَرَوْثَةٍ ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ : إنَّهَا
رِكْسٌ } أَيْ نَجَسٌ .
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا مَا يُؤْثَرُ
عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ ،
كَالْحَرِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ مُحَرَّمٌ ، مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، الرِّجْسِ
النَّجِسِ ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ
} .
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ
تَمَامَ تَحْرِيمِهَا وَكَمَالَ الرَّدْعِ عَنْهَا الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا
حَتَّى يَتَقَذَّرَهَا الْعَبْدُ ، فَيَكُفُّ عَنْهَا ، قُرْبَانًا بِالنَّجَاسَةِ
وَشُرْبًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَالْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاجْتَنِبُوهُ } يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ ، وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً ؛ وَهَذَا أَمْرٌ
بِاجْتِنَابِهَا ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِّقَ بِهِ
الْفَلَاحُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَزَلَتْ
فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا ، فَعَبَثَ
بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ، فَلَمَّا صَحَوْا ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ
آثَارَ مَا فَعَلُوا ، وَكَانُوا إخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ ،
فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ : لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ هَذَا بِي
، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ } الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
} كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ ، وَرُوِيَ : بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي
الصَّلَاةِ حِينَ أَمَّ النَّاسَ ، فَقَرَأَ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَهَلْ
أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فَقَالَ عُمَرُ : انْتَهَيْنَا .
حِينَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، { وَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي
سِكَكِ الْمَدِينَةِ : أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ؛ فَكُسِرَتْ الدِّنَانُ
، وَأُرِيقَتْ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ ، وَمَا كَانَ
خَمْرُهُمْ يَوْمئِذٍ إلَّا مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ } ،
وَهَذَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا } وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ ،
وَتَشْدِيدٌ فِي الْوَعِيدِ .
قَالَ : فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ
إلَّا الْبَلَاغُ ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا
الْبَلَاغُ
الْمُبِينُ .
أَمَّا عِقَابُ التَّوْلِيَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَعَلَى
الْمُرْسِلِ لَا عَلَى الرَّسُولِ
.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاَللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنْت سَاقِيَ
الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ، فَأَمَرَ
مُنَادِيًا يُنَادِي ؛ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : اُخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا
الصَّوْتُ ؛ قَالَ : فَخَرَجْت ، فَقُلْت : هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي : أَلَا إنَّ
الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ .
فَقَالَ لِي : اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا ، وَكَانَ
الْخَمْرُ مِنْ الْفَضِيخِ .
قَالَ : فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ .
فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ .
قَالَ :
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } إلَى قَوْلِهِ : { الْمُحْسِنِينَ } .
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ صَحِيحًا عَنْ الْبَرَاءِ
أَيْضًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيمَنْ
شَرِبَ الْخَمْرَ ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ : إذَا مَا طَعِمُوا ؛ فَكَانَ ذَلِكَ
دَلِيلًا عَلَى تَسْمِيَةِ الشُّرْبِ طَعَامًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ } إلَى : { الْمُحْسِنِينَ } اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : اتَّقَوْا فِي اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ
النَّهْيِ ، وَاتَّقَوْا فِي الثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ ، وَاتَّقَوْا فِي لُزُومِ
النَّوَافِلِ ؛ وَهُوَ الْإِحْسَانُ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ .
الثَّانِي : اتَّقَوْا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي غَيْرِهَا
مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، ثُمَّ اتَّقَوْا بَعْدَ تَحْرِيمِهَا شُرْبَهَا ، ثُمَّ
اتَّقَوْا فِي الَّذِي بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ ، فَاجْتَنَبُوا الْعَمَلَ
الْمُحَرَّمَ .
الثَّالِثُ : اتَّقَوْا الشِّرْكَ ، وَآمَنُوا ، ثُمَّ
اتَّقَوْا الْحَرَامَ ، ثُمَّ اتَّقَوْا تَرْكَ الْإِحْسَانِ ، فَيَعْبُدُونَ
اللَّهَ ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ .
وَقَدْ صُرِفَتْ فِيهَا أَقْوَالٌ عَلَى قَدْرِ وَظَائِفِ
الشَّرِيعَةِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا ، وَأَشْبَهُهَا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ الشُّرَّابَ كَانُوا
يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَبِالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَكْثَرَ
مِنْهُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ
أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ ، فَكَانَ عُمَرُ مِنْ بَعْدِهِ
يَجْلِدُهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شَرِبَ ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ ، فَقَالَ : أَتَجْلِدُنِي
، بَيْنِي وَبَيْنَك كِتَابُ اللَّهِ
" .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ
أَلَّا أَجْلِدَك ؟ " فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ ؛
فَأَنَا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، ثُمَّ اتَّقَوْا
وَآمَنُوا ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ، شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَأُحُدًا
وَالْخَنْدَقَ
وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا
يَقُولُ " ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ
عُذْرًا لِمَنْ صَبَرَ وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } الْآيَةَ
، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَةَ الْأُخْرَى ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَاهُ أَنْ
يَشْرَبَ الْخَمْرَ .
فَقَالَ عُمَرُ : " صَدَقْت ، مَاذَا تَرَوْنَ
" ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : " إنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ
هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَعَلَى الْمُفْتَرِي جَلْدُ ثَمَانِينَ " .
[ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ] .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَالَ : اسْتَعْمَلَ عُمَرُ قُدَامَةَ بْنَ
مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَقَدْ كَانَ يَشْهَدُ بَدْرًا ، وَهُوَ خَالُ
ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛
زَادَ الْبَرْقَانِيُّ : فَقَدِمَ الْجَارُودُ مِنْ الْبَحْرَيْنِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ قَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا ، وَإِنِّي
إذَا رَأَيْت حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى حُقَّ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَهُ
إلَيْك .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : " مَنْ يَشْهَدُ لِي عَلَى
مَا تَقُولُ ؟ " فَقَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ .
فَدَعَا عُمَرُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ : "
عَلَامَ تَشْهَدُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ " ؟ فَقَالَ : " لَمْ أَرَهُ
حِينَ شَرِبَ ، وَقَدْ رَأَيْته سَكْرَانَ يَقِيءُ " .
فَقَالَ عُمَرُ : " لَقَدْ تَنَطَّعْت فِي
الشَّهَادَةِ " .
ثُمَّ كَتَبَ عُمَرَ إلَى قُدَامَةَ وَهُوَ
بِالْبَحْرَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا قَدِمَ قُدَامَةُ وَالْجَارُودُ بِالْمَدِينَةِ
كَلَّمَ الْجَارُودُ عُمَرَ ، فَقَالَ لَهُ : أَقِمْ عَلَى هَذَا كِتَابَ اللَّهِ
فَقَالَ عُمَرُ لِلْجَارُودِ : " أَشَهِيدٌ أَنْتَ أَمْ خَصْمٌ " ؟
فَقَالَ الْجَارُودُ : أَنَا شَهِيدٌ
.
قَالَ : " قَدْ كُنْت أَدَّيْت الشَّهَادَةَ " .
فَسَكَتَ الْجَارُودُ ، ثُمَّ قَالَ
: لَتَعْلَمَنَّ أَنِّي
أَنْشُدُك اللَّهَ .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَمَا وَاَللَّهِ لَتَمْلِكَنَّ
لِسَانَك أَوْ لَأَسُوءَنَّكَ
" .
فَقَالَ الْجَارُودُ : أَمَا وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ
بِالْحَقِّ أَنْ يَشْرَبَ ابْنُ عَمِّك وَتَسُوءَنِي : فَتَوَعَّدَهُ عُمَرُ .
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَالِسٌ : " يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنْ كُنْت تَشُكُّ فِي شَهَادَتِنَا فَسَلْ بِنْتَ
الْوَلِيدِ امْرَأَةَ ابْنِ مَظْعُونٍ
" .
فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَى هِنْدَ يَنْشُدُهَا بِاَللَّهِ ،
فَأَقَامَتْ هِنْدُ عَلَى زَوْجِهَا قُدَامَةَ الشَّهَادَةَ .
فَقَالَ عُمَرُ : " يَا قُدَامَةُ ؛ إنِّي جَالِدُك " .
فَقَالَ قُدَامَةُ : وَاَللَّهِ لَوْ شَرِبْت كَمَا
تَقُولُونَ مَا كَانَ لَك أَنْ تَجْلِدَنِي يَا عُمَرُ .
قَالَ :
" لِمَ يَا قُدَامَةُ ؟ " قَالَ : لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ :
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ إلَى : { الْمُحْسِنِينَ } .
فَقَالَ عُمَرُ : " إنَّك أَخْطَأْت التَّأْوِيلَ
يَا قُدَامَةُ ؛ إذَا اتَّقَيْت اللَّهَ اجْتَنَبْت مَا حَرَّمَ اللَّهُ " .
ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ : "
مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ؟ " فَقَالَ الْقَوْمُ : لَا نَرَى أَنْ
تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا ، فَسَكَتَ عُمَرُ عَنْ جَلْدِهِ أَيَّامًا ، ثُمَّ
أَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى جَلْدِهِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : "
مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ؟ " فَقَالُوا : لَا نَرَى أَنْ
تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا .
فَقَالَ عُمَرُ : " إنَّهُ وَاَللَّهِ لَأَنْ يَلْقَى
اللَّهَ وَهُوَ تَحْتَ السَّوْطِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَهِيَ
فِي عُنُقِي ، وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّهُ ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ " .
فَجَاءَ مَوْلَاهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ رَقِيقٍ صَغِيرٍ ، فَأَخَذَهُ
عُمَرُ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَمَ : " قَدْ أَخَذْتُك
بِإِقْرَارِ أَهْلِكَ ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ غَيْرِ هَذَا " .
قَالَ :
فَجَاءَهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ تَامٍّ ، فَأَمَرَ عُمَرُ
بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ ، فَغَاضَبَ قُدَامَةُ عُمَرَ وَهَجَرَهُ ، فَحَجَّا
وَقُدَامَةُ مُهَاجِرٌ لِعُمَرَ ، حَتَّى قَفَلُوا مِنْ حَجِّهِمْ ، وَنَزَلَ
عُمَرُ
بِالسُّقْيَا
وَقَامَ بِهَا ؛ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ قَالَ : " عَجِّلُوا عَلَيَّ بِقُدَامَةَ
، انْطَلِقُوا فَأْتُونِي بِهِ ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَى فِي النَّوْمِ
أَنَّهُ جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ لِي : سَالِمْ قُدَامَةُ فَإِنَّهُ أَخُوكَ " .
فَلَمَّا جَاءُوا قُدَامَةَ أَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ ؛
فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ أَنْ يُجَرَّ إلَيْهِ جَرًّا حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُ ، فَكَانَ أَوَّلَ صُلْحِهِمَا .
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ ، وَمَا
ذُكِرَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَعُمَرَ فِي
حَدِيثِ الْبَرْقَانِيِّ ، وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَبَسْطُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ
وَاتَّقَى اللَّهَ فِي غَيْرِهِ لَا يُحَدُّ عَلَى الْخَمْرِ مَا حُدَّ أَحَدٌ ،
فَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ تَأْوِيلٍ ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى قُدَامَةَ ،
وَعَرَفَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهُ كَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا عَلَى
شَجْوِهِ إلَّا بَكَيْت عَلَى عُمَرَ
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى
بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ
، أَحْرَمَ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يُحْرِمْ بَعْضُهُمْ فَكَانَ إذَا عَرَضَ صَيْدٌ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ
، وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَمَحْظُورَاتِ
حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ
فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، خَاطَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا كُلَّ مُسْلِمٍ
مِنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
مَسَائِلِ الْأُصُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ ، وَبَيَّنَّا حَقِيقَتَهَا ،
وَأَوْضَحْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي كُلِّ آيَةٍ تَجْرِي عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى
قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ الْمُحِلُّونَ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ ، وَتَعَلَّقَ مَنْ عَمَّمَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } مُطْلَقٌ فِي الْجَمِيعِ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ خَصَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ : {
لَيَبْلُوَنَّكُمْ } يَقْتَضِي أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ ، فَإِنَّ تَكْلِيفَ
الِامْتِنَاعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِابْتِلَاءُ هُوَ مَعَ الْإِحْرَامِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : {
لَيَبْلُوَنَّكُمْ } الَّذِي يَقْتَضِي التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُحِلِّ
بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ ، وَمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ وَظِيفَةٍ فِي
كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ ، وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ
فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ ، وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ ، وَالْإِبَاحَةُ
فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا يَنْعَكِسُ فَيُقَالُ : الْأَصْلُ فِي
الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَلَا
دَلِيلَ يُرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ بِهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : لَا أَصْلَ فِي شَيْءٍ إلَّا مَا
أَصَّلَهُ الشَّرْعُ بِتِبْيَانِ حُكْمِهِ وَإِيضَاحِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ
حِلٍّ أَوْ تَحْرِيمٍ ، وَوُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ كَرَاهِيَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ لِمَا أَكَلَهُ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ ، حَتَّى
قِيلَ الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ .
وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَهُوَ
مَشْكُوكٌ فِيهِ .
وَقُلْنَا : إنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ
فَلَا يُحَرِّمُهُ أَكْلُ الْكَلْبِ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ .
ثُمَّ ذَكَرْنَا التَّعَارُضَ فِيهِ وَالِانْفِصَالَ
عَنْهُ ، فَلْيُنْظَرْ فِي مَوْضِعِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } بَيَانٌ لِحُكْمِ
صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ
.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ
مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } فَكُلُّ شَيْءٍ يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ
بِيَدِهِ ، أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِ فَقَتَلَهُ ، فَهُوَ
صَيْدٌ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : [ صَيْدُ الذِّمِّيِّ ] : قَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ صَيْدُ
الذِّمِّيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَلِّينَ
فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ ، لِاخْتِصَاصِ
الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِمْ
إلَّا بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ .
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي
هُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ
الْآخَرَ بِخِلَافِهِ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ أَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ
مَنْطُوقٌ بِهِ ، مُبَيَّنٌ حُكْمُهُ ، وَالثَّانِي مَسْكُوتٌ عَنْهُ ، وَلَيْسَ
فِي مَعْنَى مَا نُطِقَ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَحَمَلَهُ
عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } .
قُلْنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ
طَعَامِهِمْ .
وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ
ذِكْرِ الطَّعَامِ ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : نَقِيسُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَوْعُ
ذَكَاةٍ ، فَجَازَ مِنْ الذِّمِّيِّ كَذَبْحِ الْإِنْسِيِّ .
قُلْنَا :
لِلْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِمَّا يُذَكَّى شُرُوطٌ ،
وَلِمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ شُرُوطٌ أُخَرُ ؛ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مَوْضُوعٌ وُضِعَ عَلَيْهِ ، وَمَنْصِبٌ جُعِلَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ
الْإِلْحَاقُ فِيمَا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُهُ فِي الْأَصْلِ ؛ وَهَذَا فَنٌّ مِنْ
أُصُولِ الْفِقْهِ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ أَمَّا صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ : فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إجْمَاعًا ؛
لِأَنَّ الصَّيْدَ الْوَاقِعَ مِنْهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَالْمَجُوسِيُّ إنَّمَا يَزْعُمُ
أَنَّهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ، وَيَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ ، وَيَفْعَلُ جَمِيعَ
أَفْعَالِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ إذَا ذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِك الْمُعَلَّمِ فَكُلْ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَالذِّمِّيُّ لَا يَذْكُرُ اسْمَ
اللَّهِ وَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ .
قُلْنَا : لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الذِّمِّيِّ فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الِالْتِزَامُ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يُؤْكَلُ فَلِمُطْلَقِ قَوْله
تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } عَلَى أَحَدِ
الْأَدِلَّةِ ، وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي نَأْكُلُهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يُخَاطَبُوا بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ
.
وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّالِثِ يَكُونُ كَمَتْرُوكِ
التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مُتَرَدِّدٌ عَلَى الْآيَاتِ بِحُكْمِ
التَّعَارُضِ فِيهَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ أَكْلِ صَيْدِهِ ، وَأَنَّ
الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُحِلِّهِمْ وَمُحْرِمِهِمْ ؛
وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ حَبِيبٍ : إنَّ مَعْنَى قَوْلِ : { لَيَبْلُوَنَّكُمْ
} لَيُكَلِّفَنَّكُمْ .
ثُمَّ بَيَّنَ التَّكْلِيفَ بَعْدَهُ فَقَالَ وَهِيَ :
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ
ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ
عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } .
فِيهَا ثَمَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْلِهِ : { لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ } وَالْقَتْلُ
: كُلُّ فِعْلٍ يُفِيتُ الرُّوحَ ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ :
مِنْهَا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ ، وَالْخَنْقُ وَالرَّضْخُ وَشِبْهُهُ ؛ فَحَرَّمَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ كُلَّ فِعْلٍ يَكُونُ مُفِيتًا لِلرُّوحِ
، وَحَرَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى نَفْسَ الِاصْطِيَادِ ؛ فَقَالَ : {
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ كُلِّ
فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَةٍ
لِلْأَعْيَانِ وَالذَّوَاتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ خِطَابِ
الشَّارِعِ بِالْأَعْيَانِ ، فَالْمُحْرِمُ هُوَ الْقَوْلُ فِيهِ : لَا
تَقْرَبُوهُ ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ : لَا تَتْرُكُوهُ ، كَمَا
بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : لَمَّا نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ عَنْ قَتْلِ
الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَقَعَ عَامًّا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْمُحْرِمِ
لِلصَّيْدِ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ
ذَكَاةٌ ؛ وَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَهُوَ
الْمُسْلِمُ ، مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْأَنْعَامُ ، فَأَفَادَ
مَقْصُودَهُ مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ مِنْ أَصْلِهِ ذَبْحِ الْحَلَالِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى دَعْوَى ؛
فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَبْحِ الصَّيْدِ ؛ إذْ الْأَهْلِيَّةُ لَا
تُسْتَفَادُ عَقْلًا ، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا الشَّرْعُ ، وَذَلِكَ بِإِذْنِهِ فِي
الذَّبْحِ ؛ أَوْ يَنْفِيهَا الشَّرْعُ أَيْضًا ؛ وَذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنْ
الذَّبْحِ .
وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَقَدْ
انْتَفَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالنَّهْيِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ ، فَقَدْ اتَّفَقْنَا
عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ ؛
وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ ، فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لَا
يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَا يُفِيدَهُ لِغَيْرِهِ ؛
لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ
يَثْبُتَ لَهُ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ .
وَإِذَا بَطَلَ مَنْزَعُ الشَّافِعِيِّ وَمَأْخَذُهُ فَقَدْ
اعْتَمَدَ عُلَمَاؤُنَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى أَنَّهُ ذَبْحٌ
مُحَرَّمٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ ، فَلَا يَجُوزُ
كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ ، وَهَذَا صَحِيحٌ .
فَإِنَّ الَّذِي قَالَ : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ
يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } هُوَ الْقَائِلُ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
وَالْأَوَّلُ : نَهْيٌ عَنْ الْمَقْصُودِ بِالسَّبَبِ ،
فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ
.
وَالثَّانِي : نَهْيٌ عَنْ السَّبَبِ ، فَدَلَّ عَلَى
عَدَمِهِ شَرْعًا ، فَلَا يُفِيدُ مَقْصُودُهُ حُكْمًا ، وَهَذَا مِنْ
نَفِيسِ
الْأُصُولِ فَتَأَمَّلُوهُ .
وَقَوْلُ عُلَمَائِنَا : لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ فِيهِ
احْتِرَازٌ مِنْ السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْكَالَّةِ وَمِلْكِ الْغَيْرِ ،
فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ التَّذْكِيَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَلَكِنَّهُ مَا لَمْ
يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ وَلَا فِي الْمَذْبُوحِ لَمْ يُحَرَّمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَجَعَلَ الْقَتْلَ مُنَافِيًا لِلتَّذْكِيَةِ خَارِجًا عَنْ
حُكْمِ الذَّبْحِ لِلْأَكْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ
أَنْ أَقْتُلَ وَلَدِي فَهُوَ عَاصٍ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَدِي
فَإِنَّهُ يَفْتَدِيه بِشَاةٍ عَلَى تَفْصِيلِ بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بَيَانُهُ .
وَالْمِقْدَارُ الْمُتَعَلِّقُ مِنْهُ هَاهُنَا بِهَذَا
الْمَوْضِعِ أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ بِمُطْلَقِهِ
وَلَا الْخَنْقَ ، وَلَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ اللَّذَيْنِ
شُرِعَا فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِتَطْيِيبِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } جَرَى عُمُومُهُ عَلَى كُلِّ صَيْدٍ بَرِّيٍّ وَبَحْرِيٍّ ،
حَتَّى جَاءَ قَوْله تَعَالَى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا
دُمْتُمْ حُرُمًا } فَأَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ إبَاحَةً مُطْلَقَةً ، وَحَرَّمَ صَيْدَ
الْبَرِّ عَلَى الْمُحْرِمِينَ ؛ فَصَارَ هَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّنْوِيعُ
دَلِيلًا عَلَى خُرُوجِ صَيْدِ الْبَحْرِ مِنْ النَّهْيِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ } عَامٌّ فِي التَّحْرِيمِ بِالزَّمَانِ ، وَفِي التَّحْرِيمِ بِالْمَكَانِ
، وَفِي التَّحْرِيمِ بِحَالَةِ الْإِحْرَامِ ، إلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّمَانِ خَرَجَ
بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا ، وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَحَالَةُ
الْإِحْرَامِ عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }
عَامٌّ فِي كُلِّ صَيْدٍ كَانَ ، مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ ، سَبُعًا أَوْ
غَيْرَ سَبُعٍ ، ضَارِيًا أَوْ غَيْرَ ضَارٍ ، صَائِلًا أَوْ سَاكِنًا ؛ بَيْدَ
أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ السِّبَاعِ عَنْهُ وَتَخْصِيصِهِ
مِنْهَا ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ
السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْمَضَرَّةِ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ
وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا ، وَمِنْ
الطَّيْرِ كَالْغُرَابِ وَالْحَدَأَةِ ؛ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِنَا فِي الْكَلْبِ
الْعَقُورِ وَالذِّئْبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ ، وَخَالَفَنَا فِي السَّبُعِ
وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَغَيْرِهَا مِنْ السِّبَاعِ ، فَأَوْجَبَ عَلَى
الْمُحْرِمِ الْجَزَاءَ بِقَتْلِهَا
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ
لَحْمُهُ فَلَا جَزَاءَ فِيهِ إلَّا السَّمْعُ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الذِّئْبِ
وَالضَّبُعِ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " { خَمْسٌ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ
وَالْحَرَمِ : الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ
الْعَقُورُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْحَيَّةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ
} خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ .
وَفِيهِ {
الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ ، وَفِيهِ
: { السَّبُعُ الْعَادِي } خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَهَذَا
تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَعَلَى الْأَجْنَاسِ .
أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْفِسْقُ بِالْإِذَايَةِ ،
وَأَمَّا الْأَجْنَاسُ فَنَبَّهَ بِكُلِّ مَذْكُورٍ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْجِنْسِ
وَذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ بِعِلَّةِ
الْعَقْرِ الْفَهْدُ وَالسَّبُعُ ، وَلَا سِيَّمَا بِالنَّصِّ عَلَيْهِ مِنْ
طَرِيقِ السِّجْزِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ
.
وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنْ يَحْمِلَ
التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ ، وَلَا يَحْمِلَ السِّبَاعَ
الْعَادِيَةَ
عَلَى
الْكَلْبِ الْعَقُورِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ
لَحْمَهَا لَا يُؤْكَلُ فَهِيَ مَعْقُورَةٌ لَا جَزَاءَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ كَالْخِنْزِيرِ .
وَأَمَّا إنْ قُلْنَا : إنَّهَا تُؤْكَلُ فَفِيهَا
الْجَزَاءُ لِأَنَّهَا صَيْدٌ مَأْكُولٌ .
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي أَكْلِهَا فِي سُورَةِ
الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى .
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ صَيْدٌ
تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ بِالنَّهْيِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ ارْتِكَابِ النَّهْيِ ؛
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ صَيْدٌ أَنَّهُ يُقْصَدُ لِأَجْلِ جِلْدِهِ ،
وَالْجِلْدُ مَقْصُودٌ فِي الْمَالِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ فِي
الْأَكْلِ .
قُلْنَا : لَا تُسَمِّي الْعَرَبُ صَيْدًا إلَّا مَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ كَانَتْ الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا
عِنْدَ الْعَرَبِ صَيْدًا .
فَإِنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ كُلَّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ ،
ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ ، فَغَيَّرَ الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ دُونَ
الْأَسْمَاءِ .
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ ، إنَّ الصَّيْدَ لَا
يُعْرَفُ إلَّا فِيمَا يُؤْكَلُ
.
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الشَّرْعَ غَيَّرَ الْأَحْكَامَ
دُونَ الْأَسْمَاءِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَابِعَةٌ لِلْأَسْمَاءِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ
لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
.
الضَّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فِيهَا جَزَاءٌ ؛ قَالَ : نَعَمْ ، كَبْشٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ
أَكْلِهَا ، وَبَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ جَزَائِهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَامٌّ فِي الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } .
وَلِقَوْلِهِ : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وَقَوْلِهِ : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } عَامٌّ فِي النَّوْعَيْنِ .
وَقَوْلِهِ :
{ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، يُقَالُ : رَجُلٌ حَرَامٌ
وَامْرَأَةٌ حَرَامٌ ، وَجَمْعُ ذَلِكَ حُرُمٌ ، كَقَوْلِنَا : قَذَالٌ وَقُذُلٌ .
وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْأَحْرَارُ
وَالْعَبِيدُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ
الْمَعَانِي فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ
مُتَعَمِّدًا } فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَعَمِّدَ فِي
وُجُوبِ الْجَزَاءِ خَاصَّةً ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ، مُتَعَمِّدٌ ،
وَمُخْطِئٌ ، وَنَاسٍ ؛ فَالْمُتَعَمِّدُ هُوَ الْقَاصِدُ لِلصَّيْدِ مَعَ
الْعِلْمِ بِالْإِحْرَامِ ، وَالْمُخْطِئُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ شَيْئًا
فَيُصِيبُ صَيْدًا .
وَالنَّاسِي هُوَ الَّذِي يَتَعَمَّدُ الصَّيْدَ وَلَا
يَذْكُرُ إحْرَامَهُ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ
وَالنِّسْيَانِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ
وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ .
الثَّانِي : إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ،
نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَقَدْ
حَلَّ وَلَا حَجَّ لَهُ ، وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَلِكَ الَّذِي يُجْزِي .
الثَّالِثُ : لَا شَيْءَ عَلَى الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي
، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِعُمُومِ الْكَفَّارَةِ
فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ وَرَدَ
الْقُرْآنُ بِالْعَمْدِ ، وَجَعَلَ الْخَطَأُ تَغْلِيظًا ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : { مُتَعَمِّدًا } خَرَجَ
عَلَى الْغَالِبِ ، فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ ، كَسَائِرِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ .
الثَّالِثُ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : إنَّهُ وَجَبَ
الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ ، وَفِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ
بِالسُّنَّةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ وَجَبَ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَاتِلِ
الْخَطَأِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا كَفَّارَةُ إتْلَافِ نَفْسٍ ؛ فَتَعَلَّقَتْ
بِالْخَطَأِ ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ ؛ وَتَعَلَّقَ مُجَاهِدٌ بِأَنَّهُ أَرَادَ
مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : {
وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ، وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ
لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ .
وَتَعَلَّقَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى
رِوَايَتَيْهِ
وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا بِأَنَّهُ خَصَّ الْمُتَعَمِّدَ بِالذِّكْرِ ، فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِخِلَافِهِ ، وَزَادَ بِأَنْ قَالَ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ
الذِّمَّةِ ، فَمَنْ ادَّعَى شَغْلَهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ مَنْ قَالَ : وَجَبَ فِي
النِّسْيَانِ تَغْلِيظًا فَدَعْوَى تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ
فَحِكْمَةُ الْآيَةِ وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ مَا قَالُوهُ ، فَأَيْنَ دَلِيلُهُ
؟ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ وَجَبَ فِي النِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ
كَانَ يُرِيدُ بِهِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ
فَنِعِمَّا هِيَ ، وَمَا أَحْسَنُهَا أُسْوَةً ، وَأَمَّا مَنْ تَعَلَّقَ
بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ الَّذِي
يَرَى الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا وَخَطَأً ، فَأَمَّا نَحْنُ
وَقَدْ عَقَدْنَا أَصْلَنَا عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ فِي الْآدَمِيِّ لَا
كَفَّارَةَ فِيهِ ، وَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا الْكَفَّارَةَ فَلَا يَصِحُّ
ذَلِكَ مِنَّا لِوُجُودِ الْمُنَاقَضَةِ مِنَّا بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
عِنْدَنَا .
وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهَا
أَنَّ مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا
لِإِحْرَامِهِ ، أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ يَكْفِي لِوَصْفِ التَّعَمُّدِ ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ ،
لِاكْتِفَاءِ الْمَعْنَى مَعَهُ
.
وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ .
فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ
وَالْإِحْرَامِ فَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ ؛ لَكِنْ مِنْ
النَّاسِ مَنْ قَالَ : لَا حَجَّ لَهُ
.
وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يَدُلُّك عَلَيْهَا دَلِيلٌ مِنْ
ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ الْمَعْنَى ،
وَسَنَسْتَوْفِي بَقِيَّةَ الْقَوْلِ فِي آخِرِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } الْجَزَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ : الْمُقَابِلُ لِلشَّيْءِ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ فِي مُقَابِلِ مَا أَتْلَفَ وَبَدَلٌ مِنْهُ ؛ وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " وَقَدْ تَقَدَّمَ أَمْثَالُهُ قَبْلَ هَذَا ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ ؛ لِأَنَّ فِي مُقَابَلَتِهَا ثَوَابًا بِثَوَابٍ وَعِقَابًا بِعِقَابٍ ، وَدَرَجَاتٍ وَدَرَكَاتٍ ؛ وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : { مِثْلُ } قُرِئَ بِخَفْضِ مِثْلَ عَلَى الْإِضَافَةِ
إلَى { فَجَزَاءٌ } .
وَبِرَفْعِهِ وَتَنْوِينِهِ صِفَةً لِلْجَزَاءِ ؛
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ رِوَايَةً ، صَوَابٌ مَعْنًى ، فَإِذَا كَانَ عَلَى
الْإِضَافَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَيْرَ الْمِثْلِ ؛ إذْ
الشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ ، وَإِذَا كَانَ الصِّفَةُ بِرَفْعِهِ
وَتَنْوِينِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ
، لِوُجُوبِ كَوْنِ الصِّفَةِ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ ؛ وَسَتَرَى ذَلِكَ فِيمَا
بَعْدُ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهَ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ النَّعَمِ }
قَدْ بَيَّنَّا فِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " دَرَجَاتِ حَرْفِ
مِنْ ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا بَيَانُ الْجِنْسِ ، كَقَوْلِك : خَاتَمٌ مِنْ
حَدِيدٍ ، وَقَدَّمْنَا قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ السَّرَّاجِ فِي شَرْحِ كِتَابِ
سِيبَوَيْهِ الَّذِي أَوْقَفَنَا عَلَيْهِ شَيْخُ السُّنَّةِ فِي وَقْتِهِ أَبُو
عَلِيٍّ الْحَضْرَمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ بِحَالٍ
، وَلَا فِي مَوْضِعٍ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّبْعِيضُ فِيهَا بِالْقَرِينَةِ ،
فَجَاءَتْ مُقْتَرِنَةً بِقَوْلِهِ : { مِنْ النَّعَمِ } لِبَيَانِ جِنْسٍ مِثْلِ الْمَقْتُولِ
الْمُفْدَى ، وَأَنَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ } قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ وَهُوَ
شَبَهُهُ فِي الْخِلْقَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَيَكُونُ مِثْلَهُ فِي مَعْنًى ، وَهُوَ
مَجَازُهُ ؛ فَإِذَا أُطْلِقَ الْمِثْلُ اقْتَضَى بِظَاهِرِهِ حَمْلَهُ عَلَى
الشَّبَهِ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَعْنَى ، لِوُجُوبِ الِابْتِدَاءِ بِالْحَقِيقَةِ
فِي مُطْلَقِ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ الْمَجَازِ حَتَّى يَقْتَضِيَ الدَّلِيلُ مَا
يَقْضِي فِيهِ مِنْ صَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ ؛ فَالْوَاجِبُ هُوَ
الْمِثْلُ الْخِلْقِيُّ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ
بِالْمِثْلِ .
فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْخِلْقَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ
الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ :
مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِثْلَ حَقِيقَةً هُوَ الْمِثْلُ مِنْ طَرِيقِ
الْخِلْقَةِ .
الثَّانِي :
أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ النَّعَمِ } فَبَيَّنَ جِنْسَ
الْمِثْلِ ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ بِالنَّعَمِ بِحَالٍ .
الثَّالِثُ
: أَنَّهُ قَالَ : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ } وَهَذَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إلَى مِثْلِ مِنْ النَّعَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ سِوَاهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهِ .
وَالْقِيمَةُ الَّتِي يَزْعُمُ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ
يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهُ قَالَ : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
وَاَلَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْهَدْيُ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنْ النَّعَمِ ؛ فَأَمَّا
الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا .
فَإِنْ قِيلَ : الْقِيمَةُ مِثْلٌ شَرْعِيٌّ مِنْ
طَرِيقِ الْمَعْنَى فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ ، حَتَّى يُقَالَ الْقِيمَةُ
مِثْلٌ لِلْعَبْدِ ، وَلَا يَجْعَلُ فِي الْإِتْلَافِ مِثْلَهُ عَبْدًا يَغْرَمُ
فِيهِ ، وَأَوْجَبْنَا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي الْمُتْلِفَاتِ الْمِثْلَ خِلْقَةً
؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَالطَّعَامِ وَالدُّهْنَ كَالدُّهْنِ ؛ وَلَمْ يُوجَبْ فِي
الْعَبْدِ عَبْدٌ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْخِلْقَةَ لَمْ تَقُمْ
بِالْمِثْلِيَّةِ
، فَكَيْفَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَدَنَةَ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ .
قُلْنَا :
هَذَا مَزْلَقٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهِ قَدَمُ
النَّاظِرِ قَلِيلًا ، وَلَا يَطِيشَ حُلْمُهُ ، فَاسْمَعْ مَا نَقُولُ ، فَلَا خَفَاءَ
بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَلَيْسَ
يُعَارِضُهُ الْآنَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَنَّ النَّعَامَةَ لَا تُمَاثِلُهَا
الْبَدَنَةُ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِهَا فِيهَا ، وَهُمْ بِكِتَابِ
اللَّهِ أَفْهَمُ ، وَبِالْمِثْلِ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ وَالْمَعْنَى أَعْلَمُ
، فَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ سِوَاهُ إلَّا وَهَمَ ، وَلَا يَتَّهِمُهُمْ فِي
قُصُورِ النَّظَرِ ، إلَّا مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ .
وَالدَّقِيقَةُ فِيهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ ظَاهِرِ
الْقُرْآنِ مَعَ شَبَهٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ
ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّوَفُّرِ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّبَهِ الْمَعْنَوِيِّ
؛ هَذَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ فِي مَطْرَحِ النَّظَرِ إلَّا نَافِذُ
الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَوَّمُوا
النَّعَامَةَ بِدَرَاهِمَ ، ثُمَّ قَوَّمُوا الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ .
قُلْنَا :
هَذَا جَهْلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
سَرْدَ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ يُبْطِلُ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
شَيْءٌ مِنْهُ .
الثَّانِي : أَنَّ قِيمَةَ النَّعَامَةِ لَمْ تُسَاوِ
قَطُّ قِيمَةَ الْبَدَنَةِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ ، لَا مُتَقَدِّمٍ وَلَا
مُتَأَخِّرٍ ، عُلِمَ ذَلِكَ ضَرُورَةً وَعَادَةً ، فَلَا يَنْطِقُ بِمِثْلِ هَذَا
إلَّا مُتَسَاخِفٌ بِالنَّظَرِ
.
وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمِثْلِيَّةُ فِي الِاعْتِدَاءِ
عَلَى الْحَيَوَانِ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ
الْفِقْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ
الْخِلْقَةِ مُعْتَبَرًا ، فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ
، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ ، وَإِنَّمَا
يَفْتَقِرُ إلَى الْعُدُولِ وَالْحُكْمِ مَا يُشْكَلُ الْحَالُ فِيهِ
وَيَضْطَرِبُ
وَجْهُ النَّظَرِ عَلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ
: أَنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمَيْنِ إنَّمَا وَجَبَ فِي
حَالِ الْمَصِيدِ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ ، وَمَا لَهُ جِنْسٌ مِمَّا لَا جِنْسَ
لَهُ ، وَلْيَعْتَبِرْ مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَيَلْحَقُ
بِهِ مَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ نَصٌّ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } ، فَشَرَكَ بَيْنَهُمَا بِ
" أَوْ " فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ
مِنْ النَّعَمِ ، أَوْ مِنْ الطَّعَامِ ، أَوْ مِنْ الصِّيَامِ ، وَتَقْدِيرُ
الْمِثْلِيَّةِ فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ بِالْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ فِي
الْمِثْلِ الْأَوَّلِ .
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ أَوْ تَجَاهُلٌ ؛ فَإِنَّ قَوْله
تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } ظَاهِرٌ كَمَا قَدَّمْنَا
فِي مِثْلِ الْخِلْقَةِ ، وَمَا عَدَاهُ يَمْتَنِعُ فِيهِ مِثْلِيَّةُ الْخِلْقَةِ
حِسًّا ؛ فَرَجَعَ إلَى مِثْلِيَّةِ الْمَعْنَى حُكْمًا ، وَلَيْسَ إذَا عُدِمَ
الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ فِي مَوْضِعٍ وَيَرْجِعُ إلَى بَدَلِهِ يَلْزَمُ أَنْ
يَرْجِعَ إلَى بَدَلِهِ مَعَ وُجُودِهِ
.
تَكْمِلَةٌ : وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَكِّيِّ
وَالْمَدَنِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّامِيِّ : فَجَزَاءُ مِثْلِ بِالْإِضَافَةِ ؛
وَهَذَا يَقْتَضِي الْغَيْرِيَّةَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ ،
وَأَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ لِمِثْلِ الْمَقْتُولِ لَا الْمَقْتُولِ ، وَمِنْ
قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ : فَجَزَاءً مِثْلَ عَلَى الْوَصْفِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ
يَكُونَ الْجَزَاءُ هُوَ الْمِثْلَ
.
وَيَقُولُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ
الْجَزَاءَ غَيْرُ الْمِثْلِ .
وَيَقُولُ الْمَدَنِيُّونَ وَالْمَكِّيُّونَ
وَالشَّامِيُّونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ
: إنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْمِثْلُ ؛ فَيَبْنِي كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ قِرَاءَةِ قُرَّاءِ
بَلَدِهِ .
وَقَدْ قَالَ لَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ
الْقَرَافِيُّ الزَّاهِدُ : إنَّ ابْنَ مَعْقِلٍ الْكَاتِبَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي
عَلِيٍّ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ
جَزَاءُ
الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ .
وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ جَزَاءَ الْمِثْلِ لَا جَزَاءَ
الْمَقْتُولِ .
قَالَ :
وَمَنْ أَضَافَ الْجَزَاءَ إلَى الْمِثْلِ فَإِنَّهُ
يَخْرُجُ عَلَى تَقْدِيرِ إقْحَامِ الْمِثْلِ ؛ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ : أَنَا
أُكْرِمُ مِثْلَك ؛ أَيْ أُكْرِمُك
.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ :
وَذَلِكَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ
فِي قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : فِي سَرْدِ
الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ فِي الْبَابِ : وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ ،
لُبَابُهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ السُّدِّيُّ : " فِي
النَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ بَدَنَةٌ ، وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ أَوْ الْإِبِلِ
أَوْ الْأَرْوَى بَقَرَةٌ ، وَفِي الْغَزَالِ وَالْأَرْنَبِ شَاةٌ ، وَفِي
الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ سَخْلَةٌ قَدْ أَكَلَتْ الْعُشْبَ ، وَشَرِبَتْ الْمَاءَ
، فَفَرَّقَ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ .
الثَّانِي : قَالَ عَطَاءٌ : " صَغِيرُ الصَّيْدِ
وَكَبِيرُهُ سَوَاءٌ " لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ } ، مُطْلَقًا ، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُطْلَبُ
صِفَةُ الصَّيْدِ ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ قُوِّمَتْ
الدَّرَاهِمُ بِالْحِنْطَةِ ، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " .
الرَّابِعُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُذْبَحُ
عَنْ الظَّبْيِ شَاةٌ ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ .
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ " .
الْخَامِسُ :
قَالَ الضَّحَّاكُ : " الْمِثْلُ مَا كَانَ لَهُ
قَرْنٌ كَوَعْلٍ وَأُيَّلٍ فَدَاهُ بِبَقَرَةٍ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرْنٌ كَالنَّعَامَةِ
وَالْحِمَارِ فَفِيهِ بَدَنَةٌ ، وَمَا كَانَ مِنْ ظَبْيٍ فَمِنْ النَّعَمِ مِثْلُهُ
، وَفِي الْأَرْنَبِ ثَنِيَّةٌ ، وَمَا كَانَ مِنْ يَرْبُوعٍ فَفِيهِ جَمَلٌ
صَغِيرٌ .
فَإِنْ أَصَابَ فَرْخَ صَيْدٍ أَوْ بِيضَهُ تَصَدَّقَ
بِثَمَنِهِ ، أَوْ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " .
السَّادِسُ
: قَالَ
النَّخَعِيُّ : " يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ بِقِيمَتِهِ مِنْ
الدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ يَشْتَرِي الْقَاتِلُ بِقِيمَتِهِ فِدَاءً مِنْ النَّعَمِ ،
ثُمَّ يُهْدِيه إلَى الْكَعْبَةِ
" .
السَّابِعُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ :
" أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ
فِيهِ أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ ، فَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُهُ
مِنْ الطَّعَامِ ؛ فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ
كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا " .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : " إنْ قَوَّمَ
الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ " .
وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ
قَالَ عَنْهُ : وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخِيَارِ أَيْ ذَلِكَ فِعْلٌ
أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَجُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ .
فَأَمَّا الْفَرْقُ
بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ وَهِيَ [ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ
عَشْرَةَ ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : [ الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ
وَكَبِيرِهِ ] : فَصَحِيحٌ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِالْمِثْلِيَّةِ
فِي الْخِلْقَةِ ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ مُتَفَاوِتَانِ فِيهَا ، فَوَجَبَ
اعْتِبَارُ التَّفَاوُتُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى التَّقْوِيمِ ، فَوَجَبَ
اعْتِبَارُ الصَّغِيرِ فِيهِ وَالْكَبِيرِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ
عُلَمَائِنَا ، وَلِذَلِكَ قَالُوا : لَوْ كَانَ الصَّيْدُ أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ
أَوْ كَسِيرًا لَكَانَ الْمِثْلُ عَلَى صِفَتِهِ لِتَحَقُّقِ الْمِثْلِيَّةِ ،
وَلَا يَلْزَمُ الْمُتْلِفَ فَوْقَ مَا أَتْلَفَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ
عَشْرَةَ : وَأَمَّا تَرْتِيبُ الثَّلَاثَةِ الْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ
الْمِثْلِيَّةِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : فَاَلَّذِي اخْتَارَهُ
عُلَمَاؤُنَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنْ يَكُونَ بِالْخِيَارِ فِيهَا ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ
ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَقَالُوا : كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ " أَوْ
" فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ
.
وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ
مَصْرُوفٌ إلَى الْحَكَمَيْنِ ، فَمَا رَأَيَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : فَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، حَيْثُ قَدَّرَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِسْكِينًا بِيَوْمٍ ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ تَقْدِيرِهِ تَعَالَى وَتُقَدَّسُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَقْوَالُ ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ ؛ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدِ الْجَلِيِّ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
} قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقِيمُ الْمُتْلِفُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَقِيهَيْنِ
بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، فَيَنْظُرَانِ فِيمَا أَصَابَ ،
وَيَحْكُمَانِ عَلَيْهِ بِمَا رَأَيَاهُ فِي ذَلِكَ ، فَمَا حَكَمَا عَلَيْهِ
لَزِمَهُ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ الْإِمَامُ حَاضِرًا
أَوْ نَائِبَهُ أَنَّهُ يَكُونُ الْحُكْمُ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا
أَقَامَ حِينَئِذٍ الْمُتْلِفُ مَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّحْكِيمِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ فِيهِ ،
وَلِأَجْلِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا
: إنَّهُ يَجُوزُ حُكْمُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ
؛ وَذَلِكَ عِنْدِي صَحِيحٌ ؛ إذْ يَتَعَذَّرُ أَمْرُهُ .
وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ
قَالَ : أَصَبْت صَيْدًا ، وَأَنَا مُحْرِمٌ ، فَأَتَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
، فَأَخْبَرْته ، فَقَالَ : " ائْتِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِك
فَلْيَحْكُمَا عَلَيْك " فَأَتَيْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدًا
، فَحَكَمَا عَلَيَّ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ
.
وَهُوَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يَتَوَلَّى فَصْلَ الْقَضَاءِ رَجُلَانِ ، وَقَدْ مَنَعَتْهُ الْجَهَلَةُ ؛
لِأَنَّ اخْتِلَافَ اجْتِهَادِهِمَا يُوجِبُ تَوَقُّفَ الْأَحْكَامِ بَيْنَهُمَا ،
وَقَدْ بَعَثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إلَى الْيَمَنِ
، كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مِخْلَافٍ ، وَبَعَثَ أُنَيْسًا إلَى الْمَرْأَةِ
الْمَرْجُومَةِ ، وَلَمْ يَأْتِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحُكْمِ إلَّا فِي هَذِهِ
النَّازِلَةِ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا خُصُومَةَ فِيهَا ، فَإِنْ
اتَّفَقَا لَزِمَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا نُظِرَ فِي غَيْرِهِمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ : وَلَا يَأْخُذُ
بِأَرْفَعِ قَوْلِهِمَا ؛ يُرِيدُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ ،
وَكَذَلِكَ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ ، إذَا حَكَمَا بِهِ ،
إلَى الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ لَزِمَ قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ ؛
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إنْ
أَمَرَهُمَا
أَنْ يَحْكُمَا بِالْجَزَاءِ مِنْ الْمِثْلِ فَفَعَلَا ، فَأَرَادَ أَنْ
يَنْتَقِلَ إلَى الطَّعَامِ جَازَ .
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَجَاوُزٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : إنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْمِثْلِ ، وَلَيْسَ
الْأَمْرُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُحَكِّمُهُمَا .
ثُمَّ يَنْظُرَانِ فِي الْقَضِيَّةِ ، فَمَا أَدَّى
إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمَا لَزِمَهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ .
وَهُوَ الثَّانِي لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُكْمِهِمَا ؛
وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِالْتِزَامِهِ لِحُكْمِهِمَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
: الْمَعْنَى إذَا حَكَمَا بِالْمِثْلِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَفْعَلُ بِالْهَدْيِ ،
يُقَلِّدُهُ وَيُشْعِرُهُ ، وَيُرْسِلُهُ إلَى مَكَّةَ وَيَنْحَرُهُ بِهَا ،
وَيَتَصَدَّقُ بِهِ فِيهَا ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ،
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ
الْهَدْيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْحَرَمِ .
وَاخْتُلِفَ هَلْ يُفْتَقَرُ إلَى حِلٍّ مَعَهُ ؟
فَقَالَ مَالِكٌ : لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ يَبْتَاعُ بِالْحِلِّ ، وَيُقَلِّدُ
وَيُشْعِرُ ، وَيَدْفَعُ إلَى الْحَرَمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِلِّ .
وَحَقِيقَةُ قَوْله تَعَالَى : { بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
يَقْتَضِي أَنْ يَهْدِيَ مِنْ مَكَان يَبْلُغُ مِنْهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَلَمْ
يُرِدْ الْكَعْبَةَ بِعَيْنِهَا ؛ فَإِنَّ الْهَدْيَ لَا يَبْلُغُهَا ، إذْ هِيَ
فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرَمَ ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ الصَّغِيرَ
مِنْ الْهَدْيِ يَجِبُ فِي الصَّغِيرِ مِنْ الصَّيْدِ ، لِأَنَّهُ يَبْتَاعُهُ فِي
الْحَرَمِ وَيُهْدِيه فِيهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَكُونُ الْجَزَاءُ فِي
الصَّغِيرِ إلَّا بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ الصَّغِيرَ لَا يُمْكِنُ
حَمْلُهُ إلَى الْحَرَمِ ، وَهَذَا لَا يُغْنِي ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَتْ فِي
الصَّغِيرِ صَغِيرًا ، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرًا ، وَإِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ
إلَى الْحَرَمِ حُمِلَتْ قِيمَتُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ بِالْمَغْرِبِ : بَعِيرِي هَذَا
هَدْيٌ ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُحْمَلُ ثَمَنُهُ إلَى مَكَّةَ ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ فِي صَغِيرِ الْهَدْيِ مِثْلُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ صَغِيرَ الْهَدْيِ مِثْلُ
كَبِيرِهِ فِي الْقِيمَةِ ، كَمَا أَنَّ صَغِيرَ الْآدَمِيِّ مِثْلُ كَبِيرِهِ فِي
الدِّيَةِ .
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ
جَبْرًا ، وَهَذَا مُقَدَّرٌ نَظَرًا ، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ،
فَافْتَرَقَا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ كَفَّارَةٌ } سَمَّاهُ بِهَا
لِيُبَيِّنَّ أَنَّ الطَّعَامَ عَنْ الصَّيْدِ لَا عَنْ الْهَدْيِ ،
وَلِيُلْحِقَهَا بِأَمْثَالِهَا وَنَظَائِرِهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { طَعَامُ مَسَاكِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا قَتَلَ
الْمُحْرِمُ ظَبْيًا وَنَحْوَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ ، فَإِنْ
لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ
صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَإِنْ قَتَلَ أُيَّلًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ
بَقَرَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا ، فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا ، وَإِنْ قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارًا
فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ مِنْ الْإِبِلِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ ثَلَاثِينَ
مِسْكِينًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَالطَّعَامُ
مُدٌّ مُدٌّ لِشِبَعِهِمْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا : إنْ لَمْ يَجِدْ جَزَاءً قَوَّمَ
الْجَزَاءَ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِمُ حِنْطَةً ، ثُمَّ صَامَ
مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا
.
وَقَالَ : إنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ الصَّوْمَ ،
فَإِذَا وَجَدَ طَعَامًا وَجَبَ جَزَاءً .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ ، وَمُجَاهِدٍ ،
وَالسُّدِّيِّ ، وَحَمَّادٍ ، وَغَيْرِهِمْ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا
فَإِطْعَامُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ
لَا عَلَى التَّرْتِيبِ بِمَا يَقْتَضِيه حَرْفُ " أَوْ " فِي لِسَانِ
الْعَرَبِ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ فِي الظَّبْيِ بِسِتَّةِ
مَسَاكِينَ ، وَفِي الْبَدَنَةِ بِثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ
نَافِذٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ تَحَكُّمٌ بِاخْتِيَارِ قِيمَةِ الطَّعَامِ
بِالدَّرَاهِمِ أَصْلًا أَوْ بَدَلًا كَمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ يُعْطَى عَنْ كُلِّ
مُدٍّ يَوْمًا لَا نِصْفَ صَاعٍ
.
وَقَدْ رَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ :
كَانَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَعْرَابِ مُحْرِمِينَ ، فَحَاشَ أَحَدُهُمَا صَيْدًا
فَقَتَلَهُ الْآخَرُ ، فَأَتَيَا عُمَرُ ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ
بْنُ عَوْفٍ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا تَرَى ؟ قَالَ : شَاةٌ .
قَالَ : وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ .
اذْهَبَا فَأَهْدَيَا شَاةً .
فَلَمَّا مَضَيَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا
دَرَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَقُولُ ، حَتَّى سَأَلَ صَاحِبَهُ .
فَسَمِعَهُ عُمَرُ ، فَرَدَّهُمَا ، فَقَالَ : هَلْ
تَقْرَآنِ سُورَةَ الْمَائِدَةِ ؟ فَقَالَا : لَا .
فَقَرَأَ عَلَيْهِمَا : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ هَدْيًا } ثُمَّ قَالَ : اسْتَعَنْت بِصَاحِبِي هَذَا .
وَعَنْ قَبِيصَةَ وَصَاحِبٍ لَهُ أَنَّهُمَا أَصَابَا
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ : إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ
يَدْرِ مَا يَقُولُ .
فَسَمِعَهُمَا عُمَرُ .
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضَرْبًا بِالدِّرَّةِ ، وَقَالَ :
تَقْتُلُ الصَّيْدَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ ، وَتَغْمِصُ الْفُتْيَا ، إنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ
: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَنَا عُمَرُ .
وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ يُوجِبُ عَلَى
الْمُشْتَرِكِينَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِقَضَاءِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى رَجُلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ
كَامِلٌ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَهِيَ تَنْبَنِي
عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لُغَوِيٌّ قُرْآنِيٌّ ، وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ .
أَمَّا اللُّغَوِيُّ الْقُرْآنِيُّ : فَإِنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ لِلصَّيْدِ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى الْكَمَالِ
وَالتَّمَامِ ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مُتْلِفٌ نَفْسًا عَلَى الْكَمَالِ وَمُذْهِبٌ رَوْحًا عَلَى التَّمَامِ .
وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ ،
وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ فَثَبَتَ مَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ : فَإِنَّ عِنْدَنَا أَنَّ
الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قِيمَةٌ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا
الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ وَمُقَابِلٌ لِلْجِنَايَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ جَنَى عَلَى
إحْرَامِهِ جِنَايَةً كَامِلَةً ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى قَاتِلًا ؛
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّى
الْجَزَاءَ كَفَّارَةً فِي كِتَابِهِ
.
وَأَمَّا كَمَالُ الْجِنَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
عَلَى الْإِحْرَامِ فَصَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ارْتَكَبَ
مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ ، وَسُمِّيَ قَاتِلًا حَقِيقَةً
فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءً .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يَقُومُ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ ،
وَيَلْحَظُ فِيهِ شِبْهَهُ .
وَلَوْ كَانَ كَفَّارَةً لَاعْتُبِرَ مُطْلَقًا مِنْ
اعْتِبَارِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، فَلَمَّا كَانَ
كَذَلِكَ صَارَ كَالدِّيَةِ .
قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ دُخُولُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ بَدَلَ مُتْلَفٍ مَا دَخَلَ الصِّيَامُ
عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الصِّيَامَ إنَّمَا مَوْضِعُهُ وَمَوْضُوعُهُ
الْكَفَّارَاتُ
، لَا أَبْدَالُ الْمُتْلَفَاتِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا تُقَدَّرُ
بِقَدْرِ الْمَحِلِّ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَهَا ، مَحِلٌّ ، فَيَزِيدُ
بِزِيَادَتِهِ ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْآدَمِيِّ
فَإِنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَقَدَّرُ حَقِيقَةً فَيُقَدَّرُ كَفَّارَةً .
جَوَابٌ ثَالِثُ : وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ لَا
يَجُوزُ إسْقَاطُهُ ، وَالدِّيَةُ يَجُوزُ إسْقَاطُهَا ، فَدَلَّ عَلَى
اخْتِلَافِهِمَا بِالصِّفَةِ وَالْمَوْضُوعِ .
جَوَابٌ رَابِعُ : وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى
يَسْتَوِي فِي الْجَزَاءِ ، وَيَخْتَلِفُ فِي الدِّيَةِ ، وَقِيمَةِ الْإِتْلَافِ
؛ فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ
مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ضَعِيفٌ جِدًّا .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ مَالِكًا فِي فَرْعٍ ؛
وَهُوَ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي حَرَمٍ وَهُمْ مُحِلُّونَ فَعَلَيْهِمْ
جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ ،
وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً ،
فَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ .
وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فَبَنَاهُ فِي
أَسْرَارِ اللَّهِ عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : السِّرُّ فِيهِ أَنَّ
الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادِ ، فَقَدْ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ مَحْظُورًا فِي إحْرَامِهِ
.
وَإِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا
أَتْلَفَ نَفْسًا مُحْتَرَمَةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ دَابَّةً
، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ دَابَّةً ، وَيَشْتَرِكُونَ فِي
الْقِيمَةِ ، وَهَذَا مِمَّا يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا ، وَهُوَ عَسِيرُ
الِانْفِصَالِ .
وَقَدْ عَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ
يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ فِي الْحَرَمِ ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا
بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ قَدْ
أَكْسَبَهُ صِفَةً تَعَلَّقَ بِهَا نَهْيٌ ، فَهُوَ هَاتِكٌ لَهَا فِي
الْحَالَيْنِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا ، عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَنَا
قَالُوا : إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ
الْجَزَاءُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا جَزَاءَ فِي صَيْدِ
الْحَرَمِ أَصْلًا .
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : حُرْمَةُ الْحَرَمِ كَالْإِحْرَامِ ،
وَاللَّفْظُ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، يُقَالُ : أَحْرَمَ الرَّجُلُ إذَا تَلَبَّسَ
بِالْإِحْرَامِ ، كَمَا يُقَالُ : أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، فَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ مَنْ أَسْقَطَ الْجَزَاءَ
فِيهِ ، وَيُضَعَّفُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ
وَعُمُومِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ :
وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْعَبْدِ إذَا أَحْرَمَ أَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ كَكَفَّارَةِ الْحُرِّ سَوَاءٌ ؛ لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ مُخْتَلِفَ الْحَالِ ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الظِّهَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : إذَا قُوِّمَ الطَّعَامُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
أَيْنَ يُقَوَّمُ ؟ فَقَالَ قَوْمٌ : يُقَوَّمُ فِي مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ ؛
قَالَهُ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَسِوَاهُمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقَوَّمُ حَيْثُ يُكَفِّرُ
بِمَكَّةَ .
وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ
الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ بِهِ قِيمَةُ
الْمُتْلَفِ ؛ فَقَالَ قَوْمٌ :
يَوْمَ الْإِتْلَافِ .
وَقَالَ آخَرُ : يَوْمَ الْقَضَاءِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ أَكْثَرَ
الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الْإِتْلَافِ إلَى يَوْمِ الْحُكْمِ ، وَاخْتَلَفَ
عُلَمَاؤُنَا كَاخْتِلَافِهِمْ
.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقِيمَةَ يَوْمَ
الْإِتْلَافِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ
حَقًّا لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَعْدَمَهُ الْمُتْلِفُ لَزِمَهُ
إيجَادُهُ بِمِثْلِهِ ، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْعَدَمِ ، فَالْقَضَاءُ يُظْهِرُ
الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ ، وَلَا يَسْتَأْنِفُ الْقَاضِي إيجَابًا لَمْ
يَكُنْ ، وَهَذَا يُعَضِّدُ فِي مَسْأَلَتِنَا الْوُجُوبَ فِي مَوْضِعِ
الْإِتْلَافِ ، فَأَمَّا فِي مَوْضِعِ فِعْلِ الْكَفَّارَةِ فَلَا وَجْهَ لَهُ .
الْمَسْأَلَة
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَأَمَّا الْهَدْيُ فَلَا
بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَّةَ .
وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ
؛ هَلْ يَكُونُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ : إنَّهُ
يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ .
وَقَالَ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُكَفِّرُ
بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ
بِمَكَّةَ ، وَيَصُومُ حَيْثُ شَاءَ
.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : يُكَفِّرُ حَيْثُ شَاءَ .
فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّهُ يُكَفِّرُ
حَيْثُ أَصَابَ ، فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي النَّظَرِ وَلَا أَثَرَ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ
فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ ، فَتَكُونُ فِي كُلِّ
مَوْضِعٍ كَصِيَامِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّعَامَ يَكُونُ
بِمَكَّةَ فَلِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْهَدْيِ أَوْ نَظِيرٌ لَهُ ؛ وَالْهَدْيُ
حَقٌّ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ ؛ فَلِذَلِكَ يَكُونُ بِمَكَّةَ بَدَلَهُ أَوْ
نَظِيرَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ ،
وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، فَإِنَّهُ اعْتِبَارٌ بِكُلِّ طَعَامٍ وَفِدْيَةٍ ،
فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ
وَبَالَ أَمْرِهِ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْعَدْلُ وَالْعِدْلُ بِفَتْحِ
الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا : هُوَ الْمِثْلُ ، وَيُؤْثَرُ عَنْ السَّكَّاكِيِّ أَنَّهُ
قَالَ : عِدْلُ الشَّيْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ ، وَبِفَتْحِ
الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَأَرَادَ أَوْ يَصُومُ صَوْمًا
مُمَاثِلًا لِلطَّعَامِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُمَاثِلَ الطَّعَامُ الطَّعَامَ فِي
وَجْهٍ أَقْرَبَ مِنْ الْعَدَدِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : يَصُومُ عَلَى عَدَدِ الْمَسَاكِينِ
فِي الطَّعَامِ لَا عَلَى عَدَدِ الْأَمْدَادِ الْأَشْهُرِ ، وَهُوَ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا ، وَالْكَافَّةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِالْأَمْدَادِ ، وَقَدْ قَالَ
الشَّافِعِيُّ : عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِمَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ
يَوْمًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى .
وَاعْتِبَارُ الْكَفَّارَةِ بِالْفِدْيَةِ لَا وَجْهَ
لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نُظَرَائِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ بَعْضُ
عُلَمَائِنَا : إنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ ؛ فِي
الْجَزَاءِ مِنْ النَّعَمِ ، وَالْإِطْعَامِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ يَحْتَاجُ
إلَيْهِمَا فِي الْحَالِ كُلِّهَا ، وَهِيَ تَنْحَصِرُ فِي مَوَاضِعَ سَبْعَةٍ :
الْأَوَّلُ : هَلْ يُحْكَمُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ أَوْ فِي الْعَمْدِ
وَحْدَهُ ؟ الثَّانِي : هَلْ يُحْكَمُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ كَمَا
يَكُونُ فِي الْإِحْرَامِ ؟ الثَّالِثُ : هَلْ يُحْكَمُ بِالْجَزَاءِ حَيَوَانًا
أَوْ قِيمَةً ؟ الرَّابِعُ : إذَا رَأَى الْحَيَوَانَ جَزَاءً عَنْ حَيَوَانٍ .
فِي تَعْيِينِ الْحَيَوَانِ خِلَافٌ كَثِيرٌ لَا بُدَّ
مِنْ تَسْلِيطِ نَظَرِهِ عَلَيْهِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِ
الْعُلَمَاءِ فِيهِ ؛ هَلْ يَسْتَوِي صَغِيرُهُ وَكَبِيرُهُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ
فِي الْكِتَابِ حِينَ جَعَلَهُ كَالدِّيَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُرَاعِي صِفَاتِهِ
أَجْمَعَ حَتَّى الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ ، أَمْ تُرَاعَى
الْأُصُولُ
، أَوْ يُرَاعَى الْعَيْبُ وَالسَّلَامَةُ ، أَوْ هُمَا وَاحِدٌ ؟ وَهَلْ يَكُونُ فِي
النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ كَمَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ ، أَمْ يَكُونُ
فِيهَا الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقَارِبُ خَلْقَ الْبَقَرِ وَلَا تَبْلُغُ
خَلْقَ الْإِبِلِ ؟ الْخَامِسُ : هَلْ الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا تُجْزِئُ أَمْ
بَعْضُهَا ؟ السَّادِسُ : هَلْ يَقُومُ الْمِثْلُ بِالطَّعَامِ أَوْ
بِالدَّرَاهِمِ ؟ السَّابِعُ : هَلْ يَكُونُ التَّقْوِيمُ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ
أَمْ بِمَوْضِعِ الْكَفَّارَةِ ؟ وَهَكَذَا إلَى آخِرِ فُصُولِ الِاخْتِلَافِ ،
فَيُرْفَعُ الْأَمْرُ إلَى الْحُكْمَيْنِ حَتَّى يُخَلِّصَ اجْتِهَادُهُمَا مَا
يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ ، فَيَلْزَمُهُ مَا قَالَا .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَجَزَاهُ .
ثُمَّ قَتَلَهُ ثَانِيَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ
، وَمِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَحْبَارٌ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ
بِمَرْتَبَتِهِمْ إيرَادُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ
حُكْمٍ عُلِّقَ بِشَرْطٍ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ ، فَمَنْ قَالَ
لِزَوْجَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ [ فَإِنَّ الطَّلَاقَ ] لَا
يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى تَكْرَارِ
الْحُكْمِ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ فَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ الدَّلِيلِ الْقَائِمِ
عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ الْمُضَافِ إلَيْهِ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {
إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } فَإِنَّ الْوُضُوءَ يَتَكَرَّرُ
بِتَكَرُّرِ الْقِيَامِ مَعَ الْحَدَثِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ } .
وَهَا هُنَا تَكَرَّرَ الِاسْمُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ ،
بِقَوْلِهِ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَالنَّهْيُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ ،
فَالْجَزَاءُ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُتَوَجِّهٌ لَازِمٌ ذِمَّتَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا
سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وَلَمْ يَذْكُرْ جَزَاءً
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قُلْنَا : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
: { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } يَعْنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا الْإِسْلَامِ
، أَوْ عَمَّا قَبْلَ بَيَانِ الْحُكْمِ ؛ فَإِنَّ الْوَاقِعَ قَبْلَهُ عَفْوٌ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ عَادَ } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : يَعْنِي فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ
مِنْهُ ، وَعَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ
مَرَّتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ ،
وَهَذَا لَا
يَصِحُّ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَمَادِي التَّحْرِيمِ فِي الْإِحْرَامِ
وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الدَّلِيلِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : {
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } يَعْنِي وَهُوَ مُحْرِمٌ ، { فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ
} .
وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَسَنُ
وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٌ وَشُرَيْحٌ
.
وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ
عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : نَعَمْ نَحْكُمُ عَلَيْهِ أَفَيُخْلَعُ يَعْنِي يُخْرَجُ عَنْ
حُكْمِ الْمُحْرِمِينَ ؛ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : إنَّهُ إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا
فَقَدْ حَلَّ إحْرَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا [ يُنَافِي ] عِبَادَةً فِيهَا ،
فَأَبْطَلَهَا ، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أَحْدَثَ فِيهَا .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ
الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَسَادَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ
الْمَسَائِلِ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ بِمَا يُغْنِي عَنْ
إعَادَتِهِ ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْحَجِّ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُمَا
مُخْتَلِفَانِ شَرْطًا وَوَصْفًا وَوَضْعًا فِي الْأَصْلِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ
أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ بِحَالٍ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيمَا
تَقَدَّمَ ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْمُعَلَّيْ أَنَّ
رَجُلًا أَصَابَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَتَجُوزُ عَنْهُ ، ثُمَّ عَادَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَارًا مِنْ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ ،
وَهَذِهِ عِبْرَةٌ لِلْأُمَّةِ وَكَفٌّ لِلْمُعْتَدِينَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : مَا
تَقَدَّمَ فِيهِ لِلصَّحَابَةِ حُكْمٌ مِنْ الْجَزَاءِ فِي صَيْدٍ يَبْتَدِئُ
الْآنَ الْحَكَمَانِ النَّظَرَ فِيهِ
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُنْظَرُ فِيمَا نَظَرَتْ
فِيهِ الصَّحَابَةُ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ نَفَذَ ، وَهَذَا يَبْطُلُ بِقَضَايَا الدِّينِ
؛ فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ أَنْفَذَتْهُ الصَّحَابَةُ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ
ثَانِيًا .
وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا
انْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ
الْحَكَمَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ ، وَهَذَا تَسَامُحٌ مِنْهُ ؛
فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَانِيًا وَحَكَمَيْنِ ، فَحَذْفُ بَعْضِ
الْعَدَدِ إسْقَاطٌ لِلظَّاهِرِ ، وَإِفْسَادٌ لِلْمَعْنَى لِأَنَّ حُكْمَ
الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاسْتَغْنَى بِنَفْسِهِ
عَنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ، فَزِيَادَةُ ثَانٍ
إلَيْهِ غَيْرَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ بِرَجُلَيْنِ سِوَاهُ .
الْآيَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ
عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
إلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْلُهُ { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } : عَامٌّ فِي الْمُحِلِّ
وَالْمُحْرِمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ التَّقْسِيمِ
وَالتَّنْوِيعِ قَبْلَ هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { الْبَحْرِ } هُوَ كُلُّ
مَاءٍ كَثِيرٍ ، وَأَصْلُهُ الِاجْتِمَاعُ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْمَدَائِنُ
بِحَارًا .
وَيُقَالُ لِلْبَلْدَةِ : الْبَحْرَةُ وَالْبُحَيْرَةُ ؛
لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا ؛ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }
: إنَّ الْبَحْرَ الْبِلَادُ ، وَالْبَرَّ الْفَيَافِي
وَالْقِفَارُ .
وَفَائِدَتُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ بَرًّا
وَبَحْرًا وَهَوَاءً ، وَجَعَلَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ
الثَّلَاثَةِ عِمَارَةً ، فَعِمَارَةُ الْهَوَاءِ الطَّيْرُ ، وَعِمَارَةُ
الْمَاءِ الْحِيتَانُ ، وَعِمَارَةُ الْأَرْضِ سَائِرُ الْحَيَوَانِ ، وَجَعَلَ
كُلَّ ذَلِكَ مُبَاحًا لِلْإِنْسَانِ عَلَى شُرُوطٍ وَتَنْوِيعٍ ، هِيَ
مُبَيَّنَةٌ فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { صَيْدُ الْبَحْرِ } : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
مَا صِيدَ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الثَّانِي : هُوَ حِيتَانُهُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : السَّمَكُ الْجَرِيُّ ؛ قَالَهُ ابْنُ
جُبَيْرٍ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَرْجِعُ إلَى
قَوْلٍ وَاحِدٍ ، وَهِيَ حِيتَانُهُ تَفْسِيرًا ، وَيَرْجِعُ مِنْ طَرِيقِ
الِاشْتِقَاقِ إلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا حُووِلَ أَخْذُهُ بِحِيلَةٍ وَعَمَلٍ ،
وَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ : مَا صِيدَ مِنْهُ ، وَهُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ ، فَكَأَنَّهُ
قَالَ : " أُحِلَّ لَكُمْ أَخْذُ مَا فِي الْبَحْرِ مِنْ الْحِيتَانِ
بِالْمُحَاوَلَةِ ، وَأُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُهُ ، وَهُوَ مَا أُخِذَ بِغَيْرِ
مُحَاوَلَةٍ " وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ بِغَيْرِ
مُحَاوَلَةٍ وَلَا حِيلَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا طَفَا عَلَيْهِ
مَيْتًا .
وَالثَّانِي : مَا جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ ، فَأَخَذَهُ
النَّاسُ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْله تَعَالَى : {
وَطَعَامُهُ } : عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا جَزَرَ عَنْهُ .
وَالثَّانِي
: مَا طَفَا عَلَيْهِ ؛ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
وَقَتَادَةُ ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَعْنٍ عَنْ سُفْيَانَ ، قَالَ : صَيْدُ الْبَحْرِ
مَا صِيدَ ، وَطَعَامُهُ مَيْتَتُهُ
.
الثَّالِثُ : مَمْلُوحُهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا
أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ ، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا
فَلَا تَأْكُلُوهُ } .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ
عَلَى جَابِرٍ .
وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ { أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ
مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ }
.
وَهَذَا نَصٌّ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ ، وَلَا كَلَامَ
بَعْدَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِينَ قَالُوا
: إنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23
الصفحة الرئيسية حول الموقع اتصل بنا ترجمات القران أعلى الصفحة
ISLAMICBOOK.WS © 2019 | جميع الحقوق متاحة لجميع المسلمين
8/ احكام القران
كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } فِيهِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يُسْجَنُ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ،
وَأَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي غَيْرِ بَلَدِ
الْجِنَايَةِ .
الثَّانِي : يُنْفَى إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ ؛ قَالَهُ
أَنَسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَغَيْرُهُمْ .
الثَّالِثُ : يُخْرَجُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ
أَبَدًا ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
الرَّابِعُ :
يُطْلَبُونَ بِالْحُدُودِ أَبَدًا فَيَهْرُبُونَ مِنْهَا
؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُسْجَنَ ، فَيَكُونُ السِّجْنُ لَهُ
نَفْيًا مِنْ الْأَرْضِ ، وَأَمَّا نَفْيُهُ إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ فَعَوْنٌ لَهُ
عَلَى الْفَتْكِ .
وَأَمَّا نَفْيُهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَشُغْلٌ لَا
يُدَانُ بِهِ لِأَحَدٍ ، وَرُبَّمَا فَرَّ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ ثَانِيَةً .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُطْلَبُ أَبَدًا وَهُوَ
يَهْرُبُ مِنْ الْحَدِّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَزَاءٍ ،
وَإِنَّمَا هُوَ مُحَاوَلَةُ طَلَبِ الْجَزَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ } قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا أُخِذَ فِي
الْحِرَابَةِ نَصَّابًا .
قُلْنَا : أَنْصِفْ مِنْ نَفْسِك أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
وَوَفِّ شَيْخَكَ حَقَّهُ لِلَّهِ
.
إنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
فَاقْتَضَى هَذَا قَطْعَهُ فِي حَقِّهِ .
وَقَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ : { إنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَاقْتَضَى بِذَلِكَ تَوْفِيَةَ
الْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَقِّهِ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّارِقِ أَنَّ قَطْعَهُ فِي نِصَابٍ
وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ ، وَبَقِيَتْ الْمُحَارَبَةُ عَلَى عُمُومِهَا .
فَإِنْ أَرَدْت أَنْ تَرُدَّ الْمُحَارَبَةَ إلَى
السَّرِقَةِ كُنْتَ مُلْحِقًا الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَخَافِضًا الْأَرْفَعَ
إلَى الْأَسْفَلِ ، وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ .
وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ وَهُوَ
يَطْلُبُ النَّفْسَ إنْ وَقَى الْمَالَ بِهَا عَلَى السَّارِقِ وَهُوَ يَطْلُبُ
خَطْفَ الْمَالِ ، فَإِنْ شَعَرَ بِهِ فَرَّ ، حَتَّى إنَّ السَّارِقَ إذَا دَخَلَ
بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ الْمَالَ ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ أَوْ صِيحَ عَلَيْهِ
وَحَارَبَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُحَارِبٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ .
[ قَالَ الْقَاضِي ] : وَكُنْت فِي أَيَّامِ حُكْمِي بَيْنَ
النَّاسِ إذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ
يَسْحَبُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ نَائِمٌ ، وَأَصْحَابُهُ
يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ ؛
فَافْهَمُوا هَذَا مِنْ أَصْلِ الدِّينِ ، وَارْتَفِعُوا إلَى يَفَاعِ الْعِلْمِ
عَنْ حَضِيضِ الْجَاهِلِينَ .
وَالْمُسْكِتُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْحِرْزَ
، فَلَوْ كَانَ الْمُحَارِبُ مُلْحَقًا بِالسَّارِقِ لِمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا
عَلَى حِرْزٍ .
وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يَقُولَ : أَحَدُ شَرْطَيْ
السَّرِقَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُحَارِبِ كَالْحِرْزِ وَالتَّعْلِيلِ
النِّصَابُ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : إذَا صَلَبَ الْإِمَامُ الْمُحَارِبَ فَإِنَّهُ يَصْلُبُهُ حَيًّا
: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصْلُبُهُ مَيِّتًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } ، فَبَدَأَ بِالْقَتْلِ .
قُلْنَا : نَعَمْ الْقَتْلُ مَذْكُورٌ أَوَّلًا ، وَلَكِنْ
بَقِيَ أَنَّا إذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ هَاهُنَا هُوَ
الْخِلَافُ .
وَالصَّلْبُ حَيًّا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَى
وَأَفْضَحُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَعْنَى الرَّدْعِ الْأَصْلَحِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا مَنْ قَتَلَ ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : مِنْهُمَا أَنَّهُ
تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ فِي الدِّمَاءِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ
الْمُكَافَأَةُ كَالْقِصَاصِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ
عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ ، مِنْ
التَّخْوِيفِ وَسَلْبِ الْمَالِ ، فَإِنْ انْضَافَتْ إلَيْهِ إرَاقَةُ الدَّمِ
فَحُشَ ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُرَاعَى مَالُ مُسْلِمٍ مِنْ كَافِرٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَافِلَةِ
فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ ، وَلَمْ يَقْتُلْ بَعْضٌ ، قُتِلَ الْجَمِيعُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُقْتَلُ إلَّا مَنْ قَتَلَ .
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ
وَتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَيُعَضِّدُ هَذَا أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ
شُرَكَاءُ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُ جَمِيعُهُمْ .
وَقَدْ اتَّفَقَ مَعَنَا عَلَى قَتْلِ الرِّدْءِ وَهُوَ
الطَّالِعُ ، فَالْمُحَارِبُ أَوْلَى
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ .
الثَّانِي : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَقَدْ حَارَبُوا
بِأَرْضِ الشِّرْكِ .
الثَّالِثُ : إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ :
إلَّا الَّذِينَ تَابُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ ؛ قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ ؛ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : وَفِي حُقُوقِ
الْآدَمِيِّينَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مَالٌ يُعْرَفُ ، أَوْ يَقُومَ
وَلِيٌّ يَطْلُبُ دَمَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ وَالْقِصَاصُ مِنْهُ .
الْخَامِسُ : قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : لَا
يُطْلَبُ بِشَيْءٍ لَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَلَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْآيَةَ فِي
الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ إنَّ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ
تَابُوا } عَائِدٌ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ إلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِمَّنْ هُوَ بِأَرْضِ الشِّرْكِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ طَرِيفٌ ، وَلَهُ
وَجْهٌ طَرِيفٌ ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ } يُعْطِي أَنَّهُمْ بِغَيْرِ أَرْضِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَلَكِنْ
كُلُّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَأْخُذُهُ الْأَحْكَامُ وَتَسْتَوْلِي
عَلَيْهِ الْقُدْرَةُ ، وَهَذَا إذَا تَبَيَّنْتَهُ لَمْ يَصِحَّ تَنْزِيلُهُ ؛
فَإِنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ،
فَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ إلَى الْجَبَلِ ، وَتَوَسَّطَ الْبَيْدَاءَ فِي مَنَعَةٍ فَلَا
تَتَّفِقُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِجَرِّ جَيْشٍ وَنَفِيرِ قَوْمٍ ؛ فَلَا
يُقَالُ : إنَّا قَادِرُونَ عَلَيْهِ
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ ،
فَيَرْجِعُ إلَى الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ .
قُلْنَا : إنَّا نَقُولُ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ فِي
الْحُقُوقِ كُلِّهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي
الْحُقُوقِ كُلِّهَا فَقَدْ عَلِمْنَا
بُطْلَانَ
ذَلِكَ بِمَا قَامَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا
يَغْفِرُهَا الْبَارِّي سُبْحَانَهُ إلَّا بِمَغْفِرَةِ صَاحِبِهَا ، وَلَا
يُسْقِطُهَا إلَّا بِإِسْقَاطِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ
حَقٍّ .
قُلْنَا :
هَذِهِ مَغْفِرَةٌ عَامَّةٌ بِلَا خِلَافٍ
لِلْمَصْلَحَةِ فِي التَّحْرِيضِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى الدُّخُولِ فِي
الْإِسْلَامِ ؛ فَأَمَّا مَنْ الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُسْقِطُ
عَنْهُ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَرْبَابُهَا .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الشَّهَادَةِ : إنَّهَا تُكَفِّرُ كُلَّ خَطِيئَةٍ إلَّا الدَّيْنَ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ حُكْمَهَا أَنَّهَا
تُكَفِّرُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : إنَّ
الْإِمَامَ لَا يَتَوَلَّى طَلَبَهَا ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا أَرْبَابُهَا
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَصَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ بِوَكِيلٍ
لِمُعَيِّنِينَ مِنْ النَّاسِ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُعِينَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ
نَائِبُهُمْ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُجْمَلَةِ الْمُبْهَمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ
بِمُعَيَّنَةٍ .
وَأَمَّا إنْ عَرَفْنَا بِيَدِهِ مَالًا لِأَحَدٍ
أَخَذَهُ فِي الْحِرَابَةِ فَلَا نُبْقِيه فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ غَصْبٌ ، وَنَحْنُ
نُشَاهِدُهُ ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْمُنْكَرِ لَا يَجُوزُ ، فَيَكُونُ بِيَدِ صَاحِبِهِ
الْمُسْلِمِ حَتَّى يَأْخُذَهُ مَالِكُهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ وَأَخِيهِ الَّذِي
يُوقِفُهُ الْإِمَامُ عِنْدَهُ
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ } فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي شَرَحَ
حَقِيقَةِ السَّرِقَةِ : وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى خُفْيَةٍ مِنْ الْأَعْيُنِ
، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ قَطْعِ النَّبَّاشِ مِنْ مَسَائِلِ
الْخِلَافِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ فِي كُتُبِهِ .
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ : السَّارِقُ هُوَ
الْمُعْلِنُ وَالْمُخْتَفِي .
وَقَالَ ثَعْلَبٌ : هُوَ الْمُخْتَفِي ، وَالْمُعْلِنُ
عَادٍ .
وَبِهِ نَقُولُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنْ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ بَيَّنَّا
مَعْنَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ .
وَقُلْنَا
: إنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَجْتَمِعَانِ فِي الِاسْمِ
وَيَرِدَانِ عَلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ وَلِلتَّعْيِينِ ، وَكِلَاهُمَا تَعْرِيفٌ بِمَنْكُورٍ
عَلَى مَرَاتِبَ ؛ فَإِنْ دَخَلَتْ لِتَخْصِيصِ الْجِنْسِ فَمِنْ فَوَائِدِهَا
صَلَاحِيَةُ الِاسْمِ لِلِابْتِدَاءِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
و { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَإِنْ دَخَلَتْ لِلتَّعْيِينِ فَفَوَائِدُهُ
مُقَرَّرَةٌ هُنَالِكَ ، وَهِيَ إذَا اقْتَضَتْ تَخْصِيصَ الْجِنْسِ أَفَادَتْ
التَّعْمِيمَ فِيهِ بِحُكْمِ حَصْرِهَا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ
عَنْهَا وَالْمُتَعَلِّقُ بِهَا صَالِحًا فِي رَبْطِهِ بِهَا دُونَ مَا سِوَاهَا ،
وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً .
وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْوَقْفِ فِي هَذَا الْبَابِ
وَغَيْرِهِ كَمَا أَنْكَرُوا جَمِيعَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْخِيصِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } عَامٌّ فِي كُلِّ
سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَدًّا عَلَى مَنْ
يَرَى أَنَّهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ ، وَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْمُجْمَلَ
، وَلَا الْعَامَّ ؛ فَإِنَّ السَّرِقَةَ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً لُغَةً إذْ
لَيْسَتْ لَفْظَةً شَرْعِيَّةً بِاتِّفَاقٍ رُبِطَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ
تَخْصِيصًا ، وَعُلِّقَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ بِالْحُكْمِ رَبْطًا ، فَقَدْ
أَفَادَتْ الْمَقْصُودَ ، وَجَرَتْ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ وَالْعُمُومِ ، إلَّا
فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
قَرَأَهَا : " وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ " ؛ لِيُبَيِّنَ
إرَادَةَ الْعُمُومِ .
وَاَلَّذِي يَقْطَعُ لَك بِصِحَّةِ إرَادَةِ الْعُمُومِ
أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ
لِحَصْرِ الْجِنْسِ ، وَهُوَ الْعُمُومُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ : وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِالنَّصْبِ
، وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ .
قَالَ سِيبَوَيْهِ هِيَ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ فِي
الْأَمْرِ وَالنَّهْي فِي هَذَا النَّصْبُ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْكَلَامِ تَقَدُّمَ
الْفِعْلَ ، وَهُوَ فِيهِ أَوْجَبُ ، وَإِنَّمَا قُلْت زَيْدًا ضَرَبَهُ ،
وَاضْرِبْهُ مَشْغُولُهُ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَكُونَانِ إلَّا بِالْفِعْلِ
، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِضْمَارِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ .
قَالَ الْقَاضِي : أَصْلُ الْبَابِ قَدْ أَحْكَمْنَاهُ
فِي الْمُلْجِئَةِ ، وَنُخْبِتُهُ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ
وَمَفْعُولِ ، فَإِذَا أَخْبَرْت بِهِمْ أَوْ عَنْهُمْ خَبَرًا غَرِيبًا كَانَ
عَلَى سِتِّ صِيَغٍ : الْأُولَى : ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا .
الثَّانِيَةُ : زَيْدٌ ضَرَبَ عَمْرًا .
الثَّالِثَةُ : عَمْرًا ضَرَبَ زَيْدٌ .
الرَّابِعَةُ : ضَرَبَ عَمْرًا زَيْدٌ .
الْخَامِسَةُ : زَيْدٌ عَمْرًا ضَرَبَ .
السَّادِسَةُ : عَمْرًا زَيْدٌ ضَرَبَ .
فَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ نَظْمٌ مُهْمَلٌ لَا
مَعْنَى لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَجَاءَ مِنْ هَذَا جَوَازُ تَقْدِيمِ
الْمَفْعُولِ ، كَمَا جَازَ تَقَدُّمُ الْفَاعِلِ ، بَيْدَ أَنَّهُ إذَا قَدَّمْت
الْمَفْعُولَ بَقِيَ بِحَالِهِ إعْرَابًا ، فَإِذَا قَدَّمْت الْفَاعِلَ خَرَجَ
عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ فِي الْإِعْرَابِ ، وَبَقِيَ الْمَعْنَى الْمُخْبَرُ عَنْهُ
، وَحَدَثَ فِي تَرْتِيبِ الْخَبَرِ مَا أَوْجَبَ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ ، وَهُوَ
الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى الِابْتِدَاءُ ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْبَابِ
الْأَدَوَاتُ الَّتِي وُضِعَتْ لِتَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَهِيَ كَثِيرَةٌ أَوْ
الْمَقَاصِدِ وَهِيَ أَصْلٌ فِي التَّغْيِيرِ ، وَمِنْهَا وَضْعُ الْأَمْرِ
مَوْضِعَ الْخَبَرِ ، تَقُولُ : اضْرِبْ زَيْدًا .
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ اسْتِدْعَاءَ إيقَاعِ
الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ هُنَالِكَ فَاعِلٌ سَقَطَ فِي إسْنَادِ
الْفِعْلِ ، وَثَبَتَ فِي تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ وَارْتِبَاطِهِ ، وَتَكُونُ
لَهُ صِيغَتَانِ : إحْدَاهُمَا هَذِهِ
.
وَالثَّانِيَةُ : زَيْدًا اضْرِبْ ، كَمَا كَانَ فِي
الْخَبَرِ ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ
صِيغَةٌ ثَالِثَةٌ
، فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ مَفْعُولًا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهُ أَلَّا يَأْتِيَ
إلَّا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ ، وَلَكِنْ رَفَعُوهُ
لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بَعْدُ ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ وُقُوعُهُ
بِهِ فَيُخْبِرُ عَنْهُ ، ثُمَّ يَقْتَضِي الْفِعْلَ فِيهِ ، فَإِنْ اقْتَضَى
وَلَمْ يُخْبِرْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَنْصُوبًا ، وَإِنْ أَخْبَرَ وَلَمْ يَقْتَضِ
لَمْ يَكُنْ إلَّا مَرْفُوعًا ، فَهُمَا إعْرَابَانِ لِمَعْنَيَيْنِ ، فَلَمْ
يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ .
تَتْمِيمٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقُلْت : زَيْدٌ
فَاضْرِبْهُ فَإِنْ نَصَبْته فَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ ، وَإِنْ رَفَعْته فَعَلَى
تَقْدِيرِ الِابْتِدَاءِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى قَصْدِ الْمُخْبِرِ ، وَيَكُونُ
تَقْدِيرُهُ مَعَ النَّصْبِ اضْرِبْ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ ، فَأَمَّا إذَا طَالَ
الْكَلَامُ فَقُلْت : زَيْدًا فَاقْطَعْ يَدَهُ كَانَ النَّصْبُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ
الْكَلَامَ يَطُولُ فَيَقْبُحُ الْإِضْمَارُ فِيهِ لِطُولِهِ .
وَهَذَا قَالَبُ سِيبَوَيْهِ أَفْرَغْنَا عَلَيْهِ .
وَأَقُولُ :
إنَّ الْكَلَامَ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ ،
أَوْ كَانَتْ الْفَاءُ فِيهِ مُنَزَّلَةً عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِهِ فَإِنَّ
الرَّفْعَ فِيهِ أَعْلَى ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ لَهُ ، فَلَا يَبْقَى لِتَقْدِيرِ
الْمَفْعُولِ إلَّا وَجْهٌ بَعِيدٌ ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ عَلَى
الِاخْتِصَاصِ .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ ، لَا طَرِيقَ
لِلْإِجْمَالِ إلَيْهَا ، فَالسَّرِقَةُ تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةِ مَعَانٍ : فِعْلٌ
هُوَ سَرِقَةٌ ، وَسَارِقٌ ، وَمَسْرُوقٌ مُطْلَقٌ ، وَمَسْرُوقٌ مِنْهُ ،
وَمَسْرُوقٌ فِيهِ .
فَهَذِهِ خَمْسَةُ مُتَعَلِّقَاتٍ يَتَنَاوَلُ
الْجَمِيعَ عُمُومُهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ .
أَمَّا السَّرِقَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا .
وَأَمَّا السَّارِقُ ، وَهِيَ [ الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ ] .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : [ السَّارِقُ ] : فَهُوَ
فَاعِلٌ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ
الِاخْتِفَاءِ عَنْ الْأَعْيُنِ ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ شَرَطَتْ فِيهِ سِتَّةَ
مَعَانٍ : الْعَقْلُ : لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يُخَاطَبُ عَقْلًا .
وَالْبُلُوغُ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لَا
يَتَوَجَّه إلَيْهِ الْخِطَابُ شَرْعًا
.
وَبُلُوغُ الدَّعْوَةِ : لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَدِيثَ
عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُثَافَنْ حَتَّى يَعْرِفَ الْأَحْكَامَ ، وَادَّعَى
الْجَهْلَ فِيمَا أَتَى مِنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَظَهَرَ صِدْقُهُ لَمْ
تَجِبْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ كَالْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ
الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إذَا وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ لَا
حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي لَهُ فِيهَا ، وَالْحُدُودُ تَسْقُطُ
بِالشُّبُهَاتِ ، فَهَذَا الْأَبُ وَإِنْ كَانَ جَاءَ بِصُورَةٍ السَّرِقَةِ فِي
أَخْذِ الْمَالِ خِفْيَةً فَإِنَّ لَهُ فِيهِ سُلْطَانَ الْأُبُوَّةِ وَتَبَسُّطَ الِاسْتِيلَاءِ
، فَانْتَصَبَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ ، وَهِيَ [
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ] .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : [ مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ ] : فَهُوَ كُلُّ مَالٍ تَمْتَدُّ
إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ ، وَيَصْلُحُ عَادَةً وَشَرْعًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ ،
فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ لَمْ يَنْفَعْ تَعَلُّقُ الطَّمَاعِيَةِ فِيهِ ،
وَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِفَاعُ مِنْهُ ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَثَلًا .
وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي قَطْعَ سَارِقِ
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِإِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْنَى
فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ ،
فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَطَعَ فِي دِرْهَمٍ .
وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ لَمْ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ كَانَ ذَا شَوَاذٍّ ، وَلَا يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ ، بَلْ يَقْطَعُ
الْمُنْصِفُ أَنَّ سَرِقَةَ التَّافِهِ لَغْوٌ ، وَسَرِقَةَ الْكَثِيرِ قَدْرًا
أَوْ صِفَةً مَحْسُوبٌ ، وَالْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَى الْفَصْلِ فِيهِ بِحَدٍّ
تَقِفُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُ ، فَتَوَلَّى الشَّرْعُ تَحْدِيدَهُ بِرُبْعِ
دِينَارٍ .
وَفِي الصَّحِيحِ ، عَنْ عَائِشَةَ : " مَا طَالَ
عَلَيَّ وَلَا نَسِيت : الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَرَوَى أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا قَدْ بَيَّنَّا
ضَعْفَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ
الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } قُلْنَا
: هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ ، كَمَا جَاءَ
فِي مَعْرَضِ التَّرْغِيبِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ
قَطَاةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } .
وَقِيلَ :
إنَّ هَذَا مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ؛ وَذَلِكَ
أَنَّهُ إذَا ظَفِرَ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ سَرَقَ الْكَثِيرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ؛
فَبِهَذَا تَنْتَظِمُ الْأَحَادِيثُ ، وَيَجْتَمِعُ الْمَعْنَى وَالنَّصُّ فِي نِظَامِ
الصَّوَابِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : وَمِنْهُ كُلُّ مَالٍ يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ
الْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ وَيُبْتَاعُ وَتَمْتَدُّ
إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ ، وَتُبْذَلُ فِيهِ نَفَائِسُ الْأَمْوَالِ .
وَشُبْهَةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ
التَّغَيُّرِ وَالْفَسَادِ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِيهِ لَمَا لَزِمَ
الضَّمَانُ لِمُتْلِفِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَمِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ
أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ ؛ كَجَوَاهِرِ الْأَرْضِ وَمَعَادِنِهَا ، وَشِبْهِ
ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ ،
فَتَنْتَصِبُ إبَاحَةُ أَصْلِهِ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ .
قُلْنَا :
لَا تَضُرُّ إبَاحَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ إذَا طَرَأَ
التَّحْرِيمُ ، كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ قَوْمٍ ، فَإِنَّ وَطْأَهَا
حَرَامٌ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْد خُلُوصِهَا لِأَحَدِهِمْ ، وَلَا تُوجِبُ الْإِبَاحَةُ
الْمُتَقَدِّمَةُ شُبْهَةً .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرِ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ } .
رَوَاهُ قَلِيلَهْ وَأَبُو دَاوُد .
وَانْفَرَدَ قَلِيلَهْ : { وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ
إلَّا فِيمَا أَوَاهُ الْمَرَاحُ
} .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : وَمِنْهُ مَا إذَا سَرَقَ
حُرًّا صَغِيرًا .
قَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَقِيلَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ .
قُلْنَا :
هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَالِ ؛ وَلَمْ يُقْطَعُ
السَّارِقُ فِي الْمَالِ لِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا قُطِعَ لِتَعَلُّقِ النُّفُوسِ
بِهِ ، وَتَعَلُّقِهَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْعَبْدِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ : وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ
يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مَالُهُ مُحْتَرَمًا بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَقَدْ حُرِّمَ مَالُهُ
وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } ، إنَّ مَالَ الزَّوْجَيْنِ مُحْتَرَمٌ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمَا
حَلَالًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَعَاقَدَا بِعَقْدٍ يَتَعَدَّى إلَى
الْمَالِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَأَحَدُ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ : لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَقْتَضِي الْخِلْطَةَ
وَالتَّبَسُّطَ .
وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْكَلَامَ فِيمَا يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ صَاحِبِهِ .
وَالثَّانِي :
أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَالِ زَوْجِهِ تَبَسُّطٌ
لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِوَطْءِ جَارِيَتِهَا ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا ، وَهِيَ : [ الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ] .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ السَّارِقِ مِنْ ذِي رَحِمٍ ] : إنَّ مَنْ
سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مُحْرِمٍ لِمِثْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، خِلَافًا
لِأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الرَّحِمِ لَوْ وَطِئَهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ
الْحَدُّ ، فَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مَالَهَا ، وَشُبْهَةُ الْمَحْرَمِيَّةِ لَا
تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَالِ .
وَإِنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا سَرَقَ الْعَبْدُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ ، أَوْ
السَّيِّدُ مِنْ عَبْدِهِ : فَلَا قَطْعَ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ
لِسَيِّدِهِ ، فَلَمْ يَقْطَعْ أَحَدٌ بِأَخْذِ مَالِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ أَخْذٌ
لِمَالِهِ ، وَإِنَّمَا إذَا سَرَقَ الْعَبْدُ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِإِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ وَبِقَوْلِ الْخَلِيفَةِ : " غُلَامُكُمْ سَرَقَ
مَتَاعَكُمْ " ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ الْأَبِ فِي الْبَابَيْنِ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَهِيَ [
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
] .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : [ مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ] : فَهُوَ الْحِرْزُ
الَّذِي نُصِبَ عَادَةً لِحِفْظِ الْأَمْوَالِ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ .
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْحِرْزِ الْأَثَرُ
وَالنَّظَرُ .
أَمَّا الْأَثَرُ : فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ } .
وَأَمَّا النَّظَرُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمْوَالَ خُلِقَتْ
مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ بِالْحِكْمَةِ
الْأَوَّلِيَّةِ الَّتِي بَيِّنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حُكِمَ فِيهَا
بِالِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ شَرْعًا ، وَبَقِيَتْ الْأَطْمَاعُ
مُعَلَّقَةً بِهَا ، وَالْآمَالُ مُحَوَّمَةً عَلَيْهَا ، فَتَكُفُّهَا
الْمُرُوءَةُ وَالدِّيَانَةُ فِي أَقَلِّ الْخَلْقِ ، وَيَكُفُّهَا الصَّوْنُ وَالْحِرْزُ
عَنْ أَكْثَرِهِمْ ، فَإِذَا أَحَرَزهَا مَالِكُهَا فَقَدْ اجْتَمَعَ بِهَا
الصَّوْنَانِ ، فَإِذَا هُتِكَا فَحُشَتْ الْجَرِيمَةُ فَعَظُمَتْ الْعُقُوبَةُ ؛
وَإِذَا هُتِكَ أَحَدُ الصَّوْنَيْنِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ الضَّمَانُ
وَالْأَدَبُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ الْحِرْزِ فِي
الصَّوْنِ شَيْءٌ ، لَمَّا كَانَ غَايَةَ الْإِمْكَانِ رَكَّبَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ
غَايَةَ الْعُقُوبَةِ مِنْ عِنْدِهِ رَدْعًا وَصَوْنًا ، وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ
عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ؛ لِاقْتِضَاءِ لَفْظِهَا
، وَلَا تَضْمَنُ حِكْمَتُهَا وُجُوبَهُ ، وَلَمْ أَعْلَمْ مَنْ تَرَكَ
اعْتِبَارَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا تَحَصَّلَ لِي مَنْ يُهْمِلُهُ مِنْ
الْفُقَهَاءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ يُذْكَرُ ، وَرُبَّمَا نُسِبَ إلَى مَنْ
لَا قَدْرَ لَهُ ، فَلِذَلِكَ أَعْرَضْت عَنْ ذِكْرِهِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى
أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ
لِعَدَمِ الْحِرْزِ فِيهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَهْتِكْ حِرْزًا لَمْ يُلْزِمْهُ
أَحَدٌ قِطْعًا .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ الشَّرِيكِ ] : لَمَّا ثَبَتَ اعْتِبَارُ
النِّصَابِ فِي الْقَطْعِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ ،
فَاجْتَمَعُوا عَلَى إخْرَاجِ نِصَابٍ مِنْ حِرْزِهِ ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ
بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهِ ، أَوْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ
إخْرَاجَهُ إلَّا بِتَعَاوُنِهِمْ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ
إلَّا بِالتَّعَاوُنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ جَمِيعُهُمْ بِاتِّفَاقٍ مِنْ
عُلَمَائِنَا .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُخْرِجهُ وَاحِدٌ وَاشْتَرَكُوا
فِي إخْرَاجِهِ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
لَا قَطْعَ فِيهِ .
وَالثَّانِي : فِيهِ الْقَطْعُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُقْطَعُ
فِي السَّرِقَةِ الْمُشْتَرِكُونَ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ فِي حِصَّتِهِ نِصَابٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي النِّصَابِ وَمَحَلِّهِ حِينَ لَمْ يَقْطَعْ إلَّا مِنْ سَرَقَ نِصَابًا ،
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ .
وَدَلِيلُنَا : الِاشْتِرَاكُ فِي الْجِنَايَةِ لَا
يُسْقِطُ عُقُوبَتَهَا ، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْلِ ، وَمَا أَقْرَبَ مَا
بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّا قَتَلْنَا الْجَمَاعَةَ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ ، صِيَانَةً
لِلدِّمَاءِ ، لِئَلَّا يَتَعَاوَنَ عَلَى سَفْكِهَا الْأَعْدَاءُ ، وَكَذَلِكَ
فِي الْأَمْوَالِ مِثْلُهُ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَاعَدَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى
أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَطْعِ يَدِ رَجُلٍ قُطِعُوا ، وَلَا
فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا اشْتَرَكُوا فِي السَّرِقَةِ فَإِنْ نَقَبَ وَاحِدٌ
الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ آخَرُ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقَبَ وَلَمْ يَسْرِقْ ، وَالْآخَرَ سَرَقَ مِنْ
حِرْزٍ مَهْتُوكِ الْحُرْمَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ شَارَك فِي النَّقْبِ
وَدَخَلَ وَأَخَذَ قُطِعَ .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنْ كَانَ
بَيْنَهُمَا تَعَاوُنٌ وَاتِّفَاقٌ قُطِعَا ، وَإِنْ نَقَبَ سَارِقٌ وَجَاءَ آخَرُ
لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَدَخَلَ النَّقْبَ وَسَرَقَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ
شَرْطِ الْقَطْعِ وَهُوَ الْحِرْزُ ، وَفَصْلُ التَّعَاوُنِ قَدْ تَقَدَّمَ وَدَلِيلُنَا
عَلَيْهِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي النَّبَّاشِ : قَالَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ :
يُقْطَعُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مَالًا مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ لَا مَالِكَ
لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ السَّرِقَةَ ؛ لِأَنَّهُ فِي
مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ سَاكِنٌ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّرِقَةُ بِحَيْثُ
تُتَّقَى الْأَعْيُنُ ، وَيُتَحَفَّظُ مِنْ النَّاس ، وَعَلَى نَفْي السَّرِقَةِ
عَوَّلَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
وَقُلْنَا : إنَّهُ سَارِقٌ ؛ لِأَنَّهُ تَدَرَّعَ اللَّيْلَ لِبَاسًا ، وَاتَّقَى
الْأَعْيُنَ ، وَتَعَمَّدْ وَقْتًا لَا نَاظِرَ فِيهِ وَلَا مَارَّ عَلَيْهِ ؛
فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتِ تَبَرُّزِ النَّاسِ لِلْعِيدِ وَخُلُوِّ
الْبَلَدِ مِنْ جَمِيعِهِمْ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْقَبْرَ غَيْرُ حِرْزٍ
فَبَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حِرْزَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُمَكَّنَةِ فِيهِ
كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُ الْمَيِّتِ عَارِيًّا ، وَلَا
يُنْفَقُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ دَفْنِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَنَ إلَّا مَعَ
أَصْحَابِهِ ؛ فَصَارَتْ هَذِهِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ ذَلِكَ حِرْزُهُ ،
وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَمْ
نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } لَيَسْكُنَ فِيهَا حَيًّا
وَيُدْفَنَ فِيهَا مَيِّتًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ عُرْضَةٌ لِلتَّلَفِ فَكُلُّ
مَا يَلْبَسُهُ الْحَيُّ أَيْضًا مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ وَالْإِخْلَاقِ بِلِبَاسِهِ
، إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَعْجَلُ مِنْ الثَّانِي .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا سَرَقَ السَّارِقُ وَجَبَ
الْقَطْعُ عَلَيْهِ وَرَدُّ الْعَيْنِ ؛ فَإِنْ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ مَعَ
الْقَطْعِ الْقِيمَةُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ
عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْغُرْمُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ
فِي الْحَالَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ
مَعَ الْغُرْمِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالًا مِنْ اللَّهِ } وَلَمْ يَذْكُرْ غُرْمًا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ
، وَهِيَ نَسْخٌ ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ ،
أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ ، وَأَمَّا بِنَظَرٍ فَلَا يَجُوزُ قُلْنَا : لَا
نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ
فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
} مُطْلَقًا
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْطَى لِذَوِي الْقُرْبَى إلَّا
أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ ؛ فَزَادَ عَلَى النَّصِّ بِغَيْرِ نَصٍّ مِثْلِهِ مِنْ
قُرْآنٍ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ
.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فَعَوَّلُوا عَلَى
أَنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَلَا
يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، كَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ
قَوِيٌّ ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أُقِيمَ عَلَى السَّارِقِ الْحَدُّ فَلَا ضَمَانَ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَنَّ الْإِتْبَاعَ بِالْغُرْمِ
عُقُوبَةٌ ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ ، وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ ، وَعَلَيْهِ
عَوَّلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ ، وَهُوَ كَلَامٌ مُخْتَلُّ اللَّفْظِ .
وَصَوَابُهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
مِنْ أَنَّ الْقَطْعَ وَاجِبٌ فِي الْبَدَنِ ، وَالْغُرْمَ عَلَى الْمُوسِرِ
وَاجِبٌ فِي الْمَالِ ، فَصَارَا
حَقَّيْنِ
فِي مَحَلَّيْنِ .
وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقُلْنَا : يَثْبُتُ الْغُرْمُ
عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، كَمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَطْعَ فِي الْبَدَنِ
وَالْغُرْمَ وَهُوَ مَحَلٌّ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يَجُزْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ
الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةَ فِي مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ ،
وَالْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ يَنْقُضُ هَذَا الْأَصْلَ ؛ لِأَنَّهُ
يُجْمَعُ مَعَ الْقِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ إلَّا أَنْ يَطَّرِدَ
أَصْلُنَا ، فَنَقُولُ : إذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجِبْ
الْمَهْرُ ، وَإِنَّ الْجَزَاءَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُعْسِرٌ ، سَقَطَتْ
الْقِيمَةُ عَنْهُ ، فَحِينَئِذٍ تَطَّرِدُ الْمَسْأَلَةُ وَيَصِحُّ الْمَذْهَبُ ؛
أَمَّا أَنَّهُ قَدْ رَوَى النَّسَائِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَغْرَمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إذَا أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ
الْحَدَّ } .
فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُعْسِرِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : إنْ شَاءَ أَغْرَمَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَإِنْ شَاءَ
قَطَعَهُ وَلَمْ يُغْرِمْهُ ؛ فَجَعَلَ الْخِيَارَ إلَيْهِ ؛ وَالْخِيَارُ إنَّمَا
يَكُونُ لِلْمَرْءِ بَيْنَ حَقَّيْنِ هُمَا لَهُ ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَيَّرَ الْعَبْدُ فِيهِ
كَالْحَدِّ وَالْمَهْرِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : إذَا سَرَقَ الْمَالَ مِنْ الَّذِي سَرَقَهُ وَجَبَ
عَلَيْهِ الْقَطْعُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَرَقَ مِنْ
غَيْرِ الْمَالِكِ ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ
لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ ، وَيَدَ السَّارِقِ كَلَا يَدٍ .
فَإِنْ قِيلَ : اجْعَلُوا حِرْزَهُ كَلَا حِرْزٍ .
قُلْنَا : الْحِرْزُ قَائِمٌ ، وَالْمِلْكُ قَائِمٌ ،
وَلَمْ يَبْطُلْ الْمِلْكُ فِيهِ ، فَيَقُولُوا لَنَا : أَبْطِلُوا الْحِرْزَ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا تَكَرَّرَتْ السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي
الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ قُطِعَ ثَانِيًا فِيهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَلَيْسَ لِلْقَوْمِ دَلِيلٌ يُحْكَى ، وَلَا سِيَّمَا
وَقَدْ قَالَ مَعَنَا : إذَا تَكَرَّرَ الزِّنَا يُحَدُّ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا
اعْتِرَاضَهُمْ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأَبْطَلْنَاهُ .
وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ إذَا مَلَكَ السَّارِقُ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ
] : إذَا مَلَكَ السَّارِقُ قَبْلَ أَنْ يُقْطَعَ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ
بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ سَقَطَ الْقَطْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاَللَّهُ
تَعَالَى يَقُولُ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ
يُسْقِطْهُ شَيْءٌ وَلَا تَوْبَةُ السَّارِقِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّ التَّوْبَةَ
تُسْقِطُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُدُودَهُ ، وَعَزَوْهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ،
وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } .
وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْوُجُوبِ ، فَوَجَبَ
حَمْلُ جَمِيعِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ
.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ
دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَدَّ الْمُحَارِبِ
قَالَ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } .
وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدَّ السَّارِقِ ، وَقَالَ فِيهِ : {
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ }
فَلَوْ كَانَ ظُلْمُهُ فِي الْحُكْمِ مَا غَايَرَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا ، وَيَا مَعْشَرَ
الشَّافِعِيَّةِ ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَيْنَ الدَّقَائِقُ الْفِقْهِيَّةُ
وَالْحِكَمُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَسْتَنْبِطُونَهَا فِي غَوَامِضِ
الْمَسَائِلِ ، أَلَمْ تَرَوْا إلَى الْمُحَارِبِ الْمُسْتَبِدِّ بِنَفْسِهِ ،
الْمُجْتَرِئِ بِسِلَاحِهِ ، الَّذِي يَفْتَقِرُ الْإِمَامُ مَعَهُ إلَى
الْإِيجَافِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، كَيْف أَسْقَطَ جَزَاءَهُ بِالتَّوْبَةِ
اسْتِنْزَالًا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ ، كَمَا فُعِلَ بِالْكَافِرِ فِي مَغْفِرَةِ
جَمِيعِ مَا سَلَفَ اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ .
فَأَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي ، وَهُمْ فِي قَبْضَةِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَتَحْتَ حُكْمِ الْإِمَامِ ، فَمَا الَّذِي يُسْقِطُ عَنْهُمْ
مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ ؟ أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْمُحَارِبِ ،
وَقَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا الْحَالَةُ وَالْحِكْمَةُ ؟
هَذَا لَا
يَلِيقُ بِمِثْلِكُمْ ، يَا مَعْشَرَ الْمُحَقِّقِينَ .
وَأَمَّا مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ ، فَقَدْ {
قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ لَهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ } .
خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ حُكْمُ سَارِقِ الْمُصْحَفِ ] : قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَا يَنْفَعُ
إلَّا أَنْ مَنَعَ بَيْعَهُ وَتَمَلُّكَهُ .
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قُلْنَا لَهُ : إذَا اشْتَرَى
رَجُلٌ وَرَقًا وَكَتَبَ فِيهِ الْقُرْآنَ لَا يُبْطِلُ مَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ
كَلَامِ اللَّهِ مِلْكَهُ ، كَمَا لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهُ لَوْ كَتَبَ فِيهِ حَدِيثَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ
تَرَتَّبْ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْقَطْعِ
.
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }
اعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ
يُتَعَرَّضْ فِي الْقُرْآنِ لِذِكْرِهَا ، وَلَكِنَّ الْعُمُومَ لَمَّا كَانَ
يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ وَنُظَرَاءَهُ ذَكَرْنَا أُمَّهَاتِ النَّظَائِرِ ،
لِئَلَّا يَطُولَ عَلَيْكُمْ الِاسْتِيفَاءُ ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ
التَّخْصِيصِ لِهَذَا الْعُمُومِ ، لِتَعْلَمُوا كَيْفِيَّةَ اسْتِنْبَاطِ
الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَكَذَا عَقَدْنَا فِي كُلِّ
آيَةٍ وَسَرَدْنَا ، فَافْهَمُوهُ مِنْ آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ ؛ إذْ لَوْ
ذَهَبْنَا إلَى ذِكْرِ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ لَصَعُبَ
الْمَرَامُ .
وَمِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا
وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
} ، فَنَذْكُرُ وَجْهَ إيرَادِهَا لُغَةً ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ : ثُمَّ نُفِيضُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَمَامِهَا ، فَإِنَّهَا
عَظِيمَةُ الْإِشْكَالِ لُغَةً لَا فِقْهًا ، فَنَقُولُ : إنْ قِيلَ : كَيْفَ
قَالَ : فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ، وَإِنَّمَا هُمَا يَمِينَانِ " ؟ قُلْت
: لَمَّا تَوَجَّهَ هَذَا السُّؤَالُ وَسَمِعَهُ النَّاسُ لَمْ يَحُلْ أَحَدٌ
مِنْهُمْ بِطَائِلٍ مِنْ فَهْمِهِ
.
أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَتَقَبَّلُوهُ ، وَتَكَلَّمُوا
عَلَيْهِ ، وَتَابَعَهُمْ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ حُسْنَ ظَنٍّ بِهِمْ
مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ لِكَلَامِهِمْ ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الْأَعْضَاءِ
اثْنَانِ ، فَحُمِلَ الْأَقَلُّ عَلَى الْأَكْثَرِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ :
بُطُونُهُمَا وَعُيُونُهُمَا ، وَهُمَا اثْنَانِ ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِثْلَهُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْعَرَبَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ
بَيْنَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَا فِيهِ مِنْهُ اثْنَانِ ،
فَجَعَلَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ جَمْعًا إذَا ثُنِّيَ ، وَمَعْنَى
ذَلِكَ أَنَّهُ وَإِنْ جُعِلَ جَمْعًا فَالْإِضَافَةُ تَثْنِيَةٌ ، لَا سِيَّمَا
وَالتَّثْنِيَةُ
جَمْعٌ ،
وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ اثْنَانِ رَجُلَانِ ، وَلَكِنْ رَجُلَانِ يَدُلُّ
عَلَى الْجِنْسِ وَالتَّثْنِيَةِ جَمِيعًا ، وَذُكِرَ كَذَلِكَ اخْتِصَارًا ،
وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : قُلُوبُهُمَا فَالتَّثْنِيَةُ فِيهِمَا قَدْ بَيَّنَتْ
لَك عَدَدَ قَلْبٍ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ :
وَمَهْمَهَيْنِ قَذْفَيْنِ مَرَّتَيْنِ ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ
الثَّالِثُ : قَالَ سِيبَوَيْهِ : إذَا كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُجْمَعْ إذَا
أَرَدْت بِهِ التَّثْنِيَةَ ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ : وَضَعَا رِحَالَهُمَا ،
وَتُرِيدُ رَحْلَيْ رَاحِلَتَيْهِمَا ، وَإِلَى مَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ
الرَّابِعِ ، وَيَشْتَرِكُ الْفُقَهَاءُ مَعَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ فِي كُلِّ جَسَدٍ
يَدَانِ ، فَهِيَ أَيْدِيهِمَا مَعًا حَقِيقَةٌ ، وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادَ
الْيُمْنَى مِنْ كُلِّ جَسَدٍ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، جَرَى هَذَا الْجَمْعُ عَلَى
هَذِهِ الصِّفَةِ ، وَتُؤَوَّلُ كَذَلِكَ .
الْخَامِسُ :
أَنَّ ذِكْرَ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ عِنْدَ
التَّثْنِيَةِ أَفْصَحُ مِنْ ذِكْرِهِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ مَعَ التَّثْنِيَةِ
؛ فَهَذَا مُنْتَهَى مَا تَحَصَّلَ لِي مِنْ أَقْوَالِهِمْ ، وَقَدْ تَتَقَارَبُ
وَتَتَبَاعَدُ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ عَنْهُمْ
فِي الْخَامِسِ ، مِنْ أَنَّهُمْ بَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ
وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ تُقْطَعُ الْأَيْدِي
وَالْأَرْجُلُ ، فَيَعُودُ قَوْلُهُ
: أَيْدِيَهُمَا إلَى أَرْبَعَةٍ ، وَهِيَ جَمْعٌ فِي
الْآيَتَيْنِ ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ ؛ فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَصَاحَتِهِ ،
وَلَوْ قَالَ : فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمْ لَكَانَ وَجْهًا ؛ لِأَنَّ
السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ لَمْ يُرَدْ بِهِمَا شَخْصَيْنِ خَاصَّةً ، وَإِنَّمَا هُمَا
اسْمًا جِنْسٍ يَعُمَّانِ مَا لَا يُحْصَى إلَّا بِالْفِعْلِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ
، وَلَكِنَّهُ جَمْعٌ لِحَقِيقَةِ الْجَمْعِ فِيهِ .
وَبَيَانُ
مَا قُلْنَا مِنْ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي
ذَلِكَ كَثِيرًا مَآلُهُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تُقْطَعُ
يَمِينُ السَّارِقِ خَاصَّةً ، وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ قَالَهُ
عَطَاءٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَقْطَعُ الْيُسْرَى وَلَا يَعُودُ
عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي رِجْلِ رَجُلٍ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ :
تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ
رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ
رِجْلُهُ الْيُمْنَى ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَلَيْسَ عَلَى غَلَطِهِ
غِطَاءٌ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَبْلَهُ قَالُوا خِلَافَهُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا } ، فَجَاءَ بِالْجَمْعِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَقْوَالِ النُّحَاةِ
قُلْنَا : ذَلِكَ يَكُونُ تَأْوِيلًا مَعَ الضَّرُورَةِ إذَا جَاءَ دَلِيلٌ
يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ ، فَيُرْجَعُ إلَيْهِ ، فَبَطَلَ مَا قَالَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ
حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّمَا سَرَقَ .
قَالَ : اقْطَعُوا يَدَهُ .
قَالُوا :
ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى
عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ كُلُّهَا } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ
يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ ثَالِثَةً
فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ رَابِعَةً فَقَطَعَ رِجْلَهُ } .
أَمَّا النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد فَرَوَيَاهُ عَنْ
الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ .
وَأَمَّا الدَّارَقُطْنِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا ، وَرَوَاهُ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا .
وَقَالَ الْحَارِثُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ
تَمَّمَ
قَطْعَهُ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِهِ فِي الْخَامِسَةِ ؛ وَهَذَا يُسْقِط
قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
فِي قَطْعِ الْيَمِينِ أَنَّهُ قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ
أَمَرَ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَا ؛ بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى .
قَالَ لَهُ : دُونَك .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَثْبُتُ رِجَالًا .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : إذَا
سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، وَاتْرُكُوا
لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا الطَّعَامَ ، وَيَسْتَنْجِي بِهَا مِنْ الْغَائِطِ ،
وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانَ أَقْطَعَ
الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَإِنَّمَا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِعَدَمِ الْيُمْنَى .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : مِنْ تَوَابِعِهَا أَنَّ عُمُومَ
قَوْله تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } يَقْتَضِي قَطْعَ يَدِ
الْآبِقِ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ بُسْرِ
بْنِ أَرْطَاةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ
} .
وَرَوَى النَّسَائِيّ : { فِي الْغَزْوِ } .
فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي السَّفَرِ فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ
عَلَى الْآبِقِ ، وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ ؛ لِأَجْلِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ
الْعَامِّ لَا يُقَالُ فِيهِ يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّاذُّ النَّادِرُ
الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُعَمِّمُ لَفْظَهُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ ، فَضْلًا
عَنْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَصَدَهُ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْغَزْوِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَقَالُوا : إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْغَانِمِينَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَظُّهُ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَلَا يُقْطَعُ وَلَا يُحَدُّ عِنْدَ
بَعْضِ الْعُلَمَاءِ .
وَقِيلَ : يُقْطَعُ وَيُحَدُّ لِعَدَمِ تَعْيِينِ
حَظِّهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ
يُورَثُ عَنْهُ وَتُؤَدَّى مِنْهُ دُيُونُهُ ، فَصَارَ كَالْجَارِيَةِ
الْمُشْتَرَكَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا وَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ فَقَتَلَ السَّارِقُ
رَجُلًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ وَيَدْخُلُ
الْقَطْعُ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ
لِلْمُسْتَحِقَّيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُوَفَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ كَمَا
قَالَ مَالِكٌ : الْقَتْلُ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ .
قُلْنَا : إنَّ الَّذِي نَخْتَارُ أَنَّ حَدًّا لَا
يُسْقِطُ حَدًّا .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ ، هَلْ
هُوَ شَرْعُنَا خَاصَّةً أَمْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ؟ فَقِيلَ : كَانَ شَرْعُ مَنْ
قَبْلَنَا اسْتِرْقَاقَ السَّارِقِ
.
وَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ مُوسَى ؛ فَعَلَى
الْأَوَّلِ الْقَطْعُ فِي شَرْعِنَا نَاسِخٌ لِلرِّقِّ .
وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَوْكِيدًا لَهُ ،
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَدَّ كَانَ مُطْلَقًا فِي
الْأُمَمِ كُلِّهَا قَبْلَنَا ، وَلَمْ يُبَيِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّتَهُ ، إذْ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا
أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا
عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَأَيْمُ
اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } .
الْآيَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْك
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ
مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ
فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ
شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوك
شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْت فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ
يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إنَّا
أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا
اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا
تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ { أَبِي لُبَابَةَ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَانَهُ } .
الثَّانِي
: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ { بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ
، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَكَوَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالُوا لَهُ : إنَّ النَّضِيرَ يَجْعَلُونَ خَرَاجَنَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ خَرَاجِهِمْ .
وَيَقْتُلُونَ مِنَّا مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ ، وَإِنْ
قَتَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنَّا وَدَوْهُ
أَرْبَعِينَ
وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ } .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي { الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ : إنَّ رَجُلًا
مِنَّا وَامْرَأَةً زَنَيَا ؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ فَقَالُوا :
نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ ، إنَّ
فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ ، فَأَتَوْا بِهَا فَوَضَعَ
أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا
بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : ارْفَعْ يَدَكَ .
فَرَفَعَ يَدَهُ ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ .
فَقَالُوا : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ ، فِيهَا آيَةُ
الرَّجْمِ .
فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا }
.
هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ [ وَالْبُخَارِيُّ ] وَمُسْلِمٌ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد
.
قَالَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ :
{ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ : ائْتُونِي
أَعْلَمَ رَجُلَيْنِ فِيكُمْ فَجَاءُوا بِابْنَيْ صُورِيَّا ، فَنَشَدَهُمَا
اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمَرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ قَالَا : نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ
إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ
فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا .
قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟
قَالَ : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا ، فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ .
فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالشُّهُودِ ، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا
مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ
.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرَجْمِهِمَا فَرُجِمَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُخْتَارِ مِنْ
ذَلِكَ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ :
إنَّهَا فِي شَأْنِ أَبِي لُبَابَةَ وَمَا قَالَ عَلِيٌّ
عَنْ النَّبِيِّ لِبَنِي قُرَيْظَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ
قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ ، وَمَا شَكَوْهُ مِنْ التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ
فَإِنَّهُ
ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ تَحْكِيمًا مِنْهُمْ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَكْوًى .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، كِلَاهُمَا فِي وَصْفِ
الْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَكَّمُوهُ ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَ الزَّانِيَيْنِ .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُصَالَحُونَ
، وَعُمْدَةُ الصُّلْحِ أَلَّا يَعْرِضَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ ، وَإِنْ تَعَرَّضُوا
لَنَا وَرَفَعُوا أَمَرَهُمْ إلَيْنَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا رَفَعُوهُ
ظُلْمًا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَةٍ ، أَوْ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرِيعَةُ ؛
فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ
وَشِبْهِهِ لَمْ يُمَكَّنْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِيهِ .
وَإِذَا كَانَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ
وَيَحْكُمُونَنَا فِيهِ وَيَتَرَاضَوْا بِحُكْمِنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ فَإِنَّ
الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ ، وَإِنْ شَاءَ
أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ أَعْرَضَ
.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ
يُعْرِضَ عَنْهُمْ .
قُلْت :
وَإِنَّمَا أَنْفَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ، لِيُحَقِّقَ تَحْرِيفَهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ وَتَكْذِيبَهُمْ
وَكَتْمَهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ
.
وَمِنْهُ صِفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالرَّجْمُ عَلَى مَنْ زَنَا مِنْهُمْ .
وَعَنْهُ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ
: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا
مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } فَيَكُونُ ذَلِكَ
مِنْ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ ، وَحُجَجِهِ الْبَيِّنَةِ ، وَبَرَاهِينِهِ
الْمُثَبِّتَةِ لِلْأُمَّةِ ، الْمُخْزِيَةِ لِلْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِي التَّحْكِيمِ مِنْ الْيَهُودِ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا
جَاءَ الْأَسَاقِفَةُ وَالزَّانِيَانِ فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ حَكَمَ
أَوْ لَا ؟ لِأَنَّ إنْفَاذَ الْحُكْمِ حَقُّ الْأَسَاقِفَةِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : إذَا حَكَّمَ الزَّانِيَانِ
الْإِمَامَ جَازَ إنْفَاذُهُ الْحُكْمَ ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْأَسَاقِفَةِ ؛
وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا
لَنَفَذَ [ حُكْمُهُ ] وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْحَاكِمِ ؛ فَالْكِتَابِيُّونَ
بِذَلِكَ أَوْلَى ، إذْ الْحُكْمُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلْحَاكِمِ عَلَى النَّاسِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ .
وَقَالَ عِيسَى ، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : لَمْ
يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ ، إنَّمَا كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ ، وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ عِيسَى عَنْهُ إنَّمَا نَزَعَ بِهِ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ
{ أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ فَدَكَ ، وَكَانُوا
حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمُ الْمَرْأَةِ
الزَّانِيَةِ يَسْرَةُ ، وَكَانُوا بَعَثُوا إلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ
لَهُمْ : اسْأَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا ، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْمِ
فَخُذُوهُ مِنْهُ وَاقْبَلُوهُ ، وَإِنْ أَفْتَى بِهِ فَاحْذَرُوهُ ، وَهَذِهِ
فِتْنَةٌ أَرَادَهَا اللَّهُ فِيهِمْ فَنَفَذَتْ ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَنْ أَعْلَمُ يَهُودَ
فِيكُمْ ؟ قَالُوا : ابْنُ صُورِيَّا
.
فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فِي فَدَكَ ، فَجَاءَ فَنَشَدَهُ
اللَّهَ ، فَانْتَشَدَ لَهُ وَصَدَّقَهُ بِالرَّجْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ
لَهُ : وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ ، إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ
، ثُمَّ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ ، فَبَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ .
} وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ
بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالُهُمْ عَهْدًا وَأَمَانًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْدَ
ذِمَّةٍ وَدَارٍ لَكَانَ لَهُمْ حُكْمُ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَالْعَدْلُ فِيهِمْ ،
فَلَا حُجَّةَ لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي هَذَا ، وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِقَوْلِهِ : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } .
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْجَاسُوسَ بِقَوْلِهِ : { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك } ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْجَوَاسِيسُ ، وَلَمْ يَعْرِضْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتْ الْأَحْكَامُ ، وَلَا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : لَمَّا حَكَّمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الرُّجُوعُ ، وَكُلُّ مَنْ
حَكَّمَ رَجُلًا فِي الدِّينِ فَأَصْلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ .
قَالَ مَالِكٌ : إذَا حَكَّمَ رَجُلٌ رَجُلًا
فَحُكْمُهُ مَاضٍ ، وَإِنْ رُفِعَ إلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يَكُون جَوْرًا
بَيِّنًا .
وَقَالَ سَحْنُونٌ : يُمْضِيه إنْ رَآهُ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ
وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالطَّالِبِ ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا
يُحَكَّمُ فِيهَا إلَّا السُّلْطَانَ
.
وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ اخْتَصَّ بِهِ
الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيمُ فِيهِ وَنَفَذَ تَحْكِيمُ الْمُحَكَّمِ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : التَّحْكِيمُ جَائِزٌ ، وَهُوَ
غَيْرُ لَازِمٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوَى قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ آحَادُ
النَّاسِ الْوُلَاةَ وَالْحُكَّامَ ، وَلَا يَأْخُذُ آحَادُ النَّاسِ الْوِلَايَةَ
مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَسَنَعْقِدُ فِي تَعْلِيمِ التَّحْكِيمِ مَقَالًا يُشْفِي إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إشَارَتُهُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُحَكَّمٍ فَإِنَّهُ هُوَ
مُفَعَّلٌ مِنْ حَكَّمَ ، فَإِذَا قَالَ : حَكَّمْت ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ
لَغْوًا أَوْ مُفِيدًا ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مُفِيدًا ، فَإِذَا أَفَادَ
فَلَا يَخْلُو أَنْ يُفِيدَ التَّكْثِيرَ كَقَوْلِك : كَلَّمْته وَقَلَّلْته ،
أَوْ يَكُونَ بِمَعْنَى جَعَلْت لَهُ ، كَقَوْلِك : رَكَّبْته وَحَسَّنْته ، أَيْ
جَعَلْت لَهُ مَرْكُوبًا وَحُسْنًا ؛ وَهَذَا يُفِيدُ جَعَلْتُهُ حَكَمًا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ إنَّمَا
هُوَ حَقُّهُمْ لَا حَقُّ الْحَاكِمِ ، بَيْدَ أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى
التَّحْكِيمِ خَرْمٌ لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ وَمُؤَدٍّ إلَى تَهَارُجِ النَّاسِ
تَهَارُجَ الْحُمُرِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ فَاصِلٍ ؛ فَأَمَرَ الشَّرْعُ بِنَصْبِ
الْوَالِي لِيَحْسِمَ قَاعِدَةَ الْهَرَجِ ، وَأَذِنَ فِي التَّحْكِيمِ تَخْفِيفًا
عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّةِ التَّرَافُعِ ، لِتَتِمَّ الْمَصْلَحَتَانِ ،
وَتَحْصُلَ الْفَائِدَتَانِ .
وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ سِوَاهُ لَا يَلْحَظُونِ
الشَّرِيعَةَ بِعَيْنِ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ
وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى الْمَصَالِحِ ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْمَقَاصِدَ ،
وَإِنَّمَا يَلْحَظُونَ الظَّوَاهِرَ وَمَا يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهَا ، وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْقَبَسِ فِي شَرْحِ مُوَطَّأِ مَالِكِ
بْنِ أَنَسٍ .
وَلَمْ أَرْوِ فِي التَّحْكِيمِ حَدِيثًا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ
الْآنَ إلَّا مَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْقَاضِي الْعِرَاقِيُّ ، أَخْبَرَنَا
الْجَوْنِيُّ ، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ ، أَخْبَرَنَا قَلِيلَهْ ،
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ
الْمِقْدَامِ بْنَ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ شُرَيْحٍ ، عَنْ أَبِيهِ { هَانِئٍ قَالَ
: لَمَّا وَفَدَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ
قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ وَهُمْ يُكَنُّونَهُ أَبَا الْحَكَمِ ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ ،
وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ : إنَّ قَوْمِي
إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ ، فَرَضِيَ كِلَا
الْفَرِيقَيْنِ .
فَقَالَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَك مِنْ الْوَلَدِ
؟ قَالَ : لِي شُرَيْحٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ ، وَمُسْلِمٌ .
قَالَ : فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ؟ قَالَ : شُرَيْحٌ .
قَالَ : فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ وَدَعَا لَهُ
وَلِوَلَدِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : كَيْفَ أَنْفَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ؟ : اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ جَوَابُ الْعُلَمَاءِ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ
الْإِسْلَامِ ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَنْ زَنَى مِنْهُمْ وَقَدْ تَزَوَّجَ
عَلَيْهِ الرَّجْمُ ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْإِمَامُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ
الْإِسْلَامُ فِي الْإِحْصَانِ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : حَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَهَادَةِ الْيَهُودِ ، إذْ
شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ، فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا حَتَّى يَقُومَ
الدَّلِيلُ عَلَى تَرْكِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ،
وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا ، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ
الْحَقِّ فِي الدَّلِيلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ؛ قَالَهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ
الْقَاسِمِ .
الثَّالِثُ :
إنَّمَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ ، وَلَا يَحْكُمُ
الْحَاكِمُ الْيَوْمَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ؛ قَالَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي الْمُخْتَارِ : أَمَّا
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِمْ ، وَسَأَلُوهُ عَنْ
أَمْرِهِمْ ، فَفِي هَذَا يَكُونُ النَّظَرُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ،
مُخْبِرًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِيهِ :
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ
فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } وَأَخْبَرَ
أَنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ ، فَقَالَ { فَإِنْ جَاءُوكَ } .
ثُمَّ خَيَّرَهُ فَقَالَ : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
ثُمَّ قَالَ
لَهُ : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَالْقِسْطُ هُوَ
الْعَدْلُ ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ شُهُودٌ مِنَّا
عُدُولٌ ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْكُفَّارِ عَدْلٌ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَفَضِيحَةَ الْيَهُودِ حَسْبَمَا
شَرَحْنَا ؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ .
وَلَوْ نَظَرَ إلَى الْحُكْمِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ
لَمَا أَرْسَلَ إلَى ابْنِ صُورِيَّا ، وَلَكِنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُجُوهُ فِيهِ مِنْ قَبُولِ التَّحْكِيمِ
وَإِنْفَاذِهِ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، وَهِيَ الْحَقُّ حَتَّى
يُنْسَخَ ، وَبِشَهَادَةِ الْيَهُودِ ، وَذَلِكَ دِينٌ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ
بِالْعُدُولِ مِنَّا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ : وَمُحَمَّدٌ مِنْهُمْ ؛ يَحْكُمُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمُطْلَقُهُ فِي قَوْلِهِ : { النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } ، آخِرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ ؛
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَافِرُونَ وَالظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ كُلُّهُ
لِلْيَهُودِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَافِرُونَ لِلْمُشْرِكِينَ ،
وَالظَّالِمُونَ لِلْيَهُودِ ، وَالْفَاسِقُونَ لِلنَّصَارَى ، وَبِهِ أَقُولُ ؛
لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرِ بْنِ
زَيْدٍ ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ .
قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ
عَنْ الْمِلَّةِ ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ .
وَهَذَا يَخْتَلِفُ إنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى
أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ ، وَإِنْ
حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى
أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ
بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ
فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمْ الظَّالِمُونَ } .
فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : [ فِي سَبَبِ النُّزُولِ ] : قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ :
لَمَّا رَأَتْ قُرَيْظَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
حَكَمَ بِالرَّجْمِ وَكَانُوا يُخْفُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ ، قَالُوا : يَا
مُحَمَّد : اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إخْوَاننَا بَنِي النَّضِيرِ ، وَكَانَ
بَيْنَهُمْ دَمٌ ، وَكَانَتْ النَّضِيرُ تَتَعَزَّزُ عَلَى قُرَيْظَةَ فِي
دِمَائِهَا وَدِيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَالُوا : لَا نُطِيعُك فِي الرَّجْمِ ، وَلَكِنَّا
نَأْخُذُ بِحُدُودِنَا الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا ، فَنَزَلَتْ : { وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ،
وَنَزَلَتْ : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْمَعْنَى : فَمَا بَالُهُمْ
يُخَالِفُونَ فَيَقْتُلُونَ النَّفْسَيْنِ بِالنَّفْسِ وَيَفْقَئُونَ
الْعَيْنَيْنِ بِالْعَيْنِ ؛ وَكَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عِنْدَهُمْ الْقِصَاصُ
خَاصَّةً ، فَشَرَّفَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَمَةَ بِالدِّيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : تَعَلَّقَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ : يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ ؛
لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ .
قَالَتْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ : هَذَا خَبَرٌ عَنْ
شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا .
وَقُلْنَا نَحْنُ لَهُ : هَذِهِ الْآيَةُ ، إنَّمَا
جَاءَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ
وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلًا بِرَجُلٍ ، وَنَفْسًا بِنَفْسٍ ،
وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ
أَحْوَالِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فَلَيْسَ لَهُ
تَعَرُّضٌ فِي ذَلِكَ ، وَلَا سِيقَتْ الْآيَةُ لَهُ ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ الْأَلْفَاظُ
عَلَى الْمَقَاصِدِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا عُمُومٌ
يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَبُ مِنْ بَعْضٍ ؛ { عَنْ عَلِيٍّ ، وَقَدْ سُئِلَ : هَلْ
خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ :
لَا ، إلَّا مَا فِي هَذَا ، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ ، وَإِذَا
فِيهِ : الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ
، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } .
وَقَالَ :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }
فَاقْتَضَى لَفْظُ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مُسْلِمٍ
وَكَافِر ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ مَوْجُودٌ بِهِ ، فَلَا تَسْتَوِي
نَفْسٌ مُبِيحُهَا مَعَهَا مَعَ نَفْسٍ قَدْ تَطَهَّرَتْ عَنْ الْمُبِيحَاتِ ،
وَاعْتَصَمَتْ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعِصَمِ .
وَقَدْ ذَكَر بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نُكْتَةً حَسَنَةً
، قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ
أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنْهُمْ تَعَادُلُ نَفْسًا ؛
فَإِذَا الْتَزَمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ فِي مِلَّتِنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي مِلَّتِنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنَّا تُقَابِلُ نَفْسًا ، فَأَمَّا مُقَابَلَةُ كُلِّ نَفْسٍ مِنَّا بِنَفْسٍ مِنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْآيَةِ ، وَلَا مِنْ مَوَارِدِهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ : قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } يُوجِبُ قَتْلَ الْحُرِّ
بِالْعَبْدِ خَاصَّةً .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يُوجِبُ ذَلِكَ أَخْذَ نَفْسِهِ
بِنَفْسِهِ ، وَأَخْذَ أَطْرَافِهِ بِأَطْرَافِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ فِي
الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا .
وَنَخُصُّ هَذَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا
شَخْصَانِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ السَّلَامَةِ
فِي الْخِلْقَةِ فَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَنْفُسِ ، وَيُقَالُ
لِلْآخَرَيْنِ : إنَّ نَقْصَ الرِّقِّ الْبَاقِيَ فِي الْعَبْدِ مِنْ آثَارِ
الْكُفْرِ يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ ؛ فَلَا يَصِحُّ
أَنْ يُؤْخَذَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنْ
السِّلَعِ يَصْرِفُهُ الْحُرُّ كَمَا يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ } يُوجِبُ قَتْلَ الرَّجُلِ [ الْحُرِّ ] بِالْمَرْأَةِ [ الْحُرَّةِ ]
مُطْلَقًا ؛ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاجُعِ ،
فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ خُيِّرَ وَلِيُّهَا ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ
دِيَتَهَا ، وَإِنْ شَاءَ أُعْطِيَ نِصْفَ الْعَقْلِ .
وَقَتَلَ الرَّجُلَ .
وَعُمُومُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ ، فَإِنْ
أَحَبُّوا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ } .
وَالْمَعْنَى يُعَضِّدُهُ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا
قَتَلَ الْمَرْأَةَ فَقَدْ قَتَلَ مُكَافِئًا لَهُ فِي الدَّمِ ، فَلَا يَجِبُ
فِيهِ زِيَادَةٌ كَالرَّجُلَيْنِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا تُقْتَل الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ
؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
قُلْنَا : هَذَا عُمُومٌ تَخُصُّهُ حِكْمَتُهُ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَتَلَ مَنْ قَتَلَ صِيَانَةً لِلْأَنْفُسِ عَنْ الْقَتْلِ
، فَلَوْ عَلِمَ الْأَعْدَاءُ أَنَّهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ
عَنْهُمْ لَقَتَلُوا عَدُوَّهُمْ فِي جَمَاعَتِهِمْ ، فَحَكَمْنَا بِإِيجَابِ
الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ رَدْعًا لِلْأَعْدَاءِ ، وَحَسْمًا لِهَذَا الدَّاءِ ،
وَلَا كَلَامَ لَهُمْ عَلَى هَذَا
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ : إذَا جَرَحَ
أَوْ قَطَعَ الْيَدَ أَوْ الْأُذُنَ ثُمَّ قَتَلَ فُعِلَ بِهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } الْآيَةَ ؛ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا أَخَذَ ، وَيُفْعَلُ
بِهِ كَمَا فَعَلَ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ قَصْدَ بِذَلِكَ الْمُثْلَةَ
فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ مُضَارَبَتِهِ لَمْ
يُمَثَّلْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
التَّشَفِّيَ ، وَإِمَّا إبْطَالَ الْعُضْوِ .
وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَالْقَتْلُ يَأْتِي عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَيْسَ بِقِصَاصٍ [ وَلَا انْتِصَافٍ ] ؛
لِأَنَّ الْمَقْتُولَ تَأَلَّمَ بِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ [ كُلِّهَا ] وَبِالْقَتْلِ
، فَلَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْقِصَاصِ مِنْ أَنْ يَأْلَمَ كَمَا آلَمَ ، وَبِهِ
أَقُولُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَذَكَرَ الْعَيْنَ وَالْأَنْفَ وَالْأُذُنَ
وَالسِّنَّ وَتَرَكَ الْيَدَ ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ
: أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بِهَا يُفْعَلُ [ كُلُّ ] ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ حَالِ الْيَدَيْنِ
، بِخِلَافِ الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ ، فَإِنَّ الْيُسْرَى لَا تُسَاوِي
الْيُمْنَى ؛ فَتَرَكَ الْقَوْلَ فِيهَا لِتَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى : {
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } .
ثُمَّ يَقَعُ النَّظَرُ فِيهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ الْيَدَ بِالْيَدِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ ؛
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ ، وَفِيهِ إشْكَالٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } قَرَأَ بِالرَّفْعِ
وَالنَّصْبِ ، فَالنَّصْبُ إتْبَاعٌ لِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ وَالرَّفْعُ ،
وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى حَالِ النَّفْسِ
قَبْلَ دُخُولِ أَنْ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ .
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا كُتِبَ فِي التَّوْرَاةِ ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } لَا يَخْلُو أَنْ
يَكُونَ فَقَأَهَا ، أَوْ أَذْهَبَ بَصَرَهَا وَبَقِيَتْ صُورَتُهَا ، أَوْ
أَذْهَبَ بَعْضَ الْبَصَرِ .
وَقَدْ أَفَادَنَا كَيْفِيَّةَ الْقِصَاصِ مِنْهَا
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ
بِمِرْآةٍ فَحُمِّيَتْ ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَى الْعَيْنِ الْأُخْرَى قُطْنًا ، ثُمَّ
أُخِذَتْ الْمِرْآةُ بِكَلْبَتَيْنِ فَأُدْنِيَتْ مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى سَالَ
إنْسَانُ عَيْنِهِ .
فَلَوْ أَذْهَبَ رَجُلٌ بَعْضَ بَصَرِهِ فَإِنَّهُ
تُعْصَبُ عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ
وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَصَرُ الْمَضْرُوبِ فَيُعَلَّمَ ، ثُمَّ
تُغَطَّى عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ
وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ ، فَحَيْثُ انْتَهَى الْبَصَرُ عَلَّمَ ، ثُمَّ يُقَاسُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَسَّاحَةِ ، فَكَيْفَ كَانَ الْفَضْلُ نَسَبًا ،
وَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ مَعَ الْأَدَبِ الْوَجِيعِ وَالسِّجْنِ
الطَّوِيلِ ؛ إذْ الْقِصَاصُ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَلَا يَزَالُ
هَذَا يُخْتَبَرُ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ لِئَلَّا يَتَدَاهَى الْمَضْرُوبُ
فَيَنْقُصَ مِنْ بَصَرِهِ ، لِيَكْثُرَ حَظُّهُ مِنْ مَالِ الضَّارِبِ ؛ وَلَا
خِلَافَ فِي هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : لَوْ فَقَأَ أَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ : قِيلَ : لَا قَوَدَ
عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ .
وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ شَاءَ فَقَأَ عَيْنَهُ ، وَإِنْ
شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً
.
وَمُتَعَلَّقُ عُثْمَانَ [ أَنَّهُ ] فِي الْقِصَاصِ
مِنْهُ أَخَذَ جَمِيعَ الْبَصَرِ بِبَعْضِهِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَاوَاةِ .
وَمُتَعَلَّقُ الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى : {
الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَمُتَعَلَّقُ مَالِكٍ أَنَّ الْأَدِلَّةَ لَمَّا
تَعَارَضَتْ خُيِّرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ
أَوْلَى فَإِنَّهُ أَسْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا فَقَأَ صَحِيحٌ عَيْنَ أَعْوَرَ : فَعَلَيْهِ
الدِّيَةُ كَامِلَةً عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : فِيهِ نِصْفُ
الدِّيَةِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ .
وَلَكِنْ عُلَمَاؤُنَا قَالُوا : إنَّ مَنْفَعَةَ الْأَعْوَرِ
بِبَصَرِهِ كَمَنْفَعَةِ السَّالِمِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ
مِثْلُ دِيَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَالُوا : إذَا ضَرَبَ سِنَّهُ فَاسْوَدَّتْ
فَفِيهَا دِيَتُهَا كَامِلَةً ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهَا حُكُومَةٌ ، وَهَذَا
عِنْدِي خِلَافٌ يَئُولُ إلَى وِفَاقٍ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ سَوَادُهَا أَذْهَبَ
مَنْفَعَتَهَا ، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ صُورَتُهَا كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ
وَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ ، فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ .
وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا شَيْءٌ أَوْ
جَمِيعُهَا لَمْ يَجِبْ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ
حُكُومَةٌ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا ضُرِبَ
سِنُّهُ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ
عَنْهُ سَنَدًا وَلَا فِقْهًا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَالَ مَالِكٌ : إذَا أَخَذَ الْكَبِيرُ دِيَةَ ضِرْسِهِ
، ثُمَّ ثَبَتَتْ .
فَلَا يَرُدُّهَا .
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : يَرُدُّهَا ؛ لِأَنَّ
عِوَضَهَا قَدْ ثَبَتَ ، أَصْلُهُ سِنُّ الصَّغِيرِ ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّ هَذَا
ثَبَاتٌ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالنَّادِرِ
كَسَائِرِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، فَلَوْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فَرَدَّهَا
صَاحِبُهَا فَالْتَحَمَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
عَطَاءٌ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ثَانِيَةً ، وَإِنْ رَدَّهَا أَعَادَ كُلَّ
صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ
.
وَكَذَلِكَ
لَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَأَلْصَقَهَا بِحَرَارَةِ الدَّمِ فَالْتَزَقَتْ مِثْلُهُ
، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا .
وَقَالَ عَطَاءٌ : يَجْبُرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى
قَلْعِهَا ؛ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ أَلْصَقَهَا ؛ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ ، وَقَدْ
جَهِلَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ رَدَّهَا وَعَوْدَهَا لِصُورَتِهَا مُوجِبٌ
عَوْدَهَا لِحُكْمِهَا ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَانَتْ فِيهَا لِلِانْفِصَالِ ، وَقَدْ
عَادَتْ مُتَّصِلَةً ، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ لَيْسَتْ صِفَاتٍ لِلْأَعْيَانِ ،
وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ تَعُودُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا
وَإِخْبَارِهِ عَنْهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَسْقُطُ عَنْ قَالِعِ السِّنِّ
دِيَتُهَا ، وَإِنْ رَجَعَتْ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِقَلْعِهَا ،
وَذَلِكَ لَا يَنْجَبِرُ .
قُلْنَا :
إنَّمَا وَجَبَتْ لِفَقْدِهَا وَذَهَابِ مَنْفَعَتِهَا ؛
فَإِذَا عَادَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ عَيْنَهُ فَفَقَدَ
بَصَرَهُ ، فَلَمَّا قَضَى عَلَيْهِ عَادَ بَصَرُهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ قَلْعِ السِّنِّ الزَّائِدِ ] : فَلَوْ كَانَتْ
لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَقُلِعَتْ فَفِيهَا حُكُومَةٌ ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ
الْأَمْصَارِ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ
، وَلَيْسَ فِي التَّقْدِيرِ دَلِيلٌ ، فَالْحُكُومَةُ أَعْدَلُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ قَطْعِ أُذُنَيْ رَجُلٍ ] : قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الَّذِي يَقْطَعُ أُذُنَيْ رَجُلٍ : عَلَيْهِ حُكُومَةٌ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي السَّمْعِ ، وَيُقَاسُ كَمَا يُقَاسُ الْبَصَرُ ، فَإِنْ أَجَابَ جَوَابَ مَنْ يَسْمَعُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ أُحْلِفَ ، لَقَدْ صُمَّتْ مِنْ ضَرْبِ هَذَا ، وَأُغْرِمَ دِيَتَهُ ، وَمِثْلُهُ فِي الْيَمِينِ فِي الْبَصَرِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : اللِّسَانُ : اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْقَوَدِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ، وَالْعِلَّةُ فِي التَّوَقُّفِ عَنْ الْقَوَدِ فِيهِ عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ فَالْقَوَدُ هُوَ الْأَصْلُ ، وَيُخْتَبَرُ بِالْكَلَامِ فَمَا نَقَصَ مِنْ الْحُرُوفِ فَبِحِسَابِهِ مِنْ الدِّيَةِ تَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ .
فَإِنْ
قَلَعَ لِسَانَ أَخْرَسَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ
: [ إذَا قَلَعَ لِسَانُ أَخْرَس
] : فَفِيهِ حُكُومَةٌ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : فِيهِ الدِّيَةُ ، يُقَالُ لَهُ
: إذَا أَسْقَطْت الْقَوَدَ فَلَا يَبْقَى إلَّا الْحُكُومَةُ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ
قَرِينَةُ الْقَوَدِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : [ الْيَمِينُ بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ بِالْيَسَارِ ] :
إذَا قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ أَوْ يَسَارَهُ لَمْ يُؤْخَذْ الْيَمِينُ إلَّا بِالْيَمِينِ
وَالْيَسَارُ إلَّا بِالْيَسَارِ عِنْدَ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : تُؤْخَذُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ
وَالْيَسَارُ بِالْيَمِينِ نَظَرًا إلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي الصُّورَةِ
وَالِاسْمِ ، وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمَنْفَعَةِ ، وَهُمَا فِيهَا
مُتَفَاوِتَتَانِ أَشَدَّ تَفَاوُتًا مِمَّا بَيْنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَإِذَا
لَمْ تُؤْخَذْ الْيَدُ بِالرِّجْلِ فَلَا تُؤْخَذُ يُمْنَى بِيُسْرَى .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ : نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَعْضَاءِ وَتَرَكَ بَاقِيَهَا لِلْقِيَاسِ عَلَيْهَا ، وَكُلُّ عُضْوٍ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا أَمْكَنَ وَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ بَطَلَتْ مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَتْ صُورَتُهُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ ، وَفِيهِ الدِّيَةُ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَوَدِ فِيهِ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْأَعْضَاءِ وَالصُّوَرِ بَيَّنَّاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ حُكْمُ الْجُرُوحِ ] : لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ وَخَصَّ مَا خَصَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : {
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } فَعَمَّ بِمَا نَبَّهَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ : { كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثَنِيَّةَ
جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ ، فَأَتَوْا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ .
فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ : لَا وَاَللَّهِ ، لَا تُكْسَر ثَنِيَّتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : يَا أَنَسُ ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ
وَقَبِلُوا الْأَرْشَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ
لَأَبَرَّهُ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : [ فَهُوَ
كَفَّارَةُ لَهُ هُوَ ] الْمَجْرُوحُ
.
وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْجَارِحُ .
وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ هَلْ هُوَ فِي الضَّمِيرَيْنِ
وَاحِدٌ أَوْ كُلُّ ضَمِيرٍ يَعُودُ إلَى مُضْمَرٍ ثَانٍ ؟ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ
أَنَّهُ يَعُودُ إلَى وَاحِدِ الضَّمِيرَيْنِ جَمِيعًا ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي
أَنَّهُ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ فَأَسْقَطَهُ كَفَّرَ مِنْ ذُنُوبِهِ
بِقَدْرِهِ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ
فَيَهَبُهُ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً ، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً } .
وَاَلَّذِي يَقُولُ : إنَّهُ إذَا عَفَا عَنْهُ
الْمَجْرُوحُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ، فَلَا مَعْنَى
لَهُ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ
لَفَاسِقُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : نَزَلَتْ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَقِيلَ :
{ جَاءَ ابْنُ صُورِيَّا ، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ ،
وَكَعْبُ بْنُ أُسَيْدَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ ، فَقَالُوا لَهُ : نَحْنُ أَحْبَارَ يَهُودَ
، إنْ آمَنَّا لَك آمَنَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ بِك ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ
خُصُومَةٌ فَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْك لِتَقْضِيَ لَنَا عَلَيْهِمْ ، وَنُؤْمِنُ بِك
وَنُصَدِّقُك ؛ فَأَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } } بِمَعْنَى وَاحِدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ قَوْمٌ : هَذَا نَاسِخٌ
لِلتَّخْيِيرِ ، وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ ؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ
أَرْبَعَةٌ مِنْهَا : مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ بِتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ
وَالْمُتَأَخِّرِ .
وَهَذَا مَجْهُولٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ،
فَامْتَنَعَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى ،
وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوك عَنْ بَعْضِ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك } قَالَ قَوْمٌ : مَعْنَاهُ عَنْ كُلِّ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ إلَيْك ، وَالْبَعْضُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكُلِّ قَالَ الشَّاعِرُ :
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَغْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ
حِمَامُهَا وَيُرْوَى : أَوْ يَرْتَبِطْ .
أَرَادَ كُلَّ النُّفُوسِ ، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْله
تَعَالَى : { وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ { بَعْضَ } عَلَى حَالِهَا فِي
هَذِهِ الْآيَةِ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّجْمُ أَوْ الْحُكْمُ الَّذِي
كَانُوا أَرَادُوهُ وَلَمْ يَقْصِدُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الْكُلِّ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ ، وَابْنِ أُبَيٍّ ؛ وَذَلِكَ { أَنَّ
عُبَادَةَ تَبَرَّأَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
حِلْفِ قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ كَانَ لَهُ حِلْفُهُمْ مِثْلُ مَا لِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أُبَيٍّ ، وَتَمَسَّكَ ابْنُ أُبَيٍّ بِهِمْ ، وَقَالَ : إنِّي رَجُلٌ
أَخَافُ الدَّوَائِرَ .
} الثَّانِي
: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُوَازُونَ يَهُودَ قُرَيْظَةَ
وَنَصَارَى نَجْرَانَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رِيفٍ ، وَكَانُوا يَمِيرُونَهُمْ
وَيُقْرِضُونَهُمْ ، فَقَالُوا : كَيْفَ نَقْطَعُ مَوَدَّةَ قَوْمٍ إذَا أَصَابَتْنَا
سَنَةٌ فَاحْتَجْنَا إلَيْهِمْ وَسَعَوْا عَلَيْنَا الْمَنَازِلَ وَعَرَضُوا
عَلَيْنَا الثِّمَارَ إلَى أَجَلٍ ، فَنَزَلَتْ ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ
نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ
} .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ ؛ فَأَمَّا نُزُولُهَا فِي أَبِي لُبَابَةَ فَمُمْكِنٌ
؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى يَهُودِ [ بَنِي قُرَيْظَةَ ] إلَى حَلْقِهِ بِأَنَّهُمْ
إنْ نَزَلُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ
الذَّبْحُ فَخَانَهُ ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا
إلَى ذَلِكَ فِيهِمَا .
وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ ذَكَرَ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ لَا تَخُصُّ بِهِ أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اتَّخَذَ بِالْيَمَنِ كَاتِبًا ذِمِّيًّا ، فَكَتَبَ إلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيًّا فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ ، وَلَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ ، ، فَقَرَأَ : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُوَضَّحًا ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ بَيَانُ تَمَامِ الْآيَةِ ، ثُمَّ جَاءَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى عَامَّةً فِي نَفْيِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ الْكُفَّارِ أَجْمَعِينَ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا
هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَانَ
الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ إلَى
الصَّلَاةِ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ وَسَخِرُوا مِنْهُ ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ
الْأَذَانِ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، أَمَّا إنَّهُ ذُكِرَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى
الِاخْتِصَاصِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ
النَّصَارَى ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ ، إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ :
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : حُرِقَ الْكَاذِبُ ،
فَسَقَطَتْ فِي بَيْتِهِ شَرَارَةٌ مِنْ نَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ ، فَتَعَلَّقَتْ
النَّارُ بِالْبَيْتِ فَأَحْرَقَتْهُ ، وَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ الْكَافِرَ مَعَهُ ؛ فَكَانَتْ
عِبْرَةً لِلْخَلْقِ .
وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ .
وَقَدْ كَانُوا يُمْهِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَسْتَفْتِحُوا فَلَا يُؤَخَّرُوا بَعْدَ
ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَةُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ ، يَغْزُ حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ ، وَإِلَّا أَغَارَ } ؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : رَوَى
الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ
الْمُسْلِمُونَ إذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَتَجَنَّبُونَ الصَّلَاةَ
فَيَجْتَمِعُونَ ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي
ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ النَّصَارَى .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : اتَّخِذُوا قَرْنًا مِثْل قَرْنِ
الْيَهُودِ ؛ فَقَالَ عُمَرُ : أَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بِلَالُ ؛ قُمْ
فَنَادِ بِالصَّلَاةِ } .
وَفِي الْمُوَطَّإِ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ زَيْدٍ قَالَ : { لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَلَ حَتَّى يُضْرَبَ بِهِ فَيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ
طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا ، فَقُلْت لَهُ : يَا عَبْدَ
اللَّهِ ، تَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ ؟ فَقَالَ لِي : مَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ فَقُلْت
: نَدْعُو بِهِ لِلصَّلَاةِ .
قَالَ : أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ
ذَلِكَ ؟ فَقُلْت : بَلَى .
فَقَالَ : تَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ
أَكْبَرُ فَذَكَرَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ .
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت ، فَقَالَ : إنَّهَا لِرُؤْيَا
حَقٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، قُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا
رَأَيْت فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ .
فَفَعَلْت
} .
{ فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ الْأَذَانَ خَرَجَ مُسْرِعًا ،
فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛
وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ ، لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ الَّذِي رَأَى .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ
} .
وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ
اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَذَانِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ
وَمَسَائِلِهِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ
.
الْآيَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَهَى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ مِنْ
طَرِيقَيْهِ : فِي التَّوْحِيدِ ، وَفِي الْعَمَلِ ؛ فَغُلُوُّهُمْ فِي
التَّوْحِيدِ نِسْبَتُهُمْ لَهُ الْوَلَدَ سُبْحَانَهُ ، وَغُلُوُّهُمْ فِي
الْعَمَلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ فِي التَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّكْلِيفِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَتَرْكَبُنَّ
سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى
لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصِّحَاحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ
امْرَأَةً مِنْ اللَّيْلِ تُصَلِّي ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قِيلَ :
الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ كُلَّهُ .
فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ : إنَّ
اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ } .
وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ هَذَا
الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا
قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى }
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِأَنَّا نَتَّبِعُ مَنْ قَبْلَنَا فِي سُنَنِهِ ، وَكَانَتْ الْكَفَرَةُ قَدْ
شَبَّهَتْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ فِي الْوَلَدِ ، وَشَبَّهَتْ هَذِهِ
الْأُمَّةُ الْبَارِيَ تَعَالَى بِالْخَلْقِ فِي مَصَائِبَ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي
الْأُصُولِ لَا تَقْصُرُ فِي الْبَاطِلِ عَنْ الْوَلَدِ ، وَغَلَتْ طَائِفَةٌ فِي
الْعَمَلِ حَتَّى تَرَهَّبَتْ وَتَرَكَتْ النِّكَاحَ ، وَوَاظَبَتْ عَلَى
الصَّوْمِ ، وَتَرَكَتْ الطَّيِّبَاتِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي } .
وَسَنَكْشِفُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ هَاهُنَا
بِالِاخْتِصَارِ ؛ إذْ قَدْ بَيَّنَّاهُ بِالطُّولِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ،
وَخُصُوصًا فِي قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } .
وَهِيَ
: .
الْآيَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ
لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عَلِيٌّ
، وَالْمِقْدَادُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ،
وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ ، جَلَسُوا فِي
الْبُيُوتِ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا كَفِعْلِ النَّصَارَى مِنْ تَحْرِيمِ
طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ
أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ كَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ
النِّسَاءَ وَالزِّينَةَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَتَرَهَّبُوا ، وَلَا
يَأْكُلُوا لَحْمًا وَلَا وَدَكًا ؛ وَقَالُوا : نَقْطَعُ مَذَاكِيرَنَا ، وَنَسِيحُ
فِي الْأَرْضِ ، كَمَا فَعَلَ الرُّهْبَانُ .
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ عَنْهُ ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَنْكِحُ
النِّسَاءَ ، وَيَأْكُلُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ ، وَيُفْطِرُ
وَيَصُومُ ، وَأَنَّهُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي ، وَقَالَ لَهُمْ
: { إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ ، فَشَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
.
أُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ ،
اُعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ ،
وَآتُوا الزَّكَاةَ ، وَصُومُوا رَمَضَانَ ، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا ،
وَاسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ
} .
وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ ، رُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ
.
الثَّانِي : رُوِيَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَوَاحَةَ ضَافَهُ ضَيْفٌ ، فَانْقَلَبَ ابْنُ رَوَاحَةَ وَلَمْ يَتَعَشَّ .
فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ : مَا عَشَّيْتِيهِ ؟ فَقَالَتْ :
كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلًا ، فَانْتَظَرْتُك أَنْ تَأْتِيَ .
قَالَ : حَرَمْت ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي ،
فَطَعَامُك
عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته .
فَقَالَتْ هِيَ : وَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ لَمْ
تُذَقْهُ .
وَقَالَ الضَّيْفُ : هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته
إنْ لَمْ تَذُوقُوهُ .
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ رَوَاحَةَ قَالَ : قَرِّبِي
طَعَامَك ، كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ ، وَغَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحْسَنْت .
وَنَزَلَتْ الْآيَةُ : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ
اللَّهُ .
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ : { فَقَالُوا :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا ، فَنَزَلَتْ : { لَا
يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } } .
الثَّالِثُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
{ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي إذَا أَصَبْت اللَّحْمَ انْتَشَرْت
لِلنِّسَاءِ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَةٌ ، فَحَرَّمْت عَلَيَّ اللَّحْمَ ، فَنَزَلَتْ
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ } إلَى { مُؤْمِنِينَ
} } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : صَحِيحَةُ الْإِرْسَالِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : ظَنَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ طَرِيقُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ رَفْضِ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ وَالنِّسَاءِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } فَكَانَتْ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا
بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَشَرِيعَتُنَا بِالسَّمْحَةِ الْحَنِيفِيَّةِ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ
نَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّبَتُّلِ ، وَلَوْ
أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا } .
وَاَلَّذِي يُوجِبُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمَ ، وَيَقْطَعُ
الْعُذْرَ ، وَيُوَضِّحُ الْأَمْرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ لِنَبِيِّهِ :
{ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ بِفِعْلِهِ ؛ وَشَرَحَ أَنَّهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ،
وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ ، وَلَيْسَ بِتَرْكِ الْمُبَاحَاتِ ، { وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا وَجَدَهُ ،
وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ تُبْتَاعُ بِعِشْرِينَ جَمَلًا ، وَيُكْثِرُ مِنْ الْوَطْءِ
، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ ذَلِكَ } ، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ لِسُنَّةِ
عِيسَى فَلَيْسَ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا إذَا كَانَ الدِّينُ قِوَامًا ، وَلَمْ
يَكُنْ الْمَالُ حَرَامًا ؛ فَأَمَّا إذَا فَسَدَ الدِّينُ عِنْدَ النَّاسِ ،
وَعَمَّ الْحَرَامُ فَالتَّبَتُّلُ وَتَرْكُ اللَّذَّاتِ أَوْلَى ، وَإِذَا وُجِدَ
الْحَلَالُ فَحَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ
وَكَانَ داتشمند رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول : إذْ عَمَّ الْحَرَامُ وَطَبَقَ
الْبِلَادَ ، وَلَمْ يُوجَدْ حَلَالٌ اُسْتُؤْنِفَ الْحُكْمُ ، وَصَارَ الْكُلُّ
مَعْفُوًّا عَنْهُ ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ أَحَقَّ بِمَا فِي يَدِهِ مَا لَمْ
يَعْلَمْ صَاحِبَهُ .
وَأَنَا أَقُولُ : إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنْقَاسٌ إذَا
انْقَطَعَ الْحَرَامُ ، فَأَمَّا وَالْغَصْبُ مُتَمَادٍ ، وَالْمُعَامَلَاتُ
الْفَاسِدَةُ مُسْتَمِرَّةٌ ، وَلَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ مِنْ حَرَامٍ إلَّا إلَى
حَرَامٍ فَأَشْبَهَ الْمَعَاشُ مَنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ قَدِيمُ الْمِيرَاثِ يَأْكُلُ
مِنْ غَلَّتِهُ ، وَمَا رَأَيْت فِي رِحْلَتِي أَحَدًا يَأْكُلُ مَالًا حَلَالًا
مَحْضًا إلَّا سَعِيدًا الْمَغْرِبِيَّ ، كَانَ يَخْرُجُ فِي صَائِفَةِ
الْخِطْمِيِّ ، فَيَجْمَعُ مِنْ زَرِيعَتِهِ قُوَّتَهُ وَيَطْحَنُهَا
وَيَأْكُلُهَا بِزَيْتٍ يَجْلِبُهُ الرُّومُ مِنْ بِلَادِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : إذَا قَالَ : هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَلَالِ
عَدَا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهُ كِذْبَةٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا ،
وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا حَرَّمَهُ .
هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَكْثَرِ
الصَّحَابَةِ ؛ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ الْمُتَقَدِّمُ .
وَفِي حَدِيثِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُمْ { أَنَّهُمْ حَلَفُوا
بِاَللَّهِ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْكَفَّارَةِ } ، فَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي
حَنِيفَةَ بِمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ ، وَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ
حَرَامٌ فَمَوْضِعُهَا سُورَةُ التَّحْرِيمِ ، وَاَللَّهُ يُسَهِّلُ فِي
الْبُلُوغِ إلَيْهَا بِعَوْنِهِ
.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
فِيهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
: الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : لَغْوٌ وَمُنْعَقِدَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا لَغْوَ
الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
.
وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ فَهِيَ
الْمُنْفَعِلَةُ مِنْ الْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : حِسِّيٌّ
كَعَقْدِ الْحَبْلِ ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ ؛ وَهُوَ رَبْطُ الْقَوْلِ
بِالْقَصْدِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ ، يَعْزِمُ بِقَلْبِهِ أَوَّلًا مُتَوَاصِلًا
مُنْتَظِمًا ، ثُمَّ يُخْبِرُ عَمَّا انْعَقَدَ مِنْ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : صُورَةُ الْيَمِينِ اللَّغْوِ
وَالْمُنْعَقِدَةِ عَلَى هَذَا وَاحِدَةٌ ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا
: قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَلْتَزِمَ بِذَلِكَ الِاحْتِفَاءِ ، وَنَكْشِفَ عَنْهُ
الْخَفَاءَ ، فَنَقُولُ : إنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ مَا قُلْنَاهُ .
وَاللَّغْوَ ضِدُّهُ وَالْيَمِينَ اللَّغْوَ سَبْعُ
مُتَعَلِّقَاتٍ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ : الْمُتَعَلِّقُ الْأَوَّلُ : الْيَمِينُ
مَعَ النِّسْيَانِ ، فَلَا شَكَّ فِي إلْغَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذْ قَصَدَ زَيْدًا
فَتَلَفَّظَ بِعَمْرٍو فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ قَصْدِهِ ،
فَهِيَ لَغْوٌ مَحْضٌ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ
فَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ يُحْكَى
.
وَالْمُتَعَلِّقُ الثَّالِثُ : فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ
عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا ، فَيَنْزِلْ بِهِ كَذَا ، فَهَذَا قَوْلٌ
لَغْوٌ فِي طَرِيقِ الْكَفَّارَةِ ، وَلَكِنَّهُ مُنْعَقِدٌ فِي الْعَقْدِ
مَكْرُوهٌ ، وَرُبَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا
يَدْعُوَنَّ
أَحَدُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ ، فَرُبَّمَا صَادَفَ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ
فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهَا } .
وَالْمُتَعَلِّقُ الرَّابِعُ : فِي يَمِينِ
الْمَعْصِيَةِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ
تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عِبَادَةً ، وَالْحَالِفَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ
تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ مَعْصِيَةً ، وَيُقَالُ لَهُ : لَا تَفْعَلْ فَكَفَّرَ ،
فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ فَجَرَ فِي إقْدَامِهِ وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ
قَصَدَ بِقَلْبِهِ الْفِعْلَ أَوْ الْكَفَّ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ يَتَأَتَّى
فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
.
وَهَذَا ظَاهِرٌ .
وَالْمُتَعَلِّقُ الْخَامِسُ : فِي يَمِينِ الْغَضَبِ
مَوْضِعُ فِتْنَةٍ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ : يَمِينُ الْغَضَبِ لَا
يَلْزَمُ ، وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى حَدِيثٍ يُرْوَى : { لَا يَمِينَ فِي
إغْلَاقٍ } ، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ ، وَالْإِغْلَاقُ : الْإِكْرَاهُ ؛ لِأَنَّهُ
تُغْلِقُ الْأَبْوَابَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَتَرُدُّهُ إلَى مَقْصِدِهِ ، وَقَدْ { حَلَفَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضِبًا أَلَّا يَحْمِلَ
الْأَشْعَرِيِّينَ وَحَمَلَهُمْ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ إنِّي
لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي } .
وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ جِدًّا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ : لَا
وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ
.
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :
نَزَلَتْ : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } فِي
قَوْلِ الرَّجُلِ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ .
قُلْنَا : هَذَا صَحِيحٌ ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَكْثَرَ
الرَّجُلُ فِي يَمِينِهِ مِنْ قَوْلِ
: لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ، عَلَى
أَشْيَاءَ يَظُنُّهَا كَمَا قَالَ ، فَتَخْرُجُ بِخِلَافِهِ .
أَوْ عَلَى حَقِيقَةٍ ، فَهِيَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ :
قِسْمًا يُظَنُّ وَقِسْمًا يُعْقَدُ ، فَلَا يُؤَاخَذُ مِنْهَا فِيمَا وَقَعَ
عَلَى ظَنٍّ ، وَيُؤَاخَذُ فِيمَا عَقَّدَ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ
أَحَدٌ
أَنَّ قَوْلَهُ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ، فِيمَا يَعْتَقِدُهُ
وَيُعَقِّدُهُ أَنَّهُ لَغْوٌ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِيهِ وَالتَّهَافُتِ
بِهِ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ } فَنُهِيَ عَنْهَا وَلَا يُؤَاخَذُ إذَا فَعَلَهَا .
هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ الْقَوْلُ اللَّغْوُ ،
وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَأَنَّهُ
الْيَمِينُ عَلَى ظَنٍّ يَخْرُجُ بِخِلَافِهِ .
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ فِي أَيِّ قِسْمٍ هِيَ ؟ : قُلْنَا هِيَ مَسْأَلَةٌ
عُظْمَى وَدَاهِيَةٌ كُبْرَى تَكَلَّمَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ، وَقَدْ أَفَضْنَا
فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
وَوَجْهُ إشْكَالِهَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لَا
كَفَّارَةَ فِيهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ ، فَلَا تَقَعُ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ
، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ الْمُنْعَقِدَةِ ،
تَلْزَمُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ
.
وَحَلُّهُ طَوِيلٌ ؛ اخْتِصَارُهُ أَنَّ الْآيَةَ
وَرَدَتْ بِقِسْمَيْنِ : لَغْوٌ ، وَمُنْعَقِدَةٌ خَرَجَتْ عَلَى الْغَالِبِ فِي
أَيْمَانِ النَّاسِ ؛ فَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ فَلَا يَرْضَى بِهَا ذُو
دِينٍ أَوْ مُرُوءَةٍ ، وَيَحِلُّ الْإِشْكَالُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قِسْمَيْ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ ، فَدَعْ مَا
بَعْدَهَا يَكُونُ مِائَةَ قِسْمٍ فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ مُنْعَقِدَةٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ
بِالْقَلْبِ ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى .
قُلْنَا : عَقْدُ الْقَلْبِ إنَّمَا يَكُونُ عَقْدًا
إذَا تُصُوِّرَ حِلُّهُ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي صَوَّرَهُ
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مَوْجُودٌ فِي يَمِينِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَا
كَفَّارَةَ فِيهَا ؛ فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَصْدِ لَا يَكْفِي فِي
الْكَفَّارَةِ ، هَذَا وَقَدْ فَارَقَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الْحِلَّ .
وَكَيْفَ تَنْعَقِدُ ؟ وَقَدْ مَهَدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي حَقِيقَةِ الْيَمِينِ : قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ ،
وَهِيَ رَبْطُ الْعَقْدِ بِالِامْتِنَاعِ وَالتَّرْكِ أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى
فِعْلٍ بِمَعْنَى مُعَظَّمٍ حَقِيقَةً أَوْ اعْتِقَادًا .
وَالْمُعَظَّمُ حَقِيقَةً ، كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا
دَخَلْت الدَّارَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ
.
وَالْمُعَظَّمُ اعْتِقَادًا ، كَقَوْلِهِ : إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ .
وَالْحُرِّيَّةُ مُعَظَّمَةٌ عِنْدَهُ ، لِاعْتِقَادِهِ
عَظِيمَ مَا يَخْرُجُ عَنْ يَدِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالطَّلَاقِ .
وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } .
فَسَمَّى الْحَالِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ حَالِفًا .
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ :
إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ،
وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ النَّذْرِ لَا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ .
وَالنَّذْرُ يَمِينٌ حَقِيقَةً ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَفَّارَةُ النَّذْرِ
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : إذَا قَالَ : أَقْسَمْت عَلَيْك ، أَوْ أَقْسَمْت لَيَكُونَنَّ
كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا إذَا قَصَدَ بِاَللَّهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى يُذْكَرَ
بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ؛ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ ،
فَلَا يَكُونُ يَمِينًا .
قُلْنَا :
إنْ كَانَ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ فَقَدْ نَوَاهُ ،
وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ
مَا نَوَى } .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا
وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى فَهِيَ يَمِينٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا قَالَ : وَعِلْمِ
اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا .
وَظَنَّ قَوْمٌ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَهُ
أَنَّهُ يُنْكِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ قَالَ : إذَا حَلَفَ : وَقُدْرَةِ اللَّهِ كَانَتْ يَمِينًا .
وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ
الْعِلْمَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْلُومِ ، وَهُوَ الْمُحْدَثُ ، فَلَا
يَكُونُ يَمِينًا ، وَذُهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ أَيْضًا تَنْطَلِقُ عَلَى
الْمَقْدُورِ ، وَكُلُّ كَلَامٍ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ فَهُوَ حُجَّتُنَا فِي
الْمَعْلُومِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ : وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : إذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلِيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَلِأَنَّ هَذَا يُنْتَقَضُ بِمَنْ قَالَ : وَآدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ ، فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } فِيهِ
ثَلَاثُ قِرَاءَاتِ : عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ ، وَعَقَدْتُمْ
بِتَخْفِيفِ الْقَافِ ، وَعَاقَدْتُمْ بِالْأَلِفِ .
فَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ أَضْعَفُهَا رِوَايَةً وَأَقْوَاهَا
مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ فَعَلْتُمْ مِنْ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَإِذَا قُرِئَ عَاقَدْتُمْ فَهُوَ فَاعَلْتُمْ ، وَذَلِكَ
يَكُونُ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي مِنْ حَلَفَ لِأَجْلِهِ فِي
كَلَامٍ وَقَعَ مَعَهُ ، وَقَدْ يَعُودُ ذَلِكَ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ
فَإِنَّهُ رَبَطَ بِهِ الْيَمِينَ ، وَقَدْ يَكُونُ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ ،
كَقَوْلِك : طَارَقَ النَّعْلَ ، وَعَاقَبَ اللِّصَّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ
فِي اللِّصِّ خَاصَّةً .
وَإِذَا قَرَأَ عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ فَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: قَالَ مُجَاهِدٌ : تَعَمَّدْتُمْ
.
الثَّانِي : قَالَ الْحَسَنُ : مَعْنَاهُ مَا تَعَمَّدْت
بِهِ الْمَأْثَمَ فَعَلَيْك فِيهِ الْكَفَّارَةُ .
الثَّالِثُ :
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : التَّشْدِيدُ يَقْتَضِي
التَّكْرَارَ ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا كَرَّرَ
الْيَمِينَ .
الرَّابِعُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : التَّشْدِيدُ
لِلتَّأْكِيدِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ :
مَا تَعَمَّدْتُمْ فَهُوَ صَحِيحٌ يَعْنِي مَا قَصَدْتُمْ إلَيْهِ احْتِرَازًا
مِنْ اللَّغْوِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ مَا تَعَمَّدْتُمْ فِيهِ
الْمَأْثَمَ فَيَعْنِي بِهِ مُخَالَفَةَ الْيَمِينِ ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ
الْكَفَّارَةُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَسَنَانِ يَفْتَقِرَانِ إلَى تَحْقِيقٍ ،
وَهُوَ بَيَانُ وَجْهِ التَّشْدِيدِ ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَهُ عَلَى
التَّكْرَارِ ، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ لِضَعْفِهِ .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { وَإِنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ
فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت
عَنْ يَمِينِي } .
فَذَكَرَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي
الْيَمِينِ
الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّرْ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ : إنَّ التَّشْدِيدَ فِي
التَّأْكِيدِ مَحْمُولٌ عَلَى تَكْرَارِ الصِّفَاتِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا : "
وَاَللَّهِ " يَقْتَضِي جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ
الْعُلْيَا ، فَإِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ :
وَاَللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ التَّغْلِيظِ
بِالْأَلْفَاظِ ؟ قُلْنَا : لَا تَغْلِيظَ عِنْدَنَا بِالْأَلْفَاظِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَإِنْ غَلَّظْنَا فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا
لَيْسَ بِمُغَلَّظٍ لَيْسَ بِيَمِينٍ ، وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى الْإِرْهَابِ عَلَى
الْحَالِفِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ اللَّهَ تَعَالَى حَدَثَ لَهُ غَلَبَةُ
حَالٍ مِنْ الْخَوْفِ ، وَرُبَّمَا اقْتَضَتْ لَهُ رَعْدَةً ، وَقَدْ يَرْهَبُ
بِهَا عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلْيَهُودِ : { وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } فَأَرْهَبَ عَلَيْهِمْ
بِالتَّوْحِيدِ ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ .
وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّشْدِيدَ
عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْقِدُ عَلَى الْمَعْنَى بِالْقَصْدِ
إلَيْهِ ، ثُمَّ يُؤَكِّدُ الْحَلِفَ بِقَصْدٍ آخَرَ ، فَهَذَا هُوَ الْعَقْدُ
الثَّانِي الَّذِي حَصَلَ بِهِ التَّكْرَارُ أَوْ التَّأْكِيدُ ، بِخِلَافِ
اللَّغْوِ فَإِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ وَفَاتَهُ التَّأْكِيدُ بِالْقَصْدِ
الصَّحِيحِ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : الْيَمِينُ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقْتَضِي تَحْرِيمَ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَلْخِيصِ
الطَّرِيقَتَيْنِ الْعِرَاقِيَّةِ وَالْخُرَاسَانِيَّة عَلَى التَّمَامِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَالَ : حَرَّمْت عَلَى
نَفْسِي هَذَا الطَّعَامَ ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛
لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ .
وَلَمَّا رَأَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ مَسْأَلَةَ أَبِي
حَنِيفَةَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ مُرَكَّبَةٌ عَلَى الْيَمِينِ أَنْكَرُوا لَهُ
أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ ، وَكَانَ هَذَا لِأَنَّ النُّظَّارَ تَحْمِلُهُمْ
مُقَارَعَةُ الْخُصُومِ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمُنَاقَضَاتِ وَتَرْكِ
التَّحْقِيقِ ، وَالنَّظَّارُ الْمُحَقِّقُ يَتَفَقَّدُ الْحَقَائِقَ ، وَلَا
يُبَالِي عَلَى مَنْ دَار النَّظَرُ ، وَلَا مَا صَحَّ مِنْ مَذْهَبٍ .
وَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ
فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَدْ مَنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ حَتَّى يُكَفِّرَ ، فَإِنْ
أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهَا ؛
وَالِامْتِنَاعُ هُوَ التَّحْرِيمُ بِعَيْنِهِ ، وَالْبَارِي تَعَالَى هُوَ
الْمُحَرِّمُ وَهُوَ الْمُحَلِّلُ ، وَلَكِنَّ تَحْرِيمَهُ يَكُونُ ابْتِدَاءً
كَمُحَرَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ يُعَلِّقُهَا عَلَيْهِ
مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ ، كَتَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ ، وَالتَّحْرِيمِ
بِالْيَمِينِ .
وَيَرْفَعُ التَّحْرِيمُ الْكَفَّارَةَ مَفْعُولَةً أَوْ
مَعْزُومًا عَلَيْهَا .
وَيَرْفَعُ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ النِّكَاحَ بِحَسَبِ
مَا رَتَّبَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَبَيَّنَ مِنْ الشُّرُوطِ .
هَذَا لُبَابُهُ ، وَتَمَامُهُ فِي التَّلْخِيصِ ،
فَلْيُنْظَرْ فِيهِ [ بَاقِي قِسْمَيْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ فِيهِ لَغُنْيَةُ
الْأَلْبَابِ ] .
وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا
قَدْ اجْتَمَعُوا وَاعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الْأَطَايِبِ مِنْ الطَّعَامِ وَالزِّينَةِ مِنْ الثِّيَابِ وَاللَّذَّةِ مِنْ النِّسَاءِ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَلِأَجْلِهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمْ ؛ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَحْلِفُوا ، وَلَكِنَّهُمْ اعْتَقَدُوا ، فَقَدْ دَخَلَتْ مَسْأَلَتُهُمْ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُلْحِقَ قَوْلَهُ : حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ ، بِقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت ، تَبَيَّنَ لَكُمْ نُقْصَانُ هَذَا الْإِلْحَاقِ وَفَسَادُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ حَرَّمَ وَأَكَّدَ التَّحْرِيمَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا قَالَ : حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ ، فَتَحْرِيمُهُ وَحْدَهُ دُونَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ يَلْحَقُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَقْرُونِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ إسْقَاطِهِ هَذَا الْإِلْحَاقَ ؟ لَا يَخْفَى تَهَاتُرُهُ عَلَى أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : إذَا لَمْ يُؤَكِّدْ الْيَمِينَ
أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ، وَإِذَا أَكَّدَهَا أَعْتَقَ رَقَبَةً .
قِيلَ لِنَافِعٍ : مَا التَّأْكِيدُ ؟ قَالَ : أَنْ
تَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ مِرَارًا ؛ وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا يَشْهَدُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ
الْأَثَرِ وَلَا مِنْ النَّظَرِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : إذَا
انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ كَمَا قَدَّمْنَا حَلَّتْهَا الْكَفَّارَةُ أَوْ
الِاسْتِثْنَاءُ ، وَكِلَاهُمَا رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّهُ
يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ نَسْقًا عَلَيْهَا لَا يَكُونُ مُتَرَاخِيًا
عَنْهَا .
الثَّانِي : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ : يَكُونُ
مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اعْتِقَادًا أَوْ بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْهَا ، فَإِنْ بَدَا
لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُدْرِكُ الْيَمِينَ الِاسْتِثْنَاءَ
[ وَلَوْ ] بَعْدَ سَنَةٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } إلَى آخِرِ
الْآيَةِ إلَى قَوْلِهِ : { مُهَانًا
} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ عَامٍ
نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ تَابَ
} .
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى
أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَلْ يَحِلُّ الْيَمِينَ بَعْدَ عَقْدِهَا [ أَوْ
يَمْنَعُهَا مِنْ الِانْعِقَادِ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِحِلِّ
الْيَمِينِ ] ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
إنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهَ
} [ فَجَاءَ ] فِيهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ
الْيَمِينِ لَفْظًا فَكَذَلِكَ يَكُونُ عَقْدًا .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخَارِجٌ عَنْ
اللُّغَةِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ تَابَ }
فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي
لَوْحِهِ ؛ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولُهَا لِحِكْمَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى
ذَلِكَ فِيهَا ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ؛ أَمَّا إنَّهُ يَتَرَكَّبُ عَلَيْهَا
فَرْعٌ حَسَنٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ
، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ، وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ
الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ ، وَاسْتَثْنَى فِي الْيَمِينِ
الثَّانِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَيْضًا مَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ
الَّذِي
يَرْفَعُ الْيَمِينَ لِمُدَّةٍ وَلِسَبَبٍ أَوْ لِمَشِيئَةِ أَحَدٍ ، وَلَمْ
يُظْهِرْ شَيْئًا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ إرْهَابًا عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ ،
فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينَانِ عَلَيْهِ وَهَذَا فِي
الطَّلَاق مَا لَمْ تَحْضُرْهُ الْبَيِّنَةُ ، فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَةٌ لَمْ
يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَاهُ ، لِئَلَّا يَكُونَ نَدَمًا .
وَقَدْ تَيَقَّنَّا التَّحْرِيمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ،
فَلَا يَنْفَعُهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاءَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَافِعًا
لَهُ وَحْدَهِ إذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا .
نُكْتَةٌ : كَانَ أَبُو الْفَضْلِ الْمَرَاغِيُّ يَقْرَأُ
بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ، فَكَانَتْ الْكُتُبُ تَأْتِي إلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ ،
فَيَضَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ ، وَلَا يَقْرَأُ مِنْهَا وَاحِدًا مَخَافَةَ أَنْ
يَطَّلِعَ فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجُهُ أَوْ يَقْطَعُ بِهِ عَنْ طَلَبِهِ ،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ ، وَقَضَى غَرَضًا مِنْ الطَّلَبِ ،
وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ شَدَّ رَحْلَهُ ، وَأَبْرَزَ كُتُبَهُ ، وَأَخْرَجَ
تِلْكَ الرَّسَائِلِ وَقَرَأَ مِنْهَا مَا لَوْ أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهَا قَرَأَهَا
فِي وَقْتِ وُصُولِهَا مَا تَمَكَّنَ بَعْدَهَا مِنْ تَحْصِيلِ حَرْفٍ مِنْ
الْعِلْمِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ قاشه ،
وَخَرَجَ إلَى بَابِ الْحَلْبَةِ طَرِيقِ خُرَاسَانَ ، وَتَقَدَّمَهُ الْكَرِيُّ بِالدَّابَّةِ
، وَأَقَامَ هُوَ عَلَى فَامِيٍّ يَبْتَاعُ مِنْهُ سُفْرَتَهُ ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ
يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ إذْ سَمِعَهُ يَقُولُ لِفَامِيٍّ آخَرَ : أَيْ فُلَ ،
أَمَا سَمِعْت الْعَالِمَ يَقُولُ يَعْنِي الْوَاعِظَ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ ، لَقَدْ اشْتَغَلَ بَالِي
بِذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ سَمِعْته يَقُولُهُ : وَظَلَلْتُ فِيهِ مُتَفَكِّرًا ؛
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ : { وَخُذْ
بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } .
وَمَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ
حِينَئِذٍ : قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ فَلَمَّا سَمِعْته يَقُولُ ذَلِكَ قُلْت :
بَلَدٌ يَكُونُ الْفَامِيُّونَ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ
الْمَرْتَبَةِ
أَخْرُجُ عَنْهُ إلَى الْمَرَاغَةِ ؟ لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا ؛ وَاقْتَفَى أَثَرَ
الْكَرِيِّ ، وَحَلَّلَهُ مِنْ الْكِرَاءِ ، وَصَرَفَ رَحْلَهُ .
وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي الْأَفْضَلِ : مِنْ اسْتِمْرَارِ الْبِرِّ فِي
الْيَمِينِ أَوْ الْحِنْثِ إلَى الْكَفَّارَةِ : فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { لَأَنْ يَلِجَ
أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ
يُعْطِيَ عَنْهَا كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْتِيَ أَمْرًا لَا يَجُوزُ فَالْبِرُّ وَاجِبٌ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي الصَّحِيحَيْنِ حِينَ { نَبَذَ
خَاتَمَ الذَّهَبِ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا } .
وَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَكْرُوهٍ فَالْبِرُّ مَكْرُوهٌ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى وَاجِبٍ عَصَى وَالْحِنْثُ وَاجِبٌ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُبَاحٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ
إلَيْهِ : فَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ مُضِرًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِنْثُ .
وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ مَنْفَعَةٌ اُسْتُحِبَّ لَهُ
الْحِنْثُ .
وَفِيهِ جَاءَ قَوْلُهُ : { لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ
فِي أَهْلِهِ بِيَمِينِهِ } إلَى آخِرِهِ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ : لِعُلَمَائِنَا رِوَايَتَانِ
: إحْدَاهُمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : لَا يَجُوزُ ؛
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
.
وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ قَدْ أَفَضْنَا فِيهَا عِنْدَ
ذِكْرِنَا مَسَائِلَ الْخِلَافِ بِالتَّحْقِيقِ الْكَامِلِ ، وَهَا هُنَا مَا
يَحْتَمِلُ بَعْضَ ذَلِكَ ، فَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ
الْقُرْآنِ : قَالَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } ، فَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ
الْحَلِفُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَّا وَمِنْهُمْ :
مَعْنَاهُ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ
لِرَفْعِ الْإِثْمِ ، وَمَا لَمْ يَحْنَثْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَا يُرْفَعُ ،
فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَرْفَعُ الْمُسْتَقْبَلَ
، وَإِنَّمَا تَرْفَعُ الْمَاضِيَ مِنْ الْإِثْمِ ، فَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه
ظَاهِرُ قَوْلِنَا : الْكَفَّارَةُ ، وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تُقَدَّرُ
الْآيَةُ بِقَوْلِهِ : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ
وَحَنِثْتُمْ .
وَتَعَلَّقَ الَّذِينَ جَوَّزُوا التَّقْدِيمَ بِأَنَّ
الْيَمِينَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : {
ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } فَأَضَافَ الْكَفَّارَةَ إلَى
الْيَمِينِ .
وَالْمَعَانِي تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا وَأَكَّدُوا
ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: أَنَّ الْحِنْثَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ،
كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا جَاءَ فُلَانٌ غَدًا مِنْ سَفَرِهِ ، وَلَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ
غَدًا .
الثَّانِي : أَنَّ شُهُودَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ عَلَى
الزَّوْجِ إذَا رَجَعُوا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصَّدَاقُ ، وَلَوْلَا كَوْنُ
الْيَمِينِ سَبَبًا مَا ضَمِنُوا مَا لَا تَعَلُّقَ بِهِ بِالتَّفْوِيتِ ؛ لِأَنَّ
التَّفْوِيتَ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ
الْحِنْثُ لَا بِالْيَمِينِ .
وَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي حَدِيثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنْ النَّظَرِ فِي الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى ، وَهِيَ
الْمَحِلُّ الثَّانِي ، فَوَجَدْنَا الْآثَارَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ
مُخْتَلِفَةً فِي ذَلِكَ : رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، وَأَبُو
هُرَيْرَةَ ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ قَالَ أَبُو
مُوسَى : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِنِّي
إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا
مِنْهَا إلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ، وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } .
وَقَدْ رُوِيَ لَنَا { فَلِيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ
وَلْيَفْعَلْ } .
قَالَ عَدِيٌّ : فَلْيُكَفِّرْهَا وَلِيَأْتِ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ ؛ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْحِنْثِ أَوْلَى ؛
لِأَنَّا إذَا رَدَدْنَا حَدِيثَ تَقْدِيمِ الْحِنْثِ إلَى حَدِيثِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ
يُسْقِطُهُ ، وَرَدُّ حَدِيثِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ إلَى تَقْدِيمِ الْحِنْثِ
يُثْبِتُهُمَا جَمِيعًا .
وَأَمَّا الْمَعَانِي فَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ ، فَمَنْ
أَرَادَ التَّلْخِيصَ مِنْهَا فَلْيَنْظُرْهَا فِي التَّلْخِيصِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكِتَابِ الْخِلَالَ
الثَّلَاثَ مُخَيِّرًا فِيهَا ، وَعَقَّبَ عِنْدَ عَدَمِهَا بِالصِّيَامِ
فَالْخُلَّةُ الْأُولَى هِيَ الْإِطْعَامُ ، وَبَدَأَ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ
الْأَفْضَلَ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ لِغَلَبَةِ الْحَاجَةِ فِيهَا عَلَى الْخَلْقِ
، وَعَدَمِ شِبَعِهِمْ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَى
التَّخْيِيرِ ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ خِلَالِهَا .
وَعِنْدِي أَنَّهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ ؛ فَإِنْ
عَلِمْت مُحْتَاجًا فَالْإِطْعَامُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّك إذَا أَعْتَقْت لَمْ
تَرْفَعْ حَاجَتَهُمْ وَزِدْت مُحْتَاجًا حَادِيَ عَشَرَ إلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ
تَلِيه ، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ [ غَلَبَةَ ] الْحَاجَةِ بَدَأَ بِالْمُهِمِّ
الْمُقَدَّمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَقَوْلُهُ : { تُطْعِمُونَ }
يَحْتَمِلُ طَعَامَهُمْ بَقِيَّةَ عُمْرِهِمْ ، وَيَحْتَمِلُ غَدَاءً وَعَشَاءً ؛
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَكْلَةِ الْيَوْمِ وَسَطًا فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ وَشِبَعًا فِي غَيْرِهَا ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ :
تَتَقَدَّرُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِي الْبُرِّ بِنِصْفِ صَاعٍ ، وَفِي التَّمْرِ
وَالشَّعِيرِ بِصَاعٍ .
وَأَصْلُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَسَطَ
فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَعْلَى وَالْخِيَارِ ، وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أَيْ عُدُولًا خِيَارًا .
وَيَنْطَلِقُ عَلَى مَنْزِلَةٍ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ ،
وَنِصْفًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ ، وَإِلَيْهِ يُعْزَى الْمِثْلُ الْمَضْرُوبُ :
" خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا
" .
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ
بِمَعْنَى الْخِيَارِ هَاهُنَا مَتْرُوكٌ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ
الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مَعْلُومَةً
عَادَةً ، وَمِنْهُ مَنْ قَدَّرَهَا كَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ
عَلَى ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ صَغِيرٍ قَالَ : { قَامَ
فِينَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا ، فَأَمَرَ
بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ
رَأْسٍ ، أَوْ صَاعِ بُرٍّ بَيْنَ اثْنَيْنِ } ، وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَانُ وَابْنُ
الْمُبَارَكِ .
وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ صَاعٌ مِنْ الْكُلِّ
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَشْهُورٌ .
وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ
الْوَسَطُ مِنْ الْجِنْسِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَإِنَّمَا يُخْرِجُ الرَّجُلُ مِمَّا يَأْكُلُ .
وَقَدْ زَلَّتْ هَاهُنَا جُمْلَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛
فَقَالُوا : إنَّهُ إذَا كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَأْكُلُ النَّاسُ الْبُرَّ
فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ ، وَهَذَا سَهْوٌ بَيِّنٌ ، فَإِنَّ
الْمُكَفِّرَ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إلَّا الشَّعِيرَ لَمْ
يُكَلَّفْ أَنْ يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ } .
فِي مَوْضِعٍ كَانَ فِيهِ الشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ
أَكْثَرَ مِنْ الْبُرِّ ، وَالْبُرُّ أَكْثَرَ مِنْ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ ،
فَإِنَّمَا فَصَّلَ ذِكْرَهُمَا لِيُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ فَرْضَهُ مِمَّا يَأْكُلُ
مِنْهَا ، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ بِهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ وَالْقَدْرَ
جَمِيعًا ، وَذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ الْعَدْلُ مِنْ الْقَدْرِ
.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ .
وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ مُجْمَلُ قَوْلِهِ :
صَدَقَةٌ ، وَلَمْ يُجْمِلْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ ، بَلْ قَالَ { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، وَقَدْ
كَانَ عِنْدَهُمْ جِنْسُ مَا يُطْعِمُونَ وَقَدْرُهُ مَعْلُومًا ، وَوَسَطُ
الْقَدْرِ مُدٌّ ، وَأَطْلَقَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَقَالَ : { فَإِطْعَامُ
سِتِّينَ مِسْكِينًا } .
فَحُمِلَ عَلَى الْأَكْثَرِ ، وَهَذِهِ سَبِيلُ مَهْيَعٌ
، وَلَمْ يُرَدَّ مُطْلَقُ ذَلِكَ إلَى مُقَيَّدِهِ ، وَلَا عَامُّهُ إلَى خَاصِّهِ ، وَلَا مُجْمَلُهُ إلَى مُفَسَّرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَا بُدَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ تَمْلِيكِ
الْمَسَاكِينِ مَا يَخْرُجُ لَهُمْ ، وَدَفْعِهِ إلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ
وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ
جَازَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ ؛ وَهِيَ
طُيُولِيَةٌ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ
: إنَّ التَّمْكِينَ مِنْ الطَّعَامِ إطْعَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } .
فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي الْآيَةِ .
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَالَ : إنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ
التَّمْلِيكُ حَقِيقَةً قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ } ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ( أَطْعَمَ
) مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى مَفْعُولَيْنِ ، كَقَوْلِنَا أَعْطَيْته
، فَيَقُولُ : طَعِمَ زَيْدٌ ، وَأَطْعَمْته أَيْ جَعَلْته يَطْعَمُ ،
وَحَقِيقَتُهُ بِالتَّمْلِيكِ هَذِهِ بِنِيَّةِ النَّظَرِ لِلْفَرِيقَيْنِ .
وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ
، فَمَنْ يَدَّعِي التَّمْلِيكَ هُوَ الَّذِي يُخَصِّصُ الْعُمُومَ فَعَلَيْهِ
الدَّلِيلُ ، وَنَخُصُّهُ نَحْنُ بِالْقِيَاسِ حَمْلًا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا الْيَوْمِ } .
فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ .
وَهَذَا بَالِغٌ ، وَلَا سِيَّمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ
الْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ التَّامُّ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ الْمِسْكِينُ
مِنْ الطَّعَامِ تَمَكُّنَ الْمَالِكِ ، كَالْكِسْوَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا
أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَفَّارَةِ الْمَدْفُوعَةِ إلَى الْمِسْكِينِ ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا
إلَّا التَّمْلِيكُ ، أَصْلُهُ الْكِسْوَةُ وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا دَفَعَهَا إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُجْزِيهِ ، وَكَذَلِكَ فِي
كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَتَعَلَّقَ بِالْآيَةِ وَهِيَ عَكْسُ الْأُولَى ؛
لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعَهُمْ ، وَنَحْنُ نَفْتَقِرُ إلَى تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ
، وَمَعَنَا نَحْنُ ظَاهِرُ الْعَدَدِ وَذِكْرُهُ وَهُمْ يُحَاوِلُونَ إسْقَاطَهُ بِالْمَعْنَى .
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : {
فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
} .
فَذَكَرَ الْإِطْعَامَ وَالْمَطْعُومَ فَتَعَيَّنَا .
فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامَ
سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قُلْنَا :
الْإِطْعَامُ مَصْدَرٌ ، وَالْمَصْدَرُ مُقَدَّرٌ مَعَ
الْفِعْلِ ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّحْرِيرِ وَالصِّيَامِ ، وَكَذَلِكَ هُنَا ،
وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ : فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا
، كَلَامُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِاللِّسَانِ ؛ فَإِنَّ الْإِطْعَامَ يَتَعَدَّى
إلَى مَفْعُولَيْنِ ، وَلَا يَنْتَظِمُ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ، بِخِلَافِ
مَفْعُولَيْ ظَنَنْت ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجُوزُ فِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى
أَحَدِهِمَا ، وَلَا يَجُوزُ فِي مَفْعُولَيْ ظَنَنْت أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى
أَحَدِهِمَا أَصْلًا ، فَإِنْ صَرَّحَ بِأَحَدِهِمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ فَهُوَ
مُضْمَرٌ ؛ فَأَمَّا أَنْ يُقَدِّرَ مَا أَضْمَرَ وَيُسْقِطَ مَا صَرَّحَ
فَكَلَامٌ غَبِيٌّ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ،
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَقَلُّ مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ ، وَبِهِ
قَالَ إبْرَاهِيمُ وَمُغِيرَةُ : مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ بِنَاءً عَلَى
أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَعَلَّ قَوْلَ الْمُخَالِفِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ
الِاسْمُ يُمَاثِلُ مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ ؛ فَإِنَّ مِئْزَرًا وَاحِدًا
تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ ، وَيَقَعُ بِهِ الِاسْمُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأَقَلِّ .
وَمَا كَانَ أَحَرَصَنِي عَلَى أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ
لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا كِسْوَةٌ تَسْتُرُ عَنْ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ،
كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ طَعَامًا يُشْبِعُهُ مِنْ الْجُوعِ فَأَقُولُ بِهِ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِمِئْزَرٍ وَاحِدٍ فَلَا أَدْرِيه ،
وَاَللَّهُ يَفْتَحُ لِي وَلَكُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ بِمَعُونَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : لَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ عَنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :
تُجْزِئُ ، وَهُوَ يَقُولُ : تُجْزِئُ الْقِيمَةُ فِي الزَّكَاةِ ، فَكَيْفَ فِي الْكَفَّارَةِ
؟ وَعُمْدَتُهُ أَنَّ الْغَرَضَ سَدُّ الْخُلَّةِ ، وَرَفْعُ الْحَاجَةِ ،
فَالْقِيمَةُ تُجْزِئُ فِيهِ .
قُلْنَا : إنْ نَظَرْتُمْ إلَى سَدِّ الْخُلَّةِ
فَأَيْنَ الْعِبَادَةُ ؟ وَأَيْنَ نَصُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَعْيَانِ
الثَّلَاثَةِ وَالِانْتِقَالُ بِالْبَيَانِ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ ؛ وَلَوْ
كَانَ الْمُرَادُ الْقِيمَةَ لَكَانَ فِي ذِكْرِ نَوْعٍ وَاحِدٍ مَا يُرْشِدُ
إلَيْهِ وَيُغْنِي عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا دَفَعَ الْكِسْوَةَ إلَى ذِمِّيٍّ أَوْ الطَّعَامَ
لَمْ يُجْزِهِ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ
يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمَسْكَنَةِ ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَةِ ،
فَعَلَيْنَا التَّخْصِيصُ ، فَتَخْصِيصُهُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقُولَ : هُوَ
كَافِرٌ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ فِي الْكَفَّارَةِ حَقًّا كَالْحَرْبِيِّ .
أَوْ نَقُولَ : جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ يَجِبُ إخْرَاجُهُ
لِلْمَسَاكِينِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ ، أَصْلُهُ الزَّكَاةُ .
وَقَدْ اتَّفَقْنَا مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
دَفْعُهَا لِلْمُرْتَدِّ ، فَكُلُّ دَلِيلٍ خَصَّ بِهِ الْمُرْتَدَّ فَهُوَ
دَلِيلُنَا فِي الذِّمِّيِّ .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } : سَمِعْت
، عَنْ الْبَائِسِ أَنَّهُ قَالَ : يُجْزِئُ الْمَعِيبُ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ
الْعَيْبَ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا يُفْسِدُ جَارِحَةً ، وَلَا مُعْظَمَ
مَنْفَعَتِهَا ، كَثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ كَفٍّ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَإِنْ أَرَادَ الْعَيْبَ الْمُطْلَقَ فَقَدْ خَسِرَتْ
صَفْقَتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا
مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَعْتِقُ امْرَأً مُسْلِمًا إلَّا كَانَ فِكَاكُهُ مِنْ
النَّارِ ، كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِعُضْوٍ حَتَّى الْفَرْجِ بِالْفَرْجِ } ؛
وَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعِيبَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَلَا
تَكُونُ كَافِرَةً ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهَا ؛ لِأَنَّهَا
قُرْبَةٌ وَاجِبَةٌ ، فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ مَحِلًّا لَهَا كَالزَّكَاةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي التَّلْخِيصِ ، وَهِيَ
طُيُولِيَةٌ فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } الْمُعْدَمُ
لِلْقُدْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ : إمَّا
لِمَغِيبِ الْمَالِ عَنْ الْحَالِفِ ، أَوْ لِعَدَمِ ذَاتِ الْيَدِ ؛ فَإِنْ كَانَ
لِمَغِيبِ الْمَالِ فَحَيْثُ كَانَ ثَاوِيًا كَانَ كَعَدَمِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي
بَلَدٍ آخَرَ ، وَوَجَدَ مِنْ يُسَلِّفُهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ ، وَإِنْ لَمْ
يَجِدْ مَنْ يُسَلِّفُهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ : يَنْتَظِرُ إلَى بَلَدِهِ ، وَذَلِكَ
لَا يَلْزَمُهُ ؛ بَلْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا يَنْبَغِي
أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي
الذِّمَّةِ ، وَالشَّرْطُ مِنْ الْعَدَمِ قَدْ تَحَقَّقَ ، فَلَا وَجْهَ
لِتَأْخِيرِ الْأَمْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : فِي
تَحْدِيدِ الْعَدَمِ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مَنْ لَمْ يَجِدْ : مَنْ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ
.
وَقَالَ الْحَسَنُ : دِرْهَمَانِ .
وَقِيلَ : مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ
مَالِهِ الَّذِي يَعِيشُ مِنْهُ مَعَ عِيَالِهِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ .
وَقِيلَ :
مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا قُوتُ يَوْمِهِ
وَلَيْلَتِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ ؛ فَهَذِهِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا دَلِيلٌ يَقُومُ عَلَيْهِ ، وَلَا سِيَّمَا
مَنْ قَالَ بِدِرْهَمٍ وَدِرْهَمَيْنِ
.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ أَطْعَمَ
كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّ جُمُعَةٍ مِسْكِينًا حَتَّى يُتِمَّ كَفَّارَتَهُ .
وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَلَا يُعْطِيهَا إلَّا مَنْ كَانَ
لَهُ فَوْقَ قُوتِ سَنَةٍ .
وَأَمَّا الرَّقَبَةُ فَقَدْ تَفَطَّنَ مَالِكٌ
لِلْحَقِّ ، فَقَالَ : إنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا رَقَبَةً أَوْ دَارًا لَا
فَضْلَ فِيهِمَا ؛ أَوْ عَرَضًا ثَمَنَ رَقَبَةٍ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْعِتْقُ ،
فَذَكَرَ الدَّارَ وَالْعَرَضَ وَالرَّقَبَةَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ رَمَقًا ، لَكِنْ
لَمْ يَذْكُرْ مَا مَعَهُ غَيْرُهُمَا ، هَلْ يُعْتِقُ الرَّقَبَةَ الَّتِي
كَانَتْ تُعَيِّشُهُ بِخَرَاجِهَا وَكَسْبِهَا أَمْ عِنْدَهُ فَضْلٌ غَيْرُهَا ؟
فَإِنْ
كَانَتْ الرَّقَبَةُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُعَيِّشُهُ بِخَرَاجِهَا فَلَا سَبِيلَ
إلَى عِتْقِهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ التَّفْصِيلِ ذَلِكَ
عَلَى التَّرَاخِي ، وَلَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ فَلْيَتَرَيَّثْ فِي ذَلِكَ حَتَّى
يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُ .
أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوْتُ أَوْ يُؤْثِرَ
الْعِتْقَ ، أَوْ الْإِطْعَامَ بِسَبَبٍ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
} قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ مُتَتَابِعَاتٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُجْزِئُ
التَّفْرِيقُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، إذْ التَّتَابُعُ صِفَةٌ لَا تَجِبُ إلَّا
بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ ، وَقَدْ عُدِمَا فِي مَسْأَلَتِنَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُعْطَى فِي الْكَفَّارَةِ
الْخُبْزُ ، وَالْإِدَامُ زَيْتٌ أَوْ كِشْكٌ أَوْ كَامِخٌ أَوْ مَا تَيَسَّرَ ،
وَهَذِهِ زِيَادَةٌ مَا أَرَاهَا عَلَيْهِ وَاجِبَةً .
أَمَّا إنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَعَ الْخُبْزِ
السُّكَّرَ نَعَمْ وَاللَّحْمَ ، وَأَمَّا تَضْمِينُ الْإِدَامِ لِلطَّعَامِ
مَعْنًى يَتَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : بَدَأَ اللَّهُ فِي
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالْأَهْوَنِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ ، فَإِذَا
شَاءَ انْتَقَلَ إلَى الْأَعْلَى وَهُوَ الْإِعْتَاقُ ، وَبَدَأَ فِي الظِّهَارِ
بِالْأَشَدِّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَنْتَقِلَ لَمْ
يَقْدِرْ ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ لَهُ تَأْوِيلًا بِالْعِرَاقِ حَيْثُ الْبُرُّ
ثَلَاثُمِائَةٍ رِطْلٍ بِدِينَارٍ إذَا طُلِبَ ، فَإِذَا زُهِدَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ
لَهُ ثَمَنٌ .
فَأَمَّا بِالْحِجَازِ حَيْثُ الْبُرُّ فِيهِ إذَا
رَخُصَ أَرْبَعَةُ آصُعٍ وَخَمْسَةُ آصُعٍ بِدِينَارٍ فَإِنَّ الْعَبْدَ فِيهِ
أَرْخَصُ ، وَالْحَاجَةَ إلَى الطَّعَامِ أَعْظَمُ ، فَقَدْ يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ
بِدِينَارٍ ، وَلَكِنْ يُخْرِجُهُ مِنْ الرِّقِّ إلَى الْجُوعِ ، وَيَتَفَادَى
مِنْهُ سَيِّدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
إذَا حَلَفْتُمْ } { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ :
الْأَوَّلُ : احْفَظُوهَا ، فَلَا تَحْلِفُوا فَتَتَوَجَّهُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ
التَّكْلِيفَاتُ .
الثَّانِي : احْفَظُوهَا إذَا حَنِثْتُمْ ؛ فَبَادِرُوا
إلَى مَا لَزِمَكُمْ .
الثَّالِثُ : احْفَظُوهَا فَلَا تَحْنَثُوا ؛ وَهَذَا
إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْبُرُّ أَفْضَلَ أَوْ الْوَاجِبَ .
وَالْكُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ الْحِفْظِ صَحِيحٌ عَلَى
وَجْهِهِ الْمَذْكُورِ وَصِفَتِهِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَيْهِ ، فَلْيُرَكَّبْ عَلَى
ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا
فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْعَقْلَ وَالْمَالَ "
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ }
.
فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ :
" اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا "
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
} ؛ فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ
لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلَى قَوْلِهِ : {
مُنْتَهُونَ } ؛ فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : "
انْتَهَيْنَا .
انْتَهَيْنَا
" .
وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُلَاحَاةٍ جَرَتْ
بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ .
وَهُمَا عَلَى شَرَابٍ لَهُمَا ، وَقَدْ انْتَشَيَا ،
فَتَفَاخَرَتْ الْأَنْصَارُ وَقُرَيْشٌ ، فَأَخَذَ الْأَنْصَارِيُّ لَحْيَيْ
جَمَلٍ فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَفَزَرَهُ ، فَنَزَلَتْ
الْآيَةُ .
وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ عِتْبَانُ
بْنُ مَالِكٍ ، رَوَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ
يَجْرِيَ بَيْنَ سَعْدٍ وَبَيْنِ عِتْبَانَ مَا يُوجِبُ نُزُولَ الْآيَةِ كَمَا
رَوَى الطَّبَرِيُّ ، فَيُدْعَى عُمَرُ فَتُقْرَأُ عَلَيْهِ ، كَمَا رَوَى
التِّرْمِذِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ :
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَصَدْرِ هَذِهِ
السُّورَةِ .
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ : فَهُوَ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ لَا
سَبِيلَ إلَى عَمَلِهِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ
يَمُوتَ ذِكْرُهُ وَيُمْحَى رَسْمُهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : {
رِجْسٌ } : وَهُوَ النَّجَسُ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِحَجَرَيْنِ
وَرَوْثَةٍ ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ : إنَّهَا
رِكْسٌ } أَيْ نَجَسٌ .
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا مَا يُؤْثَرُ
عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ ،
كَالْحَرِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ مُحَرَّمٌ ، مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، الرِّجْسِ
النَّجِسِ ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ
} .
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ
تَمَامَ تَحْرِيمِهَا وَكَمَالَ الرَّدْعِ عَنْهَا الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا
حَتَّى يَتَقَذَّرَهَا الْعَبْدُ ، فَيَكُفُّ عَنْهَا ، قُرْبَانًا بِالنَّجَاسَةِ
وَشُرْبًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَالْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاجْتَنِبُوهُ } يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ ، وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً ؛ وَهَذَا أَمْرٌ
بِاجْتِنَابِهَا ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِّقَ بِهِ
الْفَلَاحُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَزَلَتْ
فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا ، فَعَبَثَ
بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ، فَلَمَّا صَحَوْا ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ
آثَارَ مَا فَعَلُوا ، وَكَانُوا إخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ ،
فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ : لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ هَذَا بِي
، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ } الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
} كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ ، وَرُوِيَ : بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي
الصَّلَاةِ حِينَ أَمَّ النَّاسَ ، فَقَرَأَ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَهَلْ
أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فَقَالَ عُمَرُ : انْتَهَيْنَا .
حِينَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، { وَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي
سِكَكِ الْمَدِينَةِ : أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ؛ فَكُسِرَتْ الدِّنَانُ
، وَأُرِيقَتْ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ ، وَمَا كَانَ
خَمْرُهُمْ يَوْمئِذٍ إلَّا مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ } ،
وَهَذَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا } وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ ،
وَتَشْدِيدٌ فِي الْوَعِيدِ .
قَالَ : فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ
إلَّا الْبَلَاغُ ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا
الْبَلَاغُ
الْمُبِينُ .
أَمَّا عِقَابُ التَّوْلِيَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَعَلَى
الْمُرْسِلِ لَا عَلَى الرَّسُولِ
.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاَللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنْت سَاقِيَ
الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ، فَأَمَرَ
مُنَادِيًا يُنَادِي ؛ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : اُخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا
الصَّوْتُ ؛ قَالَ : فَخَرَجْت ، فَقُلْت : هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي : أَلَا إنَّ
الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ .
فَقَالَ لِي : اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا ، وَكَانَ
الْخَمْرُ مِنْ الْفَضِيخِ .
قَالَ : فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ .
فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ .
قَالَ :
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } إلَى قَوْلِهِ : { الْمُحْسِنِينَ } .
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ صَحِيحًا عَنْ الْبَرَاءِ
أَيْضًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيمَنْ
شَرِبَ الْخَمْرَ ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ : إذَا مَا طَعِمُوا ؛ فَكَانَ ذَلِكَ
دَلِيلًا عَلَى تَسْمِيَةِ الشُّرْبِ طَعَامًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ } إلَى : { الْمُحْسِنِينَ } اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : اتَّقَوْا فِي اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ
النَّهْيِ ، وَاتَّقَوْا فِي الثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ ، وَاتَّقَوْا فِي لُزُومِ
النَّوَافِلِ ؛ وَهُوَ الْإِحْسَانُ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ .
الثَّانِي : اتَّقَوْا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي غَيْرِهَا
مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، ثُمَّ اتَّقَوْا بَعْدَ تَحْرِيمِهَا شُرْبَهَا ، ثُمَّ
اتَّقَوْا فِي الَّذِي بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ ، فَاجْتَنَبُوا الْعَمَلَ
الْمُحَرَّمَ .
الثَّالِثُ : اتَّقَوْا الشِّرْكَ ، وَآمَنُوا ، ثُمَّ
اتَّقَوْا الْحَرَامَ ، ثُمَّ اتَّقَوْا تَرْكَ الْإِحْسَانِ ، فَيَعْبُدُونَ
اللَّهَ ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ .
وَقَدْ صُرِفَتْ فِيهَا أَقْوَالٌ عَلَى قَدْرِ وَظَائِفِ
الشَّرِيعَةِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا ، وَأَشْبَهُهَا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ الشُّرَّابَ كَانُوا
يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَبِالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَكْثَرَ
مِنْهُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ
أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ ، فَكَانَ عُمَرُ مِنْ بَعْدِهِ
يَجْلِدُهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شَرِبَ ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ ، فَقَالَ : أَتَجْلِدُنِي
، بَيْنِي وَبَيْنَك كِتَابُ اللَّهِ
" .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ
أَلَّا أَجْلِدَك ؟ " فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ ؛
فَأَنَا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، ثُمَّ اتَّقَوْا
وَآمَنُوا ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ، شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَأُحُدًا
وَالْخَنْدَقَ
وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا
يَقُولُ " ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ
عُذْرًا لِمَنْ صَبَرَ وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } الْآيَةَ
، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَةَ الْأُخْرَى ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَاهُ أَنْ
يَشْرَبَ الْخَمْرَ .
فَقَالَ عُمَرُ : " صَدَقْت ، مَاذَا تَرَوْنَ
" ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : " إنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ
هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَعَلَى الْمُفْتَرِي جَلْدُ ثَمَانِينَ " .
[ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ] .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَالَ : اسْتَعْمَلَ عُمَرُ قُدَامَةَ بْنَ
مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَقَدْ كَانَ يَشْهَدُ بَدْرًا ، وَهُوَ خَالُ
ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛
زَادَ الْبَرْقَانِيُّ : فَقَدِمَ الْجَارُودُ مِنْ الْبَحْرَيْنِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ قَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا ، وَإِنِّي
إذَا رَأَيْت حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى حُقَّ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَهُ
إلَيْك .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : " مَنْ يَشْهَدُ لِي عَلَى
مَا تَقُولُ ؟ " فَقَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ .
فَدَعَا عُمَرُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ : "
عَلَامَ تَشْهَدُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ " ؟ فَقَالَ : " لَمْ أَرَهُ
حِينَ شَرِبَ ، وَقَدْ رَأَيْته سَكْرَانَ يَقِيءُ " .
فَقَالَ عُمَرُ : " لَقَدْ تَنَطَّعْت فِي
الشَّهَادَةِ " .
ثُمَّ كَتَبَ عُمَرَ إلَى قُدَامَةَ وَهُوَ
بِالْبَحْرَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا قَدِمَ قُدَامَةُ وَالْجَارُودُ بِالْمَدِينَةِ
كَلَّمَ الْجَارُودُ عُمَرَ ، فَقَالَ لَهُ : أَقِمْ عَلَى هَذَا كِتَابَ اللَّهِ
فَقَالَ عُمَرُ لِلْجَارُودِ : " أَشَهِيدٌ أَنْتَ أَمْ خَصْمٌ " ؟
فَقَالَ الْجَارُودُ : أَنَا شَهِيدٌ
.
قَالَ : " قَدْ كُنْت أَدَّيْت الشَّهَادَةَ " .
فَسَكَتَ الْجَارُودُ ، ثُمَّ قَالَ
: لَتَعْلَمَنَّ أَنِّي
أَنْشُدُك اللَّهَ .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَمَا وَاَللَّهِ لَتَمْلِكَنَّ
لِسَانَك أَوْ لَأَسُوءَنَّكَ
" .
فَقَالَ الْجَارُودُ : أَمَا وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ
بِالْحَقِّ أَنْ يَشْرَبَ ابْنُ عَمِّك وَتَسُوءَنِي : فَتَوَعَّدَهُ عُمَرُ .
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَالِسٌ : " يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنْ كُنْت تَشُكُّ فِي شَهَادَتِنَا فَسَلْ بِنْتَ
الْوَلِيدِ امْرَأَةَ ابْنِ مَظْعُونٍ
" .
فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَى هِنْدَ يَنْشُدُهَا بِاَللَّهِ ،
فَأَقَامَتْ هِنْدُ عَلَى زَوْجِهَا قُدَامَةَ الشَّهَادَةَ .
فَقَالَ عُمَرُ : " يَا قُدَامَةُ ؛ إنِّي جَالِدُك " .
فَقَالَ قُدَامَةُ : وَاَللَّهِ لَوْ شَرِبْت كَمَا
تَقُولُونَ مَا كَانَ لَك أَنْ تَجْلِدَنِي يَا عُمَرُ .
قَالَ :
" لِمَ يَا قُدَامَةُ ؟ " قَالَ : لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ :
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ إلَى : { الْمُحْسِنِينَ } .
فَقَالَ عُمَرُ : " إنَّك أَخْطَأْت التَّأْوِيلَ
يَا قُدَامَةُ ؛ إذَا اتَّقَيْت اللَّهَ اجْتَنَبْت مَا حَرَّمَ اللَّهُ " .
ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ : "
مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ؟ " فَقَالَ الْقَوْمُ : لَا نَرَى أَنْ
تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا ، فَسَكَتَ عُمَرُ عَنْ جَلْدِهِ أَيَّامًا ، ثُمَّ
أَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى جَلْدِهِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : "
مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ؟ " فَقَالُوا : لَا نَرَى أَنْ
تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا .
فَقَالَ عُمَرُ : " إنَّهُ وَاَللَّهِ لَأَنْ يَلْقَى
اللَّهَ وَهُوَ تَحْتَ السَّوْطِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَهِيَ
فِي عُنُقِي ، وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّهُ ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ " .
فَجَاءَ مَوْلَاهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ رَقِيقٍ صَغِيرٍ ، فَأَخَذَهُ
عُمَرُ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَمَ : " قَدْ أَخَذْتُك
بِإِقْرَارِ أَهْلِكَ ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ غَيْرِ هَذَا " .
قَالَ :
فَجَاءَهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ تَامٍّ ، فَأَمَرَ عُمَرُ
بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ ، فَغَاضَبَ قُدَامَةُ عُمَرَ وَهَجَرَهُ ، فَحَجَّا
وَقُدَامَةُ مُهَاجِرٌ لِعُمَرَ ، حَتَّى قَفَلُوا مِنْ حَجِّهِمْ ، وَنَزَلَ
عُمَرُ
بِالسُّقْيَا
وَقَامَ بِهَا ؛ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ قَالَ : " عَجِّلُوا عَلَيَّ بِقُدَامَةَ
، انْطَلِقُوا فَأْتُونِي بِهِ ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَى فِي النَّوْمِ
أَنَّهُ جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ لِي : سَالِمْ قُدَامَةُ فَإِنَّهُ أَخُوكَ " .
فَلَمَّا جَاءُوا قُدَامَةَ أَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ ؛
فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ أَنْ يُجَرَّ إلَيْهِ جَرًّا حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُ ، فَكَانَ أَوَّلَ صُلْحِهِمَا .
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ ، وَمَا
ذُكِرَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَعُمَرَ فِي
حَدِيثِ الْبَرْقَانِيِّ ، وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَبَسْطُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ
وَاتَّقَى اللَّهَ فِي غَيْرِهِ لَا يُحَدُّ عَلَى الْخَمْرِ مَا حُدَّ أَحَدٌ ،
فَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ تَأْوِيلٍ ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى قُدَامَةَ ،
وَعَرَفَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهُ كَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا عَلَى
شَجْوِهِ إلَّا بَكَيْت عَلَى عُمَرَ
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى
بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ
، أَحْرَمَ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يُحْرِمْ بَعْضُهُمْ فَكَانَ إذَا عَرَضَ صَيْدٌ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ
، وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَمَحْظُورَاتِ
حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ
فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، خَاطَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا كُلَّ مُسْلِمٍ
مِنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
مَسَائِلِ الْأُصُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ ، وَبَيَّنَّا حَقِيقَتَهَا ،
وَأَوْضَحْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي كُلِّ آيَةٍ تَجْرِي عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى
قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ الْمُحِلُّونَ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ ، وَتَعَلَّقَ مَنْ عَمَّمَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } مُطْلَقٌ فِي الْجَمِيعِ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ خَصَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ : {
لَيَبْلُوَنَّكُمْ } يَقْتَضِي أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ ، فَإِنَّ تَكْلِيفَ
الِامْتِنَاعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِابْتِلَاءُ هُوَ مَعَ الْإِحْرَامِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : {
لَيَبْلُوَنَّكُمْ } الَّذِي يَقْتَضِي التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُحِلِّ
بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ ، وَمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ وَظِيفَةٍ فِي
كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ ، وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ
فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ ، وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ ، وَالْإِبَاحَةُ
فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا يَنْعَكِسُ فَيُقَالُ : الْأَصْلُ فِي
الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَلَا
دَلِيلَ يُرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ بِهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : لَا أَصْلَ فِي شَيْءٍ إلَّا مَا
أَصَّلَهُ الشَّرْعُ بِتِبْيَانِ حُكْمِهِ وَإِيضَاحِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ
حِلٍّ أَوْ تَحْرِيمٍ ، وَوُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ كَرَاهِيَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ لِمَا أَكَلَهُ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ ، حَتَّى
قِيلَ الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ .
وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَهُوَ
مَشْكُوكٌ فِيهِ .
وَقُلْنَا : إنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ
فَلَا يُحَرِّمُهُ أَكْلُ الْكَلْبِ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ .
ثُمَّ ذَكَرْنَا التَّعَارُضَ فِيهِ وَالِانْفِصَالَ
عَنْهُ ، فَلْيُنْظَرْ فِي مَوْضِعِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } بَيَانٌ لِحُكْمِ
صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ
.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ
مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } فَكُلُّ شَيْءٍ يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ
بِيَدِهِ ، أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِ فَقَتَلَهُ ، فَهُوَ
صَيْدٌ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : [ صَيْدُ الذِّمِّيِّ ] : قَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ صَيْدُ
الذِّمِّيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَلِّينَ
فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ ، لِاخْتِصَاصِ
الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِمْ
إلَّا بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ .
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي
هُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ
الْآخَرَ بِخِلَافِهِ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ أَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ
مَنْطُوقٌ بِهِ ، مُبَيَّنٌ حُكْمُهُ ، وَالثَّانِي مَسْكُوتٌ عَنْهُ ، وَلَيْسَ
فِي مَعْنَى مَا نُطِقَ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَحَمَلَهُ
عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } .
قُلْنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ
طَعَامِهِمْ .
وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ
ذِكْرِ الطَّعَامِ ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : نَقِيسُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَوْعُ
ذَكَاةٍ ، فَجَازَ مِنْ الذِّمِّيِّ كَذَبْحِ الْإِنْسِيِّ .
قُلْنَا :
لِلْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِمَّا يُذَكَّى شُرُوطٌ ،
وَلِمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ شُرُوطٌ أُخَرُ ؛ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مَوْضُوعٌ وُضِعَ عَلَيْهِ ، وَمَنْصِبٌ جُعِلَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ
الْإِلْحَاقُ فِيمَا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُهُ فِي الْأَصْلِ ؛ وَهَذَا فَنٌّ مِنْ
أُصُولِ الْفِقْهِ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ أَمَّا صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ : فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إجْمَاعًا ؛
لِأَنَّ الصَّيْدَ الْوَاقِعَ مِنْهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَالْمَجُوسِيُّ إنَّمَا يَزْعُمُ
أَنَّهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ، وَيَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ ، وَيَفْعَلُ جَمِيعَ
أَفْعَالِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ إذَا ذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِك الْمُعَلَّمِ فَكُلْ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَالذِّمِّيُّ لَا يَذْكُرُ اسْمَ
اللَّهِ وَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ .
قُلْنَا : لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الذِّمِّيِّ فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الِالْتِزَامُ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يُؤْكَلُ فَلِمُطْلَقِ قَوْله
تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } عَلَى أَحَدِ
الْأَدِلَّةِ ، وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي نَأْكُلُهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يُخَاطَبُوا بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ
.
وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّالِثِ يَكُونُ كَمَتْرُوكِ
التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مُتَرَدِّدٌ عَلَى الْآيَاتِ بِحُكْمِ
التَّعَارُضِ فِيهَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ أَكْلِ صَيْدِهِ ، وَأَنَّ
الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُحِلِّهِمْ وَمُحْرِمِهِمْ ؛
وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ حَبِيبٍ : إنَّ مَعْنَى قَوْلِ : { لَيَبْلُوَنَّكُمْ
} لَيُكَلِّفَنَّكُمْ .
ثُمَّ بَيَّنَ التَّكْلِيفَ بَعْدَهُ فَقَالَ وَهِيَ :
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ
ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ
عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } .
فِيهَا ثَمَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْلِهِ : { لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ } وَالْقَتْلُ
: كُلُّ فِعْلٍ يُفِيتُ الرُّوحَ ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ :
مِنْهَا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ ، وَالْخَنْقُ وَالرَّضْخُ وَشِبْهُهُ ؛ فَحَرَّمَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ كُلَّ فِعْلٍ يَكُونُ مُفِيتًا لِلرُّوحِ
، وَحَرَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى نَفْسَ الِاصْطِيَادِ ؛ فَقَالَ : {
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ كُلِّ
فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَةٍ
لِلْأَعْيَانِ وَالذَّوَاتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ خِطَابِ
الشَّارِعِ بِالْأَعْيَانِ ، فَالْمُحْرِمُ هُوَ الْقَوْلُ فِيهِ : لَا
تَقْرَبُوهُ ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ : لَا تَتْرُكُوهُ ، كَمَا
بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : لَمَّا نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ عَنْ قَتْلِ
الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَقَعَ عَامًّا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْمُحْرِمِ
لِلصَّيْدِ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ
ذَكَاةٌ ؛ وَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَهُوَ
الْمُسْلِمُ ، مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْأَنْعَامُ ، فَأَفَادَ
مَقْصُودَهُ مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ مِنْ أَصْلِهِ ذَبْحِ الْحَلَالِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى دَعْوَى ؛
فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَبْحِ الصَّيْدِ ؛ إذْ الْأَهْلِيَّةُ لَا
تُسْتَفَادُ عَقْلًا ، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا الشَّرْعُ ، وَذَلِكَ بِإِذْنِهِ فِي
الذَّبْحِ ؛ أَوْ يَنْفِيهَا الشَّرْعُ أَيْضًا ؛ وَذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنْ
الذَّبْحِ .
وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَقَدْ
انْتَفَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالنَّهْيِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ ، فَقَدْ اتَّفَقْنَا
عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ ؛
وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ ، فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لَا
يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَا يُفِيدَهُ لِغَيْرِهِ ؛
لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ
يَثْبُتَ لَهُ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ .
وَإِذَا بَطَلَ مَنْزَعُ الشَّافِعِيِّ وَمَأْخَذُهُ فَقَدْ
اعْتَمَدَ عُلَمَاؤُنَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى أَنَّهُ ذَبْحٌ
مُحَرَّمٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ ، فَلَا يَجُوزُ
كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ ، وَهَذَا صَحِيحٌ .
فَإِنَّ الَّذِي قَالَ : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ
يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } هُوَ الْقَائِلُ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
وَالْأَوَّلُ : نَهْيٌ عَنْ الْمَقْصُودِ بِالسَّبَبِ ،
فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ
.
وَالثَّانِي : نَهْيٌ عَنْ السَّبَبِ ، فَدَلَّ عَلَى
عَدَمِهِ شَرْعًا ، فَلَا يُفِيدُ مَقْصُودُهُ حُكْمًا ، وَهَذَا مِنْ
نَفِيسِ
الْأُصُولِ فَتَأَمَّلُوهُ .
وَقَوْلُ عُلَمَائِنَا : لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ فِيهِ
احْتِرَازٌ مِنْ السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْكَالَّةِ وَمِلْكِ الْغَيْرِ ،
فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ التَّذْكِيَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَلَكِنَّهُ مَا لَمْ
يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ وَلَا فِي الْمَذْبُوحِ لَمْ يُحَرَّمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَجَعَلَ الْقَتْلَ مُنَافِيًا لِلتَّذْكِيَةِ خَارِجًا عَنْ
حُكْمِ الذَّبْحِ لِلْأَكْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ
أَنْ أَقْتُلَ وَلَدِي فَهُوَ عَاصٍ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَدِي
فَإِنَّهُ يَفْتَدِيه بِشَاةٍ عَلَى تَفْصِيلِ بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بَيَانُهُ .
وَالْمِقْدَارُ الْمُتَعَلِّقُ مِنْهُ هَاهُنَا بِهَذَا
الْمَوْضِعِ أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ بِمُطْلَقِهِ
وَلَا الْخَنْقَ ، وَلَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ اللَّذَيْنِ
شُرِعَا فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِتَطْيِيبِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } جَرَى عُمُومُهُ عَلَى كُلِّ صَيْدٍ بَرِّيٍّ وَبَحْرِيٍّ ،
حَتَّى جَاءَ قَوْله تَعَالَى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا
دُمْتُمْ حُرُمًا } فَأَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ إبَاحَةً مُطْلَقَةً ، وَحَرَّمَ صَيْدَ
الْبَرِّ عَلَى الْمُحْرِمِينَ ؛ فَصَارَ هَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّنْوِيعُ
دَلِيلًا عَلَى خُرُوجِ صَيْدِ الْبَحْرِ مِنْ النَّهْيِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ } عَامٌّ فِي التَّحْرِيمِ بِالزَّمَانِ ، وَفِي التَّحْرِيمِ بِالْمَكَانِ
، وَفِي التَّحْرِيمِ بِحَالَةِ الْإِحْرَامِ ، إلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّمَانِ خَرَجَ
بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا ، وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَحَالَةُ
الْإِحْرَامِ عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }
عَامٌّ فِي كُلِّ صَيْدٍ كَانَ ، مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ ، سَبُعًا أَوْ
غَيْرَ سَبُعٍ ، ضَارِيًا أَوْ غَيْرَ ضَارٍ ، صَائِلًا أَوْ سَاكِنًا ؛ بَيْدَ
أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ السِّبَاعِ عَنْهُ وَتَخْصِيصِهِ
مِنْهَا ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ
السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْمَضَرَّةِ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ
وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا ، وَمِنْ
الطَّيْرِ كَالْغُرَابِ وَالْحَدَأَةِ ؛ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِنَا فِي الْكَلْبِ
الْعَقُورِ وَالذِّئْبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ ، وَخَالَفَنَا فِي السَّبُعِ
وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَغَيْرِهَا مِنْ السِّبَاعِ ، فَأَوْجَبَ عَلَى
الْمُحْرِمِ الْجَزَاءَ بِقَتْلِهَا
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ
لَحْمُهُ فَلَا جَزَاءَ فِيهِ إلَّا السَّمْعُ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الذِّئْبِ
وَالضَّبُعِ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " { خَمْسٌ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ
وَالْحَرَمِ : الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ
الْعَقُورُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْحَيَّةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ
} خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ .
وَفِيهِ {
الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ ، وَفِيهِ
: { السَّبُعُ الْعَادِي } خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَهَذَا
تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَعَلَى الْأَجْنَاسِ .
أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْفِسْقُ بِالْإِذَايَةِ ،
وَأَمَّا الْأَجْنَاسُ فَنَبَّهَ بِكُلِّ مَذْكُورٍ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْجِنْسِ
وَذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ بِعِلَّةِ
الْعَقْرِ الْفَهْدُ وَالسَّبُعُ ، وَلَا سِيَّمَا بِالنَّصِّ عَلَيْهِ مِنْ
طَرِيقِ السِّجْزِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ
.
وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنْ يَحْمِلَ
التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ ، وَلَا يَحْمِلَ السِّبَاعَ
الْعَادِيَةَ
عَلَى
الْكَلْبِ الْعَقُورِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ
لَحْمَهَا لَا يُؤْكَلُ فَهِيَ مَعْقُورَةٌ لَا جَزَاءَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ كَالْخِنْزِيرِ .
وَأَمَّا إنْ قُلْنَا : إنَّهَا تُؤْكَلُ فَفِيهَا
الْجَزَاءُ لِأَنَّهَا صَيْدٌ مَأْكُولٌ .
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي أَكْلِهَا فِي سُورَةِ
الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى .
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ صَيْدٌ
تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ بِالنَّهْيِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ ارْتِكَابِ النَّهْيِ ؛
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ صَيْدٌ أَنَّهُ يُقْصَدُ لِأَجْلِ جِلْدِهِ ،
وَالْجِلْدُ مَقْصُودٌ فِي الْمَالِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ فِي
الْأَكْلِ .
قُلْنَا : لَا تُسَمِّي الْعَرَبُ صَيْدًا إلَّا مَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ كَانَتْ الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا
عِنْدَ الْعَرَبِ صَيْدًا .
فَإِنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ كُلَّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ ،
ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ ، فَغَيَّرَ الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ دُونَ
الْأَسْمَاءِ .
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ ، إنَّ الصَّيْدَ لَا
يُعْرَفُ إلَّا فِيمَا يُؤْكَلُ
.
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الشَّرْعَ غَيَّرَ الْأَحْكَامَ
دُونَ الْأَسْمَاءِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَابِعَةٌ لِلْأَسْمَاءِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ
لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
.
الضَّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فِيهَا جَزَاءٌ ؛ قَالَ : نَعَمْ ، كَبْشٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ
أَكْلِهَا ، وَبَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ جَزَائِهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَامٌّ فِي الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } .
وَلِقَوْلِهِ : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وَقَوْلِهِ : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } عَامٌّ فِي النَّوْعَيْنِ .
وَقَوْلِهِ :
{ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، يُقَالُ : رَجُلٌ حَرَامٌ
وَامْرَأَةٌ حَرَامٌ ، وَجَمْعُ ذَلِكَ حُرُمٌ ، كَقَوْلِنَا : قَذَالٌ وَقُذُلٌ .
وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْأَحْرَارُ
وَالْعَبِيدُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ
الْمَعَانِي فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ
مُتَعَمِّدًا } فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَعَمِّدَ فِي
وُجُوبِ الْجَزَاءِ خَاصَّةً ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ، مُتَعَمِّدٌ ،
وَمُخْطِئٌ ، وَنَاسٍ ؛ فَالْمُتَعَمِّدُ هُوَ الْقَاصِدُ لِلصَّيْدِ مَعَ
الْعِلْمِ بِالْإِحْرَامِ ، وَالْمُخْطِئُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ شَيْئًا
فَيُصِيبُ صَيْدًا .
وَالنَّاسِي هُوَ الَّذِي يَتَعَمَّدُ الصَّيْدَ وَلَا
يَذْكُرُ إحْرَامَهُ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ
وَالنِّسْيَانِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ
وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ .
الثَّانِي : إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ،
نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَقَدْ
حَلَّ وَلَا حَجَّ لَهُ ، وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَلِكَ الَّذِي يُجْزِي .
الثَّالِثُ : لَا شَيْءَ عَلَى الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي
، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِعُمُومِ الْكَفَّارَةِ
فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ وَرَدَ
الْقُرْآنُ بِالْعَمْدِ ، وَجَعَلَ الْخَطَأُ تَغْلِيظًا ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : { مُتَعَمِّدًا } خَرَجَ
عَلَى الْغَالِبِ ، فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ ، كَسَائِرِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ .
الثَّالِثُ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : إنَّهُ وَجَبَ
الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ ، وَفِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ
بِالسُّنَّةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ وَجَبَ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَاتِلِ
الْخَطَأِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا كَفَّارَةُ إتْلَافِ نَفْسٍ ؛ فَتَعَلَّقَتْ
بِالْخَطَأِ ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ ؛ وَتَعَلَّقَ مُجَاهِدٌ بِأَنَّهُ أَرَادَ
مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : {
وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ، وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ
لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ .
وَتَعَلَّقَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى
رِوَايَتَيْهِ
وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا بِأَنَّهُ خَصَّ الْمُتَعَمِّدَ بِالذِّكْرِ ، فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِخِلَافِهِ ، وَزَادَ بِأَنْ قَالَ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ
الذِّمَّةِ ، فَمَنْ ادَّعَى شَغْلَهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ مَنْ قَالَ : وَجَبَ فِي
النِّسْيَانِ تَغْلِيظًا فَدَعْوَى تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ
فَحِكْمَةُ الْآيَةِ وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ مَا قَالُوهُ ، فَأَيْنَ دَلِيلُهُ
؟ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ وَجَبَ فِي النِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ
كَانَ يُرِيدُ بِهِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ
فَنِعِمَّا هِيَ ، وَمَا أَحْسَنُهَا أُسْوَةً ، وَأَمَّا مَنْ تَعَلَّقَ
بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ الَّذِي
يَرَى الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا وَخَطَأً ، فَأَمَّا نَحْنُ
وَقَدْ عَقَدْنَا أَصْلَنَا عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ فِي الْآدَمِيِّ لَا
كَفَّارَةَ فِيهِ ، وَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا الْكَفَّارَةَ فَلَا يَصِحُّ
ذَلِكَ مِنَّا لِوُجُودِ الْمُنَاقَضَةِ مِنَّا بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
عِنْدَنَا .
وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهَا
أَنَّ مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا
لِإِحْرَامِهِ ، أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ يَكْفِي لِوَصْفِ التَّعَمُّدِ ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ ،
لِاكْتِفَاءِ الْمَعْنَى مَعَهُ
.
وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ .
فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ
وَالْإِحْرَامِ فَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ ؛ لَكِنْ مِنْ
النَّاسِ مَنْ قَالَ : لَا حَجَّ لَهُ
.
وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يَدُلُّك عَلَيْهَا دَلِيلٌ مِنْ
ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ الْمَعْنَى ،
وَسَنَسْتَوْفِي بَقِيَّةَ الْقَوْلِ فِي آخِرِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } الْجَزَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ : الْمُقَابِلُ لِلشَّيْءِ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ فِي مُقَابِلِ مَا أَتْلَفَ وَبَدَلٌ مِنْهُ ؛ وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " وَقَدْ تَقَدَّمَ أَمْثَالُهُ قَبْلَ هَذَا ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ ؛ لِأَنَّ فِي مُقَابَلَتِهَا ثَوَابًا بِثَوَابٍ وَعِقَابًا بِعِقَابٍ ، وَدَرَجَاتٍ وَدَرَكَاتٍ ؛ وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : { مِثْلُ } قُرِئَ بِخَفْضِ مِثْلَ عَلَى الْإِضَافَةِ
إلَى { فَجَزَاءٌ } .
وَبِرَفْعِهِ وَتَنْوِينِهِ صِفَةً لِلْجَزَاءِ ؛
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ رِوَايَةً ، صَوَابٌ مَعْنًى ، فَإِذَا كَانَ عَلَى
الْإِضَافَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَيْرَ الْمِثْلِ ؛ إذْ
الشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ ، وَإِذَا كَانَ الصِّفَةُ بِرَفْعِهِ
وَتَنْوِينِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ
، لِوُجُوبِ كَوْنِ الصِّفَةِ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ ؛ وَسَتَرَى ذَلِكَ فِيمَا
بَعْدُ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهَ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ النَّعَمِ }
قَدْ بَيَّنَّا فِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " دَرَجَاتِ حَرْفِ
مِنْ ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا بَيَانُ الْجِنْسِ ، كَقَوْلِك : خَاتَمٌ مِنْ
حَدِيدٍ ، وَقَدَّمْنَا قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ السَّرَّاجِ فِي شَرْحِ كِتَابِ
سِيبَوَيْهِ الَّذِي أَوْقَفَنَا عَلَيْهِ شَيْخُ السُّنَّةِ فِي وَقْتِهِ أَبُو
عَلِيٍّ الْحَضْرَمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ بِحَالٍ
، وَلَا فِي مَوْضِعٍ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّبْعِيضُ فِيهَا بِالْقَرِينَةِ ،
فَجَاءَتْ مُقْتَرِنَةً بِقَوْلِهِ : { مِنْ النَّعَمِ } لِبَيَانِ جِنْسٍ مِثْلِ الْمَقْتُولِ
الْمُفْدَى ، وَأَنَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ } قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ وَهُوَ
شَبَهُهُ فِي الْخِلْقَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَيَكُونُ مِثْلَهُ فِي مَعْنًى ، وَهُوَ
مَجَازُهُ ؛ فَإِذَا أُطْلِقَ الْمِثْلُ اقْتَضَى بِظَاهِرِهِ حَمْلَهُ عَلَى
الشَّبَهِ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَعْنَى ، لِوُجُوبِ الِابْتِدَاءِ بِالْحَقِيقَةِ
فِي مُطْلَقِ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ الْمَجَازِ حَتَّى يَقْتَضِيَ الدَّلِيلُ مَا
يَقْضِي فِيهِ مِنْ صَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ ؛ فَالْوَاجِبُ هُوَ
الْمِثْلُ الْخِلْقِيُّ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ
بِالْمِثْلِ .
فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْخِلْقَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ
الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ :
مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِثْلَ حَقِيقَةً هُوَ الْمِثْلُ مِنْ طَرِيقِ
الْخِلْقَةِ .
الثَّانِي :
أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ النَّعَمِ } فَبَيَّنَ جِنْسَ
الْمِثْلِ ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ بِالنَّعَمِ بِحَالٍ .
الثَّالِثُ
: أَنَّهُ قَالَ : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ } وَهَذَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إلَى مِثْلِ مِنْ النَّعَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ سِوَاهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهِ .
وَالْقِيمَةُ الَّتِي يَزْعُمُ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ
يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهُ قَالَ : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
وَاَلَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْهَدْيُ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنْ النَّعَمِ ؛ فَأَمَّا
الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا .
فَإِنْ قِيلَ : الْقِيمَةُ مِثْلٌ شَرْعِيٌّ مِنْ
طَرِيقِ الْمَعْنَى فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ ، حَتَّى يُقَالَ الْقِيمَةُ
مِثْلٌ لِلْعَبْدِ ، وَلَا يَجْعَلُ فِي الْإِتْلَافِ مِثْلَهُ عَبْدًا يَغْرَمُ
فِيهِ ، وَأَوْجَبْنَا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي الْمُتْلِفَاتِ الْمِثْلَ خِلْقَةً
؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَالطَّعَامِ وَالدُّهْنَ كَالدُّهْنِ ؛ وَلَمْ يُوجَبْ فِي
الْعَبْدِ عَبْدٌ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْخِلْقَةَ لَمْ تَقُمْ
بِالْمِثْلِيَّةِ
، فَكَيْفَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَدَنَةَ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ .
قُلْنَا :
هَذَا مَزْلَقٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهِ قَدَمُ
النَّاظِرِ قَلِيلًا ، وَلَا يَطِيشَ حُلْمُهُ ، فَاسْمَعْ مَا نَقُولُ ، فَلَا خَفَاءَ
بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَلَيْسَ
يُعَارِضُهُ الْآنَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَنَّ النَّعَامَةَ لَا تُمَاثِلُهَا
الْبَدَنَةُ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِهَا فِيهَا ، وَهُمْ بِكِتَابِ
اللَّهِ أَفْهَمُ ، وَبِالْمِثْلِ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ وَالْمَعْنَى أَعْلَمُ
، فَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ سِوَاهُ إلَّا وَهَمَ ، وَلَا يَتَّهِمُهُمْ فِي
قُصُورِ النَّظَرِ ، إلَّا مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ .
وَالدَّقِيقَةُ فِيهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ ظَاهِرِ
الْقُرْآنِ مَعَ شَبَهٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ
ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّوَفُّرِ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّبَهِ الْمَعْنَوِيِّ
؛ هَذَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ فِي مَطْرَحِ النَّظَرِ إلَّا نَافِذُ
الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَوَّمُوا
النَّعَامَةَ بِدَرَاهِمَ ، ثُمَّ قَوَّمُوا الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ .
قُلْنَا :
هَذَا جَهْلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
سَرْدَ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ يُبْطِلُ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
شَيْءٌ مِنْهُ .
الثَّانِي : أَنَّ قِيمَةَ النَّعَامَةِ لَمْ تُسَاوِ
قَطُّ قِيمَةَ الْبَدَنَةِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ ، لَا مُتَقَدِّمٍ وَلَا
مُتَأَخِّرٍ ، عُلِمَ ذَلِكَ ضَرُورَةً وَعَادَةً ، فَلَا يَنْطِقُ بِمِثْلِ هَذَا
إلَّا مُتَسَاخِفٌ بِالنَّظَرِ
.
وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمِثْلِيَّةُ فِي الِاعْتِدَاءِ
عَلَى الْحَيَوَانِ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ
الْفِقْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ
الْخِلْقَةِ مُعْتَبَرًا ، فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ
، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ ، وَإِنَّمَا
يَفْتَقِرُ إلَى الْعُدُولِ وَالْحُكْمِ مَا يُشْكَلُ الْحَالُ فِيهِ
وَيَضْطَرِبُ
وَجْهُ النَّظَرِ عَلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ
: أَنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمَيْنِ إنَّمَا وَجَبَ فِي
حَالِ الْمَصِيدِ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ ، وَمَا لَهُ جِنْسٌ مِمَّا لَا جِنْسَ
لَهُ ، وَلْيَعْتَبِرْ مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَيَلْحَقُ
بِهِ مَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ نَصٌّ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } ، فَشَرَكَ بَيْنَهُمَا بِ
" أَوْ " فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ
مِنْ النَّعَمِ ، أَوْ مِنْ الطَّعَامِ ، أَوْ مِنْ الصِّيَامِ ، وَتَقْدِيرُ
الْمِثْلِيَّةِ فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ بِالْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ فِي
الْمِثْلِ الْأَوَّلِ .
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ أَوْ تَجَاهُلٌ ؛ فَإِنَّ قَوْله
تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } ظَاهِرٌ كَمَا قَدَّمْنَا
فِي مِثْلِ الْخِلْقَةِ ، وَمَا عَدَاهُ يَمْتَنِعُ فِيهِ مِثْلِيَّةُ الْخِلْقَةِ
حِسًّا ؛ فَرَجَعَ إلَى مِثْلِيَّةِ الْمَعْنَى حُكْمًا ، وَلَيْسَ إذَا عُدِمَ
الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ فِي مَوْضِعٍ وَيَرْجِعُ إلَى بَدَلِهِ يَلْزَمُ أَنْ
يَرْجِعَ إلَى بَدَلِهِ مَعَ وُجُودِهِ
.
تَكْمِلَةٌ : وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَكِّيِّ
وَالْمَدَنِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّامِيِّ : فَجَزَاءُ مِثْلِ بِالْإِضَافَةِ ؛
وَهَذَا يَقْتَضِي الْغَيْرِيَّةَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ ،
وَأَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ لِمِثْلِ الْمَقْتُولِ لَا الْمَقْتُولِ ، وَمِنْ
قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ : فَجَزَاءً مِثْلَ عَلَى الْوَصْفِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ
يَكُونَ الْجَزَاءُ هُوَ الْمِثْلَ
.
وَيَقُولُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ
الْجَزَاءَ غَيْرُ الْمِثْلِ .
وَيَقُولُ الْمَدَنِيُّونَ وَالْمَكِّيُّونَ
وَالشَّامِيُّونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ
: إنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْمِثْلُ ؛ فَيَبْنِي كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ قِرَاءَةِ قُرَّاءِ
بَلَدِهِ .
وَقَدْ قَالَ لَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ
الْقَرَافِيُّ الزَّاهِدُ : إنَّ ابْنَ مَعْقِلٍ الْكَاتِبَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي
عَلِيٍّ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ
جَزَاءُ
الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ .
وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ جَزَاءَ الْمِثْلِ لَا جَزَاءَ
الْمَقْتُولِ .
قَالَ :
وَمَنْ أَضَافَ الْجَزَاءَ إلَى الْمِثْلِ فَإِنَّهُ
يَخْرُجُ عَلَى تَقْدِيرِ إقْحَامِ الْمِثْلِ ؛ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ : أَنَا
أُكْرِمُ مِثْلَك ؛ أَيْ أُكْرِمُك
.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ :
وَذَلِكَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ
فِي قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : فِي سَرْدِ
الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ فِي الْبَابِ : وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ ،
لُبَابُهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ السُّدِّيُّ : " فِي
النَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ بَدَنَةٌ ، وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ أَوْ الْإِبِلِ
أَوْ الْأَرْوَى بَقَرَةٌ ، وَفِي الْغَزَالِ وَالْأَرْنَبِ شَاةٌ ، وَفِي
الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ سَخْلَةٌ قَدْ أَكَلَتْ الْعُشْبَ ، وَشَرِبَتْ الْمَاءَ
، فَفَرَّقَ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ .
الثَّانِي : قَالَ عَطَاءٌ : " صَغِيرُ الصَّيْدِ
وَكَبِيرُهُ سَوَاءٌ " لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ } ، مُطْلَقًا ، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُطْلَبُ
صِفَةُ الصَّيْدِ ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ قُوِّمَتْ
الدَّرَاهِمُ بِالْحِنْطَةِ ، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " .
الرَّابِعُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُذْبَحُ
عَنْ الظَّبْيِ شَاةٌ ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ .
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ " .
الْخَامِسُ :
قَالَ الضَّحَّاكُ : " الْمِثْلُ مَا كَانَ لَهُ
قَرْنٌ كَوَعْلٍ وَأُيَّلٍ فَدَاهُ بِبَقَرَةٍ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرْنٌ كَالنَّعَامَةِ
وَالْحِمَارِ فَفِيهِ بَدَنَةٌ ، وَمَا كَانَ مِنْ ظَبْيٍ فَمِنْ النَّعَمِ مِثْلُهُ
، وَفِي الْأَرْنَبِ ثَنِيَّةٌ ، وَمَا كَانَ مِنْ يَرْبُوعٍ فَفِيهِ جَمَلٌ
صَغِيرٌ .
فَإِنْ أَصَابَ فَرْخَ صَيْدٍ أَوْ بِيضَهُ تَصَدَّقَ
بِثَمَنِهِ ، أَوْ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " .
السَّادِسُ
: قَالَ
النَّخَعِيُّ : " يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ بِقِيمَتِهِ مِنْ
الدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ يَشْتَرِي الْقَاتِلُ بِقِيمَتِهِ فِدَاءً مِنْ النَّعَمِ ،
ثُمَّ يُهْدِيه إلَى الْكَعْبَةِ
" .
السَّابِعُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ :
" أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ
فِيهِ أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ ، فَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُهُ
مِنْ الطَّعَامِ ؛ فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ
كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا " .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : " إنْ قَوَّمَ
الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ " .
وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ
قَالَ عَنْهُ : وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخِيَارِ أَيْ ذَلِكَ فِعْلٌ
أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَجُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ .
فَأَمَّا الْفَرْقُ
بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ وَهِيَ [ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ
عَشْرَةَ ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : [ الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ
وَكَبِيرِهِ ] : فَصَحِيحٌ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِالْمِثْلِيَّةِ
فِي الْخِلْقَةِ ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ مُتَفَاوِتَانِ فِيهَا ، فَوَجَبَ
اعْتِبَارُ التَّفَاوُتُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى التَّقْوِيمِ ، فَوَجَبَ
اعْتِبَارُ الصَّغِيرِ فِيهِ وَالْكَبِيرِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ
عُلَمَائِنَا ، وَلِذَلِكَ قَالُوا : لَوْ كَانَ الصَّيْدُ أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ
أَوْ كَسِيرًا لَكَانَ الْمِثْلُ عَلَى صِفَتِهِ لِتَحَقُّقِ الْمِثْلِيَّةِ ،
وَلَا يَلْزَمُ الْمُتْلِفَ فَوْقَ مَا أَتْلَفَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ
عَشْرَةَ : وَأَمَّا تَرْتِيبُ الثَّلَاثَةِ الْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ
الْمِثْلِيَّةِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : فَاَلَّذِي اخْتَارَهُ
عُلَمَاؤُنَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنْ يَكُونَ بِالْخِيَارِ فِيهَا ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ
ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَقَالُوا : كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ " أَوْ
" فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ
.
وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ
مَصْرُوفٌ إلَى الْحَكَمَيْنِ ، فَمَا رَأَيَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : فَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، حَيْثُ قَدَّرَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِسْكِينًا بِيَوْمٍ ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ تَقْدِيرِهِ تَعَالَى وَتُقَدَّسُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَقْوَالُ ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ ؛ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدِ الْجَلِيِّ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
} قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقِيمُ الْمُتْلِفُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَقِيهَيْنِ
بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، فَيَنْظُرَانِ فِيمَا أَصَابَ ،
وَيَحْكُمَانِ عَلَيْهِ بِمَا رَأَيَاهُ فِي ذَلِكَ ، فَمَا حَكَمَا عَلَيْهِ
لَزِمَهُ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ الْإِمَامُ حَاضِرًا
أَوْ نَائِبَهُ أَنَّهُ يَكُونُ الْحُكْمُ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا
أَقَامَ حِينَئِذٍ الْمُتْلِفُ مَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّحْكِيمِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ فِيهِ ،
وَلِأَجْلِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا
: إنَّهُ يَجُوزُ حُكْمُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ
؛ وَذَلِكَ عِنْدِي صَحِيحٌ ؛ إذْ يَتَعَذَّرُ أَمْرُهُ .
وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ
قَالَ : أَصَبْت صَيْدًا ، وَأَنَا مُحْرِمٌ ، فَأَتَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
، فَأَخْبَرْته ، فَقَالَ : " ائْتِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِك
فَلْيَحْكُمَا عَلَيْك " فَأَتَيْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدًا
، فَحَكَمَا عَلَيَّ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ
.
وَهُوَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يَتَوَلَّى فَصْلَ الْقَضَاءِ رَجُلَانِ ، وَقَدْ مَنَعَتْهُ الْجَهَلَةُ ؛
لِأَنَّ اخْتِلَافَ اجْتِهَادِهِمَا يُوجِبُ تَوَقُّفَ الْأَحْكَامِ بَيْنَهُمَا ،
وَقَدْ بَعَثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إلَى الْيَمَنِ
، كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مِخْلَافٍ ، وَبَعَثَ أُنَيْسًا إلَى الْمَرْأَةِ
الْمَرْجُومَةِ ، وَلَمْ يَأْتِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحُكْمِ إلَّا فِي هَذِهِ
النَّازِلَةِ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا خُصُومَةَ فِيهَا ، فَإِنْ
اتَّفَقَا لَزِمَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا نُظِرَ فِي غَيْرِهِمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ : وَلَا يَأْخُذُ
بِأَرْفَعِ قَوْلِهِمَا ؛ يُرِيدُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ ،
وَكَذَلِكَ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ ، إذَا حَكَمَا بِهِ ،
إلَى الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ لَزِمَ قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ ؛
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إنْ
أَمَرَهُمَا
أَنْ يَحْكُمَا بِالْجَزَاءِ مِنْ الْمِثْلِ فَفَعَلَا ، فَأَرَادَ أَنْ
يَنْتَقِلَ إلَى الطَّعَامِ جَازَ .
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَجَاوُزٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : إنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْمِثْلِ ، وَلَيْسَ
الْأَمْرُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُحَكِّمُهُمَا .
ثُمَّ يَنْظُرَانِ فِي الْقَضِيَّةِ ، فَمَا أَدَّى
إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمَا لَزِمَهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ .
وَهُوَ الثَّانِي لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُكْمِهِمَا ؛
وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِالْتِزَامِهِ لِحُكْمِهِمَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
: الْمَعْنَى إذَا حَكَمَا بِالْمِثْلِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَفْعَلُ بِالْهَدْيِ ،
يُقَلِّدُهُ وَيُشْعِرُهُ ، وَيُرْسِلُهُ إلَى مَكَّةَ وَيَنْحَرُهُ بِهَا ،
وَيَتَصَدَّقُ بِهِ فِيهَا ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ،
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ
الْهَدْيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْحَرَمِ .
وَاخْتُلِفَ هَلْ يُفْتَقَرُ إلَى حِلٍّ مَعَهُ ؟
فَقَالَ مَالِكٌ : لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ يَبْتَاعُ بِالْحِلِّ ، وَيُقَلِّدُ
وَيُشْعِرُ ، وَيَدْفَعُ إلَى الْحَرَمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِلِّ .
وَحَقِيقَةُ قَوْله تَعَالَى : { بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
يَقْتَضِي أَنْ يَهْدِيَ مِنْ مَكَان يَبْلُغُ مِنْهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَلَمْ
يُرِدْ الْكَعْبَةَ بِعَيْنِهَا ؛ فَإِنَّ الْهَدْيَ لَا يَبْلُغُهَا ، إذْ هِيَ
فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرَمَ ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ الصَّغِيرَ
مِنْ الْهَدْيِ يَجِبُ فِي الصَّغِيرِ مِنْ الصَّيْدِ ، لِأَنَّهُ يَبْتَاعُهُ فِي
الْحَرَمِ وَيُهْدِيه فِيهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَكُونُ الْجَزَاءُ فِي
الصَّغِيرِ إلَّا بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ الصَّغِيرَ لَا يُمْكِنُ
حَمْلُهُ إلَى الْحَرَمِ ، وَهَذَا لَا يُغْنِي ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَتْ فِي
الصَّغِيرِ صَغِيرًا ، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرًا ، وَإِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ
إلَى الْحَرَمِ حُمِلَتْ قِيمَتُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ بِالْمَغْرِبِ : بَعِيرِي هَذَا
هَدْيٌ ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُحْمَلُ ثَمَنُهُ إلَى مَكَّةَ ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ فِي صَغِيرِ الْهَدْيِ مِثْلُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ صَغِيرَ الْهَدْيِ مِثْلُ
كَبِيرِهِ فِي الْقِيمَةِ ، كَمَا أَنَّ صَغِيرَ الْآدَمِيِّ مِثْلُ كَبِيرِهِ فِي
الدِّيَةِ .
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ
جَبْرًا ، وَهَذَا مُقَدَّرٌ نَظَرًا ، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ،
فَافْتَرَقَا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ كَفَّارَةٌ } سَمَّاهُ بِهَا
لِيُبَيِّنَّ أَنَّ الطَّعَامَ عَنْ الصَّيْدِ لَا عَنْ الْهَدْيِ ،
وَلِيُلْحِقَهَا بِأَمْثَالِهَا وَنَظَائِرِهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { طَعَامُ مَسَاكِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا قَتَلَ
الْمُحْرِمُ ظَبْيًا وَنَحْوَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ ، فَإِنْ
لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ
صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَإِنْ قَتَلَ أُيَّلًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ
بَقَرَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا ، فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا ، وَإِنْ قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارًا
فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ مِنْ الْإِبِلِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ ثَلَاثِينَ
مِسْكِينًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَالطَّعَامُ
مُدٌّ مُدٌّ لِشِبَعِهِمْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا : إنْ لَمْ يَجِدْ جَزَاءً قَوَّمَ
الْجَزَاءَ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِمُ حِنْطَةً ، ثُمَّ صَامَ
مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا
.
وَقَالَ : إنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ الصَّوْمَ ،
فَإِذَا وَجَدَ طَعَامًا وَجَبَ جَزَاءً .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ ، وَمُجَاهِدٍ ،
وَالسُّدِّيِّ ، وَحَمَّادٍ ، وَغَيْرِهِمْ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا
فَإِطْعَامُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ
لَا عَلَى التَّرْتِيبِ بِمَا يَقْتَضِيه حَرْفُ " أَوْ " فِي لِسَانِ
الْعَرَبِ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ فِي الظَّبْيِ بِسِتَّةِ
مَسَاكِينَ ، وَفِي الْبَدَنَةِ بِثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ
نَافِذٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ تَحَكُّمٌ بِاخْتِيَارِ قِيمَةِ الطَّعَامِ
بِالدَّرَاهِمِ أَصْلًا أَوْ بَدَلًا كَمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ يُعْطَى عَنْ كُلِّ
مُدٍّ يَوْمًا لَا نِصْفَ صَاعٍ
.
وَقَدْ رَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ :
كَانَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَعْرَابِ مُحْرِمِينَ ، فَحَاشَ أَحَدُهُمَا صَيْدًا
فَقَتَلَهُ الْآخَرُ ، فَأَتَيَا عُمَرُ ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ
بْنُ عَوْفٍ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا تَرَى ؟ قَالَ : شَاةٌ .
قَالَ : وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ .
اذْهَبَا فَأَهْدَيَا شَاةً .
فَلَمَّا مَضَيَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا
دَرَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَقُولُ ، حَتَّى سَأَلَ صَاحِبَهُ .
فَسَمِعَهُ عُمَرُ ، فَرَدَّهُمَا ، فَقَالَ : هَلْ
تَقْرَآنِ سُورَةَ الْمَائِدَةِ ؟ فَقَالَا : لَا .
فَقَرَأَ عَلَيْهِمَا : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ هَدْيًا } ثُمَّ قَالَ : اسْتَعَنْت بِصَاحِبِي هَذَا .
وَعَنْ قَبِيصَةَ وَصَاحِبٍ لَهُ أَنَّهُمَا أَصَابَا
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ : إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ
يَدْرِ مَا يَقُولُ .
فَسَمِعَهُمَا عُمَرُ .
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضَرْبًا بِالدِّرَّةِ ، وَقَالَ :
تَقْتُلُ الصَّيْدَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ ، وَتَغْمِصُ الْفُتْيَا ، إنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ
: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَنَا عُمَرُ .
وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ يُوجِبُ عَلَى
الْمُشْتَرِكِينَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِقَضَاءِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى رَجُلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ
كَامِلٌ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَهِيَ تَنْبَنِي
عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لُغَوِيٌّ قُرْآنِيٌّ ، وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ .
أَمَّا اللُّغَوِيُّ الْقُرْآنِيُّ : فَإِنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ لِلصَّيْدِ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى الْكَمَالِ
وَالتَّمَامِ ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مُتْلِفٌ نَفْسًا عَلَى الْكَمَالِ وَمُذْهِبٌ رَوْحًا عَلَى التَّمَامِ .
وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ ،
وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ فَثَبَتَ مَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ : فَإِنَّ عِنْدَنَا أَنَّ
الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قِيمَةٌ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا
الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ وَمُقَابِلٌ لِلْجِنَايَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ جَنَى عَلَى
إحْرَامِهِ جِنَايَةً كَامِلَةً ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى قَاتِلًا ؛
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّى
الْجَزَاءَ كَفَّارَةً فِي كِتَابِهِ
.
وَأَمَّا كَمَالُ الْجِنَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
عَلَى الْإِحْرَامِ فَصَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ارْتَكَبَ
مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ ، وَسُمِّيَ قَاتِلًا حَقِيقَةً
فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءً .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يَقُومُ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ ،
وَيَلْحَظُ فِيهِ شِبْهَهُ .
وَلَوْ كَانَ كَفَّارَةً لَاعْتُبِرَ مُطْلَقًا مِنْ
اعْتِبَارِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، فَلَمَّا كَانَ
كَذَلِكَ صَارَ كَالدِّيَةِ .
قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ دُخُولُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ بَدَلَ مُتْلَفٍ مَا دَخَلَ الصِّيَامُ
عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الصِّيَامَ إنَّمَا مَوْضِعُهُ وَمَوْضُوعُهُ
الْكَفَّارَاتُ
، لَا أَبْدَالُ الْمُتْلَفَاتِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا تُقَدَّرُ
بِقَدْرِ الْمَحِلِّ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَهَا ، مَحِلٌّ ، فَيَزِيدُ
بِزِيَادَتِهِ ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْآدَمِيِّ
فَإِنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَقَدَّرُ حَقِيقَةً فَيُقَدَّرُ كَفَّارَةً .
جَوَابٌ ثَالِثُ : وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ لَا
يَجُوزُ إسْقَاطُهُ ، وَالدِّيَةُ يَجُوزُ إسْقَاطُهَا ، فَدَلَّ عَلَى
اخْتِلَافِهِمَا بِالصِّفَةِ وَالْمَوْضُوعِ .
جَوَابٌ رَابِعُ : وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى
يَسْتَوِي فِي الْجَزَاءِ ، وَيَخْتَلِفُ فِي الدِّيَةِ ، وَقِيمَةِ الْإِتْلَافِ
؛ فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ
مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ضَعِيفٌ جِدًّا .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ مَالِكًا فِي فَرْعٍ ؛
وَهُوَ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي حَرَمٍ وَهُمْ مُحِلُّونَ فَعَلَيْهِمْ
جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ ،
وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً ،
فَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ .
وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فَبَنَاهُ فِي
أَسْرَارِ اللَّهِ عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : السِّرُّ فِيهِ أَنَّ
الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادِ ، فَقَدْ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ مَحْظُورًا فِي إحْرَامِهِ
.
وَإِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا
أَتْلَفَ نَفْسًا مُحْتَرَمَةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ دَابَّةً
، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ دَابَّةً ، وَيَشْتَرِكُونَ فِي
الْقِيمَةِ ، وَهَذَا مِمَّا يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا ، وَهُوَ عَسِيرُ
الِانْفِصَالِ .
وَقَدْ عَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ
يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ فِي الْحَرَمِ ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا
بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ قَدْ
أَكْسَبَهُ صِفَةً تَعَلَّقَ بِهَا نَهْيٌ ، فَهُوَ هَاتِكٌ لَهَا فِي
الْحَالَيْنِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا ، عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَنَا
قَالُوا : إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ
الْجَزَاءُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا جَزَاءَ فِي صَيْدِ
الْحَرَمِ أَصْلًا .
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : حُرْمَةُ الْحَرَمِ كَالْإِحْرَامِ ،
وَاللَّفْظُ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، يُقَالُ : أَحْرَمَ الرَّجُلُ إذَا تَلَبَّسَ
بِالْإِحْرَامِ ، كَمَا يُقَالُ : أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، فَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ مَنْ أَسْقَطَ الْجَزَاءَ
فِيهِ ، وَيُضَعَّفُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ
وَعُمُومِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ :
وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْعَبْدِ إذَا أَحْرَمَ أَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ كَكَفَّارَةِ الْحُرِّ سَوَاءٌ ؛ لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ مُخْتَلِفَ الْحَالِ ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الظِّهَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : إذَا قُوِّمَ الطَّعَامُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
أَيْنَ يُقَوَّمُ ؟ فَقَالَ قَوْمٌ : يُقَوَّمُ فِي مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ ؛
قَالَهُ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَسِوَاهُمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقَوَّمُ حَيْثُ يُكَفِّرُ
بِمَكَّةَ .
وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ
الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ بِهِ قِيمَةُ
الْمُتْلَفِ ؛ فَقَالَ قَوْمٌ :
يَوْمَ الْإِتْلَافِ .
وَقَالَ آخَرُ : يَوْمَ الْقَضَاءِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ أَكْثَرَ
الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الْإِتْلَافِ إلَى يَوْمِ الْحُكْمِ ، وَاخْتَلَفَ
عُلَمَاؤُنَا كَاخْتِلَافِهِمْ
.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقِيمَةَ يَوْمَ
الْإِتْلَافِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ
حَقًّا لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَعْدَمَهُ الْمُتْلِفُ لَزِمَهُ
إيجَادُهُ بِمِثْلِهِ ، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْعَدَمِ ، فَالْقَضَاءُ يُظْهِرُ
الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ ، وَلَا يَسْتَأْنِفُ الْقَاضِي إيجَابًا لَمْ
يَكُنْ ، وَهَذَا يُعَضِّدُ فِي مَسْأَلَتِنَا الْوُجُوبَ فِي مَوْضِعِ
الْإِتْلَافِ ، فَأَمَّا فِي مَوْضِعِ فِعْلِ الْكَفَّارَةِ فَلَا وَجْهَ لَهُ .
الْمَسْأَلَة
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَأَمَّا الْهَدْيُ فَلَا
بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَّةَ .
وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ
؛ هَلْ يَكُونُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ : إنَّهُ
يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ .
وَقَالَ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُكَفِّرُ
بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ
بِمَكَّةَ ، وَيَصُومُ حَيْثُ شَاءَ
.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : يُكَفِّرُ حَيْثُ شَاءَ .
فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّهُ يُكَفِّرُ
حَيْثُ أَصَابَ ، فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي النَّظَرِ وَلَا أَثَرَ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ
فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ ، فَتَكُونُ فِي كُلِّ
مَوْضِعٍ كَصِيَامِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّعَامَ يَكُونُ
بِمَكَّةَ فَلِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْهَدْيِ أَوْ نَظِيرٌ لَهُ ؛ وَالْهَدْيُ
حَقٌّ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ ؛ فَلِذَلِكَ يَكُونُ بِمَكَّةَ بَدَلَهُ أَوْ
نَظِيرَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ ،
وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، فَإِنَّهُ اعْتِبَارٌ بِكُلِّ طَعَامٍ وَفِدْيَةٍ ،
فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ
وَبَالَ أَمْرِهِ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْعَدْلُ وَالْعِدْلُ بِفَتْحِ
الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا : هُوَ الْمِثْلُ ، وَيُؤْثَرُ عَنْ السَّكَّاكِيِّ أَنَّهُ
قَالَ : عِدْلُ الشَّيْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ ، وَبِفَتْحِ
الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَأَرَادَ أَوْ يَصُومُ صَوْمًا
مُمَاثِلًا لِلطَّعَامِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُمَاثِلَ الطَّعَامُ الطَّعَامَ فِي
وَجْهٍ أَقْرَبَ مِنْ الْعَدَدِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : يَصُومُ عَلَى عَدَدِ الْمَسَاكِينِ
فِي الطَّعَامِ لَا عَلَى عَدَدِ الْأَمْدَادِ الْأَشْهُرِ ، وَهُوَ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا ، وَالْكَافَّةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِالْأَمْدَادِ ، وَقَدْ قَالَ
الشَّافِعِيُّ : عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِمَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ
يَوْمًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى .
وَاعْتِبَارُ الْكَفَّارَةِ بِالْفِدْيَةِ لَا وَجْهَ
لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نُظَرَائِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ بَعْضُ
عُلَمَائِنَا : إنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ ؛ فِي
الْجَزَاءِ مِنْ النَّعَمِ ، وَالْإِطْعَامِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ يَحْتَاجُ
إلَيْهِمَا فِي الْحَالِ كُلِّهَا ، وَهِيَ تَنْحَصِرُ فِي مَوَاضِعَ سَبْعَةٍ :
الْأَوَّلُ : هَلْ يُحْكَمُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ أَوْ فِي الْعَمْدِ
وَحْدَهُ ؟ الثَّانِي : هَلْ يُحْكَمُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ كَمَا
يَكُونُ فِي الْإِحْرَامِ ؟ الثَّالِثُ : هَلْ يُحْكَمُ بِالْجَزَاءِ حَيَوَانًا
أَوْ قِيمَةً ؟ الرَّابِعُ : إذَا رَأَى الْحَيَوَانَ جَزَاءً عَنْ حَيَوَانٍ .
فِي تَعْيِينِ الْحَيَوَانِ خِلَافٌ كَثِيرٌ لَا بُدَّ
مِنْ تَسْلِيطِ نَظَرِهِ عَلَيْهِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِ
الْعُلَمَاءِ فِيهِ ؛ هَلْ يَسْتَوِي صَغِيرُهُ وَكَبِيرُهُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ
فِي الْكِتَابِ حِينَ جَعَلَهُ كَالدِّيَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُرَاعِي صِفَاتِهِ
أَجْمَعَ حَتَّى الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ ، أَمْ تُرَاعَى
الْأُصُولُ
، أَوْ يُرَاعَى الْعَيْبُ وَالسَّلَامَةُ ، أَوْ هُمَا وَاحِدٌ ؟ وَهَلْ يَكُونُ فِي
النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ كَمَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ ، أَمْ يَكُونُ
فِيهَا الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقَارِبُ خَلْقَ الْبَقَرِ وَلَا تَبْلُغُ
خَلْقَ الْإِبِلِ ؟ الْخَامِسُ : هَلْ الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا تُجْزِئُ أَمْ
بَعْضُهَا ؟ السَّادِسُ : هَلْ يَقُومُ الْمِثْلُ بِالطَّعَامِ أَوْ
بِالدَّرَاهِمِ ؟ السَّابِعُ : هَلْ يَكُونُ التَّقْوِيمُ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ
أَمْ بِمَوْضِعِ الْكَفَّارَةِ ؟ وَهَكَذَا إلَى آخِرِ فُصُولِ الِاخْتِلَافِ ،
فَيُرْفَعُ الْأَمْرُ إلَى الْحُكْمَيْنِ حَتَّى يُخَلِّصَ اجْتِهَادُهُمَا مَا
يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ ، فَيَلْزَمُهُ مَا قَالَا .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَجَزَاهُ .
ثُمَّ قَتَلَهُ ثَانِيَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ
، وَمِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَحْبَارٌ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ
بِمَرْتَبَتِهِمْ إيرَادُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ
حُكْمٍ عُلِّقَ بِشَرْطٍ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ ، فَمَنْ قَالَ
لِزَوْجَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ [ فَإِنَّ الطَّلَاقَ ] لَا
يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى تَكْرَارِ
الْحُكْمِ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ فَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ الدَّلِيلِ الْقَائِمِ
عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ الْمُضَافِ إلَيْهِ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {
إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } فَإِنَّ الْوُضُوءَ يَتَكَرَّرُ
بِتَكَرُّرِ الْقِيَامِ مَعَ الْحَدَثِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ } .
وَهَا هُنَا تَكَرَّرَ الِاسْمُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ ،
بِقَوْلِهِ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَالنَّهْيُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ ،
فَالْجَزَاءُ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُتَوَجِّهٌ لَازِمٌ ذِمَّتَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا
سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وَلَمْ يَذْكُرْ جَزَاءً
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قُلْنَا : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
: { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } يَعْنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا الْإِسْلَامِ
، أَوْ عَمَّا قَبْلَ بَيَانِ الْحُكْمِ ؛ فَإِنَّ الْوَاقِعَ قَبْلَهُ عَفْوٌ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ عَادَ } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : يَعْنِي فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ
مِنْهُ ، وَعَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ
مَرَّتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ ،
وَهَذَا لَا
يَصِحُّ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَمَادِي التَّحْرِيمِ فِي الْإِحْرَامِ
وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الدَّلِيلِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : {
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } يَعْنِي وَهُوَ مُحْرِمٌ ، { فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ
} .
وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَسَنُ
وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٌ وَشُرَيْحٌ
.
وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ
عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : نَعَمْ نَحْكُمُ عَلَيْهِ أَفَيُخْلَعُ يَعْنِي يُخْرَجُ عَنْ
حُكْمِ الْمُحْرِمِينَ ؛ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : إنَّهُ إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا
فَقَدْ حَلَّ إحْرَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا [ يُنَافِي ] عِبَادَةً فِيهَا ،
فَأَبْطَلَهَا ، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أَحْدَثَ فِيهَا .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ
الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَسَادَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ
الْمَسَائِلِ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ بِمَا يُغْنِي عَنْ
إعَادَتِهِ ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْحَجِّ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُمَا
مُخْتَلِفَانِ شَرْطًا وَوَصْفًا وَوَضْعًا فِي الْأَصْلِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ
أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ بِحَالٍ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيمَا
تَقَدَّمَ ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْمُعَلَّيْ أَنَّ
رَجُلًا أَصَابَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَتَجُوزُ عَنْهُ ، ثُمَّ عَادَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَارًا مِنْ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ ،
وَهَذِهِ عِبْرَةٌ لِلْأُمَّةِ وَكَفٌّ لِلْمُعْتَدِينَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : مَا
تَقَدَّمَ فِيهِ لِلصَّحَابَةِ حُكْمٌ مِنْ الْجَزَاءِ فِي صَيْدٍ يَبْتَدِئُ
الْآنَ الْحَكَمَانِ النَّظَرَ فِيهِ
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُنْظَرُ فِيمَا نَظَرَتْ
فِيهِ الصَّحَابَةُ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ نَفَذَ ، وَهَذَا يَبْطُلُ بِقَضَايَا الدِّينِ
؛ فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ أَنْفَذَتْهُ الصَّحَابَةُ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ
ثَانِيًا .
وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا
انْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ
الْحَكَمَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ ، وَهَذَا تَسَامُحٌ مِنْهُ ؛
فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَانِيًا وَحَكَمَيْنِ ، فَحَذْفُ بَعْضِ
الْعَدَدِ إسْقَاطٌ لِلظَّاهِرِ ، وَإِفْسَادٌ لِلْمَعْنَى لِأَنَّ حُكْمَ
الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاسْتَغْنَى بِنَفْسِهِ
عَنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ، فَزِيَادَةُ ثَانٍ
إلَيْهِ غَيْرَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ بِرَجُلَيْنِ سِوَاهُ .
الْآيَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ
عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
إلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْلُهُ { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } : عَامٌّ فِي الْمُحِلِّ
وَالْمُحْرِمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ التَّقْسِيمِ
وَالتَّنْوِيعِ قَبْلَ هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { الْبَحْرِ } هُوَ كُلُّ
مَاءٍ كَثِيرٍ ، وَأَصْلُهُ الِاجْتِمَاعُ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْمَدَائِنُ
بِحَارًا .
وَيُقَالُ لِلْبَلْدَةِ : الْبَحْرَةُ وَالْبُحَيْرَةُ ؛
لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا ؛ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }
: إنَّ الْبَحْرَ الْبِلَادُ ، وَالْبَرَّ الْفَيَافِي
وَالْقِفَارُ .
وَفَائِدَتُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ بَرًّا
وَبَحْرًا وَهَوَاءً ، وَجَعَلَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ
الثَّلَاثَةِ عِمَارَةً ، فَعِمَارَةُ الْهَوَاءِ الطَّيْرُ ، وَعِمَارَةُ
الْمَاءِ الْحِيتَانُ ، وَعِمَارَةُ الْأَرْضِ سَائِرُ الْحَيَوَانِ ، وَجَعَلَ
كُلَّ ذَلِكَ مُبَاحًا لِلْإِنْسَانِ عَلَى شُرُوطٍ وَتَنْوِيعٍ ، هِيَ
مُبَيَّنَةٌ فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { صَيْدُ الْبَحْرِ } : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
مَا صِيدَ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الثَّانِي : هُوَ حِيتَانُهُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : السَّمَكُ الْجَرِيُّ ؛ قَالَهُ ابْنُ
جُبَيْرٍ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَرْجِعُ إلَى
قَوْلٍ وَاحِدٍ ، وَهِيَ حِيتَانُهُ تَفْسِيرًا ، وَيَرْجِعُ مِنْ طَرِيقِ
الِاشْتِقَاقِ إلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا حُووِلَ أَخْذُهُ بِحِيلَةٍ وَعَمَلٍ ،
وَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ : مَا صِيدَ مِنْهُ ، وَهُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ ، فَكَأَنَّهُ
قَالَ : " أُحِلَّ لَكُمْ أَخْذُ مَا فِي الْبَحْرِ مِنْ الْحِيتَانِ
بِالْمُحَاوَلَةِ ، وَأُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُهُ ، وَهُوَ مَا أُخِذَ بِغَيْرِ
مُحَاوَلَةٍ " وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ بِغَيْرِ
مُحَاوَلَةٍ وَلَا حِيلَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا طَفَا عَلَيْهِ
مَيْتًا .
وَالثَّانِي : مَا جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ ، فَأَخَذَهُ
النَّاسُ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْله تَعَالَى : {
وَطَعَامُهُ } : عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا جَزَرَ عَنْهُ .
وَالثَّانِي
: مَا طَفَا عَلَيْهِ ؛ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
وَقَتَادَةُ ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَعْنٍ عَنْ سُفْيَانَ ، قَالَ : صَيْدُ الْبَحْرِ
مَا صِيدَ ، وَطَعَامُهُ مَيْتَتُهُ
.
الثَّالِثُ : مَمْلُوحُهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا
أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ ، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا
فَلَا تَأْكُلُوهُ } .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ
عَلَى جَابِرٍ .
وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ { أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ
مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ }
.
وَهَذَا نَصٌّ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ ، وَلَا كَلَامَ
بَعْدَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِينَ قَالُوا
: إنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ
أقسام الكتاب