13/احكام القران/كتاب : أحكام القرآن لابن العربي
الْأُمَرَاءَ إلَى الْبِلَادِ وَعَلَى السَّرَايَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ وَقَفَ فِيهَا عَلَى التَّوَاتُرِ لَمَا حَصَلَ عِلْمٌ ، وَلَا تَمَّ حُكْمٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالدِّينِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِيمَا رُوِيَ فِيهَا : ثَبَتَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ :
أَرْسَلَ إلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ ، فَإِذَا
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ ، فَقَالَ : إنَّ الْقِتَالَ قَدْ اسْتَحَرَّ بِقُرَّاءِ
الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ
بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا ، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ ، وَإِنِّي
أَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ : كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا
لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ
عُمَرُ : هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ ، وَرَأَيْت فِيهِ الَّذِي
رَأَى .
قَالَ زَيْدٌ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّك شَابٌّ عَاقِلٌ
لَا نَتَّهِمُك ، قَدْ كُنْت تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ ، فَتَتَبَّعْ
الْقُرْآنَ .
قَالَ : فَوَاَللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ
مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ .
قُلْت :
كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : هُوَ
وَاَللَّهِ خَيْرٌ .
فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ
حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
.
فَتَتَبَّعْت الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ
وَالْعُسُبِ ، وَذَكَرَ كَلِمَةً مُشْكِلَةً تَرَكْنَاهَا .
قَالَ زَيْدٌ : فَوَجَدْت آخِرَ بَرَاءَةٍ مَعَ
خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } إلَى :
الْعَظِيمِ انْتَهَى الْحَدِيثُ
.
فَبَقِيَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا
بَعْدَهُ عُمَرُ ، ثُمَّ صَارَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ،
فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَدِمَ
حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ عَلَى عُثْمَانَ ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ
فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، فَرَأَى
حُذَيْفَةُ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْقُرْآنِ ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ :
يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا
فِي الْكِتَابِ ، كَمَا اخْتَلَفَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى .
فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إلَيْنَا
بِالصُّحُفِ فَنَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إلَيْكِ .
فَأَرْسَلَتْ حَفْصَةُ إلَى عُثْمَانَ بِالصُّحُفِ ،
فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ،
وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ أَنْ انْسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ .
وَقَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ : إذَا
اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ ،
فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ ، حَتَّى إذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي
الْمَصَاحِفِ بَعَثَ عُثْمَانُ إلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ
الْمَصَاحِفِ الَّتِي نَسَخُوا
.
قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَحَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ : فَقَدْت آيَةً مِنْ سُورَةٍ
كُنْت أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا :
{ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } فَالْتَمَسْتهَا فَوَجَدْتهَا مَعَ خُزَيْمَةَ
بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ ، فَأَلْحَقْتهَا فِي سُورَتِهَا .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ فِي
التَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ ، فَقَالَ الْقُرَشِيُّونَ : التَّابُوتُ .
وَقَالَ زَيْدٌ التَّابُوهُ .
فَرُفِعَ اخْتِلَافُهُمْ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ :
اُكْتُبُوهُ التَّابُوتُ .
فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ
لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ ، وَقَالَ : يَا مَعْشَرَ
الْمُسْلِمِينَ ، أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ ، وَيَتَوَلَّاهَا
رَجُلٌ ، وَاَللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْت وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ يُرِيدُ
زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَا
أَهْلَ الْقُرْآنِ ، اُكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي
عِنْدَكُمْ
وَغُلُّوهَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَالْقُوا اللَّهَ بِالْمَصَاحِفِ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ
مِنْ مَقَالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ
حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ
تَبَيَّنَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي بَرَاءَةٍ ،
وَآيَةُ الْأَحْزَابِ لَمْ تَثْبُتْ بِوَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَنْسِيَّةً ،
فَلَمَّا ذَكَرَهَا مَنْ ذَكَرَهَا أَوْ تَذَكَّرَهَا مَنْ تَذَكَّرَهَا عَرَفَهَا
الْخَلْقُ ، كَالرَّجُلِ تَنْسَاهُ ، فَإِذَا رَأَيْت وَجْهَهُ عَرَفْته ، أَوْ
تَنْسَى اسْمَهُ وَتَرَاهُ ، وَلَا يَجْتَمِعُ لَك الْعَيْنُ وَالِاسْمُ ، فَإِذَا
انْتَسَبَ عَرَفْته .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مِنْ غَرِيبِ الْمَعَانِي أَنَّ
الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبِ سَيْفَ السُّنَّةِ وَلِسَانَ الْأُمَّةِ
تَكَلَّمَ بِجَهَالَاتٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ ، لَا تُشْبِهُ مَنْصِبَهُ ، فَانْتَصَبْنَا
لَهَا لِنُوقِفَكُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِيهَا : أَوَّلُهَا : قَالَ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ : هَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ رِوَايَاتٍ فِيهِ ،
مِنْهَا صَحِيحَةٌ وَمِنْهَا بَاطِلَةٌ ، فَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الْبَاطِلَةُ
فَلَا نَشْتَغِلُ بِهَا ، وَأَمَّا الصَّحِيحَةُ فَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : رُوِيَ
أَنَّ هَذَا جَرَى فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ جَرَى فِي عَهْدِ عُثْمَانَ ،
وَبَيْنَ التَّارِيخَيْنِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُدَّةِ ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ
نَقُولَ هَذَا كَانَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ، ثُمَّ نَقُولَ : كَانَ هَذَا فِي
عَهْدِ عُثْمَانَ ؛ وَلَوْ اخْتَلَفَ تَارِيخُ الْحَدِيثِ فِي يَوْمٍ مِنْ
أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ لَوَجَبَ رَدُّهُ ، فَكَيْفَ أَنْ يَخْتَلِفَ بَيْنَ
هَاتَيْنِ الْمُدَّتَيْنِ الطَّوِيلَتَيْنِ ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْعَرَبِيِّ : يُقَالُ لِلسَّيْفِ هَذِهِ كَهْمَةٌ مِنْ طُولِ الضِّرَابِ ،
هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَخَفْ وَجْهُ الْحَقِّ فِيهِ ، إنَّمَا
جَمَعَ
زَيْدٌ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا لِأَبِي بَكْرٍ فِي زَمَانِهِ ، وَالثَّانِيَةُ
لِعُثْمَانَ فِي زَمَانِهِ ، وَكَانَ هَذَا فِي مَرَّتَيْنِ لِسَبَبَيْنِ
وَلِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ : فَكَانَ لِئَلَّا يَذْهَبَ الْقُرْآنُ
بِذَهَابِ الْقُرَّاءِ ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ : { يَذْهَبُ الْعِلْمُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِذَهَابِ
الْعُلَمَاءِ } ، فَلَمَّا تَحَصَّلَ مَكْتُوبًا صَارَ
عُدَّةً لِمَا يُتَوَقَّعُ عَلَيْهِ
.
وَأَمَّا جَمْعُهُ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ فَكَانَ
لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَةِ ، فَجُمِعَ
فِي الْمَصَاحِفِ لِيُرْسَلَ إلَى الْآفَاقِ ، حَتَّى يُرْفَعَ الِاخْتِلَافُ
الْوَاقِعُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ .
ثَانِيهَا : قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ : مِنْ اضْطِرَابِ
هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ زَيْدًا تَارَةً قَالَ : وَجَدْت هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ
السَّاقِطَةَ ، وَتَارَةً لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَتَارَةً ذَكَرَ قِصَّةَ بَرَاءَةٍ ،
وَتَارَةً قِصَّةَ الْأَحْزَابِ أَيْضًا بِعَيْنِهَا .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : يُقَالُ
لِلِّسَانِ : هَذِهِ عَثْرَةٌ ، وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ عَقْلًا أَوْ عَادَةً أَنْ
يَكُونَ عِنْدَ الرَّاوِي حَدِيثٌ مُفَصَّلٌ يَذْكُرُ جَمِيعَهُ مَرَّةً ،
وَيَذْكُرُ أَكْثَرَهُ أُخْرَى ، وَيَذْكُرُ أَقَلَّهُ ثَالِثَةً ؟ ثَالِثُهَا :
قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ مَوْضُوعًا ؛
لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ : إنَّ زَيْدًا وَجَدَ الضَّائِعَ مِنْ الْقُرْآنِ عِنْدَ
رَجُلَيْنِ .
وَهَذَا بَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ وَكَلَ
حِفْظَ مَا سَقَطَ وَذَهَبَ عَنْ الْأَجِلَّةِ الْأَمَاثِلِ مِنْ الْقُرْآنِ
بِرَجُلَيْنِ : خُزَيْمَةَ ، وَأَبِي خُزَيْمَةَ .
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يَنْسَى الرَّجُلُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَذْكُرَهُ لَهُ آخَرُ ، فَيَعُودَ عِلْمُهُ
إلَيْهِ .
وَلَيْسَ فِي نِسْيَانِ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ لَهُ
إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْتِحَالَةٌ عَقْلًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَا
شَرْعًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ حِفْظَهُ ، وَمِنْ حِفْظِهِ الْبَدِيعِ أَنْ
تَذْهَبَ مِنْهُ آيَةٌ أَوْ سُورَةٌ
إلَّا عَنْ
وَاحِدٍ ، فَيَذْكُرَهَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ ، فَيَتَذَكَّرَهَا الْجَمِيعُ ؛
فَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ حِفْظِ اللَّهِ لَهَا .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَيُقَالُ لَهُ
أَيْضًا : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، فَكَيْفَ
تَدَّعِي عَلَيْهِ الْوَضْعَ ، وَقَدْ رَوَاهُ الْعَدْلُ عَنْ الْعَدْلِ ، وَتَدَّعِي
فِيهِ الِاضْطِرَابَ ، وَهُوَ فِي سِلْكِ الصَّوَابِ مُنْتَظِمٌ ، وَتَقُولُ
أُخْرَى : إنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَمَا الَّذِي تَضَمَّنَ مِنْ
الِاسْتِحَالَةِ أَوْ الْجَهَالَةِ حَتَّى يُعَابَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرْته فِي مُعَارَضَتِهِ عَنْ بَعْضِ
رُوَاتِهِ أَوْ عَنْ رَأْيٍ فَهُوَ الْمُضْطَرِبُ الْمَوْضُوعُ الَّذِي لَمْ
يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ
بِالضِّعَافِ وَالثِّقَاتُ بِالْمَوْضُوعَاتِ ؟ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ؟
قُلْنَا : هَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِالرِّوَايَةِ ،
وَقَدْ عَدِمَتْ ، لَا هَمَّ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ ذَكَرَ فِي
ذَلِكَ وُجُوهًا ، أَجْوَدُهَا خَمْسَةٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً ، وَفَعَلَهُ أَبُو
بَكْرٍ لِلْحَاجَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الصُّحُفِ
الْأُولَى ، وَأَنَّهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي مِثْلِهَا بِقَوْلِهِ : { يَتْلُوا
صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } ؛ فَهَذَا اقْتِدَاءٌ بِاَللَّهِ
وَبِرَسُولِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ تَحْقِيقَ
قَوْلِ اللَّهِ : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
} ؛ فَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا ، وَأَخْبَرَنَا أَنْ يَحْفَظَهُ بَعْدَ نُزُولِهِ
، وَمِنْ حِفْظِهِ تَيْسِيرُ الصَّحَابَةِ لِجَمْعِهِ ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَقْيِيدِهِ
وَضَبْطِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُهُ كَتَبَتُهُ بِإِمْلَائِهِ إيَّاهُ عَلَيْهِمْ ، وَهَلْ
يَخْفَى عَلَى مُتَصَوِّرٍ مَعْنًى صَحِيحًا فِي قَلْبِهِ
أَنَّ
ذَلِكَ كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى كَتْبِهِ وَضَبْطِهِ بِالتَّقْيِيدِ فِي الصُّحُفِ
، وَلَوْ كَانَ مَا ضَمِنَهُ اللَّهُ مِنْ حِفْظِهِ لَا عَمَلَ لِلْأُمَّةِ فِيهِ
لَمْ يَكْتُبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
إخْبَارِ اللَّهِ لَهُ بِضَمَانِ حِفْظِهِ ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّ حِفْظَهُ مِنْ
اللَّهِ بِحِفْظِنَا وَتَيْسِيرَهُ ذَلِكَ لَنَا وَتَعْلِيمَهُ لِكِتَابَتِهِ
وَضَبْطِهِ فِي الصُّحُفِ بَيْنَنَا .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ السَّفَرِ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ
الْعَدُوِّ } ؛ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ بَيْنَ الْأُمَّةِ مَكْتُوبٌ
مُسْتَصْحَبٌ فِي الْأَسْفَارِ ، هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْوُجُوهِ عِنْدَ
النُّظَّارِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَأَمَّا كِتَابَةُ
عُثْمَانَ لِلْمَصَاحِفِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إلَى الْكُوفَةِ وَالشَّامِ
وَالْحِجَازِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي
الْقِرَاءَاتِ ، فَأَرَادَ ضَبْطَ الْأَمْرِ لِئَلَّا يَنْتَشِرَ إلَى حَدِّ
التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ ، كَمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ
فِي كُتُبِهِمْ ، وَكَانَ جَمْعُ أَبِي بَكْرٍ لَهُ لِئَلَّا يَذْهَبَ أَصْلُهُ ؛
فَكَانَا أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِسَبَبَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ .
وَقَدْ كَانَ { وَقْعُ مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي
زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ هِشَامِ بْنِ
حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَبَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاخْتَلَفُوا فِي
الْقِرَاءَةِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ ، فَاحْتَمَلَ عُمَرُ هِشَامًا إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْلًا ، حَتَّى قَرَأَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا قَرَأَ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ ، فَصَوَّبَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُلَّ ، وَأَنْبَأَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ
بِاخْتِلَافٍ ، إذْ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، بِأَمْرِهِ نَزَلَ ،
وَبِفَضْلِهِ تَوَسَّعَ فِي حُرُوفِهِ حَتَّى جَعَلَهَا سَبْعَةً } ، فَاخْتَارَ
عُثْمَانُ وَالصَّحَابَةُ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ مَا رَأَوْهُ ظَاهِرًا
مَشْهُورًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مَذْكُورًا ، وَجَمَعُوهُ فِي مَصَاحِفَ ،
وَجُعِلَتْ
أُمَّهَاتٍ فِي الْبُلْدَانِ تَرْجِعُ إلَيْهَا بَنَاتُ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فَأَمَّا حَالُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْكَارُهُ عَلَى زَيْدٍ أَنْ يَتَوَلَّى كَتْبَ
الْمَصَاحِفِ ، وَهُوَ أَقْدَمُ قِرَاءَةً .
قُلْنَا : يَا مَعْشَرَ الطَّالِبِينَ لِلْعِلْمِ ، مَا
نَقَمَ قَطُّ عَلَى عُثْمَانَ شَيْءٌ إلَّا خَرَجَ مِنْهُ كَالشِّهَابِ ،
وَأَنْبَأَ أَنَّهُ أَتَاهُ بِعِلْمٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ
الْمُقْسِطِ ، وَعِنْدَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا قَالَ وَبَلَغَ عُثْمَانُ :
قَالَ عُثْمَانُ : مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، يَدْعُو النَّاسَ إلَى
الْخِلَافِ وَالشُّبْهَةِ ، وَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَنْ لَمْ أُوَلِّهِ نَسْخَ
الْقُرْآنِ ، وَقَدَّمْت زَيْدًا عَلَيْهِ ، فَهَلَّا غَضِبَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ حِينَ قَدَّمَا زَيْدًا لِكِتَابَتِهِ وَتَرَكَاهُ ، إنَّمَا اتَّبَعْت
أَنَا أَمْرَهُمَا ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا حَسَّنَ قَوْلَ
عُثْمَانَ وَعَابَ ابْنَ مَسْعُودٍ
.
وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا ، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ أَنْ
يُبْقِيَ لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ أَثَرًا ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ
عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَرَاجَعَ أَصْحَابَهُ فِي الِاتِّبَاعِ
لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ وَالْقِرَاءَةِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : فَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ بَعْدَ رَبْطِ الْأَمْرِ
بِالثَّبَاتِ وَضَبْطِ الْقُرْآنِ بِالتَّقْيِيدِ .
قُلْنَا
: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلتَّوْسِعَةِ الَّتِي أَذِنَ
اللَّهُ فِيهَا ، وَرَحِمَ بِهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ
أَحْرُفٍ ، فَأَقْرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا ،
وَأَخَذَ كُلُّ صَاحِبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَرْفًا أَوْ جُمْلَةً مِنْهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ تَارَةً
فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ ، وَتَارَةً فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ ، وَلَا شَكَّ فِي
أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْقِرَاءَةِ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ
الْيَوْمَ ، وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ ضَبَطَتْ الْأَمْرَ إلَى حَدٍّ يُقَيَّدُ
مَكْتُوبًا ، وَخَرَجَ مَا بَعْدَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا حَتَّى أَنَّ
مَا تَحْتَمِلُهُ الْحُرُوفُ الْمُقَيَّدَةُ فِي الْقُرْآنِ قَدْ خَرَجَ
أَكْثَرُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، وَقَدْ انْحَصَرَ الْأَمْرُ إلَى مَا
نَقَلَهُ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ بِالْأَمْصَارِ الْخَمْسَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَرْسَلَ ثَلَاثَةَ
مَصَاحِفَ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ احْتَبَسَ مُصْحَفًا ، وَأَرْسَلَ إلَى الشَّامِ
وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ ثَلَاثَةَ مَصَاحِفَ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ أَرْسَلَ
أَرْبَعَةً إلَى الشَّامِ وَالْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَتْ سَبْعَةَ مَصَاحِفَ ، فَبَعَثَ
مُصْحَفًا إلَى مَكَّةَ ، وَإِلَى الْكُوفَةِ آخَرَ ، وَمُصْحَفًا إلَى
الْبَصْرَةِ ، وَمُصْحَفًا إلَى الشَّامِ ، وَمُصْحَفًا إلَى الْيَمَنِ ،
وَمُصْحَفًا إلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَمُصْحَفًا عِنْدَهُ .
فَأَمَّا مُصْحَفُ الْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ فَلَمْ
يُسْمَعْ لَهُمَا خَبَرٌ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذِهِ الْمَصَاحِفُ إنَّمَا
كَانَتْ تَذْكِرَةً لِئَلَّا يَضِيعَ الْقُرْآنُ ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ
فَإِنَّمَا أُخِذَتْ بِالرِّوَايَةِ لَا مِنْ الْمَصَاحِفِ ، أَمَّا إنَّهُمْ
كَانُوا إذَا اخْتَلَفُوا رَجَعُوا إلَيْهَا فَمَا كَانَ فِيهَا عَوَّلُوا
عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الْمَصَاحِفُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، فَإِنَّ
الصَّحَابَةَ أَثْبَتَتْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ ،
وَأَسْقَطَتْهُ فِي الْبَعْضِ ، لِيُحْفَظَ الْقُرْآنُ عَلَى الْأُمَّةِ ، وَتَجْتَمِعَ أَشْتَاتُ الرِّوَايَةِ ، وَيَتَبَيَّنَ وَجْهُ الرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ ، فَانْتَهَتْ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ إلَى أَرْبَعِينَ حَرْفًا فِي هَذِهِ الْمَصَاحِفِ ، وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهَا أَحْرُفٌ يَسِيرَةٌ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ تُرِكَتْ ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْحَاضِرِ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْفَنُّ الَّذِي تَصَدَّيْنَا لَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : إذَا ثَبَتَتْ الْقِرَاءَاتُ ، وَتَقَيَّدَتْ الْحُرُوفُ فَلَيْسَ
يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَقْرَأَ بِقِرَاءَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، كَنَافِعٍ مِثْلًا ،
أَوْ عَاصِمٍ ؛ بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ فَيَتْلُو
حُرُوفَهَا عَلَى ثَلَاثِ قِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ قُرْآنٌ ،
وَلَا يَلْزَمُ جَمْعُهُ ؛ إذْ لَمْ يُنَظِّمْهُ الْبَارِي لِرَسُولِهِ ، وَلَا قَامَ
دَلِيلٌ عَلَى التَّعَبُّدِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَ الْخَلْقَ بِالدَّلِيلِ أَلَّا
يَتَعَدَّوْا الثَّابِتَ إلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ ، فَأَمَّا تَعْيِينُ الثَّابِتِ
فِي التِّلَاوَةِ فَمُسْتَرْسِلٌ عَلَى الثَّابِتِ كُلِّهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ
يُونُسَ فِيهَا مِنْ الْآيَاتِ سِتٌّ .
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ
وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَان وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ
دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ
مِنْ الشَّاكِرِينَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :
{ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْبَرَّ هُوَ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ ، وَالْبَحْرَ هُوَ الْمَاءُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْبَرَّ الْفَيَافِي ، وَالْبَحْرَ
الْأَمْصَارُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَفْسِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحَسَبِ مَا
يَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ مُقَدَّمٍ لَهُ أَوْ بَعْدَهُ ، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا
: { حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } .
فَهَذَا نَصٌّ بَيِّنٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْرِ
غَمْرَةُ الْمَاءِ ، وَقَرِينَتُهَا الْمُبَيِّنَةُ لَهَا قَوْلُهُ : حَتَّى إذَا
كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ، وَقَوْلُهُ : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } ، فَقَوْلُهُ : { مِنْ الْفُلْكِ } هُوَ
لِلْبَحْرِ ، وَقَوْلُهُ : ( " الْأَنْعَامِ " ) هُوَ لِلْبَرِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قُرِئَ { يُسَيِّرُكُمْ }
بِالْيَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ ، وَنَنْشُرُكُمْ بِالنُّونِ وَالشَّيْنِ
الْمُعْجَمَةِ ، وَأَرَادَ الْيَحْصُبِيُّ يَبْسُطُكُمْ بَرًّا وَبَحْرًا ، وَأَرَادَ
غَيْرَهُ مِنْ السَّيْرِ ، وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ رُكُوبِ الْبَحْرِ ، وَقَدْ وَرَدَ
ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقَيْنِ : رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ :
إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ ، فَإِنْ
تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا ، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ ؟ قَالَ : هُوَ
الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ ،
فَنَامَ عِنْدَهَا ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ ، فَقَالَتْ لَهُ : مَا
يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ
غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى
الْأَسِرَّةِ ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ .
قَالَتْ : فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ .
فَدَعَا لَهَا ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ ، ثُمَّ
اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا يُضْحِكُك ؟
قَالَ : نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ
مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ كَمَا
قَالَ فِي الْأُولَى .
قَالَتْ ، فَقُلْت : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي
مِنْهُمْ .
قَالَ : أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ } الْحَدِيثَ .
فَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ
الْبَحْرِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الضَّرُورَةَ
تَدْعُو إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ بِهِ وَسَطَ الْأَرْضِ ، فَانْفَلَقَتْ
، وَجَعَلَ الْخَلْقَ فِي الْعُدْوَتَيْنِ ، وَقَسَّمَ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ
، وَلَا يُوصَلُ إلَى جَلْبِهَا إلَّا بِشَقِّ الْبَحْرِ [ لَهَا ] ، فَسَهَّلَ اللَّهُ
سَبِيلَهُ بِالْفُلْكِ ، وَعَلَّمَهَا نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وِرَاثَةً فِي الْعَالَمِينَ بِمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ ، وَقَالَ لَهُ : صَوِّرْهَا
عَلَى جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ ، فَالسَّفِينَةُ طَائِرٌ مَقْلُوبٌ ، وَالْمَاءُ فِي
اسْتِفَالِهِ لِلسَّفِينَةِ نَظِيرُ الْهَوَاءِ فِي
اعْتِلَائِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَمَّا الْقُرْآنُ
فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ [
اللَّذَانِ جَلَبْنَاهُمَا فَيَدُلُّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى جَوَازِ
رُكُوبِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ
كَوْنِهِ فِي الْغَزْوِ ، وَهِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ أَجَازَهَا مَعَ ] مَا
فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ مِنْهُ السَّلَامَةُ ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ
يَرْكَبُونَهُ لَا حَاصِرَ لَهُمْ ، وَاَلَّذِينَ يَهْلِكُونَ فِيهِ مَحْصُورُونَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ } : فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهَا : يَرْكَبُونَ ظَهْرَهُ عَلَى الْفُلْكِ رُكُوبَ الْمُلُوكِ
الْأَسِرَّةَ عَلَى الْأَرْضِ .
الثَّانِي : يَرْكَبُونَ الْفُلْكَ لِسَعَةِ الْحَالِ
وَالْمِلْكِ كَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمُلْكِ .
وَيُعَارِضُ هَذَا قَوْله تَعَالَى : { أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ هَؤُلَاءِ بِالْمُلْكِ
وَوَصَفَ اللَّهَ هَؤُلَاءِ بِالْمَسْكَنَةِ .
وَمِنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ فَرَّ قَوْمٌ فَقَالُوا : إنَّ
الْقِرَاءَةَ فِيهَا : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَّاكِينَ بِتَشْدِيدِ
السِّينِ .
وَقَالَ قَوْمٌ إنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْمَسْكَنَةِ
لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ فِي الْبَحْرِ وَضَعْفِ
الْحِيلَةِ فِيهِ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْحَوْلَ
وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ عِيَانًا فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ .
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَسْكَنَتَهُمْ
كَانَتْ لِوَجْهَيْنِ : : أَحَدُهُمَا : لِدُخُولِهِمْ الْبَحْرَ .
وَالثَّانِي :
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ وَلَا مِلْكٌ إلَّا
السَّفِينَةُ ، وَهُمْ لَا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ بِالْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ ،
وَالْعَزْمِ وَالشِّدَّةِ ، يَقْصِدُونَ الْغَلَبَةَ ، وَهَذِهِ حَالَةٌ
لِلْمُلْكِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي
رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلْمُسْلِمِينَ ، لِمَا كَانَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ
الْغَرَرِ ، إذْ لَمْ يَرَهُ إلَّا
لِضَرُورَةٍ
كَمَا رَكِبَهُ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْحَبَشَةِ لِلضَّرُورَةِ أَوَّلًا وَآخِرًا
، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي الْفِرَارِ مِنْ نِكَايَةِ الْمُشْرِكِينَ ، وَأَمَّا
الْآخِرُ فَلِنَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَوْنِ
مَعَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا حَصَلَ الْمَرْءُ فِي
ارْتِجَاجِ الْبَحْرِ وَغَلَبَتِهِ وَعَصْفِهِ وَتَعَابُسِ أَمْوَاجِهِ
فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ .
قَوْله تَعَالَى
: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ
وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : تَفْسِيرُ
التَّحِيَّةِ : وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْمُلْكُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْبَقَاءُ قَالَ الْمُعَمَّرُ :
أَبَنِيَّ إنْ أَهْلَكَ فَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ بَنِيَّهْ وَتَرَكْتُكُمْ
أَوْلَادَ سَادَاتٍ زِنَادُكُمْ وَرِيَّهُ وَلَكُلُّ مَا نَالَ الْفَتَى قَدْ
نِلْتُهُ إلَّا التَّحِيَّهْ يَعْنِي الْبَقَاءَ .
الثَّالِثُ : [ أَنَّهَا ] السَّلَامُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِهَا
قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَلَكَ يَأْتِيهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ
فَيَقُولُ لَهُمْ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ سَلِمْتُمْ ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ ،
فَإِذَا أَكَلُوهُ قَالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى تَحِيَّتِهِمْ تَحِيَّةُ
بَعْضِهِمْ بَعْضًا ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ كَمَا بَيَّنَّا : { أَنَّ
اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ إلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ
مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ ، فَجَاءَهُمْ فَقَالَ : سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ ، فَقَالُوا لَهُ : وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ،
فَقَالَ لَهُ : هَذِهِ تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ } وَبَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ هَاهُنَا أَنَّهَا تَحِيَّتُهُمْ فِي
الْجَنَّةِ ، فَهِيَ تَحِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ مِنْ ابْتِدَاءِ الْخِلْقَةِ إلَى
غَيْرِ غَايَةٍ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ
: { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ } ؛ أَيْ هَذَا السَّلَامُ الَّذِي بَيْنَ
أَظْهُرِكُمْ تَتَقَابَلُونَ بِهِ
.
وَالْقَوْلَانِ مُحْتَمَلَانِ ، وَهَذَا أَظْهَرُ ؛
لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي تَفْسِيرِ { الْحَقِّ } وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى
" فِي تَسْمِيَةِ الْبَارِي تَعَالَى بِهِ .
وَلُبَابُهُ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ ،
وَالْوُجُودُ عَلَى قِسْمَيْنِ : وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ ، وَوُجُودٌ شَرْعِيٌّ .
فَأَمَّا الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ فَلَيْسَ إلَّا
لِلَّهِ وَصِفَاتِهِ ، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَنْتَ الْحَقُّ ، وَقَوْلُك الْحَقُّ ، وَوَعْدُك الْحَقُّ ،
وَلِقَاؤُك حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ } .
فَأَمَّا اللَّهُ وَصِفَاتُهُ فَوُجُودُهَا [ هُوَ ]
حَقٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهَا عَدَمٌ ، وَلَا يَعْقُبُهَا فَنَاءٌ .
وَأَمَّا لِقَاءُ اللَّهِ فَهُوَ حَقٌّ سَبَقَهُ عَدَمٌ
، وَيَعْقُبُهُ مِثْلُهُ .
وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَهُمَا حَقَّانِ ،
سَبَقَهُمَا عَدَمٌ ، وَلَا يَعْقُبُهَا فَنَاءٌ ، لَكِنَّ مَا فِيهَا مِنْ
أَنْوَاعِ الْعَذَابِ أَعْرَاضٌ
.
وَأَمَّا الْوُجُودُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ الَّذِي
يُحَسِّنُهُ الشَّرْعُ ، وَهُوَ وَاجِبٌ وَغَيْرُ وَاجِبٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى
الْبَاطِلِ : وَهُوَ ضِدُّ الْحَقِّ ، وَالضِّدُّ رُبَّمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةَ
الضِّدِّ ، فَإِذَا قُلْنَا : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً ، فَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ
، وَعَنْهُ عَبَّرَ الَّذِي يَقُولُ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ
بَاطِلُ وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ وَإِنْ قُلْنَا : [ إنَّ ]
الْحَقَّ هُوَ الْحَسَنُ شَرْعًا فَالْبَاطِلُ هُوَ الْقَبِيحُ شَرْعًا ، وَمُقَابَلَةُ
الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ عُرِفَ لُغَةً وَشَرْعًا ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } .
كَمَا أَنَّ مُقَابَلَةَ الْحَقِّ بِالضَّلَالِ عُرِفَ
أَيْضًا لُغَةً وَشَرْعًا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ : {
فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } ،
وَقَدْ
بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْحَقِّ .
فَأَمَّا حَقِيقَةُ الضَّلَالِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فَهُوَ الذَّهَابُ عَنْ الْحَقِّ ، أُخِذَ مِنْ ضَلَالِ الطَّرِيقِ
، وَهُوَ الْعُدُولُ عَنْ سَمْتِ الْقَصْدِ ، وَخُصَّ فِي الشَّرْعِ
بِالْعِبَارَةِ عَنْ الْعُدُولِ عَنْ السَّدَادِ فِي الِاعْتِقَادِ دُونَ
الْأَعْمَالِ .
وَمِنْ غَرِيبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ
عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ إذَا قَابَلَهُ غَفْلَةً ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ
بِعَدَمِهِ جَهْلٌ أَوْ شَكٌّ ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ : {
وَوَجَدَك ضَالًّا فَهَدَى } .
الَّذِي حَقَّقَهُ قَوْلُهُ : { مَا كُنْت تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ }
.
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ
مَالِكٍ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ }
؟ فَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ مِنْ الضَّلَالِ .
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ : سُئِلَ يَعْنِي
مَالِكًا عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ قَالَ : لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَلَيْسَ
بِشَيْءٍ وَهُوَ مِنْ الْبَاطِلِ ، وَاللَّعِبُ كُلُّهُ مِنْ الْبَاطِلِ ،
وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِذِي الْعَقْلِ أَنْ تَنْهَاهُ اللِّحْيَةُ وَالشَّيْبُ عَنْ
الْبَاطِلِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَسْلَمَ فِي
شَيْءٍ : أَمَا تَنْهَاك لِحْيَتُك هَذِهِ ؟ قَالَ أَسْلَمُ : فَمَكَثْت زَمَانًا
وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهَا سَتَنْهَانِي
.
فَقِيلَ لِمَالِكٍ لِمَا كَانَ عُمَرُ لَا يَزَالُ
يَقُولُ فَيَكُونُ .
فَقَالَ : نَعَمْ [ فِي رَأْيِي ] .
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ
سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَلْعَبُ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي بَيْتِهِ .
فَقَالَ مَالِكٌ : مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَ
مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّعِبُ ؛ يَقُولُ اللَّهُ : { فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } ، وَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ خِدَاشٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ
سُئِلَ عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ قَالَ : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا
الضَّلَالُ } .
رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْجُهَنِيُّ ؛ قَالَ : قُلْت
لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : أَدْعُو الرَّجُلَ لِعَبَثِي .
فَقَالَ مَالِكٌ : أَذَلِكَ مِنْ الْحَقِّ ؟ قُلْت : لَا .
قَالَ : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } .
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : هَذَا مُنْتَهَى مَا
تَحَصَّلَ لِي مِنْ أَلْفَاظِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَقَدْ
اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُخَالِفِينَ ، فَقَالَ :
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ اللَّهِ هُوَ الضَّلَالُ
؛ لِأَنَّ أَوَّلَهَا : { فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } فَهَذَا فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَعْنِي لَيْسَ
فِي الْأَعْمَالِ .
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ
الْمُتَقَدِّمِينَ ، فَقَالَ : إنَّ
الْكُفْرَ
تَغْطِيَةُ الْحَقِّ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ يَجْرِي هَذَا
الْمَجْرَى .
هَذَا مُنْتَهَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ أَبَاحَ
وَحَرَّمَ ، فَالْحَرَامُ ضَلَالٌ ، وَالْمُبَاحُ هُدًى ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ
حَقًّا كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فَالشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمُبَاحِ ،
فَلَا يَكُونُ مِنْ الضَّلَالِ ؛ لِأَنَّ مَنْ اسْتَبَاحَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَا
يُقَالُ لَهُ ضَالٌّ ، وَإِنْ كَانَ الشِّطْرَنْجُ خَارِجًا مِنْ الْمُبَاحِ
فَيَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ ، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ
فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ الضَّلَالِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ ،
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ ، وَأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ
يُخَالِفُ النَّرْدَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إكْدَادَ الْفَهْمِ ، وَاسْتِعْمَالَ الْقَرِيحَةِ
، وَالنَّرْدُ قِمَارٌ غَرَرٌ لَا يَعْلَمُ مَا يَخْرُجُ لَهُ فِيهِ ،
كَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ
.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الثَّابِتَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَعِبَ
بِالنَّرْدَشِيرِ فَقَدْ غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ }
يُوجِبُ النَّهْيَ عَنْ الشِّطْرَنْجِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يَشْغَلُ عَنْ ذَكَرِ
اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ، وَالْفَهْمُ يُكَدُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَإِنْ تَفَاضَلَا فِيهِ .
وَأَمَّا لَعِبُ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ
بِالْأَرْبَعِ عَشَرَةَ فَالْمُمْتَنِعُ لَا تَفْتَرِقُ فِيهِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ
لِلرَّجُلِ وَلَا الْأَجْنَبِيِّ مِنْهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْعَبَ مَعَهَا
بِالنَّرْدَشِيرِ لِعُمُومِ النَّهْيِ فِيهِ ، وَالْأَرْبَعَ عَشَرَةَ قِمَارٌ
مِثْلُهُ .
وَأَمَّا الْغِنَاءُ فَإِنَّهُ مِنْ اللَّهْوِ
الْمُهَيِّجِ لِلْقُلُوبِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ
أَنَسٍ ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ .
أَمَّا إنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ [ دَلِيلًا عَلَى
] إبَاحَتِهِ ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى
عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ حَادِيَتَانِ مِنْ
حَادِيَاتِ
الْأَنْصَارِ ، تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ الْأَنْصَارُ بِهِ يَوْمَ بُعَاثٍ
، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :
دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ } فَلَوْ كَانَ الْغِنَاءُ
حَرَامًا مَا كَانَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ .
وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِظَاهِرِ الْحَالِ ،
فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِ الرُّخْصَةِ
وَالرِّفْقِ بِالْخَلِيقَةِ فِي إجْمَامِ الْقُلُوبِ ؛ إذْ لَيْسَ جَمِيعُهَا
يَحْمِلُ الْجِدَّ دَائِمًا .
وَتَعْلِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ دَوَامِهِ ،
وَرُخْصَتِهِ فِي الْأَسْبَابِ كَالْعِيدِ ، وَالْعُرْسِ ، وَقُدُومِ الْغَائِبِ ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي تُؤَلِّفُ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِينَ
وَالْمُفْتَرِقَاتِ عَادَةً .
وَكُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي التَّحْرِيمِ أَوْ آيَةٍ
تُتْلَى فِيهِ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ سَنَدًا ، بَاطِلٌ مُعْتَقَدًا ، خَبَرًا
وَتَأْوِيلًا ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَخَّصَ فِي الْغِنَاءِ فِي الْعِيدَيْنِ ، وَفِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ
مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ ابْنِ وَدِيعَةَ .
الْآيَةُ
الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ
أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } .
وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ
لَا يَكُونَانِ عَقْلًا وَلَا تَشَهِّيًا ؛ وَإِنَّمَا الْمُحَرِّمُ
وَالْمُحَلِّلُ هُوَ اللَّهُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي
مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ
قَوْله تَعَالَى : { لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بُشْرَى اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ
وَعْدِهِ الْكَرِيمِ ، فِي قَوْلِهِ : { وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ } ، { وَبَشِّرْ
الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَوْلِهِ : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ } وَنَظَائِرِهِ .
الثَّانِي : مَا رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
قَالَ : " هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ ، يَرَاهَا
الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ
" .
قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ : سَأَلْت أَبَا
الدَّرْدَاءِ عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } فَقَالَ : مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ
سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عَنْهَا ؛ { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عَنْهَا ؛ فَقَالَ : مَا سَأَلَنِي
أَحَدٌ عَنْهَا غَيْرُك مُنْذُ أُنْزِلَتْ ؛ فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ
يَرَاهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ
وَطَلْحَةَ ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا طَرِيقٌ وَلَكِنَّهَا حِسَانٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَاَلَّذِي ثَبَتَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَابِ : { الرُّؤْيَا
الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ
وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } .
وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ ، وَمَعْنَاهُ بَدِيعٌ ، قَدْ
تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ،
وَسَيَأْتِي جُمْلَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ إنْ شَاءَ
اللَّهُ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ
تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الْقَوْلُ فِي الْقِبْلَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِهَا : هَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الصَّلَاةِ كَانَتْ شَرْعًا لِمُوسَى فِي
صَلَاتِهِ وَلِقَوْمِهِ ، وَلَمْ تَخْلُ الصَّلَاةُ قَطُّ عَنْ شَرْطِ
الطَّهَارَتَيْنِ ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ ؛ فَإِنَّ
ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّكْلِيفِ ، وَأَوْقَرُ لِلْعِبَادَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قِيلَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ
: { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } : يَعْنِي : بَيْتَ الْمَقْدِسِ أُمِرُوا
أَنْ يَسْتَقْبِلُوهَا حَيْثُمَا كَانُوا ، وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةً مِنْ
الزَّمَانِ قِبْلَةً ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ .
وَقِيلَ :
أَرَادَ بِهِ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ دُونَ بِيَعِكُمْ
إذَا كُنْتُمْ خَائِفِينَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ دِينِهِمْ أَنَّهُمْ لَا
يُصَلُّونَ إلَّا فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ مَا دَامُوا عَلَى أَمْنٍ ،
فَإِذَا خَافُوا فَقَدْ أَذِنَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ ، وَالْأَوَّلُ
أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ دَعْوَى .
[ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى
سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ] .
سُورَةُ هُودٍ
فِيهَا ثَمَانِي آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا
وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ
} .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } بَيَانٌ لِمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ } ؛ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُعْطَى إلَّا عَلَى وَجْهِ
قَصْدِهِ ، وَبِحُكْمِ مَا يَنْعَقِدُ ضَمِيرُهُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا أَمْرٌ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْأُمَمِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ
مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا يُعْطَى ثَوَابَ عَمَلِهِ فِيهَا ، وَلَا يُبْخَسُ مِنْهُ
شَيْئًا .
وَاخْتُلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ التَّوْفِيَةِ ؛
فَقِيلَ فِي ذَلِكَ صِحَّةُ بَدَنِهِ أَوْ إدْرَارُ رِزْقِهِ .
وَقِيلَ :
هَذِهِ الْآيَةُ مُطْلَقَةٌ ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ
الَّتِي فِي حم عسق : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ } الْآيَةُ قَيَّدَهَا وَفَسَّرَهَا
بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ سُبْحَانَ ، وَهِيَ قَوْلُهُ { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ
عَجَّلْنَا لَهُ } إلَى : { مَحْظُورًا
} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْوِي
وَيُرِيدُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُرِيدُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ
بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَقِيلَ : إنَّهُ الْكَافِرُ ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ
حُكْمُهُ الْأَفْضَلُ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ فِي الْكَفَرَةِ ، وَفِي
أَهْلِ الرِّيَاءِ .
قَالَ الْقَاضِي : هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَنْوِي
غَيْرَ اللَّهِ بِعَمَلِهِ ، كَانَ مَعَهُ أَصْلُ إيمَانٍ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { قَالَ اللَّهُ : إنِّي لَا أَقْبَلُ عَمَلًا أُشْرِكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي ،
أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنْ الشِّرْكِ } .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إذَا كَانَ
يَوْمُ الْقِيَامَةِ
نَزَلَ
إلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ ، فَأَوَّلُ مَنْ
يُدْعَى بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ،
وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ : أَلَمْ أُعَلِّمْك
مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ .
قَالَ : فَمَاذَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت ؟ قَالَ :
كُنْت أَقُومُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ .
فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : كَذَبْتَ ،
وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْتَ ، وَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ : بَلْ أَرَدْتَ
أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ قَارِئٌ ؛ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ .
وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى : أَوَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْك حَتَّى لَمْ أَدَعَكَ تَحْتَاجُ إلَى
أَحَدٍ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى يَا رَبِّ .
فَيَقُولُ : فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُك ؟ قَالَ
: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ ، فَيَقُولُ اللَّهُ : كَذَبْت ،
وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْت : بَلْ أَرَدْت أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَوَادٌ
، فَقَدْ قِيلَ لَك ذَلِكَ .
وَيُؤْتَى بِاَلَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ،
فَيُقَالُ لَهُ : فِيمَا ذَا قُتِلْت ؟ فَيَقُولُ : أُمِرْت بِالْجِهَادِ فِي
سَبِيلِك فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ
.
فَيَقُولُ اللَّهُ : كَذَبْت ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ
: كَذَبْت ، وَيَقُولُ اللَّهُ : بَلْ أَرَدْت أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ ،
فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ .
ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى رُكْبَتَيَّ وَقَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ
أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } أَيْ فِي الدُّنْيَا ، وَهَذَا نَصٌّ فِي مُرَادِ الْآيَةِ
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِيهَا
ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ ابْنِ
أَشْرَسَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ مَلَئُوا الْأَرْضَ
حَتَّى مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ ، فَمَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ أَنْ
يَنْزِلُوا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ أَنْ يَنْزِلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ ،
فَلَبِثَ نُوحُ يَغْرِسُ الشَّجَرَ مِائَةَ عَامٍ لِعَمَلِ السَّفِينَةِ ، ثُمَّ
جَمَعَهَا يَيْبَسُهَا مِائَةَ عَامٍ ، وَقَوْمُهُ يَسْخَرُونَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ
لَمَّا رَأَوْهُ يَصْنَعُ ذَلِكَ ، حَتَّى كَانَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فِيهِمْ مَا
كَانَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ
ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ } وَذَلِكَ نَصٌّ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَعَلَى كُلِّ
أَمْرٍ وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ : { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ
لَمْ يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ } .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ ، حَتَّى قَالَ جَمَاعَةٌ :
إنَّهُ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ مَعَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ ، حَتَّى يَجْمَعَ
بَيْنَ الذِّكْرِ وَالنِّيَّةِ ، وَمِنْ أَشَدِّهِ فِي النَّدْبِ ذِكْرُ اللَّهِ
فِي ابْتِدَاءِ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ ، وَمِنْ الْوُجُوبِ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ
عِنْدَ الذَّبْحِ ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ تَعْدِيدِ مَوَاضِعِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ : { مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
لَمَّا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ أَوْحَى اللَّهُ إلَى نُوحٍ { أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك
إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَاصْنَعْ الْفُلْكَ } .
قَالَ :
يَا رَبُّ ، مَا أَنَا بِنَجَّارٍ قَالَ : بَلَى ،
فَإِنَّ ذَلِكَ بِعَيْنِي ؛ فَأَخَذَ الْقَدُومَ ، فَجَعَلَتْ يَدُهُ لَا تُخْطِئُ
، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ بِهِ فَيَقُولُونَ : هَذَا النَّبِيُّ الَّذِي يَزْعُمُ
أَنَّهُ نَبِيٌّ قَدْ صَارَ نَجَّارًا ، فَعَمِلَهَا فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً ،
ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ } ، فَحَمَلَ فِيهَا ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْمَاءَ مِنْ السَّمَاءِ ،
وَفَتَحَ الْأَرْضَ ، وَلَجَأَ ابْنُ نُوحٍ إلَى جَبَلٍ ، فَعَلَا الْمَاءُ عَلَى
الْجَبَلِ سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَنَادَى نُوحٌ
ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } يَعْنِي عَنْهُ إلَى قَوْلِهِ : { مِنْ الْجَاهِلِينَ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ
لِأَجْلِ قَوْلِ اللَّهِ : { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ } إلَى : { وَأَهْلَكَ }
وَتَرَكَ نُوحٌ قَوْلَهُ : إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ
رَآهُ اسْتِثْنَاءً عَائِدًا إلَى قَوْلِهِ : مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ،
وَحَمَلَهُ الرَّجَاءُ عَلَى ذَلِكَ ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ
عَائِدٌ إلَى الْكُلِّ ، وَأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ ،
كَمَا سَبَقَ عَلَى بَعْضٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ ، وَأَنَّ الَّذِي سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ مِنْ أَهْلِهِ هُوَ ابْنُهُ تَسْلِيَةً لِلْخَلْقِ فِي فَسَادِ
أَبْنَائِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا صَالِحِينَ ، وَنَشَأَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ ،
وَهِيَ أَنَّ الِابْنَ مِنْ الْأَهْلِ اسْمًا وَلُغَةً ، وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْآيَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ
اُعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنْ
الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ
رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } .
قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ :
الِاسْتِعْمَارُ طَلَبُ الْعِمَارَةِ ، وَالطَّلَبُ الْمُطْلَقُ مِنْ اللَّهِ
عَلَى الْوُجُوبِ .
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : تَأْتِي كَلِمَةُ
اسْتَفْعَلَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَعَانٍ ، مِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى
طَلَبَ الْفِعْلَ ، كَقَوْلِهِ : اسْتَحْمَلْت فُلَانًا أَيْ طَلَبْت مِنْهُ
حُمْلَانًا .
وَمِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى اعْتَقَدَ ، كَقَوْلِهِمْ
: اسْتَسْهَلْت هَذَا الْأَمْرَ ، أَيْ اعْتَقَدْته سَهْلًا ، أَوْ وَجَدْته
سَهْلًا ، وَاسْتَعْظَمْته أَيْ اعْتَقَدْته عَظِيمًا .
وَمِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَصَبْت الْفِعْلَ ،
كَقَوْلِك : اسْتَجْدَتْهُ ، أَيْ أَصَبْته جَيِّدًا ، وَقَدْ يَكُونُ طَلَبْته
جَيِّدًا .
وَمِنْهَا بِمَعْنَى فَعَلَ ، كَقَوْلِهِ ، قَرَّ فِي
الْمَكَانِ وَاسْتَقَرَّ .
وَقَالُوا :
إنَّ قَوْلَهُ يَسْتَهْزِئُونَ ، وَيَسْتَحْسِرُونَ
مِنْهُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : " اسْتَعْمَرَكُمْ " : خَلَقَكُمْ
لِعِمَارَتِهَا عَلَى مَعْنَى اسْتَجْدَتْهُ وَاسْتَسْهَلْته ، أَيْ أَصَبْته
جَيِّدًا وَسَهْلًا ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ فِي الْخَالِقِ ، فَتَرْجِعُ إلَى
أَنَّهُ خُلِقَ ؛ لِأَنَّهُ الْفَائِدَةُ ، وَيُعَبَّرُ عَنْ الشَّيْءِ
بِفَائِدَتِهِ مَجَازًا ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ
يُقَالَ إنَّهُ طَلَبَ مِنْ اللَّهِ ضِمَارَتَهَا ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَجُوزُ
فِي حَقِّهِ ، أَمَّا إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ اسْتَدْعَى
عِمَارَتَهَا فَإِنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ اسْتَفْعَلَ ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ
الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ إذَا كَانَ أَمْرٌ ، أَوْ طَلَبَ
الْفِعْلَ إذَا كَانَ مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى رَغْبَةً ، وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ
.
قَوْله تَعَالَى
: { وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ
سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَدْ بَيَّنَّا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ إعْرَابَ الْآيَةِ ، وَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيُّ
: إنَّهُ عَمِلَ فِي " سَلَامٍ " الْأَوَّلِ الْقَوْلُ ، كَأَنَّهُ
قَالَ : قَالُوا قَوْلًا وَسَلَّمُوا سَلَامًا .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ : مَعْنَاهُ سَلَامًا .
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ :
إنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَظْهَرُ وُجُوهِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَمِلَ فِيهِ
الْقَوْلُ كَانَ عَلَى مَعْنَى السَّلَامِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُ لَفْظِهِ ، كَأَنَّهُ
أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى الْمَعْنَى ، كَمَا تَقُولُ : قُلْت حَقًّا ، وَلَمْ
يَنْطِقْ بِالْحَاءِ وَالْقَافِ ، وَإِنَّمَا قُلْت قَوْلًا مَعْنَاهُ حَقٌّ ،
وَهُمْ إنَّمَا تَكَلَّمُوا بِسَلَامٍ ، وَلِذَا أَجَابَهُمْ بِالسَّلَامِ ،
وَعَلَى هَذَا جَرَى قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ .
قَالَ : فَإِنَّهُ يَقُولُ أَمْرِي سَلَامٌ ،
أَجَابَهُمْ عَلَى الْمَعْنَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا
قَوْلُهُ : { قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَلَائِكَةِ هِيَ
تَحِيَّةُ بَنِي آدَمَ .
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : الصَّحِيحُ أَنَّ "
سَلَامًا " هَاهُنَا مَعْنَى كَلَامِهِمْ لَا لَفْظُهُ ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي
قَوْلِهِ : { وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } ، وَلَوْ
كَانَ لَفْظُ كَلَامِهِمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذِكْرَ
اللَّفْظِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ ذِكْرَ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ
سَلَامٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرَادَ
ذِكْرَ اللَّفْظِ قَالَ بِعَيْنِهِ ، فَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ الْمَلَائِكَةِ : { سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ }
.
{ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ
} ، وَأَبْدَعُ مِنْهُ فِي الدَّلَالَةِ أَنَّهُ قَالَ : { وَتَرَكْنَا
عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } .
وَقَالَ أَيْضًا : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي
الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إلْ يَاسِينَ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْلُهُ : { قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ
} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ يُرَدُّ بِمِثْلِهِ ، كَمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ
عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِي قَالَ : كُنْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَيُسَلَّمُ
عَلَيْهِ فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، وَيُرَدُّ كَمَا يُقَالُ .
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : هَذَا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا
سَلَامٌ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } .
قَدَّمَهُ إلَيْهِمْ نُزُلًا وَضِيَافَةً ، وَهُوَ
أَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ .
وَفِي الإسرائليات أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ
، فَإِذَا حَضَرَ طَعَامُهُ أَرْسَلَ يَطْلُبُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ ؛ فَلَقِيَ
يَوْمًا رَجُلًا فَلَمَّا جَلَسَ مَعَهُ عَلَى الطَّعَامِ قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ : سَمِّ اللَّهَ .
قَالَ لَهُ الرَّجُلُ : لَا أَدْرِي مَا اللَّهُ ؛ قَالَ
لَهُ : فَاخْرُجْ عَنْ طَعَامِي
.
فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ نَزَلَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ
فَقَالَ لَهُ : يَقُولُ [ اللَّهُ ] : إنَّهُ يَرْزُقُهُ عَلَى كُفْرِهِ مَدَى عُمُرِهِ
، وَأَنْتَ بَخِلْت عَلَيْهِ بِلُقْمَةٍ ، فَخَرَجَ إبْرَاهِيمُ مُسْرِعًا
فَرَدَّهُ ، فَقَالَ : [ ارْجِعْ قَالَ ] : لَا أَرْجِعُ ؛ تُخْرِجُنِي ثُمَّ تَرُدُّنِي
لِغَيْرِ مَعْنًى ، فَأَخْبَرَهُ بِالْأَمْرِ ، فَقَالَ : هَذَا رَبٌّ كَرِيمٌ .
آمَنْت
.
وَدَخَلَ وَسَمَّى اللَّهَ ، وَأَكَلَ مُؤْمِنًا .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ
الضِّيَافَةَ وَاجِبَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ
كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ،
جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ [ أَنَّهُ قَالَ ] : { ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ [ صَحِيحٌ ] خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ
وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ .
وَذَهَبَ عُلَمَاءُ الْفِقْهِ إلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ
لَا تَجِبُ ؛ إنَّمَا هِيَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ
بَيْنَ الْخَلْقِ ، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى
النَّدْبِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ } ؛ وَالْكَرَامَةُ
مِنْ خَصَائِصِ النَّدْبِ دُونَ الْوُجُوبِ .
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : إنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ
الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ نُسِخَ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ لَمْ
يَثْبُتْ وَالنَّاسِخَ لَمْ يَرِدْ
.
أَمَّا إنَّهُ قَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { نَزَلْنَا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ
الْعَرَبِ فَاسْتَضَفْنَاهُمْ ، فَأَبَوْا ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ
فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ
الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ ،
فَقَالُوا : يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ ؛ إنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ ، وَقَدْ سَعَيْنَا
لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ ؟
قَالَ بَعْضُهُمْ : إنِّي وَاَللَّهِ أَرْقِي ، وَلَكِنْ وَاَللَّهِ لَقَدْ
اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا ، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ حَتَّى تَجْعَلُوا
لَنَا جُعَلًا .
فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ ،
فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ ، وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ، فَكَأَنَّمَا أُنْشِطُ مِنْ عِقَالٍ ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا
بِهِ قَلَبَةٌ .
قَالَ : فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ
عَلَيْهِ .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : اقْسِمُوا ، وَقَالَ
الَّذِي رَقَى
: لَا تَفْعَلُوا ، حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ ، فَنَنْظُرَ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ .
فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ
ثُمَّ قَالَ : اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا .
فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : فَاسْتَضَفْنَاهُمْ
فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُونَا ، ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الضِّيَافَةَ لَوْ كَانَتْ
حَقًّا لَلَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْمَ الَّذِينَ
أَبَوْا وَبَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ ، وَلَكِنَّ الضِّيَافَةَ حَقِيقَةً فَرْضٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْقُرَى
حَيْثُ لَا طَعَامَ وَلَا مَأْوَى ، بِخِلَافِ الْحَوَاضِرِ ، فَإِنَّهَا
مَشْحُونَةٌ بِالْمَأْوِيَّاتِ وَالْأَقْوَاتِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّيْفَ
كَرِيمٌ ، وَالضِّيَافَةَ كَرَامَةٌ ، فَإِنْ كَانَ عَدِيمًا فَهِيَ فَرِيضَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }
قَالَ كُبَرَاءُ النَّحْوِيِّينَ : فَمَا لَبِثَ حَتَّى جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ، وَأَعْجَبُ
لَهُمْ كَيْفَ اسْتَجَازُوا ذَلِكَ مَعَ سِعَةِ مَعْرِفَتِهِمْ .
وَقَالَ غَيْرُهُمْ مَا قَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذِكْرَهُ
فِي الْمُلْجِئَةِ ، وَحَقَّقْنَا [ أَنَّ مَوْضِعَ ] " أَنْ جَاءَ "
مَنْصُوبٌ عَلَى حُكْمِ الْمَفْعُولِ
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : مُبَادَرَةُ إبْرَاهِيمَ بِالنُّزُولِ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُمْ
أَضْيَافٌ مَشْكُورَةٌ مِنْ اللَّهِ مَتْلُوَّةٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي الثَّنَاءِ
بِهَا عَلَيْهِ ، تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي إنْزَالِهِ فِيهِ حِينَ قَالَ فِي مَوْضِعِ
: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ .
وَفِي آخَرَ : فَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أَيْ مَشْوِيٍّ
، وَوَصَفَهُ بِالطِّيبَيْنِ : طِيبِ السِّمَنِ ، وَطِيبِ الْعَمَلِ
بِالْإِشْوَاءِ ، وَهُوَ أَطْيَبُ لِلْمُحَاوَلَةِ فِي تَنَاوُلِهِ ؛ فَكَانَ
لِإِبْرَاهِيمَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ
: الضِّيَافَةُ ، وَالْمُبَادَرَةُ بِهَا جَيِّدًا
لِسِمَنٍ فِيهَا وَصْفًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا
: كَانَتْ ضِيَافَةٌ قَلِيلَةٌ فَشَكَرَهَا الْحَبِيبُ مِنْ الْحَبِيبِ ، وَهَذَا
تَحَكُّمٌ بِالظَّنِّ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ وَبِالْقِيَاسِ فِي مَوْضِعِ
النَّقْلِ ، مِنْ أَيْنَ عُلِمَ أَنَّهُ قَلِيلٌ ؟ بَلْ قَدْ نَقَلَ
الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا ثَلَاثَةً : جِبْرِيلُ
وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ ، وَعِجْلٌ لِثَلَاثَةٍ عَظِيمٌ ، فَمَا هَذَا
التَّفْسِيرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ ؟ هَذَا بِأَمَانَةِ اللَّهِ هُوَ التَّفْسِيرُ
الْمَذْمُومُ ، فَاجْتَنِبُوهُ فَقَدْ عَلِمْتُمُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : السُّنَّةُ إذَا قُدِّمَ لِلضَّيْفِ الطَّعَامُ أَنْ يُبَادِرَ
الْمُقَدَّمُ إلَيْهِ بِالْأَكْلِ مِنْهُ ، فَإِنَّ كَرَامَةَ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ
الْمُبَادَرَةُ بِالْقَبُولِ ، فَلَمَّا قَبَضَ الْمَلَائِكَةُ أَيْدِيَهُمْ
نَكِرَهُمْ إبْرَاهِيمُ ؛ ؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ الْعَادَةِ ، وَخَالَفُوا
السُّنَّةَ ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُمْ مَكْرُوهٌ يَقْصِدُونَهُ .
وَقَدْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ كَمَا يَسَّرَ اللَّهُ
لِلْمَلَائِكَةِ أَنْ يَتَشَكَّلُوا فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّ جَسَدًا وَهَيْئَةً
أَنْ يُيَسِّرَ لَهُمْ أَكْلَ الطَّعَامِ ، إلَّا أَنَّهُ فِي قَوْلِ الْعُلَمَاءِ
، أَرْسَلَهُمْ فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّينَ ، وَتَكَلَّفَ إبْرَاهِيمُ الضِّيَافَةَ
حَتَّى إذَا رَأَى التَّوَقُّفَ ، وَخَافَ جَاءَتْهُ الْبُشْرَى فَجْأَةً ،
وَأَكْمَلُ الْمُبَشِّرَاتِ مَا جَاءَ فَجْأَةً وَلَمْ يَظُنَّهُ الْمَسْرُورُ حِسَابًا .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنَّك
لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
كَانَ شُعَيْبٌ كَثِيرُ الصَّلَوَاتِ مُوَاظِبًا لِلْعِبَادَةِ ، فَلَمَّا
أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ عَيَّرُوهُ بِمَا رَأَوْهُ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ مِنْ
كَثْرَةِ الطَّاعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } :
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : كَانُوا يَكْسِرُونَ الدَّنَانِيرَ
وَالدَّرَاهِمَ .
وَكَذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ
الْمُتَقَدِّمِينَ ؛ وَكَسْرُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ ؛ لِأَنَّهَا
الْوَاسِطَةُ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ وَالسَّبِيلُ إلَى مَعْرِفَةِ
كَمِّيَّةِ الْأَمْوَالِ وَتَنْزِيلِهَا فِي الْمُعَارَضَاتِ ، حَتَّى عَبَّرَ
عَنْهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنْ يَقُولُوا إنَّهَا الْقَاضِي بَيْنَ
الْأَمْوَالِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَقَادِيرِ أَوْ جَهْلِهَا ، وَإِنَّ مَنْ
حَبَسَهَا وَلَمْ يَصْرِفْهَا فَكَأَنَّهُ حَبَسَ الْقَاضِيَ وَحَجَبَهُ عَنْ النَّاسِ
، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إذَا كَانَتْ صِحَاحًا قَامَ مَعْنَاهَا ،
وَظَهَرَتْ فَائِدَتُهَا ، فَإِذَا كُسِرَتْ صَارَتْ سِلْعَةً ، وَبَطَلَتْ
الْفَائِدَةُ فِيهَا ، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ ؛ فَلِأَجْلِهِ حُرِّمَ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : قَطْعُ الدَّنَانِيرِ
وَالدَّرَاهِمِ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ
أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَفَسَّرَهُ بِهِ .
وَمِثْلُهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ
مَالِكٍ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إنَّ
ذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا } .
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَكَانَ فِي
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ }
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : كَانُوا يَكْسِرُونَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ،
وَالْمَعَاصِي تَتَدَاعَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ أَصْبَغُ : قَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ خَالِدٍ بْنِ جُنَادَةَ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ
الْحَارِثِ الْعُتَقِيِّ : مَنْ كَسَرَهَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ
اعْتَذَرَ بِالْجَهَالَةِ لَمْ يُعْذَرْ ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَوْضِعِ عُذْرٍ ،
فَأَمَّا قَوْلُهُ : لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، فَلِأَنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً ؛
وَالْكَبَائِرُ تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ دُونَ الصَّغَائِرِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا
يُقْبَلُ
عُذْرُهُ بِالْجَهَالَةِ فِي هَذَا فَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بَيِّنٌ لَا يَخْفَى عَلَى
أَحَدٍ .
وَإِنَّمَا يُقْبَلُ الْعُذْرُ إذَا ظَهَرَ الصِّدْقُ
فِيهِ أَوْ خَفِيَ وَجْهُ الصِّدْقِ فِيهِ ، وَكَانَ اللَّهُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ
الْعَبْدِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا كَانَ هَذَا مَعْصِيَةً
وَفَسَادًا يَرُدُّ الشَّهَادَةَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ .
اُخْتُلِفَ فِي عُقُوبَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : [ الْأَوَّلُ ]
: قَالَ مَالِكٌ : يُعَاقِبُهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ هَكَذَا مُطْلَقًا مِنْ
غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِلْعُقُوبَةِ
.
الثَّانِي
: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَنَحْوُهُ عَنْ سُفْيَانَ :
إنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ قَدْ جُلِدَ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا
: رَجُلٌ كَانَ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ
.
قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : هَذَا مِنْ الْفَسَادِ فِي
الْأَرْضِ وَلَمْ يُنْكِرْ جَلْدَهُ
.
الثَّالِثُ :
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ التُّجِيبِيُّ : كُنْت
عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَاعِدًا ، وَهُوَ إذْ ذَاكَ أَمِيرُ
الْمَدِينَةِ ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ ، وَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ
، فَضَرَبَهُ وَحَلَقَهُ ، فَأَمَرَ فَطِيفَ بِهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ : هَذَا جَزَاءُ
مَنْ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ ، فَقَالَ
لَهُ : إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَقْطَعَ يَدَك إلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ
تَقَدَّمْت فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ ، فَقَدْ تَقَدَّمْت فِي ذَلِكَ ، فَمَنْ
شَاءَ فَلْيَقْطَعْ .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا أَدَبُهُ
بِالسَّوْطِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَأَمَّا حَلْقُهُ فَقَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ
كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ كُنْت أَيَّامَ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ
أَضْرِبُ وَأَحْلِقُ ؛ وَإِنَّمَا كُنْت أَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ يُرَبِّي شَعْرَهُ
عَوْنًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَطَرِيقًا إلَى التَّجَمُّلِ بِهِ فِي الْفُسُوقِ ،
وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ طَرِيقَةٍ لِلْمَعْصِيَةِ أَنْ يَقْطَعَ إذَا كَانَ
ذَلِكَ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الْبَدَنِ
.
وَأَمَّا قَطْعُ يَدِهِ فَإِنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ عُمَرُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ فَصْلِ السَّرِقَةِ ،
وَذَلِكَ أَنَّ
قَرْضَ الدَّرَاهِمِ غَيْرُ كَسْرِهَا ، فَإِنَّ الْكَسْرَ إفْسَادُ الْوَصْفِ
وَالْقَرْضَ تَنْقِيصُ الْقَدْرِ ، فَهُوَ أَخْذُ مَالٍ عَلَى جِهَةِ
الِاخْتِفَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ مِنْ حِرْزٍ ، وَالْحِرْزُ أَصْلٌ
فِي الْقَطْعِ .
قُلْنَا :
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ رَأَى أَنَّ
تَهْيِئَتَهَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا حِرْزٌ لَهَا
، وَحِرْزُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ .
وَقَدْ أَنْفَذَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ،
وَقَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فِي قَطْعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الْمَالِكِيَّةُ : إنَّ
الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ خَوَاتِيمُ اللَّهِ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ وَلَوْ
قُطِعَ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مَنْ كَسَرَ خَاتَمًا لِلَّهِ لَكَانَ
أَهْلًا لِذَلِكَ ، إذْ مَنْ كَسَرَ خَاتَمَ سُلْطَانٍ عَلَيْهِ اسْمُهُ أُدِّبَ ،
وَخَاتَمُ اللَّهِ تُقْضَى بِهِ الْحَوَائِجُ ، فَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْعُقُوبَةِ .
وَأَرَى الْقَطْعَ فِي قَرْضِهَا دُونَ كَسْرِهَا ، وَقَدْ
كُنْت أَفْعَلُ ذَلِكَ أَيَّامَ تَوْلِيَتِي الْحُكْمَ ، إلَّا أَنِّي كُنْت
مَحْفُوفًا بِالْجُهَّالِ ، لَمْ أُجِبْ بِسَبَبِ الْمَقَالِ لِلْحِسْدَةِ
الضُّلَّالِ ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ يَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ
فَلْيَفْعَلْهُ احْتِسَابًا لِلَّهِ تَعَالَى .
قَوْله تَعَالَى
: { وَلَا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا
لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الرُّكُونُ
فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّقَلَةِ لِلتَّفْسِيرِ ، وَحَقِيقَتُهُ الِاسْتِنَادُ
وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قِيلَ فِي الظَّالِمِينَ إنَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ .
وَقِيلَ :
إنَّهُمْ الْمُؤْمِنُونَ ، وَأَنْكَرَهُ
الْمُتَأَخِّرُونَ ، وَقَالُوا
: أَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ
فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذُنُوبِهِمْ ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالَحَ عَلَى شَيْءٍ
مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ ، وَلَا يُرْكَنُ إلَيْهِ فِيهَا .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ
أَنْ يَصْحَبَ عَلَى الْكُفْرِ ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كُفْرٌ ؛ وَلَا عَلَى
الْمَعْصِيَةِ ، وَفِعْلُ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ قَالَ اللَّهُ فِي الْأَوَّلِ : {
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
} ، وَسَيَأْتِي
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْآيَةُ إنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَهِيَ عَامَّةٌ
فِيهِمْ وَفِي الْعُصَاةِ ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ قَوْلِهِ : { وَإِذَا
رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا } .
وَقَدْ قَالَ حَكِيمٌ : عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسَلْ
وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ مُقْتَدٍ وَالصُّحْبَةُ لَا
تَكُونُ إلَّا عَنْ مَوَدَّةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ عَنْ ضَرُورَةٍ وَتَقِيَّةٍ فَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَلَى الْمَعْنَى ، وَصُحْبَةُ
الظَّالِمِ عَلَى التَّقِيَّةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ النَّهْيِ لِحَالِ
الِاضْطِرَارِ .
الْآيَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ
وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ
ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي
أَقْصَى الْمَدِينَةِ ، وَإِنِّي أَصَبْت مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا ،
وَهَا أَنَا فَاقْضِ فِي بِمَا قَضَيْت
.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَقَدْ سَتَرَك اللَّهُ لَوْ
سَتَرْت عَلَى نَفْسِك .
فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَأُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ } .
فَأَتْبَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلًا فَدَعَاهُ فَتَلَا عَلَيْهِ : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ } .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : هَذَا لَهُ خَاصَّةً .
فَقَالَ : بَلْ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً } .
وَهَذَا صَحِيحٌ رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : و أَقِمْ الصَّلَاةَ هَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ
ذِكْرَ الصَّلَاةِ وَهِيَ فِي كِتَابِ اللَّهِ سَبْعُ آيَاتٍ مُتَضَمِّنَةٍ ذِكْرَ
الصَّلَاةِ هَذِهِ هِيَ الْآيَةُ الْأُولَى .
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَقِمْ الصَّلَاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } .
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } إلَى : { تَرْضَى } .
الرَّابِعَةُ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } إلَى : {
السُّجُودِ } .
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ
حِينَ تُمْسُونَ } إلَى : { تُظْهِرُونَ } .
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاذْكُرْ اسْمَ
رَبِّك بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنْ اللَّيْلِ } .
وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِيهَا ،
وَهَذِهِ الْآيَاتُ السِّتُّ هِيَ الْمُسْتَوْفِيَةُ لِجَمِيعِهَا ، وَكُلُّ آيَةٍ
مِنْهَا تَأْتِي مَشْرُوحَةً فِي مَكَانِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ صَلَاةَ الْغَدَاةِ وَصَلَاةَ الْعَشِيِّ ؛
قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ
وَالْمَغْرِبَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ .
الثَّالِثُ : تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ؛
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ
.
وَاخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ طَرَفَيْ النَّهَارِ
وَصَلَاةِ اللَّيْلِ اخْتِلَافًا لَا يُؤَثِّرُ ، فَتَرَكْنَا اسْتِيفَاءَهُ ،
وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ ، وَكَذَلِكَ أَفْرَدُوا
بِالِاخْتِلَافِ زُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ ، فَمِنْ قَائِلٍ : إنَّهَا الْعَتَمَةُ ،
وَمِنْ قَائِلٍ : إنَّهَا الْمَغْرِبُ وَالْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، فَلَا يَضُرُّ الْخِلَافُ فِي تَفْصِيلِ تَأْوِيلِهَا
بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالزُّلَفِ ، فَإِذَا أَرَدْنَا سُلُوكَ سَبِيلِ
التَّحْقِيقِ قُلْنَا : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الصُّبْحُ
وَالْمَغْرِبُ فَقَدْ أَخْرَجَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ عَنْهَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الصُّبْحُ وَالظُّهْرُ
فَقَدْ أَسْقَطَ الْعَصْرَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْعَصْرُ وَالصُّبْحُ
فَقَدْ أَسْقَطَ الظُّهْرَ .
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّهَارِ
مِنْ الصَّلَوَاتِ إلَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ ، وَبَاقِيهَا فِي اللَّيْلِ ،
فَزُلَفُ اللَّيْلِ ثَلَاثٌ : فِي ابْتِدَائِهِ ، وَهِيَ الْمَغْرِبُ ، وَفِي
اعْتِدَالِ فَحْمَتِهِ ، وَهِيَ الْعِشَاءُ ، وَعِنْدَ انْتِهَائِهِ وَهِيَ
الصُّبْحُ .
وَأَمَّا طَرَفَا النَّهَارِ فَهُمَا الدُّلُوكُ
وَالزَّوَالُ وَهُوَ طَرَفُهُ الْأَوَّلُ ، وَالدُّلُوكُ الْغُرُوبُ ، وَهُوَ
طَرَفُهُ الثَّانِي .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ
أَدْرَكَ الْعَصْرَ } .
وَالْعَجَبُ مِنْ الطَّبَرِيِّ الَّذِي يَقُولُ : إنَّ
طَرَفَيْ النَّهَارِ
الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ وَهُمَا طَرَفَا اللَّيْلِ ، فَقَلَبَ الْقَوْسَ رَكْوَةً
، وَحَادَ مِنْ الْبُرْجَاسِ غَلْوَةً .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ
الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ الصُّبْحُ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
الطَّرَفَ الْآخَرَ الْمَغْرِبُ ، وَلَمْ يُجْمِعْ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ ،
وَإِنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ أَنْجَبُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ
الْجَنَّةَ } .
وَقَدْ قَرَنَهَا [ بِهَا ] فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ
وَالرَّابِعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَالَ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ : إنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ
اسْتِغْرَاقُ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَاتِ نَفْلًا وَفَرْضًا .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ
ذَلِكَ لَا وَاجِبًا فَإِنَّمَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ ، وَلَا نَفْلًا فَإِنَّ
الْأَوْرَادَ مَعْلُومَةٌ ، وَأَوْقَاتُ النَّوَافِلِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا
مَحْصُورَةٌ ، وَمَا سِوَاهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ يَسْتَرْسِلُ عَلَيْهِ النَّدْبُ
عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الْعُمُومِ ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ بَشَرٍ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمَقَاعِدِ
فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ ، فَأَذَّنَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ ، فَدَعَا بِمَاءٍ
فَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا
آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ
فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى حَتَّى يُصَلِّيَهَا } .
قَالَ عُرْوَةُ : أَرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ : {
إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا } .
وَقَالَ مَالِكٌ : أَرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ : {
أَقِمْ الصَّلَاةَ } .
فَعَلَى قَوْلِ عُرْوَةَ يَعْنِي عُثْمَانَ لَوْلَا
أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ كِتْمَانَ الْعِلْمِ لَمَا ذَكَرْته .
وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ [ يَعْنِي عُثْمَانَ ] : لَوْلَا
أَنَّ مَعْنَى مَا أَذْكُرُهُ لَكُمْ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا ذَكَرْته
لِئَلَّا تَتَّهِمُونِي .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } قَالَ
ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، هِيَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ
: سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ،
وَاَللَّهُ أَكْبَرُ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ،
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ أَوَّلُ الْآيَةِ فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ
، فَعَلَيْهِ يَرْجِعُ آخِرُهَا ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : {
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا
بَيْنَهُنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْمَقْتَلَةُ } .
وَرُوِيَ : { مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } .
وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَأُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ، فَلَمَّا
فَرَغَ مِنْهَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْآيَةِ فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ :
أَشَهِدْت مَعَنَا الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : اذْهَبْ فَإِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَا فَعَلْت }
وَرُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَلَا
هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ لَهُ : قُمْ فَصَلِّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ } ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله
تَعَالَى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
مَعْنَى الْأُمَّةِ : وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَيْهَا ، وَجَمَعَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ فِيهَا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَعْنًى ، وَهِيَ هَاهُنَا بِمَعْنَى
الْجَمَاعَةِ يَعْنِي جَمَاعَةً وَاحِدَةً عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ .
كَمَا يُقَالُ : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ
: جَمَاعَةٌ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَالَ قَتَادَةُ : مَعْنَاهُ لَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ
كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ .
وَقِيلَ مَعْنَاهُ : لَجَعَلَهُمْ كُفَّارًا أَجْمَعِينَ .
وَهَذِهِ آيَةٌ لَا يُؤْمِنُ بِهَا إلَّا أَهْلُ
السُّنَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ
وَإِرَادَتَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ ،
وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ .
وَالْأُولَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنِيُّ هَاهُنَا
بِالْآيَةِ الْمُسْلِمِينَ ، تَقْدِيرُهَا : لَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ الْخَلْقَ
كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ ، وَلَكِنَّهُ قَسَّمَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ بِحِكْمَتِهِ
وَسَابِقِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ
.
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } قِيلَ : يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ
وَمَجُوسِيٌّ ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْأَدْيَانِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يَعْنِي الِاخْتِلَافَ فِي
الرِّزْقِ : غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ
.
وَهَذَا بَعِيدٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَإِنَّمَا
جَاءَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ الْأَدْيَانِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا ، وَإِخْبَارِ
اللَّهِ عَنْ حُكْمِهِ عَلَيْهَا ، وَرَحْمَةِ مَنْ يَرْحَمُ مِنْهَا ، فَرَجَعَ
وَصْفُ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ إلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ سَائِرِ
الْأُمَمِ ، وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ
؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَتَرْكَبُنَّ
سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ
دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { افْتَرَقَتْ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ،
وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي
النَّارِ ، إلَّا وَاحِدَةً .
قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَا
أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي }
.
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : بِالْهِدَايَةِ إلَى الْحَنِيفِيَّةِ .
الثَّانِي : بِالْهِدَايَةِ إلَى الْحَقِّ .
الثَّالِثُ : بِالطَّاعَةِ .
الرَّابِعُ : إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك ؛ فَإِنَّهُ لَا
يَخْتَلِفُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
.
وَكُلُّهَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لَا انْقِطَاعَ فِيهِ
لِانْتِظَامِ الْمَعْنَى مَعَهُ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } : فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : لِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ .
الثَّانِي : لِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَخْتَلِفُوا ،
فَيَرْحَمُ مَنْ يَرْحَمُ ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُ ، كَمَا قَالَ : {
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }
.
وَقَالَ : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ } .
وَاعْجَبُوا مِمَّنْ يَسْمَعُ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ :
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } ، وَيَتَوَقَّفُ فِي مَعْرِفَةِ مَا
يَكُونُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لِلْفَسَادِ ، وَهَلْ يَكُونُ الْفَسَادُ وَسَفْكُ
الدِّمَاءِ إلَّا بِالِاخْتِلَافِ
.
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي
قَوْلِ اللَّهِ : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } لِلِاخْتِلَافِ ، فَقَالَ لِي : لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ
وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَهِمَ الْآيَةَ ، كَمَا قَالَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ قَرَأَ : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قَالَ :
خَلَقَ أَهْلَ رَحْمَتِهِ ، لِئَلَّا يَخْتَلِفُوا .
وَنَحْوُهُ عَنْ طَاوُسٍ ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ ،
وَأَخْبَرَنَا بِهِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
أَلَا تَرَوْنَ إلَى خَاتِمَةِ الْآيَةِ حِينَ قَالَ : {
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّك } ، وَهِيَ : [ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ] .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } .
ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ
أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَقَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لِآدَمَ : ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ .
قَالَ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ
أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلنَّارِ وَوَاحِدٌ إلَى الْجَنَّةِ
} ؛ فَلِهَذَا خَلَقَهُمْ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ
عُلُوًّا كَبِيرًا .
سُورَةُ
يُوسُفَ فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ آيَةً .
: الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { قَالَ يَا
بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاك عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَك كَيْدًا إنَّ
الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا : وَهِيَ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْخَلْقِ
بُشْرَى كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَمْ
يَبْقَ بَعْدِي مِنْ الْمُبَشِّرَاتِ إلَّا الرُّؤْيَا } ، وَحَكَمَ بِأَنَّهَا
جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا ؛ فَأَنْكَرَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ
؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَمُ عَلَيْهَا مَعَ
اخْتِلَافِهِمْ فِي الْآرَاءِ وَالنِّحَلِ .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي حَقِيقَتِهَا ؛ فَقَالَ
الْقَاضِي ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ : إنَّهَا أَوْهَامٌ وَخَوَاطِرُ
وَاعْتِقَادَاتٌ .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ : هِيَ إدْرَاكٌ
حَقِيقَةً ، وَحَمَلَ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ ذَلِكَ عَلَى رُؤْيَةِ
الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَطِيرُ وَهُوَ قَائِمٌ ، وَفِي الْمَشْرِقِ وَهُوَ فِي
الْمَغْرِبِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إدْرَاكًا حَقِيقَةً .
وَعَوَّلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى أَنَّ
الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ فِي أَجْزَاءٍ لَمْ تَحِلَّهَا الْآفَةُ ، وَمِنْ بَعْدِ
عَهْدِهِ بِالنَّوْمِ اسْتَغْرَقَتْ الْآفَةُ أَجْزَاءَهُ ، وَتَقِلُّ الْآفَةُ
فِي آخِرِ اللَّيْلِ .
وَقَالَ :
إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ لَهُ عِلْمًا
نَاشِئًا ، وَيَخْلُقُ لَهُ الَّذِي يَرَاهُ لِيَصِحَّ الْإِدْرَاكُ ، فَإِذَا
رَأَى شَخْصًا وَهُوَ فِي طَرَفِ الْعَالَمِ فَالْمَوْجُودُ كَأَنَّهُ عِنْدَهُ ،
وَلَا يَرَى فِي الْمَنَامِ إلَّا مَا يَصِحُّ إدْرَاكُهُ فِي الْيَقَظَةِ ، وَلِذَلِكَ
لَا نَرَى شَخْصًا قَائِمًا قَاعِدًا فِي الْمَنَامِ بِحَالٍ ، وَإِنَّمَا يَرَى
الْجَائِزَاتِ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَاتِ ، أَوْ الْأَشْيَاءَ الْمُعْتَادَاتِ ،
وَإِذَا رَأَى نَفْسَهُ يَطِيرُ أَوْ يَقْطَعُ يَدَهُ أَوْ رَأْسَهُ فَإِنَّمَا
رَأَى غَيْرَهُ عَلَى مِثَالِهِ ، وَظَنِّهِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَهَذَا مَعْنَى
قَوْلِ
الْقَاضِي الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرٍ : إنَّهَا أَوْهَامٌ ، وَيَتَّفِقُونَ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ [ عَلَيْهِ السَّلَامُ ] :
{ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا
يَتَمَثَّلُ بِي } ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَرَ
الذَّاتَ النَّبَوِيَّةَ وَلَا الْعَيْنَ الْمُرْسَلَةَ إلَى الْخَلْقِ ،
وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالًا صَادِقًا فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ ، وَالْخَبَرِ بِهِ ؛
إذْ قَدْ يَرَاهُ شَيْخًا أَشْمَطَ ، وَيَرَاهُ شَابًّا أَمْرَدَ ، وَبَيَّنَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا زَائِدًا ، فَقَالَ
: { مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ } أَيْ لَمْ يَكُنْ تَخْيِيلًا وَلَا تَلْبِيسًا
وَلَا شَيْطَانًا ؛ وَلَكِنَّ الْمَلِكَ يَضْرِبُ الْأَمْثِلَةَ عَلَى أَنْوَاعٍ ،
بِحَسَبِ مَا يَرَى مِنْ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْمِثَالِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ ؛
إذْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّائِمِ إلَّا بِالرَّمْزِ وَالْإِيمَاءِ فِي
الْغَالِبِ ، وَرُبَّمَا خَاطَبَهُ بِالصَّرِيحِ الْبَيِّنِ ، وَذَلِكَ نَادِرٌ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
رَأَيْت سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ تَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى
مَهْيَعَةَ ، فَأَوَّلْتُهَا الْحُمَّى ، وَرَأَيْت سَيْفِي قَدْ انْقَطَعَ
صَدْرُهُ وَبَقَرًا تُنْحَرُ ، فَأَوَّلْتُهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي يُقْتَلُ ،
وَالْبَقَرُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ وَرَأَيْت أَنِّي أَدْخَلْت يَدِي
فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ ، وَرَأَيْت فِي يَدِي
سِوَارَيْنِ فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي } ، إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا ضُرِبَتْ لَهُ بِهِ الْأَمْثَالُ .
وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ أَوَّلًا ، وَمِنْهَا
مَا لَا يَظْهَرُ [ مَعْنَاهُ ] إلَّا بَعْدَ الْفِكْرِ .
وَقَدْ رَأَى النَّائِمُ فِي زَمَانِ يُوسُفَ بَقَرًا
فَأَوَّلَهَا يُوسُفُ السِّنِينَ ، وَرَأَى أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ فَأَوَّلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَبَوَيْهِ ، وَأَوَّلَ الْكَوَاكِبَ
الْأَحَدَ عَشَرَ إخْوَتَهُ الْأَحَدَ عَشَرَ ، وَفَهِمَ يَعْقُوبُ مَزِيَّةَ
حَالِهِ ، وَظُهُورَ خِلَالِهِ
؛ فَخَافَ عَلَيْهِ حَسَدَ الْإِخْوَةِ الَّذِي ابْتَدَأَهُ ابْنَا
آدَمَ ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْكِتْمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ كَانَ يُوسُفُ فِي وَقْتِ رُؤْيَاهُ
صَغِيرًا ، وَالصَّغِيرُ لَا حُكْمَ لِفِعْلِهِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِرُؤْيَاهُ
حُكْمٌ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
الْأَوَّلُ : أَنَّ الصَّغِيرَ يَكُونُ الْفِعْلُ مِنْهُ
بِالْقَصْدِ ، فَيُنْسَبُ إلَى التَّقْصِيرِ ، الرُّؤْيَا لَا قَصْدَ فِيهَا ،
فَلَا يُنْسَبُ تَقْصِيرٌ إلَيْهَا
.
الثَّانِي : أَنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ حَقِيقَةً كَمَا بَيَّنَّاهُ
، فَيَكُونُ مِنْ الصَّغِيرِ كَمَا يَكُونُ مِنْهُ الْإِدْرَاكُ الْحَقِيقِيُّ فِي
الْيَقِظَةِ ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى صُدِّقَ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ
عَمَّا رَأَى فِي الْمَنَامِ تَأَوَّلَ
.
الثَّالِثُ : أَنَّ خَبَرَهُ يُقْبَلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ
الْأَحْكَامِ ، مِنْهَا الِاسْتِئْذَانُ فَكَذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { لَا تَقْصُصْ
رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِك فَيَكِيدُوا لَك كَيْدًا } حُكْمٌ بِالْعَادَةِ مِنْ
الْحَسَادَةِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْقَرَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ،
وَالْحُكْمُ بِالْعَادَةِ أَصْلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدُ .
وَقِيلَ :
إنَّ يَعْقُوبَ قَدْ كَانَ فَهِمَ مِنْ إخْوَةِ يُوسُفَ
حَسَدًا لَهُ بِمَا رَأَوْا مِنْ شَغَفِ أَبِيهِ بِهِ ؛ فَلِذَلِكَ حَذَّرَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
هَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ يَعْقُوبَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا ؟ ؛ لِأَنَّ
نَهْيَهُ لِابْنِهِ عَنْ ذِكْرِهَا ، وَخَوْفَهُ عَلَى إخْوَتِهِ مِنْ الْكَيْدِ
لَهُ مِنْ أَجْلِهَا عُلِمَ بِأَنَّهَا تَقْتَضِي ظُهُورَهُ عَلَيْهِمْ
وَتَقَدُّمَهُ فِيهِمْ ، وَلَمْ يُبَالِ بِذَلِكَ يَعْقُوبُ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ
يَوَدُّ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ خَيْرًا مِنْهُ ، وَالْأَخَ لَا يَوَدُّ ذَلِكَ لِأَخِيهِ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ
قَالُوا يَا أَبَانَا إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ
مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا
صَادِقِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ
عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا ، وَمِنْ
الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ .
وَقَدْ قِيلَ
: إنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى ، كَمَا
قَالَ حَكِيمٌ : إذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى
مِمَّنْ تَبَاكَى وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ مُشْتَبِهٌ ، وَأَنَّ مِنْ
الْخَلْقِ فِي الْأَكْثَرِ مَنْ يَقْدِرُ مِنْ التَّطَبُّعِ عَلَى مَا يُشْبِهُ الطَّبْعَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } اعْلَمُوا
وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ شِرْعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَخَصْلَةٌ
بَدِيعَةٌ ، وَعَوْنٌ عَلَى الْحَرْبِ ، وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ وَبِخَيْلِهِ ؛ فَرُوِيَ { أَنَّهُ سَابَقَ
عَائِشَةَ فَسَبَقَهَا ، فَلَمَّا كَبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَابَقَهَا فَسَبَقَتْهُ ، فَقَالَ لَهَا : هَذِهِ بِتِلْكَ } .
وَرُوِيَ { أَنَّهُ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ
مِنْ الْحَفْيَاءِ ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنْيَةَ الْوَدَاعِ ، وَسَابَقَ الْخَيْلَ
الَّتِي لَا تُضْمَرُ مِنْ الثَّنْيَةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ، وَأَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ مِمَّنْ سَابَقَ بِهَا } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْعَضْبَاءِ وَغَيْرِهَا ، فَسَبَقَتْ الْعَضْبَاءُ ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَلَّا يَرْفَعَ
شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا إلَّا وَضَعَهُ } .
وَفِي ذَلِكَ فِي الْفَوَائِدِ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَالدَّوَابِّ
، وَتَدْرِيبُ الْأَعْضَاءِ عَلَى التَّصَرُّفِ ، وَلَا مُسَابَقَةَ إلَّا بَيْنَ
الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ خَاصَّةً الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : يَجُوزُ
الِاسْتِبَاقُ مِنْ غَيْرِ سَبَقٍ يُجْعَلُ ، وَيَجُوزُ بِسَبَقٍ ، فَإِنْ
أَخْرَجَ أَحَدُ الْمُتَسَابِقِينَ سَبَقًا عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ الْآخَرُ إنْ
سَبَقَ ، وَإِنْ سَبَقَ هُوَ أَخَذَهُ الَّذِي يَلِيهِ ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ .
وَرَوَى ابْنُ مَزِيدٍ عَنْ مَالِكٍ أَنْ يَأْخُذَهُ
مَنْ حَضَرَ ، فَذَلِكَ أَيْضًا جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ
الْخَارِجُ إنْ سَبَقَ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : كَرِهَهُ مَالِكٌ ، وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ وَهْبٍ ، وَبِهِ أَقُولُ
؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَرَ فِيهِ ، وَلَا دَلِيلَ يُحَرِّمُهُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا
مُحَلَّلٌ ، عَلَى أَنَّهُ إنْ سَبَقَ أَخَذَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ،
وَإِنْ سَبَقَ لَمْ
يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ جَازَ ، جَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَمَنَعَهُ فِي الْآخَرِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ أَحَدٍ بِحَالِ فَرَسِ صَاحِبِهِ ، بَلْ يَجُوزُ عَلَى الْجَهَالَةِ وَلَهُمَا حُكْمُ الْقَدَرِ ، وَمَسَائِلُ السِّبَاقِ فِي الْفُرُوعِ مُسْتَوْفَاةٌ .
الْآيَةُ
الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ
كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَرَادُوا أَنْ
يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِهِمْ ، فَرُوِيَ فِي
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ
عَلَامَةً تُعَارِضُهُمَا ؛ وَهِيَ سَلَامَةُ الْقَمِيصِ فِي التَّلْبِيبِ ؛
وَالْعَلَامَاتُ إذَا تَعَارَضَتْ تَعَيَّنَ التَّرْجِيحُ ، فَيُقْضَى بِجَانِبِ
الرُّجْحَانِ ، وَهِيَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ لِوُجُوهٍ تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ ،
مِنْهَا طَلَبُهُمْ إيَّاهُ شَفَقَةً ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِمْ مَا
يُنَاسِبُهَا ، فَيَشْهَدُ بِصِدْقِهَا ، بَلْ كَانَ سَبَقَ ضِدُّهَا ، وَهِيَ
تَبَرُّمُهُمْ بِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الدَّمَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ فِي
الْقَمِيصِ مَوْضُوعًا ، وَلَا يُمْكِنُ افْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ ، وَهُوَ
لَابِسٌ لِلْقَمِيصِ وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ مِنْ تَخْرِيقٍ ، وَهَكَذَا يَجِبُ
عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ [ وَالْعَلَامَاتِ ] وَتَعَارُضَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : الْقَضَاءُ بِالتُّهْمَةِ إذَا ظَهَرَتْ كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ : {
بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } .
وَلَا خِلَافَ فِي الْحُكْمِ بِالتُّهْمَةِ ؛ وَإِنَّمَا
اخْتَلَفَ النَّاسُ [ فِي التَّأْثِيرِ فِي ] أَعْيَانِ التُّهَمِ حَسْبَمَا
يَأْتِي مَنْثُورًا فِي الْمَسَائِلِ الْأَحْكَامِيَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ ،
وَلِذَلِكَ قَالُوا لَهُ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا
صَادِقِينَ } أَيْ تُهْمَتُكَ لَنَا بِعِظَمِ مَحَبَّتِكَ تُبْطِلُ عِنْدَك
صِدْقَنَا ؛ وَهَذَا كُلُّهُ تَخْيِيلٌ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
كَانَ فِي قَمِيصِ يُوسُفَ ثَلَاثُ آيَاتٍ : جَاءُوا عَلَيْهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ،
وَقُدَّ مِنْ دُبُرٍ ، وَأُلْقِيَ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ فَارْتَدَّ بَصِيرًا .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى
دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاَللَّهُ
عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ : حَدَّثَنِي مَالِكٌ قَالَ : طُرِحَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ
وَهُوَ غُلَامٌ ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ
صَغِيرًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { لَا
تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ } وَلَا يُلْتَقَطُ الْكَبِيرُ .
وَقَوْلُهُ : { وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ } وَذَلِكَ أَمْرٌ
يَخْتَصُّ بِالصِّغَارِ ؛ فَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ
غُلَامٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } قِيلَ : الضَّمِيرُ
فِي ( " أَسَرُّوهُ " ) يَرْجِعُ إلَى الْمُلْتَقِطِينَ .
وَقِيلَ : يَرْجِعُ إلَى الْإِخْوَةِ ، فَإِنْ رَجَعَ
إلَى الْإِخْوَةِ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ كَتَمُوا أُخُوَّتَهُ ،
وَأَظْهَرُوا مَمْلُوكِيَّتَهُ ، وَقَطَعُوهُ عَنْ الْقَرَابَةِ إلَى الرِّقِّ .
وَإِنْ عَادَ الضَّمِيرُ إلَى الْمُلْتَقِطِينَ كَانَ
مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ أَخْفَوْهُ عَنْ أَصْحَابِهِمْ ، وَبَاعُوهُ دُونَ
عِلْمِهِمْ بِضَاعَةً اقْتَطَعُوهَا عَنْهُمْ ، وَجَحَدُوهَا مِنْهُمْ ؛ وَسَاعَدَ
يُوسُفُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْتَ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَضَى
بِأَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ ، وَقَرَأَ : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ
مَعْدُودَةٍ } .
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٍ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : إنْ نَوَى رِقَّهُ فَهُوَ
مَمْلُوكٌ ، وَإِنْ نَوَى الْحِسْبَةَ فِيهِ فَهُوَ حُرٌّ .
وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ قَالَ : كُنْت عِنْدَ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ فَحَدَّثَهُ سُنَيْنٌ أَبُو جَمِيلَةَ قَالَ : وَجَدْت
مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ ، فَأَخَذْته فَانْطَلَقَ عَرِيفِي ، فَذَكَرَهُ
لِعُمَرَ ، فَدَعَانِي عُمَرُ وَالْعَرِيفُ عِنْدَهُ ، فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلًا قَالَ
: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبُؤْسًا
.
قَالَ الزُّهْرِيُّ : مَثَلٌ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
يَضْرِبُونَهُ .
قَالَ عَرِيفِي : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّهُ
لَا يُتَّهَمُ بِهِ .
فَقَالَ لِي : عَلَامَ أَخَذْت هَذَا ؟ قُلْت : وَجَدْته
نَفْسًا بِمَضْيَعَةٍ ، فَأَحْبَبْت أَنْ يَأْجُرَنِي اللَّهُ .
قَالَ : هُوَ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ لَك وَرَضَاعَتُهُ
عَلَيْنَا .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا
فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
يُقَالُ : شَرَيْت بِمَعْنَى بِعْت ، وَشَرَيْت بِمَعْنَى اشْتَرَيْت لُغَةً .
وَالْبَخْسُ :
النَّاقِصُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
وَقِيلَ فِي بَخْسٍ : إنَّهُ بِمَعْنَى حَرَامٍ ، وَلَا وَجْهَ لَهُ ، وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ
فِيهِ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ ثَمَنَهُ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ إخْوَتَهُ
إنْ كَانُوا بَاعُوهُ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ مَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ ثَمَنِهِ
، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ مَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ خُلُوِّ وَجْهِ أَبِيهِمْ
عَنْهُ .
وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ بَاعُوهُ هُمْ الْوَارِدَةُ
فَإِنَّهُمْ أَخْفَوْهُ مُقْتَطَعًا ، أَوْ قَالُوا لِأَصْحَابِهِمْ : أَرْسِلْ مَعَنَا
بِضَاعَةً ، فَرَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطَوْا عَنْهُ ثَمَنًا ، وَأَنَّ مَا
أَخَذُوهُ فِيهِ رِبْحٌ كُلُّهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَكَانُوا فِيهِ
مِنْ الزَّاهِدِينَ } إخْوَتُهُ أَوْ الْوَارِدَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ
الْمُتَقَدِّمَيْنِ ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ أَمْرُهُ عَبِيطًا لَا عِنْدَ
الْإِخْوَةِ ؛ لِأَنَّ مَقْصِدَهُمْ زَوَالُ عَيْنِهِ لَا مَالِهِ ، وَلَا عِنْدَ
الْوَارِدَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا اشْتِرَاكَ أَصْحَابِهِمْ مَعَهُمْ ،
وَرَأَوْا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ ثَمَنِهِ فِي الِانْفِرَادِ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ
: { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } : وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَثْمَانَ كَانَتْ
تَجْرِي عِنْدَهُمْ عَدَدًا لَا وَزْنًا ، وَأَصْلُ النَّقْدَيْنِ الْوَزْنُ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ
بِالذَّهَبِ وَلَا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ ؛ فَمَنْ زَادَ
أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى }
.
وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا إلَّا الْمِقْدَارُ ؛
فَأَمَّا عَيْنُهَا فَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ ، وَلَكِنْ جَرَى فِيهَا الْعَدَدُ
تَخْفِيفًا عَنْ الْخَلْقِ ؛ لِكَثْرَةِ الْمُعَامَلَةِ ، فَيَشُقُّ الْوَزْنُ ،
حَتَّى لَوْ ضُرِبَتْ مَثَاقِيلُ وَدَرَاهِمُ لَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَدَدًا
إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نُقْصَانٌ [ وَلَا رُجْحَانَ ] ؛ لِأَنَّ خَاتَمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا فِي التَّقْدِيرِ حَتَّى يَنْقُصَ وَزْنُهَا مَنْ نَقَصَ ، وَيَفُضَّ
خَاتَمَ اللَّهِ مَنْ فَضَّ ؛ فَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الْوَزْنِ ، وَلِأَجْلِ
ذَلِكَ كَانَ كَسْرُهَا أَوْ قَرْضُهَا مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ، حِينَ
كَانَ حُكْمُ جَرَيَانِهَا الْعَدَدُ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : إنَّمَا كَانَ أَصْلُ اللَّقِيطِ الْحُرِّيَّةَ ، لِغَلَبَةِ
الْأَحْرَارِ عَلَى الْعَبِيدِ ، فَيُقْضَى بِالْغَالِبِ ، كَمَا حُكِمَ بِأَنَّهُ
مُسْلِمٌ أَخْذًا بِالْغَالِبِ .
فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فِيهَا نَصَارَى
وَمُسْلِمُونَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يُحْكَمُ بِالْأَغْلَبِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا
مُسْلِمٌ وَاحِدٌ قُضِيَ لِلَّقِيطِ بِالْإِسْلَامِ ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ
الْإِسْلَامِ الَّذِي يَعْلُو وَلَا يُعْلَى [ عَلَيْهِ ] .
وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَوْلَى وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمَسَائِلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ
أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ
وَاَللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } هَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ التَّبَنِّي
كَانَ أَمْرًا مُعْتَادًا عِنْدَ الْأُمَمِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ : عَزِيزُ مِصْرَ ، حِينَ
قَالَ لِامْرَأَتِهِ : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } إلَخْ .
الثَّانِي : بِنْتُ شُعَيْبٍ فِي فِرَاسَةِ مُوسَى حِينَ
قَالَتْ : { إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } .
الثَّالِثُ : أَبُو بَكْرٍ حِينَ وَلَّى عُمَرَ قَالَ :
أَقُولُ لِرَبِّي وَلَّيْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَهُمْ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : عَجَبًا لِلْمُفَسِّرِينَ فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَلْبِ هَذَا
الْخَبَرِ ، وَالْفِرَاسَةُ هِيَ عِلْمٌ غَرِيبٌ ، حَدُّهُ وَحَقِيقَتُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الِاسْتِدْلَال بِالْخَلْقِ عَلَى الْخَلْقِ فِيمَا لَا
يَتَعَدَّى الْمُتَفَطِّنُونَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّيَغِ وَالْأَغْرَاضِ ،
فَأَمَّا أَمْرُ الْعَزِيزِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فِرَاسَةً ؛ لَأَنْ لَمْ
يَكُنْ مَعَهُ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ
.
وَأَمَّا بِنْتُ شُعَيْبٍ فَكَانَتْ مَعَهَا
الْعَلَامَةُ الْبَيِّنَةُ .
أَمَّا الْقُوَّةُ فَعَلَامَتُهَا رَفْعُ الْحَجَرِ
الثَّقِيلِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَرْفَعَهُ ، وَأَمَّا
الْأَمَانَةُ فَبِقَوْلِهِ لَهَا وَكَانَ يَوْمًا رِيَاحًا : امْشِي خَلْفِي
لِئَلَّا تَصِفَكِ الرِّيحُ بِضَمِّ ثَوْبَكِ لَكِ ، وَأَنَا عِبْرَانِيٌّ لَا
أَنْظُرُ فِي أَدْبَارِ النِّسَاءِ
.
وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ فَبِالتَّجْرِبَةِ
فِي الْأَعْمَالِ ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الصُّحْبَةِ [ وَطُولِهَا ] ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى
مَا شَاهَدَ مِنْهُ ، مِنْ
الْعِلْمِ
وَالْمُنَّةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْفِرَاسَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { أَشُدَّهُ } فِي لُغَتِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ
جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ ، كَالْإِصْرِ وَالْأَشَرِّ .
الثَّانِي : أَنَّ وَاحِدَهُ شِدَّةٌ كَنِعْمَةٍ
وَأَنْعُمٍ ؛ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ
.
الثَّالِثُ : وَاحِدُهُ شَدَّ ، كَقَوْلِك قَدَّ
وَأَقَدَّ .
الرَّابِعُ : قَالَ يُونُسُ : وَاحِدُهُ شَدَّ ، وَهُوَ
يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ .
الْخَامِسُ : أَشُدُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالشِّينِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي تَقْدِيرِهِ : وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْحُلُمِ
إلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً ، أُمَّهَاتُهَا خَمْسٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مِنْ الْحُلُمُ
؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ ، وَرَبِيعَةُ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَمَالِكٌ .
الثَّانِي : قَالَ الزَّجَّاجُ : هُوَ مِنْ سَبْعَةَ
عَشَرَ عَامًا إلَى أَرْبَعِينَ ؛ وَهُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ ، إلَّا أَنَّهُ
رَأَى أَنَّ الْحُلُمَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ عَامًا .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ عِشْرُونَ سَنَةً ؛ قَالَهُ
الضَّحَّاكُ .
الرَّابِعُ : إنَّهُ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ ؛ قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ أَرْبَعُونَ ؛ يُرْوَى عَنْ
جَمَاعَةٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُلُمَ إلَى خَمْسِينَ سَنَةً ؛
فَإِنَّ مِنْ الْحُلُمِ يَشْتَدُّ الْآدَمِيُّ إلَى خَمْسِينَ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي
الْقَهْقَرَى قَالَ الشَّاعِرُ : أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي
وَتَجْرِيبِي مُدَارَاةُ الشُّؤُونِ
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } : الْحُكْمُ هُوَ الْعَمَلُ
بِالْعِلْمِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى تَرْتِيبِ "
حُكْمٍ " .
وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ إنَّمَا يَكُونُ
بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَمَا قَبْلَهُ فِي زَمَانِ عَدَمِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ
فِيهِ مَعْدُومٌ إلَّا فِي النَّادِرِ
.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا : {
وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا
} .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : قِيلَ لَهُ ، وَهُوَ صَغِيرٌ :
أَلَا تَذْهَبُ تَلْعَبُ ؟ قَالَ : مَا خُلِقْت لِلَّعِبِ .
وَهَذَا إنَّمَا بَيَّنَ اللَّهُ بِهِ حَالَ يُوسُفَ
مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ بِأَنَّهُ آتَاهُ الْعِلْمَ ، وَآتَاهُ الْعَمَلَ بِمَا
عَلِمَ ؛ وَخَبَرُ اللَّهِ صَادِقٌ ، وَوَصْفُهُ صَحِيحٌ ، وَكَلَامُهُ حَقٌّ ،
فَقَدْ عَمِلَ يُوسُفُ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ تَحْرِيمِ الزِّنَا
وَتَحْرِيمِ خِيَانَةِ السَّيِّدِ أَوْ الْجَارِ أَوْ الْأَجْنَبِيِّ فِي أَهْلِهِ
، فَمَا تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ ، وَلَا أَنَابَ إلَى الْمُرَاوَدَةِ [
بِحُكْمِ الْمُرَاوَدَةِ ] ؛ بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا ، وَفَرَّ مِنْهَا ؛ حِكْمَةٌ
خُصَّ بِهَا ، وَعَمَلًا بِمُقْتَضَى مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ؛ وَهَذَا
يَطْمِسُ وُجُوهَ الْجَهَلَةِ مِنْ النَّاسِ وَالْغَفَلَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي
نِسْبَتِهِمْ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ ، وَأَقَلُّ مَا اقْتَحَمُوا مِنْ
ذَلِكَ أَنَّهُ هَتَكَ السَّرَاوِيلَ ، وَهَمَّ بِالْفَتْكِ فِيمَا رَأَوْهُ مِنْ تَأْوِيلٍ
، وَحَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْت عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ، بَلْ أُبَرِّئُهُ مِمَّا
بَرَّأَهُ مِنْهُ ، فَقَالَ : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا } ، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الَّذِينَ اسْتَخْلَصْنَاهُمْ .
وَالْفَحْشَاءُ هِيَ الزِّنَا وَالسُّوءُ هُوَ
الْمُرَاوَدَةُ وَالْمُغَازَلَةُ ، فَمَا أَلَمَّ بِشَيْءٍ وَلَا أَتَى
بِفَاحِشَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } .
قُلْنَا :
قَدْ تَقَصَّيْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ
الْأَنْبِيَاءِ مِنْ شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ [
سُبْحَانَهُ ] مَا
أَخْبَرَ عَنْهُ
أَنَّهُ أَتَى فِي جَانِبِ الْقِصَّةِ فِعْلًا بِجَارِحَةٍ ، وَإِنَّمَا الَّذِي
كَانَ مِنْهُ الْهَمُّ ، وَهُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ ، فَمَا لِهَؤُلَاءِ
الْمُفَسِّرِينَ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ، وَيَقُولُونَ : فَعَلَ ،
وَفَعَلَ ؟ وَاَللَّهُ إنَّمَا قَالَ : هَمَّ بِهَا ، لَا أَقَالَهُمْ وَلَا
أَقَاتَهُمْ اللَّهُ وَلَا عَالَهُمْ .
كَانَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ
الصُّوفِيَّةِ ، وَأَيُّ إمَامٍ ، يُعْرَفُ بِابْنِ عَطَاءٍ ، تَكَلَّمَ يَوْمًا
عَلَى يُوسُفَ وَأَخْبَارِهِ حَتَّى ذَكَرَ تَبْرِئَتَهُ مِنْ مَكْرُوهِ مَا
نُسِبَ إلَيْهِ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ آخِرِ مَجْلِسِهِ وَهُوَ مَشْحُونٌ بِالْخَلِيقَةِ
مَنْ كَانَ طَائِفَةً ، فَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي ، فَإِذَنْ يُوسُفُ هَمَّ
وَمَا تَمَّ .
فَقَالَ : نَعَمْ ؛ لِأَنَّ الْعِنَايَةَ مِنْ ثَمَّ .
فَانْظُرْ إلَى حَلَاوَةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ ،
وَانْظُرْ إلَى فِطْنَةِ الْعَامِّيِّ فِي سُؤَالِهِ ، وَجَوَابِ الْعَالِمِ فِي
اخْتِصَارِهِ ، وَاسْتِيفَائِهِ
.
وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ : إنَّ فَائِدَةَ
قَوْلِهِ : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } أَنَّ
اللَّهَ أَعْطَاهُ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ إبَّانَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ
لِتَكُونَ لَهُ سَبَبًا لِلْعِصْمَةِ
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ
قَوْله تَعَالَى : { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ
أَهْلِهَا إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ
الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ
الصَّادِقِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ شَهَادَاتِ الْأَحْكَامِ
الَّتِي تُفِيدُ الْإِعْلَامَ عِنْدَ الْحُكَّامِ ، وَيَتَفَرَّدُ بِعِلْمِهَا
الشَّاهِدُ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ ، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى
أَخْبَرَ عَنْ عِلْمِ مَا كَانَ عَنْهُ الْقَوْمُ غَافِلِينَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَمِيصَ
جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا جُذِبَ مِنْ خَلْفِهِ تَمَزَّقَ مِنْ تِلْكَ
الْجِهَةِ ، وَإِذَا جُذِبَ مِنْ قُدَّامَ تَمَزَّقَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ ،
وَلَا يُجْذَبُ الْقَمِيصُ مِنْ خَلْفِ اللَّابِسِ إلَّا إذَا كَانَ مُدْبِرًا ،
وَهَذَا فِي الْأَغْلَبِ ، وَإِلَّا فَقَدْ يَتَمَزَّقُ [ الْقَمِيصُ بِالْقَلْبِ
مِنْ ذَلِكَ ] إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ ضَعِيفًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : يَتَكَلَّمُ النَّاسُ فِي
هَذَا الشَّاهِدِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : الشَّاهِدُ هُوَ الْقَمِيصُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ ابْنُ عَمِّهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَزِيزِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ .
فَأَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّهُ الْقَمِيصُ فَكَانَ
يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ حَالِهِ بِتَقْدِيرِ مَقَالِهِ
؛ فَإِنَّ لِسَانَ الْحَالِ أَبْلَغُ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ فِي بَعْضِ
الْأُمُورِ ، وَقَدْ تُضِيفُ الْعَرَبُ الْكَلَامَ إلَى الْجَمَادَاتِ بِمَا
تُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الصِّفَاتِ ، وَمِنْ أَجْلَاهُ قَوْلُ
بَعْضِهِمْ : قَالَ الْحَائِطُ لِلْوَتَدِ : لِمَ تَشُقُّنِي .
قَالَ : سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي ، مَا تَرَكَنِي وَرَأْيِي
هَذَا الَّذِي وَرَائِي ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { مِنْ أَهْلِهَا }
فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَمِيصَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ ابْنُ عَمِّهَا أَوْ
رَجُلٌ آخَرُ مِنْ أَصْحَابِ الْعَزِيزِ ، فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ ؛
لَكِنَّ
قَوْلَهُ : { مِنْ أَهْلِهَا } يُعْطِي اخْتِصَاصًا مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ
الَّذِي يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ
أَرْبَعَةٌ : " عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ ،
وَشَاهِدُ يُوسُفَ ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ ، " وَنَقَصَهُمْ اثْنَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الَّذِي { ذَكَرَ النَّبِيُّ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ
الْأُخْدُودِ أَنَّهُمْ لَمَّا حُفِرَتْ لَهُمْ الْأَرْضُ ، وَرُمِيَ فِيهَا
بِالْحَطَبِ وَأُوقِدَتْ النَّارُ عَلَيْهَا ، وَعُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقَعُوا فِيهَا
أَوْ يَكْفُرُوا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ
.
فَوَقَفَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ ، وَكَانَ فِي ذِرَاعِهَا
صَبِيٌّ فَقَالَ لَهَا : يَا أُمَّهْ ، إنَّك عَلَى الْحَقِّ .
} وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
وَالثَّانِي :
مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُرْضِعُ صَبِيًّا
فِي حِجْرِهَا ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ لَهُ شَارَةٌ وَحَوْلَهُ حَفَدَةٌ ،
فَقَالَتْ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذَا ، فَتَرَكَ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ
، وَقَالَ : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلنِي مِثْلَهُ ، وَمَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهُمْ
يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ : سَرَقْت وَلَمْ تَسْرِقْ وَزَنَيْت وَلَمْ تَزْنِ .
فَقَالَتْ : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا ،
فَتَرَكَ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا .
وَأَوْحَى إلَى نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنَّ الْأَوَّلَ
لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَأَنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ فَعَلَتْ وَهِيَ لَمْ تَفْعَلْ .
هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ .
فَاَلَّذِي صَحَّ فِيمَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ
أَرْبَعَةٌ : صَاحِبُ الْأُخْدُودِ ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
، وَهَذَا الصَّبِيُّ الَّذِي تَكَلَّمَ فِي حِجْرِ الْمَرْأَةِ بِالرَّدِّ عَلَى
أُمِّهِ فِيمَا اخْتَارَتْهُ وَكَرِهَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ بَعْضُ [
الْعُلَمَاءِ ] الْمُفَسِّرِينَ : لَوْ كَانَ هَذَا الْمُشَاهِدُ طِفْلًا
لَكَانَ فِي كَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ وَشَهَادَتِهِ آيَةٌ لِيُوسُفَ ، وَلَمْ
يُحْتَجْ إلَى ثَوْبٍ وَلَا إلَى غَيْرِهِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
الصَّبِيُّ
يَتَكَلَّمُ فِي الْمَهْدِ مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ ، وَكَانَتْ آيَةً ، كَمَا قَالَ : تَبَيَّنَتْ بِهَا بَرَاءَةُ يُوسُفَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ نُطْقِ الصَّبِيِّ ، وَمِنْ جِهَةِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لِمَا
ذُكِرَ مِنْ أَخْذِ الْقَمِيصِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
الْإِقْبَالُ مِنْ دَعْوَاهَا ، وَالْإِدْبَارُ مِنْ صِدْقِ يُوسُفَ ؛ وَهَذَا
أَمْرٌ تَفَرَّدَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِنَا .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا .
قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ .
: أَحَدُهُمَا : أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ
لَنَا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْعَادَاتِ لَا
تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ .
أَمَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ وُجُودُ
الْمَصَالِحِ فَيَكُونَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، فَإِذَا وُجِدَتْ فَلَا بُدَّ
مِنْ اعْتِبَارِهَا .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ يَعْقُوبُ بِالْعَلَامَةِ ، فَرَوَى
الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْإِخْوَةَ لَمَّا ادَّعَوْا أَكْلَ الذِّئْبِ [ لَهُ ] قَالَ
: أَرُونِي الْقَمِيصَ .
فَلَمَّا رَآهُ سَلِيمًا قَالَ : لَقَدْ كَانَ هَذَا
الذِّئْبُ حَلِيمًا .
وَهَكَذَا فَاطَّرَدَتْ الْعَادَةُ وَالْعَلَامَةُ ،
وَلَيْسَ هَذَا بِمُنَاقِضٍ لِقَوْلِهِ [ عَلَيْهِ السَّلَامُ ] { الْبَيِّنَةُ
عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } .
وَالْبَيِّنَةُ إنَّمَا هِيَ الْبَيَانُ ، وَدَرَجَاتُ
الْبَيَانِ تَخْتَلِفُ بِعَلَامَةٍ تَارَةً ، وَبِأَمَارَةٍ أُخْرَى ؛ وَبِشَاهِدٍ
أَيْضًا ، وَبِشَاهِدَيْنِ ثُمَّ بِأَرْبَعٍ .
الْآيَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا
يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ
وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أُكْرِهَ
يُوسُفُ عَلَى الْفَاحِشَةِ بِالسِّجْنِ ، وَأَقَامَ فِيهِ سَبْعَةَ أَعْوَامٍ ،
وَمَا رَضِيَ بِذَلِكَ لِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَشَرِيفِ قَدْرِهِ ، وَلَوْ
أُكْرِهَ رَجُلٌ بِالسِّجْنِ عَلَى الزِّنَا مَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ إجْمَاعًا ،
فَإِنْ أُكْرِهَ بِالضَّرْبِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ؛ وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ إذَا كَانَ فَادِحًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ إثْمُ الزِّنَا وَحْدَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا
يُسْقِطُ الْحَدَّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ عَلَى
عَبْدِهِ الْعَذَابَيْنِ ، وَلَا يَصْرِفُهُ بَيْنَ الْبَلَاءَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ
أَعْظَمِ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ ، وَصَبَرَ يُوسُفُ عَلَى السِّجْنِ ،
وَاسْتَعَاذَ مِنْ الْكَيْدِ فَقَالَ : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } الْآيَتَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { أَحَبُّ } بِنَاءُ أَفْعَلَ فِي التَّفْضِيلِ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الشَّيْءِ ، وَلِأَحَدِهِمَا الْمَزِيدُ فِي الْمُشْتَرَكِ فِيهِ عَلَى الْآخَرِ ، وَلَمْ يَكُنْ الْمَدْعُوُّ إلَيْهِ حَبِيبًا إلَى يُوسُفَ ، وَلَكِنَّهُ كَنَحْوِ الْقَوْلِ : الْجَنَّةُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ النَّارِ ، وَالْعَافِيَةُ أَحَبُّ إلَى [ قَلْبِي ] مِنْ الْبَلَاءِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي
رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ
قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
رُوِيَ أَنَّ الْفَتَيَيْنِ لَمَّا صَحِبَاهُ فِي السِّجْنِ وَكَلَّمَاهُ ،
وَرَأَيَا فَضْلَهُ وَأَدَبَهُ وَفَهْمَهُ سَأَلَاهُ عَنْ الَّذِي قَالَا
إنَّهُمَا رَأَيَاهُ مِنْ أَمْرِ الْخَمْرِ وَالْخُبْزِ ، فَأَعْرَضَ يُوسُفُ
عَنْهُمَا ، وَأَخَذَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ يَتَكَلَّمُ فِيهِ مَعَهُمَا ، فَقَالَ
لَهُمَا : { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلَّا نَبَّأَتُكُمَا
بِتَأْوِيلِهِ } وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ عَلَّمَهُ تَأْوِيلَ
الرُّؤْيَا ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ : { وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحَادِيثِ } يَعْنِي مَا يَكُونُ سَبَبًا لِظُهُورِ بَرَاءَتِهِ
وَمَنْزِلَتِهِ ، وَقَدْ كَانَ أَطْلَعَهُ مِنْ الْغُيُوبِ عَلَى مَا يُخْبِرُ
بِهِ عَنْ الْبَوَاطِنِ ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ الْمَلِكُ إذَا أَرَادَ
إهْلَاكَ أَحَدٍ أَرْسَلَ إلَيْهِ طَعَامًا مَسْمُومًا ، فَلَمَّا سَأَلَاهُ
عَمَّا رَأَيَا فِي الْمَنَامِ مِنْ أَمْرِ الطَّعَامِ أَعْلَمَهُمَا أَنَّهُ يُخْبِرُهُمَا
بِحَالِ كُلِّ طَعَامٍ يَأْتِيهِمَا فِي الْيَقِظَةِ وَالْمَنَامِ ، وَأَقْبَلَ
يُبَيِّنُ لَهُمَا حَالَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ
الْحَقِّ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُ مِنْ قَبْلِهِ كَذَلِكَ ، وَنَصَبَ
لَهُمَا الْأَدِلَّةَ ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى تَأْوِيلِ مَا رَأَيَا ، فَلَمَّا
أَخْبَرَهُمَا بِالتَّأْوِيلِ نَدِمَا عَلَى مَا فَعَلَا ، وَقَالَا : كَذَبْنَا .
فَقَالَ لَهُمَا يُوسُفُ : { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي
فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } .
فَإِنْ قِيلَ
: وَمَنْ كَذَبَ فِي رُؤْيَا فَفَسَّرَهَا الْعَابِرُ لَهُ ، أَيَلْزَمُهُ
حُكْمُهَا ؟ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قُلْنَا : لَا يَلْزَمُهُ ؛
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ فِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ نَبِيٌّ .
وَقَدْ قَالَ : إنَّهُ يَكُونُ كَذَا وَيَقَعُ كَذَا ،
فَأَوْجَدَ اللَّهُ مَا أَخْبَرَ كَمَا قَالَ ؛ تَحْقِيقًا لِنُبُوَّتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا مَخْرَجُ كَلَامِ يُوسُفَ فِي
أَنَّهُ يَكُونُ كَذَا إنْ كَانَا رَأَيَاهُ .
قُلْنَا :
ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ وَلَكِنْ الْفَتَيَانِ أَرَادَا
اخْتِبَارَهُ بِذَلِكَ ، فَحَقَّقَ اللَّهُ قَوْلَهُ [ آيَةَ ] ، وَقَابَلَ
الْهَزْلَ بِالْجَدِّ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ،
فَقَالَ لَهُ : إنِّي رَأَيْت كَأَنِّي أَعْشَبْت ، ثُمَّ أَجْدَبْت ، ثُمَّ
أَعْشَبْت ، ثُمَّ أَجْدَبْت .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَنْتَ رَجُلٌ تُؤْمِنُ ، ثُمَّ
تَكْفُرُ ، ثُمَّ تُؤْمِنُ ، ثُمَّ تَكْفُرُ ، ثُمَّ تَمُوتُ كَافِرًا .
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : مَا رَأَيْت شَيْئًا .
فَقَالَ عُمَرُ : قَدْ قُضِيَ لَك مَا قُضِيَ لِصَاحِبِ
يُوسُفَ .
قُلْنَا :
لَيْسَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَ عُمَرَ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ
مُحَدَّثًا ، وَكَانَ إذَا ظَنَّ ظَنًّا كَانَ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ وَقَعَ
عَلَى مَا وَرَدَ فِي أَخْبَارِهِ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ ؛ مِنْهَا : أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ
رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ : أَظُنُّك كَاهِنًا ، فَكَانَ كَمَا ظَنَّ خَرَّجَهُ
الْبُخَارِيُّ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلًا عَنْ اسْمِهِ ،
فَقَالَ لَهُ أَسْمَاءَ فِيهَا النَّارُ كُلُّهَا ، فَقَالَ لَهُ : أَدْرِكْ أَهْلَك
فَقَدْ احْتَرَقُوا ؛ فَكَانَ كَمَا قَالَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : هَاهُنَا نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ : وَهِيَ أَنَّ يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ
قَالَ لَهُمَا { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } فَقَدْ قَالَ
اللَّهُ عَنْهُ : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي
عِنْدَ رَبِّك } فَكَيْفَ يَقُولُ قُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ يَجْعَلُ نَجَاتَهُ
ظَنًّا ؟ وَأَجَابَ عَنْهُ النَّاسُ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : قَالُوا :
إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِالظَّنِّ ؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَ الرُّؤْيَا لَيْسَ
بِقَطْعٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ
فِي حَقِّ النَّاسِ ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا ؛ فَإِنَّ حُكْمَهُمْ
حَقٌّ كَيْفَمَا وَقَعَ .
الثَّانِي : إنَّ ظَنَّ هَاهُنَا بِمَعْنَى أَيْقَنَ
وَعَلِمَ ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ لُغَةً .
الْحَادِيَةَ
عَشْرَة : قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا
اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي
السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ : { فَأَنْسَاهُ } هَلْ هُوَ
عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ أَمْ عَلَى الْفَتَى ؟ فَقِيلَ : هُوَ عَائِدٌ عَلَى
يُوسُفَ ، أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ ، وَذَكَرَ الْمَلِكَ ؛
فَعُوقِبَ بِطُولِ اللُّبْثِ فِي السِّجْنِ ، وَكَانَتْ كَلِمَتُهُ كَقَوْلِ لُوطٍ : { لَوْ أَنَّ
لِي بِكُمْ قُوَّةً } .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } .
وَقِيلَ : هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْفَتَى نَسِيَ
تَذْكِرَةَ الْمَلِكِ ، فَدَامَ طُولُ مُكْثِ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ ، يَدُلُّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : [ فَإِنْ
قِيلَ : ] إنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى يُوسُفَ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ
يُضَافَ نِسْيَانُهُ إلَى الشَّيْطَانِ ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ
سُلْطَانٌ ؟ قُلْنَا : أَمَّا النِّسْيَانُ فَلَا عِصْمَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَنْهُ
إلَّا فِي [ وَجْهٍ وَاحِدٍ هُوَ
] جِهَةُ الْخَبَرِ عَنْ الْإِبْلَاغِ فَإِنَّهُمْ
مَعْصُومُونَ فِيهِ نِسْيَانًا وَذِكْرًا ، وَإِذَا وَقَعَ مِنْهُمْ النِّسْيَانُ
حَيْثُ يَجُوزُ وُقُوعُهُ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إلَى الشَّيْطَانِ إطْلَاقًا ، وَلَكِنَّ
ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُخْبِرُ اللَّهُ بِهِ عَنْهُمْ ، أَوْ يُخْبِرُونَ
بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا نَحْنُ ذَلِكَ فِيهِمْ .
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : لَمَّا تَعَلَّقَ يُوسُفُ بِالْمَخْلُوقِ دَامَ مُكْثُهُ فِي
السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْبِضْعُ مِنْ ثَلَاثٍ إلَى
عَشْرٍ ، وَعَيَّنَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ سَبْعَ سِنِينَ ، وَهِيَ مُدَّةُ
بَلَاءِ أَيُّوبَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِيهَا جَوَازُ
التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ ، وَإِنْ كَانَ الْيَقِينُ حَاصِلًا ؛ لِأَنَّ
الْأُمُورَ بِيَدِ مُسَبِّبِهَا ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهَا سِلْسِلَةً ، وَرَكَّبَ بَعْضَهَا
عَلَى بَعْضٍ ؛ فَتَحْرِيكُهَا سُنَّةٌ ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْمُنْتَهَى
يَقِينٌ .
وَاَلَّذِي يَدُلُّك عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ نِسْبَةُ مَا
جَرَى مِنْ النِّسْيَانِ إلَى الشَّيْطَانِ ، كَمَا جَرَى لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لِقَاءِ الْخِضْرِ .
وَهَذَا بَيِّنٌ فَتَأَمَّلُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { عِنْدَ
رَبِّك } أَطْلَقَ هَاهُنَا عَلَى السَّيِّدِ اسْمَ الرَّبِّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
رَبَّهُ يُرَبِّهِ إذَا دَبَّرَهُ بِوُجُوهِ التَّغْذِيَةِ ، وَحَفِظَ عَلَيْهِ
مَرَاتِبَ التَّنْمِيَةِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي ؛ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي ،
وَلَا يَقُلْ رَبِّي وَلْيَقُلْ سَيِّدِي } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا جَائِزًا فِي شَرْعِ
يُوسُفَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلِكُ إنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ
سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ
يَابِسَاتٍ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إنْ كُنْتُمْ
لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِيهَا صِحَّةُ رُؤْيَا الْكَافِرِ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا تَعَلَّقَتْ بِمُؤْمِنٍ
، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ آيَةً لِنَبِيٍّ ، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولٍ ، وَتَصْدِيقًا
لِمُصْطَفًى لِلتَّبْلِيغِ ، وَحُجَّةً لِلْوَاسِطَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعِبَادِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَالُوا : أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ يَعْنِي : أَخْلَاطًا مَجْمُوعَةً ،
وَاحِدُهَا ضِغْثٌ : وَهُوَ مَجْمُوعٌ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ حَطَبٍ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا
فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ
} .
وَقَدْ رُوِيَ : { الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ } .
وَقَدْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ، وَلَمْ يَكُنْ
مِنْ صَحِيحِ الْكَلَامِ ، وَلَا قَطْعِ تَفْسِيرِ الرُّؤْيَا إذْ لَمْ يَأْتِهَا
مِنْ بَابِهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمَّا أَخْطَأَ فِي
تَفْسِيرِ الرُّؤْيَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ
إذَا احْتَمَلَتْ وُجُوهًا مِنْ التَّفْسِيرِ ، فَعَيَّنَ بِتَأْوِيلِهِ أَحَدَهَا
جَازَ ، وَمَنْ تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ لَا يَكُونُ حُكْمًا عَلَيْهَا ، وَإِنْ
أَصَابَ .
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ
طَائِرٍ مَا لَمْ تَتَحَدَّثْ بِهَا ، فَإِذَا تَحَدَّثْت بِهَا سَقَطَتْ ، وَلَا تُحَدِّثْ
بِهَا إلَّا حَبِيبًا أَوْ لَبِيبًا
} .
وَهَذَا مَعْنَى الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ ،
فَإِنَّهُ إذَا تَحَدَّثَ بِهَا فَفُسِّرَتْ نَفَذَ حُكْمُهَا إذَا كَانَ بِحَقٍّ
عَنْ عِلْمٍ ، لَا كَمَا قَالَ أَصْحَابُ الْمَلِكِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ لَمْ
يَقْصِدُوا تَفْسِيرًا ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَمْحُوهَا عَنْ صَدْرِ
الْمَلِكِ حَتَّى لَا تَشْغَلَ لَهُ بَالًا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } .
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُونَ بِمَكَانِك ،
فَيَظْهَرُ عِنْدَهُمْ فَضْلُك حَتَّى يَكُونَ سَبَبَ خَلَاصِك ، فَعَلَى هَذَا
يَكُونُ الْعِلْمُ عَلَى بَابِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا ، وَيُسَمَّى عِلْمًا ، وَإِنْ
كَانَ ظَنًّا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كُلُّ ظَنٍّ شَرْعِيٍّ يَرْجِعُ إلَى الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ
الْقَطْعِيِّ الَّذِي أُسْنِدَ إلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ } .
وَهَذَا عَامٌ لَمْ يَقَعْ السُّؤَالُ عَنْهُ ، فَقِيلَ
، إنَّ اللَّهَ زَادَهُ عِلْمًا عَلَى مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ إظْهَارًا لِفَضْلِهِ
وَإِعْلَامًا بِمَكَانِهِ مِنْ الْعِلْمِ ، وَمَعْرِفَتِهِ .
وَقِيلَ : أَدْرَكَ ذَلِكَ بِدَقَائِقَ مِنْ تَأْوِيلِ
الرُّؤْيَا لَا تَرْتَقِي إلَيْهَا دَرَجَتُنَا .
وَهَذَا صَحِيحٌ مُحْتَمَلٌ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا
جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إلَى رَبِّك } ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا ، لَقَدْ
كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ
.
وَلَوْ لَبِثْت فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ
لَأَجَبْت الدَّاعِيَ } وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ : { يَرْحَمُ اللَّهُ
يُوسُفَ ، لَوْ كُنْت أَنَا الْمَحْبُوسُ ، ثُمَّ أُرْسِلَ إلَيَّ لَخَرَجْت
سَرِيعًا ، إنْ كَانَ لَحَلِيمًا ذَا أَنَاةٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقَدْ
عَجِبْت مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ ، وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ، حِينَ
سُئِلَ عَنْ الْبَقَرَاتِ ، وَلَوْ كُنْت مَكَانَهُ لَمَا أَخْبَرْتهمْ حَتَّى
أَشْتَرِطَ أَنْ يُخْرِجُونِي .
لَقَدْ عَجِبْت مِنْهُ حِينَ أَتَاهُ الرَّسُولُ ، لَوْ
كُنْت مَكَانَهُ لَبَادَرْتهمْ الْبَابَ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
إنَّمَا لَمْ يُرِدْ يُوسُفُ الْخُرُوجَ [ مِنْ السِّجْنِ ] حَتَّى تَظْهَرَ
بَرَاءَتُهُ ، لِئَلَّا يَنْظُرَ إلَيْهِ الْمَلِكُ بِعَيْنِ الْخَائِنِ ،
فَيَسْقُطَ فِي عَيْنِهِ ، أَوْ يَعْتَقِدَ لَهُ حِقْدًا ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ
أَنَّ سِجْنَهُ كَانَ جَوْرًا مَحْضًا ، وَظُلْمًا صَرِيحًا ، وَانْظُرُوا
رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى عَظِيمِ حِلْمِهِ ، وَوُفُورِ أَدَبِهِ ، كَيْفَ قَالَ :
مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ، فَذَكَرَ النِّسَاءَ
جُمْلَةً ، لِيُدْخِلَ فِيهِنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ مَدْخَلَ الْعُمُومِ
بِالتَّلْوِيحِ ، وَلَا يَقَعَ عَلَيْهَا تَصْرِيحٌ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ [ وَالرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ] قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا
مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَالَ الْمَلِكُ لِيُوسُفَ : { إنَّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } أَيْ مُتَمَكِّنٌ
مِمَّا أَرَدْت ، أَمِينٌ عَلَى مَا ائْتُمِنْتَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٌ ، أَمَّا أَمَانَتُهُ
فَلِمَا ظَهَرَ مِنْ بَرَاءَتِهِ ، وَأَمَّا مَكَانَتُهُ فَلِأَنَّهُ ثَبَتَتْ
عِفَّتُهُ وَنَزَاهَتُهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ } كَيْفَ سَأَلَ
الْإِمَارَةَ وَطَلَبَ الْوِلَايَةَ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِسَمُرَةَ : { لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ ، وَإِنَّك إنْ سَأَلَتْهَا
وُكِلْت إلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْهَا أُعِنْت عَلَيْهَا } .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّا لَا نُوَلِّي عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ ؟ } .
وَعَنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ : إنِّي حَسِيبٌ كَرِيمٌ ، وَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ
ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
إبْرَاهِيمَ } .
وَلَا قَالَ : إنِّي مَلِيحٌ جَمِيلٌ ، إنَّمَا قَالَ :
إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ، سَأَلَهَا بِالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ لَا بِالْحَسَبِ وَالْجَمَالِ .
الثَّانِي : سَأَلَ ذَلِكَ لِيُوَصِّلَ إلَى
الْفُقَرَاءِ حُظُوظَهُمْ لَا لَحَظِّ نَفْسِهِ .
الثَّالِثُ :
إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ ،
فَأَرَادَ التَّعْرِيفَ بِنَفْسِهِ ، وَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ : { فَلَا
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } الرَّابِعُ : أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ فَرْضًا مُتَعَيَّنًا
عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ غَيْرُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : كَيْفَ اسْتَجَازَ أَنْ يَقْبَلَهَا بِتَوْلِيَةِ كَافِرٍ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ نَبِيٌّ ؟ قُلْنَا : لَمْ يَكُنْ سُؤَالَ وِلَايَةٍ ؛ إنَّمَا كَانَ سُؤَالَ تَخَلٍّ وَتَرْكٍ ، لِيَنْتَقِلَ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَمَكَّنَهُ مِنْهَا بِالْقَتْلِ وَالْمَوْتِ وَالْغَلَبَةِ وَالظُّهُورِ وَالسُّلْطَانِ وَالْقَهْرِ ، لَكِنَّ اللَّهَ أَجْرَى سُنَّتَهُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ ، فَبَعْضُهُمْ عَامَلَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ بِالْقَهْرِ [ وَالسُّلْطَانِ ] وَالِاسْتِعْلَاءِ ، وَبَعْضُهُمْ عَامَلَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ بِالسِّيَاسَةِ وَالِابْتِلَاءِ ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ، وَهِيَ الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا
مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
أَمْرِهِ لَهُمْ بِالتَّفَرُّقِ : وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ ؛ أَظْهَرُهَا أَنَّهُ
تُقَاةُ الْعَيْنِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ
، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ مَوْجُودٌ ، وَعِنْدَ جَمِيعِ الْمُتَشَرِّعِينَ
مَعْلُومٌ ، وَالْبَارِئُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ الْخَالِقُ ، لَا فَاعِلَ
بِالْحَقِيقَةِ وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أَمْ
جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ
قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } .
فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ مِنْ الْفَلَكِ إلَى
الذَّرَّةِ ، وَلَا مِنْ دَوَرَانِهِ إلَى حَرَكَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا وَهِيَ
مَوْجُودَةٌ بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ ، وَمُصَرَّفَةٌ بِقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ ، فَكُلُّ
مَا تَرَى بِعَيْنِك أَوْ تَتَوَهَّمُهُ بِقَلْبِك فَهُوَ صُنْعُ اللَّهِ
وَخَلْقُهُ ، إذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ .
وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الْكُلَّ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ ، وَلَكِنَّهُ سَبَّبَ الْأَسْبَابَ ، وَرَكَّبَ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْضَهَا
عَلَى بَعْضٍ ؛ فَالْجَاهِلُ إذَا رَأَى مَوْجُودًا بَعْدَ مَوْجُودٍ ، أَوْ
مَوْجُودًا مُرْتَبِطًا فِي الْعِيَانِ بِمَوْجُودٍ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ إلَى
الرَّابِطَةِ مَنْسُوبٌ ، وَعَلَيْهَا فِي الْفِعْلِ مَحْسُوبٌ ، وَحَاشَ لِلَّهِ
، بَلْ الْكُلُّ لَهُ ، وَالتَّدْبِيرُ تَدْبِيرُهُ ، وَالِارْتِبَاطُ تَقْدِيرُهُ
، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ .
وَمِنْ أَبْدَعِ مَا خَلَقَ النَّفْسُ ؛ رَكَّبَهَا فِي
الْجِسْمِ ، وَجَعَلَهَا مَعْلُومَةً لِلْعَبْدِ ضَرُورَةً ، مَجْهُولَةَ
الْكَيْفِيَّةِ ، إنْ جَاءَ يُنْكِرُهَا لَمْ يَقْدِرْ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ
تَأْثِيرِهَا عَلَى الْبَدَنِ وُجُودًا وَعَدَمًا ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَعْرِفَةَ
بِهَا لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِنَّهُ
لَا
يَعْلَمُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَنْسُبُهَا ، وَلَا عَلَى أَيْ مَعْنًى يَقِيسُهَا ، وَضَعَهَا
اللَّهُ الْمُدَبِّرُ فِي الْبَدَنِ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ لِيُمَيِّزَ
الْإِيمَانَ بِهِ ؛ إذْ يُعْلَمُ بِأَفْعَالِهِ ضَرُورَةً ، وَلَا يُوصَلُ إلَى
كَيْفِيَّتِهِ لِعَدَمِهَا فِيهِ ، وَاسْتِحَالَتِهَا عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ هُوَ
مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } عَلَى أَحَدِ
التَّأْوِيلَاتِ .
وَلَهَا آثَارٌ يَخْلُقُهَا الْبَارِي فِي الشَّيْءِ
عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهِ ، مِنْهَا الْعَيْنُ وَهُوَ مَعْنًى يَحْدُثُ بِقُدْرَةِ
اللَّهِ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ فِي الْمُعَيَّنِ ، إذَا أَعْجَبَتْ مَنْظَرَتُهُ
الْعَائِنَ فَيَلْفِظُ بِهِ ، إمَّا إلَى عُرُوِّ أَلَمٍ فِي الْمُعَيَّنِ ،
وَإِمَّا إلَى الْفَنَاءِ ، بِحَسَبِ مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛
وَلِهَذَا الْمَعْنَى نُهِيَ الْعَائِنُ عَنْ التَّلَفُّظِ بِالْإِعْجَابِ ؛ لِأَنَّهُ
إنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَمْ يَضُرَّ اعْتِقَادُهُ عَادَةً ، وَكَمَا أَنَفَذَ
الْبَارِي مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَخْلُقَ فِي بَدَنِ الْمُعَيَّنِ أَلَمًا أَوْ
فِنَاءً ، فَكَذَلِكَ سَبَقَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّ الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ
أَسْقَطَ قَوْلُهُ بِالْبَرَكَةِ قَوْلَهُ بِالْإِعْجَابِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
سَقَطَ حُكْمُهُ بِالِاغْتِسَالِ
.
وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ ،
وَاعْتَقَدُوهُ مِنْ أَكَاذِيبِ النَّقَلَةِ ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا
سَطَّرُوا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ أَنَّ الْكَوْنَ وَالْفَسَادَ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ
الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ ، فَإِذَا شَذَّ شَيْءٌ قَالُوا : هَذِهِ خَاصَّةٌ
خَرَجَتْ مِنْ مَجْرَى الطَّبِيعَةِ لَا يُعْرَفُ لَهَا سَبَبٌ ، وَجَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ
مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً ؛ فَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ الرُّوَاةُ عَنْ صَاحِبِ
الشَّرِيعَةِ خَوَاصُّ شَرْعِيَّةٌ بِحِكَمٍ إلَهِيَّةٍ ، يَشْهَدُ لِصِدْقِهَا
وُجُودُهَا كَمَا وُصِفَتْ ؛ فَإِنَّا نَرَى الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ امْتَنَعَ
ضَرَرُهُ ، وَإِنْ اغْتَسَلَ شُفِيَ مَعِينُهُ ، وَهَذَا بَالِغٌ فِي فَنِّهِ ،
فَلْيُنْظَرْ عَلَى التَّمَامِ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ
الْحَدِيثِ ؛ وَهَذِهِ النُّبْذَةُ تَكْفِي فِي هَذِهِ الْعَارِضَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ
إلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } قَالُوا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ حَمَلَهُمْ عَلَى التَّفَرُّقِ مَخَافَةَ الْعَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ :
وَهَذَا لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ ، إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ تَأْنَسُ بِهِ النُّفُوسُ ،
وَتَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُلُوبُ ؛ إذْ خُلِقَتْ مُلَاحِظَةً لِلْأَسْبَابِ .
وَيَفْتَرِقُ اعْتِقَادُ الْخَلْقِ ؛ فَمَنْ لَحَظَ
الْأَسْبَابَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَسْبَابٌ فِي الْعَادَةِ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا
، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَاتٌ ؛ فَهُوَ الْمُوَحِّدُ ، وَمَنْ نَسَبَهُ إلَيْهَا
فِعْلًا وَاعْتَقَدَهَا مُدَبَّرَةً فَهُوَ الْجَاهِلُ أَوْ الْمُلْحِدُ .
.
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } الْآيَةُ فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إنَّمَا جَعَلَ السِّقَايَةَ حِيلَةً فِي الظَّاهِرِ لِأَخْذِ الْأَخِ مِنْهُمْ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَهُ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ [ وَلَمْ يَمْنَعْ الْحِيلَةَ ] ، وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ، حَكِيمٌ فِي تَفْصِيلِ الْحَالَيْنِ .
فَإِنْ
قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : كَيْفَ رَضِيَ يُوسُفُ أَنْ يَنْسِبَ إلَيْهِمْ السَّرِقَةَ وَلَمْ
يَفْعَلُوهَا ؟ قِيلَ : عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْقَوْمَ
كَانُوا سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ وَبَاعُوهُ ، فَاسْتَحَقُّوا هَذَا الِاسْمَ
بِذَلِكَ الْفِعْلِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ أَيَّتُهَا الْعِيرُ
حَالُكُمْ حَالُ السُّرَّاقِ .
الْمَعْنَى : إنَّ شَيْئًا لِغَيْرِكُمْ صَارَ
عِنْدَكُمْ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَلِكِ وَلَا عِلْمِهِ .
الثَّالِثُ :
وَهُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا كَانَ حِيلَةً
لِاجْتِمَاعِ شَمْلِهِ بِأَخِيهِ وَفَصْلِهِ عَنْهُ إلَيْهِ ، وَهُوَ ضَرَرٌ
دَفَعَهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ .
فَإِنْ
قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَكَيْفَ اسْتَجَازَ يُوسُفُ
الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ أَخِيهِ وَأَبِيهِ فَيَزِيدُهُ حُزْنًا عَلَى حُزْنٍ
وَكَرْبًا عَلَى كَرْبٍ .
قُلْنَا : إذَا اسْتَوَى الْكَرْبُ جَاءَ الْفَرْجُ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِإِذْنٍ مِنْ
اللَّهِ فَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ
.
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَذَلِكَ أَنَّ الْحُزْنَ كَانَ قَدْ
غَلَبَ عَلَى يَعْقُوبَ غَلَبَةً لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا فَقْدُ أَخِيهِ كُلَّ
التَّأْثِيرِ ، أَوَ لَا تَرَاهُ لَمَّا فَقَدَ أَخَاهُ قَالَ : يَا أَسَفَى عَلَى
يُوسُفَ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ
بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا نَصٌّ فِي جَوَازِ الْكَفَالَةِ .
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ : لَيْسَ هَذَا
مِنْ بَابِ الْكَفَالَةِ ، فَإِنَّهَا لَيْسَ فِيهَا كَفَالَةُ إنْسَانٍ عَنْ
إنْسَانٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ الْتَزَمَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَضَمِنَ عَنْهَا ،
وَذَلِكَ جَائِزٌ لُغَةً لَازِمٌ شَرْعًا ، قَالَ الشَّاعِرُ : فَلَسْت بِآمِرٍ
فِيهَا بِسِلْمٍ وَلَكِنِّي عَلَى نَفْسِي زَعِيمُ وَقَالَ الْآخَرُ : وَإِنِّي
زَعِيمٌ إنْ رَجَعْت مُمَلَّكًا بِسَيْرٍ تَرَى مِنْهُ الْغُرَانِقَ أَزْوَرَا
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ
صَحِيحُ [ بَيْدَ أَنَّ الزَّعَامَةَ ] فِيهِ نَصٌّ ، فَإِذَا قَالَ : أَنَا
زَعِيمٌ فَمَعْنَاهُ أَنِّي مُلْتَزَمٌ ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ :
أَلْتَزِمُهُ عَنْ نَفْسِي أَوْ الْتَزَمْت عَنْ غَيْرِي ؟
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } إنَّمَا يَكُونُ فِي
الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا ؛ وَأَمَّا كُلُّ حَقٍّ لَا
يَقُومُ فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ كَالْحُدُودِ فَلَا كَفَالَةَ فِيهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَتُرَكَّبُ عَلَى هَذِهِ
مَسْأَلَةٌ .
وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا قَالَ : أَنَا زَعِيمٌ لَك بِوَجْهِ فُلَانٍ .
قَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ
غَرَرٌ ؛ إذْ لَا يَدْرِي هَلْ يَجِدُهُ أَمْ لَا ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ
أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالزَّعَامَةِ تَنْزِيلُ الزَّعِيمِ مَقَامَ الْأَصْلِ ،
وَالْمَقْصُودُ مِنْ حُضُورِ الْأَصْلِ أَدَاءُ الْمَالِ ، فَكَذَلِكَ الزَّعِيمُ .
وَمَسَائِلُ الضَّمَانِ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْفُرُوعِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ نَصٌّ فِي الزَّعَامَةِ فَمَعْنَاهَا
نَصٌّ فِي الْجَعَالَةِ ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ ، لَكِنَّ الْفَرْقَ
بَيْنَ الْجَعَالَةِ وَالْإِجَارَةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ يَتَقَدَّرُ فِيهَا
الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ ، وَالْجَعَالَةُ يَتَقَدَّرُ فِيهَا
الْجُعَلُ وَالْعَمَلُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ .
وَدَلِيلُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الْبَيْعَ
وَالِابْتِيَاعَ فِي الْأَمْوَالِ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَتَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ
، فَلَمَّا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ شَرَعَ لَهَا سَبِيلَ
الْبَيْعِ وَبَيَّنَ أَحْكَامَهُ ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمَنَافِعُ كَالْأَمْوَالِ
فِي حَاجَةٍ إلَى اسْتِيفَائِهَا ؛ إذْ لَا يَقْدِرُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ
يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ أَغْرَاضِهِ نَصَبَ اللَّهُ الْإِجَارَةَ فِي
اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ بِالْأَعْوَاضِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُصُولِ
الْأَغْرَاضِ ، وَأَنْكَرَهَا الْأَصَمُّ ، وَهُوَ عَنْ الشَّرِيعَةِ أَصَمُّ ؛
فَقَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِجَارَةَ ، وَفَعَلَهَا
الصَّحَابَةُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ بِالزَّمَانِ
، كَقَوْلِهِ : تَخْدُمُنِي الْيَوْمَ .
وَقَدْ يَقُولُ : تَخِيطُ لِي هَذَا الثَّوْبَ ؛
فَيُقَدَّرُ الْعَمَلُ بِالْوَجْهَيْنِ ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ
، كَقَوْلِهِ : مَنْ جَاءَنِي بِضَالَّتِي أَوْ جَلَبَ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ
كَذَا ، فَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ ، وَالْعِوَضُ الْآخَرُ
لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ ، فَإِنَّ مَا يَسْقُطُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى
سُقُوطُهُ إلَى مَا لَا ضَرُورَةَ فِيهِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي قَدَّمْنَا مِنْ
أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الرُّقْيَةِ ، وَهُوَ عَمَلٌ لَا يَتَقَدَّرُ ، وَقَدْ
كَانَتْ الْإِجَارَةُ وَالْجَعَالَةُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَأَقَرَّتْهُمَا
الشَّرِيعَةُ ، وَنَفَتْ عَنْهُمَا الْغَرَرَ وَالْجَهَالَةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : فِي حَقِيقَةِ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ : إنَّ الْمُنَادِيَ لَمْ يَكُنْ
مَالِكًا ، إنَّمَا كَانَ نَائِبًا عَنْ يُوسُفَ وَرَسُولًا لَهُ ، فَشَرَطَ
حِمْلَ الْبَعِيرِ عَلَى يُوسُفَ لِمَنْ جَاءَ بِالصُّوَاعِ وَتَحَمَّلَ هُوَ بِهِ
عَنْ يُوسُفَ ، فَصَارَتْ فِيهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ : الْأَوَّلُ : الْجَعَالَةُ ،
وَهُوَ عَقْدٌ يَتَقَدَّرُ فِيهِ الثَّمَنُ وَلَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ الثَّمَنُ .
الثَّانِيَةُ : الْكَفَالَةُ ، وَهِيَ هَاهُنَا
مُضَافَةٌ إلَى سَبَبٍ مُوجَبٍ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا اخْتِلَافًا
مُتَبَايِنًا تَقْرِيرُهُ فِي الْمَسَائِلِ ؛ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ ،
فَإِنَّهُ فِعْلُ نَبِيٍّ ، وَلَا يَكُونُ إلَّا شَرْعًا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَفَالَةِ ؛
فَجَوَّزَهَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مُحَالَةً عَلَى سَبَبِ وُجُوبٍ ؛
كَقَوْلِهِ : مَا كَانَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ ، أَوْ إذَا أَهَلَّ
الْهِلَالُ فَلَكَ عَلَيَّ عَنْهُ كَذَا ، بِخِلَافِ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً
بِشَرْطٍ مَحْضٍ ، كَقَوْلِهِ : إنْ قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ بِشَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ عَلَى جَوَازِهَا ، مُحَالَةً عَلَى سَبَبِ
الْوُجُوبِ .
الثَّالِثَةُ : جَهَالَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : هِيَ جَائِزَةٌ ، وَتَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا مَعَ جَهَالَةِ
الشَّيْءِ الْمَضْمُونِ أَوْ كِلَيْهِمَا .
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ
اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ
لَهُ ، وَادَّعَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مَنْسُوخٌ مِنْ
الْآيَةِ خَاصَّةً .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : هَذِهِ الْآيَةُ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْجُعَلِ ، وَهِيَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ، وَلَيْسَ
لَهُمْ فِيهِ تَعَلُّقٌ فِي مَذْهَبٍ
.
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنَّ مَعْرِفَةَ
الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَالْمَضْمُونِ لَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا :
أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِمَا ؛ أَمَّا مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَلِيُعْلَمَ
هَلْ هُوَ أَهْلٌ
لِلْإِحْسَانِ
أَمْ لَا ؟ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ فَلِيُعْلَمَ هَلْ يَصْلُحُ
لِلْمُعَامَلَةِ أَمْ لَا ؟ الثَّانِي : أَنَّهُ افْتَقَرَ إلَى مَعْرِفَةِ
الْمَضْمُونِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مَعَهُ خَاصَّةً .
الثَّالِثُ
: أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، لِمَا ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ ضَمِنَ عَنْ الْمَيِّتِ وَلَمْ
يَسْأَلْهُ النَّبِيُّ عَنْ الْمَضْمُونِ لَهُ وَلَا عَنْ الْمَضْمُونِ عَنْهُ } .
وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي جَهَالَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ ،
وَحَمْلُ جَهَالَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ عَلَيْهِ أَخَفُّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا
مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ
فِي دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ
كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَمَّا
قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ : { تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ
فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ
} .
قَالَ أَصْحَابُ يُوسُفَ : { فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ
كَاذِبِينَ } ؟ فَقَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ : { جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ }
قَالَ الطَّبَرِيُّ : الْمَعْنَى جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ، عَلَى
حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ ، التَّقْدِيرُ
جَزَاؤُهُ اسْتِعْبَادُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ، أَوْ أَخْذُهُ
وَاسْتِرْقَاقُهُ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : التَّقْدِيرُ جَزَاءُ السَّارِقِ
مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ، وَيَكُونُ جَزَاؤُهُ الْأَوَّلُ
الِابْتِدَاءَ ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ الْخَبَرَ ، الْمَعْنَى مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ هُوَ ، وَكَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِلْبَيَانِ كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ : لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى
وَالْفَقِيرَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْكَلَامِ
بِالتَّفْسِيرِ : وَذَلِكَ أَنَّ دِينَ الْمَلِكِ كَانَ أَنْ يَأْخُذَ
الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ السَّارِقِ مِثْلَيْ السَّرِقَةِ ، وَكَانَ دِينُ
يَعْقُوبَ أَنْ يُسْتَرَقَّ السَّارِقُ ، فَأَخَذَ يُوسُفُ إخْوَتَهُ بِمَا فِي
دِينِ يَعْقُوبَ بِإِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ وَتَسْلِيمِهِمْ فِيهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ عَمَّةَ يُوسُفَ
بِنْتَ إِسْحَاقَ ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ يَعْقُوبَ ، صَارَتْ إلَيْهَا
مِنْطَقَةُ إِسْحَاقَ لِسِنِّهَا ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَهَا
بِالسِّنِّ ، وَكَانَ مَنْ سَرَقَهَا اسْتُمْلِكَ ،
وَكَانَتْ
عَمَّةُ يُوسُفَ قَدْ حَضَنَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا ، فَلَمَّا
تَرَعْرَعَ قَالَ لَهَا يَعْقُوبُ : سَلِّمِي يُوسُفَ إلَيَّ ؛ فَلَسْت أَقْدِرُ
أَنْ يَغِيبَ عَنْ عَيْنِي سَاعَةً .
قَالَتْ لَهُ : دَعْهُ عِنْدِي أَيَّامًا أَنْظُرُ
إلَيْهِ فَلَعَلِّي أَتَسَلَّى عَنْهُ
.
فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا يَعْقُوبُ عَمَدَتْ إلَى
مِنْطَقَةِ إِسْحَاقَ فَحَزَّمَتْهَا عَلَى يُوسُفَ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ ، ثُمَّ
قَالَتْ : لَقَدْ فَقَدْت مِنْطَقَةَ إِسْحَاقَ ، فَانْظُرُوا مَنْ أَخَذَهَا ، وَمَنْ
أَصَابَهَا .
فَالْتُمِسَتْ ، ثُمَّ قَالَتْ : اكْشِفُوا أَهْلَ الْبَيْتِ
، فَكَشَفُوا فَوُجِدَتْ مَعَ يُوسُفَ فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ إنَّهُ لِي سَلَمٌ
أَصْنَعُ فِيهِ مَا شِئْت .
ثُمَّ أَتَاهَا يَعْقُوبُ ، فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ ،
فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ وَذَاكَ ، إنْ كَانَ فَعَلَ فَهُوَ سَلَمٌ لَك ،
فَأَمْسَكَتْهُ حَتَّى مَاتَتْ ، فَبِذَلِكَ عَيَّرَهُ إخْوَتُهُ فِي قَوْلِهِمْ {
إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ
شِجْنَةٌ وَالصَّحَابَةُ شِجْنَةٌ
.
وَمِنْ هَاهُنَا تَعَلَّمَ يُوسُفُ وَضْعَ السِّقَايَةِ
فِي رَحْلِ أَخِيهِ كَمَا عَمِلَتْ عَمَّتُهُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ }
إذْ كَانَ لَا يَرَى اسْتِرْقَاقَ السَّارِقِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ،
فَكَيْفَ الْتِزَامُ الْإِخْوَةِ لِدِينِ يَعْقُوبَ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، فَقَضَى
عَلَيْهِمْ بِهِ .
وَالْكَيْدُ وَالْمَكْرُ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي
يُخَالِفُ فِيهِ الْبَاطِنُ الظَّاهِرَ ، وَالْقَوْلُ الَّذِي يَحْتَمِلُ
مَعْنَيَيْنِ ؛ فَيَتَأَوَّلُهُ أَحَدُ الْمُتَخَاطِبَيْنِ عَلَى وَجْهٍ
وَالْآخَرُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ
.
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ الْقَطْعَ فِي
السَّرِقَةِ نَاسِخٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الشَّرَائِعِ ؛ إذْ كَانَ فِي شَرْعِ
يَعْقُوبَ اسْتِرْقَاقُ السَّارِقِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا نَعْلَمُ مَا نَفَذَ
بِهِ الْحُكْمُ فِي شَرْعِ يَعْقُوبَ هَلْ كَانَ مَخْصُوصًا بِعَيْنٍ مَسْرُوقَةٍ
دُونَ عَيْنٍ أَمْ عَامًّا فِي كُلِّ عَيْنٍ ؟ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ
، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَاَلَّذِي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ
لَقَطَعْتُ يَدَهَا } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي الْغَرَضِ ، مُوَضِّحٌ لِلْمَقْصُودِ
، فَافْهَمُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } فِيهِ جَوَازُ التَّوَصُّلِ
إلَى الْأَغْرَاضِ بِالْحِيَلِ ؛ إذَا لَمْ تُخَالِفْ شَرِيعَةً وَلَا هَدَمَتْ
أَصْلًا ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي تَجْوِيزِهِ الْحِيَلَ ، وَإِنْ
خَالَفَتْ الْأُصُولَ ، وَخَرَمَتْ التَّحْلِيلَ ؛ سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدِ
بْنِ الْوَلِيدِ الْفِهْرِيِّ وَغَيْرَهُ يَقُولُ : كَانَ شَيْخُنَا قَاضِي الْقُضَاةِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّامَغَانِيُّ صَاحِبَ عَشْرَاتِ
آلَافٍ مِنْ الْمَالِ ، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ دَعَا بَنِيهِ فَقَالَ
لَهُمْ : قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي ، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي ، وَهَذَا مَالٌ لَا
أَحْتَاجُهُ ، فَهُوَ لَكُمْ .
ثُمَّ يُخْرِجُهُ ، وَيَحْتَمِلُهُ الرِّجَالُ عَلَى
أَعْنَاقِهِمْ إلَى دُورِ بَنِيهِ ، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ ، وَدَعَا
بَنِيهِ لِأَمْرٍ قَالُوا : يَا أَبَانَا ؛ إنَّمَا أَمَلُنَا حَيَاتُك ، وَأَمَّا
الْمَالُ فَأَيُّ رَغْبَةٍ لَنَا فِيهِ مَا دُمْت حَيًّا ، أَنْتَ وَمَالُك لَنَا
، فَخُذْهُ إلَيْك .
وَيَسِيرُ الرِّجَالُ بِهِ حَتَّى يَضَعُوهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ ، فَيَرُدُّهُ إلَى مَوْضِعِهِ يُرِيدُ بِتَبْدِيلِ الْمِلْكِ إسْقَاطَ الزَّكَاةِ
عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ ،
وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ ، وَهَذَا خَطْبٌ عَظِيمٌ بَيَّنَّاهُ فِي
شَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَقَدْ صَنَّفَ الْبُخَارِيُّ عَلَيْهِ فِي جَامِعِهِ
كِتَابًا مَقْصُودًا .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ : قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحِيلَةِ فِي التَّوَصُّلِ
إلَى الْمُبَاحِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ .
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : هَذَا وَهْمٌ عَظِيمٌ
.
وَقَوْلُهُ :
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } قِيلَ
فِيهِ : كَمَا مَكَّنَّا لِيُوسُفَ مِلْكَ نَفْسِهِ عَنْ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ
مَكَّنَّا لَهُ مِلْكَ الْأَرْضِ عَنْ الْعَزِيزِ أَوْ مِثْلَهُ مِمَّا لَا
يُشْبِهُ مَا ذَكَرَهُ .
قَالَ الشَّفْعَوِيُّ : وَمِثْلُهُ : { وَخُذْ بِيَدِك
ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ
} .
قَالَ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ
بْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ هَذَا حِيلَةً ؛ إنَّمَا هُوَ
حَمْلٌ لِلْيَمِينِ عَلَى الْأَلْفَاظِ أَوْ عَلَى الْمَقَاصِدِ ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ
.
قَالَ الشَّفْعَوِيُّ : وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي
عَامِلِ خَيْبَرَ [ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : نَصُّ هَذَا الْحَدِيثِ
] { أَنَّ عَامِلَ خَيْبَرَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِتَمْرٍ جَنِيبٍ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ قَالَ : لَا ، يَا رَسُولَ اللَّهِ
، وَلَكِنَّا نَبِيعُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ مِنْ تَمْرِ الْجَمْعِ .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : لَا تَفْعَلْ ، بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ ابْتَعْ
بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا ، وَكَذَلِكَ الْبُسْرُ } خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ .
وَمَقْصُودُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ
جَمْعًا وَيَبْتَاعَ جَنِيبًا مِنْ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ الْجَمْعَ أَوْ مِنْ
غَيْرِهِ .
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ ،
لِئَلَّا يَكُونَ جَنِيبًا بِجَمْعٍ وَالدَّرَاهِمُ رِبًا ، كَمَا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ : جَرِيرَةٌ بِجَرِيرَةٍ وَالدَّرَاهِمُ رِبًا .
قَالَ الشَّفْعَوِيُّ : وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِهِنْدَ : { خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } .
قَالَ الْقَاضِي : { قَالَتْ هِنْدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مَسِيكٌ لَا يُعْطِينِي
مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي .
قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } .
وَهَذَا مِنْ بَابِ الْفَتْوَى وَتَسْلِيطِ الْمُفْتِي
لِلْمُسْتَفْتِي عَلَى حُكْمِ الدَّعْوَى ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ ،
وَرَبُّهُ أَعْلَمُ مِنْ الْكُلِّ بِكَذِبِهِ أَوْ صِدْقِهِ ، وَلَا حِيلَةَ فِي
شَيْءٍ مِنْ هَذَا .
وَعَجَبًا لِمَنْ يَتَصَدَّى لِلْإِمَامَةِ ،
وَيَتَمَيَّزُ فِي الْفِرَقِ بِالزَّعَامَةِ ، وَيَأْتِي بِهَذَا السَّفْسَافِ
مِنْ الْمَقَالِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَزَادَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ
مَعَارِيضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَرْبِ مَا هُوَ خَارِجٌ
عَنْ هَذَا الْغَرَضِ عَلَى خَطٍّ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ هَذَا الْمَقْصِدِ فِي
دَائِرَةِ الْأُفُقِ ، فَكَيْفَ فِي مِقْدَارٍ مِنْ التَّقَابُلِ أَصْغَرَ مِنْ
نَفَقٍ .
الْآيَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { ارْجِعُوا إلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا
يَا أَبَانَا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا
كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الشَّهَادَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالْعِلْمِ عَقْلًا وَشَرْعًا ، فَلَا تُسْمَعُ إلَّا
مِمَّنْ عَلِمَ ، وَلَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْهُ .
وَمَرَاتِبُ الْعِلْمِ فِي طُرُقِهِ مُخْتَلِفَةٌ ،
وَلَكِنَّهُ يَعُودُ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَعْلُومِ
عَلَى مَا هُوَ بِهِ ، فَإِذَا نَسِيَ الشَّهَادَةَ فَذُكِّرَ بِهَا
وَتَذَكَّرَهَا أَدَّاهَا ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { أَنْ
تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } وَإِذَا لَمْ
يَذْكُرْهَا لَمْ يُؤَدِّهَا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ عَرَفَ خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ قَالُوا : يُؤَدِّيهَا وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْهَا مَا عَلِمَ وَهُوَ خَطُّهُ ، وَيَتْرُكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلْيُنْظَرْ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا ادَّعَى الرَّجُلُ شَهَادَةً لَا يَحْتَمِلُهَا عُمْرُهُ وَلَا حَالُهُ رُدَّتْ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى بَاطِنًا مَا كَذَّبَهُ الْعِيَانُ ظَاهِرًا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : شَهَادَةُ الْمُرُورِ : وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : مَرَرْت
بِفُلَانٍ فَسَمِعْته ، فَإِنْ اسْتَوْعَبَ الْقَوْلَ شَهِدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ
مَالِكٍ .
وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا يَشْهَدُ حَتَّى
يُشْهِدَاهُ .
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ الشَّهَادَةُ عِنْدَ
الِاسْتِيعَابِ ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَهُوَ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ
الْمَطْلُوبُ ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْعِلْمِ ، وَكَانَ خَيْرَ
الشُّهَدَاءِ إذَا أَعْلَمَ الْمَشْهُودَ لَهُ ، وَشَرَّ الشُّهَدَاءِ إذَا
كَتَمَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا إذَا جَلَسَ رَجُلَانِ لِلْمُحَاسَبَةِ ، فَأَبْرَزَ الْحِسَابُ بَيْنَهُمَا ذِكْرًا هَلْ يَشْهَدُ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ ، وَقَدْ كُلِّفَ ذَلِكَ وَأُجْلِسَ لَهُ ؟ وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ عِلْمُهُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : إذَا أَجْلَسَ رَجُلٌ شَاهِدِينَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَكَلَّمَهُ
وَقَرَّرَهُ فَاسْتَوْعَبَا كَلَامَهُ ، فَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : لَا
يَثْبُتُ ذَلِكَ ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَقَرَّ إلَّا بِأَمْرِ كَذَا
يَذْكُرُهُ ؛ فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ مَا يَشْهَدُ بِهِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَحْصِيلِ
الْعِلْمِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ
عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى
يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : حَدَّثَ
مَالِكٌ عَنْ حُزْنِ يَعْقُوبَ أَنَّهُ حُزْنُ سَبْعِينَ ثَكْلَى .
قِيلَ : فَمَا أُعْطِيَ ؟ قَالَ : أَجْرَ سَبْعِينَ
شَهِيدًا .
قَالَ مَالِكٌ : قَالَ يُوسُفُ لَمَّا حَضَرَتْهُ
الْوَفَاةُ : مَا انْتَقَمْت لِنَفْسِي مِنْ شَيْءٍ أَتَى إلَيَّ ، فَذَلِكَ زَادِي
الْيَوْمَ مِنْ الدُّنْيَا ، وَإِنَّ عَمَلِي لَاحِقٌ بِعَمَلِ آبَائِي ،
فَأَلْحِقُوا قَبْرِي بِقُبُورِهِمْ
.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُرِيدُ مَالِكٌ بِالْكَلَامِ
الثَّانِي قَوْلَ يُوسُفَ لِإِخْوَتِهِ : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أَيْ : لَا تَبْكِيتَ
وَلَا مُؤَاخَذَةَ لَكُمْ بِمَا فَعَلْتُمْ ؛ لِأَنَّ شِفَاءَ الْغَيْظِ
وَالْجَزَاءَ بِالذَّنْبِ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا لَا حَظَّ لَهُ
فِي الْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ قَوْلُ يُوسُفَ : مَا انْتَقَمْت لِنَفْسِي مِنْ شَيْءٍ
أَتَى إلَيَّ ، فَذَلِكَ زَادِي الْيَوْمَ مِنْ الدُّنْيَا ، وَإِنْ عَمَلِي لَاحِقٌ
بِعَمَلِ آبَائِي أَيْ فِي الصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ ، وَهُوَ فِعْلُ أَهْلِ
النُّبُوَّةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : " أَلْحِقُوا قَبْرِي بِقُبُورِ آبَائِي " شَاهَدْنَاهُ
سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ ، وَجَاوَزْنَا فِيهِ [ أَعْوَامًا وَأَيَّامًا آمَنِينَ فِي
نِعَمٍ فَاكِهِينَ ، وَعَلَى الدَّرْسِ وَالْمُنَاظَرَةِ مُتَقَابِلِينَ ، وَهُوَ
فِي قَرْيَةِ جَيْرُونَ الَّتِي كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى سِتَّةُ فَرَاسِخَ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ الَّذِي كَانَ
فِيهِ بَيْتُ رَامَةَ مُتَعَبَّدُ [ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ]
، الْمُشْرِقُ عَلَى مَدَائِنِ لُوطٍ ، وَفِي وَسَطِ الْقَرْيَةِ بُنْيَانٌ
مَرْصُوصٌ مِنْ حِجَارَةٍ عِظَامٍ سُوَرًا عَظِيمًا ، فِي دَاخِلِهِ مَسْجِدٌ ،
فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ إِسْحَاقُ ،
وَيَلِيهِ فِي الْجَانِبِ الْمَذْكُورِ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ ، وَيَلِيه فِي
الطَّرَفِ الْجَوَّانِيِّ مِنْ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ يَعْقُوبُ عَلَى نِسْبَةٍ
مُتَمَاثِلَةٍ .
وَفِيمَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ
قُبُورُ أَزْوَاجِهِمْ عَلَى الِاعْتِدَالِ ، عَلَى كُلِّ قَبْرٍ حَجَرٌ عَظِيمٌ
وَاحِدٌ لَهُ الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالْعُمْقُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي
كِتَابِ تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ
.
وَفِي الْجَانِبِ الْقِبْلِيِّ مِنْهُ خَارِجَ هَذَا الْحَرَمِ
قَبْرُ يُوسُفَ مُنْتَبَذًا ، كَانَ لَهُ قَيِّمٌ طُرْطُوشِيٌّ زَمِنٌ ، وَلَهُ
أُمٌّ تَنُوبُ عَنْهُ ، وَهَيْئَةُ قَبْرِ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَهَيْئَةِ قُبُورِهِمْ
.
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ فِي مَوْضِعِ قَبْرِهِ
لِأَجْلِ ذِكْرِ مَالِكٍ لَهُ ، فَلَمْ يَذْكُرْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا
أَشْبَهَ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : كَانَ يَعْقُوبُ حَزِينًا فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي قَدْ
بَيَّنَّاهَا ، وَلَكِنَّ حُزْنَهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ جِبِلَّةً ، وَلَمْ
يَكْتَسِبْ لِسَانُهُ قَوْلًا قَلِقًا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ ، كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِهِ فِي صَحِيحِ الْخَبَرِ
: { تَدْمَعُ الْعَيْنُ ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي
رَبَّنَا ، وَإِنَّا بِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ } .
وَقَالَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ ، وَلَا بِحُزْنِ
الْقَلْبِ وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ ، أَوْ يَرْحَمُ } .
وَهُوَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ ، سُبْحَانَهُ ، حِينَ عَلِمَ
عَجْزَ الْخَلْقِ عَنْ الصَّبْرِ ؛ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الدَّمْعِ وَالْحُزْنِ ،
وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِهِ ، وَخَطَمَ الْفَمَ بِالزِّمَامِ عَنْ سُوءِ الْكَلَامِ
، فَنَهَى عَمَّا نَهَى ، وَأَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَا لِنَافِذِ الْقَضَاءِ
، وَخَاصَّةً عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى .
وَأَحْسَنُ الْكَلَامِ فِي الشَّكْوَى سُؤَالُ
الْمَوْلَى زَوَالَ الْبَلْوَى ، وَذَلِكَ قَوْلُ يَعْقُوبَ : { إنَّمَا أَشْكُو
بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
مِنْ جَمِيلِ صُنْعِهِ وَغَرِيبِ لُطْفِهِ وَعَائِدَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا
أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ
مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إنَّ اللَّهَ يَجْزِي
الْمُتَصَدِّقِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الْقَوْلُ فِي الْبِضَاعَةِ : قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعْنَى الْبِضَاعَةِ فِي
الْبِضْعِ آنِفًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { مُزْجَاةٍ }
: فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي قَلِيلَةً ، إمَّا لِأَنَّهُ مَتَاعُ
الْبَادِيَةِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِلْمُلُوكِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا سَعَةَ
فِيهِ ، إنَّمَا يُدَافَعُ بِهِ الْمَعِيشَةُ ، مِنْ قَوْلِك : فُلَانٌ يُزْجِي كَذَا
، أَيْ : يَدْفَعُ قَالَ الشَّاعِرُ : الْوَاهِبُ الْمِائَةَ الْهِجَانَ
وَعَبْدَهَا عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَهَا أَطْفَالَهَا يَعْنِي تَدْفَعُ .
الثَّانِي : قَالَ مَالِكٌ : مُزْجَاةٌ تَجُوزُ فِي
كُلِّ مَكَان ، فَهِيَ الْمُزْجَاةُ رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ ابْنِ
الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ .
وَلَا أَدْرِي مَا هَذَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ
بَابِ جَبَذَ وَجَذَبَ ، وَإِلَّا فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ
فِيهِ .
وَقَدْ فَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا الْبُطْمُ
وَالصَّنَوْبَرُ ، وَالْبُطْمُ هُوَ الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } الْمَعْنَى جِئْنَا بِقَدْرِنَا ، فَأَعْطِنَا بِقَدْرِك ، تَضَاءَلُوا بِالْحَاجَةِ ، وَتَمَسْكَنُوا بِفَادِحَةِ الْمُصِيبَةِ فِي الْأَخَوَيْنِ ، وَمَا صَارَ إلَيْهِ أَمْرُ الْأَبِ بَعْدَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ : قَالُوا لِيُوسُفَ : فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ، فَكَانَ يُوسُفُ هُوَ الَّذِي يَكِيلُ ، إشَارَةً إلَى أَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَمْيِيزُ حَقِّ الْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّهِ ، إلَّا أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ مُعَيَّنًا صُبْرَةً أَوْ مَا لَا حَقَّ تَوْفِيَةٍ فِيهِ ، فَقَبْلَ أَنْ يُوَفِّيَ فَمَا جَرَى عَلَى الْمَبِيعِ فَهُوَ مِنْهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أُجْرَةُ الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَأُجْرَةُ النَّقْدِ عَلَى الْمُبْتَاعِ ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ لِدَرَاهِمِهِ يَقُولُ : إنَّهَا طَيِّبَةٌ فَأَنْتَ الَّذِي تَدَّعِي الرَّدَاءَةَ فَانْظُرْ لِنَفْسِك ، فَإِنْ خَرَجَ فِيهَا رَدِيءٌ كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى الدَّافِعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ
بِضَاعَتَهُمْ غَيْرُ مَرْضِيَّةٍ قَالُوا : اجْعَلْهَا حِبَاءً إنْ لَمْ تَكُنْ
شِرَاءً .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : طَلَبُوا مِنْهُ وَفَاءَ
الْكَيْلِ وَالصَّدَقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَكُلُّ مَا كَانَ صَدَقَةً أَوْ هِبَةً
يَتْبَعُ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ،
وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَلَا يُلْحَقُ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَهِيَ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا
الصَّدَقَةَ وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ ؟ قُلْنَا : عَنْهُ خَمْسَةُ أَجْوِبَةٍ :
أَحَدُهَا : لَا يَعْلَمُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءٌ ، وَآمَنَا
بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ أَنْبِيَاءَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ حَالُهُمْ مَعَ
الصَّدَقَةِ فِي شَرْعِهِمْ ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا لَهُمْ .
الرَّابِعُ : مَعْنَى تَصَدَّقْ سَامِحْ ، لَا أَصْلُ
الصَّدَقَةِ .
الْخَامِسُ : قِيلَ : تَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِأَخِينَا .
وَبِالْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرِينَ أَقُولُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ
وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ
قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنْ
السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إخْوَتِي إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : كَانَ هَذَا سُجُودَ تَحِيَّةٍ لَا
سُجُودَ عِبَادَةٍ ، وَهَكَذَا كَانَ سَلَامُهُمْ بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ
الِانْحِنَاءُ ، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ فِي شَرْعِنَا ذَلِكَ ، وَجَعَلَ
الْكَلَامَ بَدَلًا عَنْ الِانْحِنَاءِ وَالْقِيَامِ .
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ كَفَّرَتْ أَعْضَاؤُهُ
اللِّسَانَ ، تَقُولُ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ فِينَا ، فَإِنَّك إنْ اسْتَقَمْت
اسْتَقَمْنَا ، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا } .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُ فِي الْإِشَارَةِ بِالْإِصْبَعِ
؟ قُلْنَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللِّسَانَ يَكْفِي فِي
السَّلَامِ ، وَأَمَّا حَرَكَةُ الْبَدَنِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَمْ يُشْرَعْ فِي
السَّلَامِ ، لَا تَحْرِيكُ يَدٍ [ وَلَا قَدَمٍ ] وَلَا قِيَامُ بَدَنٍ .
الثَّانِي : أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ فَرْضٌ ، وَابْتِدَاؤُهُ
سُنَّةٌ فِي مَشْهُورِ الْأَقْوَالِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْقِيَامُ لِلرَّجُلِ
الْكَبِيرِ بُدَاءَةً إذَا لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ، كَمَا { قَالَ
النَّبِيُّ لِجُلَسَائِهِ حِينَ جَاءَ سَعْدٌ : قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ } ؛ فَإِنْ
أَثَّرَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ عَوْنُهُ عَلَى ذَلِكَ ، لِمَا رُوِيَ : { مَنْ سَرَّهُ
أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
الثَّالِثُ :
أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ إذَا بَعُدَ
عَنْك لِتُعَيِّنَ لَهُ أَوْ بِهِ وَقْتَ السَّلَامِ ، فَإِنْ كَانَ دَانِيًا فَلَا
بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ ، فَقَدْ { صَافَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَعْفَرًا ، حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ } ،
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا } خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَإِنْ كَانَ كَرِهَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا أَمْرًا عَامًّا فِي الدِّينِ ، وَلَا شَائِعًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، وَلَا مَنْقُولًا نَقْلَ السَّلَامِ ؛ وَلَوْ كَانَ مِنْهُ لَاسْتَوَى مَعَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
سُورَةُ
الرَّعْدِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { اللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى } تَمَدُّحٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
بِعِلْمِ الْغَيْبِ ، وَالْإِحَاطَةِ بِالْبَاطِنِ الَّذِي يَخْفَى عَلَى
الْخَلْقِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ .
وَأَهْلُ الطِّبِّ يَقُولُونَ : إذَا ظَهَرَ النَّفْخُ
فِي ثَدْيِ الْحَامِلِ الْأَيْمَنِ فَالْحَمْلُ ذَكَرٌ ، وَإِنْ ظَهَرَ فِي
الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَالْحَمْلُ أُنْثَى ، وَإِذَا كَانَ الثِّقَلُ
لِلْمَرْأَةِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ فَالْحَمْلُ ذَكَرٌ ، وَإِنْ وَجَدَتْ
الثِّقَلَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَالْوَلَدُ أُنْثَى ؛ فَإِنْ قَطَعُوا
بِذَلِكَ فَهُوَ كُفْرٌ ، وَإِنْ قَالُوا : إنَّهَا تَجْرِبَةٌ وَجَدْنَاهَا
تُرِكُوا وَمَا هُمْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي التَّمَدُّحِ ؛
فَإِنَّ الْعَادَةَ يَجُوزُ انْكِسَارُهَا وَالْعِلْمُ لَا يَجُوزُ تَبَدُّلُهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } وَقَدْ تَبَايَنَ
النَّاسُ فِيهَا فِرَقًا ، أَظْهَرُهَا تِسْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا
تَغِيضُ الْأَرْحَامُ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَمَا تَزِيدُ عَلَيْهَا ،
كَقَوْلِهِ : { مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّانِي : مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ : مَا تُسْقِطُ ،
وَمَا تَزْدَادُ ، يَعْنِي عَلَيْهِ إلَى التِّسْعَةِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ :
إذَا حَاضَتْ الْحَامِلُ نَقَصَ الْوَلَدُ فَذَلِكَ
غَيْضُهُ ، وَإِذَا لَمْ تَحِضْ ثَمَّ فَتِلْكَ عَلَى النُّقْصَانِ ؛ قَالَهُ
مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
.
الرَّابِعُ : مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فَتِلْكَ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَمَا تَزْدَادُ فَتِلْكَ لِعَامَيْنِ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ .
الْخَامِسُ : مَا تَزْدَادُ لِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ ؛
قَالَهُ اللَّيْثُ .
السَّادِسُ : مَا تَزْدَادُ إلَى أَرْبَعِ سِنِينَ
قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
السَّابِعُ : قَالَ مَالِكٌ فِي مَشْهُورِ قَوْلِهِ :
إلَى خَمْسِ سِنِينَ .
الثَّامِنُ : إلَى سِتِّ سِنِينَ ، وَسَبْعِ سِنِينَ ؛
قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .
التَّاسِعُ :
لَا حَدَّ لَهُ ، وَلَوْ زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ
الْأَعْوَامِ ، وَأَكْثَرَ مِنْهَا ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ
الثَّالِثَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : نَقَلَ بَعْضُ
الْمُتَسَاهِلِينَ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ
تِسْعَةُ أَشْهُرٍ ، وَهَذَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ قَطُّ إلَّا هَالِكِيٌّ :
وَهُمْ الطَّبَائِعِيُّونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُدَبِّرَ الْحَمْلِ فِي
الرَّحِمِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ تَأْخُذُهُ شَهْرًا شَهْرًا ، وَيَكُونُ الشَّهْرُ
الرَّابِعُ مِنْهَا لِلشَّمْسِ ، وَلِذَلِكَ يَتَحَرَّكُ وَيَضْطَرِبُ ، وَإِذَا
كَمُلَ التَّدَاوُلُ فِي السَّبْعَةِ الْأَشْهُرِ بَيْنَ السَّبْعَةِ الْكَوَاكِبِ
عَادَ فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ إلَى زُحَلَ فَيُبْقِلُهُ بِبَرْدِهِ .
فَيَا لَيْتَنِي تَمَكَّنْت مِنْ مُنَاظَرَتِهِمْ أَوْ
مُقَاتَلَتِهِمْ .
مَا بَالُ الْمَرْجِعِ بَعْدَ تَمَامِ الدَّوْرِ يَكُونُ
إلَى زُحَلَ دُونَ غَيْرِهِ ؟ اللَّهُ أَخْبَرَكُمْ [ بِهَذَا ] أَمْ
عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَعُودَ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ التَّدْبِيرِ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ ، أَوْ يَعُودَ إلَى جَمِيعِهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ؟ مَا هَذَا التَّحَكُّمُ بِالظُّنُونِ الْبَاطِلَةِ عَلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ ؟ [ فَمَنْ ] نَصِيرِي مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ ، وَعَذِيرِي مِنْ الْمِسْكَيْنِ الَّذِي تَصَوَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ ، وَيَا لِلَّهِ وَيَا لِضَيَاعِ الْعِلْمِ بَيْنَ الْعَالَمِ فِي هَذِهِ الْأَقْطَارِ الْغَارِبَةِ مَطْلَعًا ، الْعَازِبَةِ مَقْطَعًا ،
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ ، وَهُوَ
قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ تَمَاسُكَ الْحَيْضِ
عَلَامَةٌ عَلَى شَغْلِ الرَّحِمِ ، وَاسْتِرْسَالَهُ عَلَامَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ
الرَّحِمِ ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الشَّغْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ
يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْبَرَاءَةِ لَوْ اجْتَمَعَا ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ :
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا
تَزْدَادُ : وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فِي الدَّمِ وَالْحَيْضِ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَمْلِ
، وَمَا تَزْدَادُ بَعْدَ غَيْضِهَا مِنْ ذَلِكَ ، حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي
الرَّحِمِ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّ الدَّمَ عَلَامَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ لَا
مِنْ حَيْثُ الْقَطْعِ ؛ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا ، بِخِلَافِ وَضْعِ الْحَمْلِ
فَإِنَّهُ بَرَاءَةٌ لِلرَّحِمِ قَطْعًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ
الشَّغْلِ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ فِي تَفْسِيرِ مَا تَغِيضُ
الْأَرْحَامُ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَمْلِ وَمَا تَزْدَادُ بَعْدَ غَيْضِهَا حَتَّى
يَجْتَمِعَ فِي الرَّحِمِ .
فَإِنَّا نَقُولُ : إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ غَيْضٍ
وَازْدِيَادٍ وَسَيَلَانٍ وَتَوَقُّفٍ ، وَإِذَا سَالَ الدَّمُ عَلَى عَادَتِهِ
بِصِفَتِهِ مَا الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ حُكْمِهِ ؟ وَلَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْ هَذَا .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إذَا
وُجِدَ الْفِعْلُ ، فِي الْآدَمِيِّ مَعَ خَلْقِ الْإِرَادَةِ فِيهِ كَانَ طَوْعًا
، وَإِذَا وُجِدَ الْفِعْلُ مَعَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ كَانَ كَرْهًا ، وَيَأْتِي تَحْقِيقُ
الْقَوْلِ فِيهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى أَقْوَالٍ ،
جُمْهُورُهَا أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ : الْمُؤْمِنُ يَسْجُدُ طَوْعًا ،
وَالْكَافِرُ يَسْجُدُ خَوْفَ السَّيْفِ ؛ فَالْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
آمَنَ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ لَعْثَمَةٍ
.
وَالثَّانِي : الْكَافِرُ يَسْجُدُ لِلَّهِ ، إذَا أَصَابَهُ
الضُّرُّ يَسْجُدُ لِلَّهِ كَرْهًا ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي
الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ
أَعْرَضْتُمْ } يُرِيدُ عَنْهُ وَعَبَدْتُمْ غَيْرَهُ .
الثَّالِثُ : قَالَ الصُّوفِيَّةُ : الْمُخْلِصُ يَسْجُدُ لِلَّهِ مَحَبَّةً
، وَغَيْرُهُ يَسْجُدُ لِابْتِغَاءِ عِوَضٍ ، أَوْ لِكَشْفِ مِحْنَةٍ ، فَهُوَ
يَسْجُدُ كَرْهًا .
الرَّابِعُ :
الْخَلْقُ كُلُّهُمْ سَاجِدٌ ، إلَّا أَنَّهُ مَنْ
سَجَدَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ طَوْعٌ ، وَمَنْ سَجَدَ بِحَالِهِ فَهُوَ كَرْهٌ ؛ إذْ
الْأَحْوَالُ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ ذِي
الْحَالِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا مَنْ سَجَدَ
لِدَفْعِ شَرٍّ فَذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ ، هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِالطَّاعَةِ
، وَوَعَدَنَا بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا ، وَنَهَانَا عَنْ الْمَعْصِيَةِ ،
وَأَوْعَدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا حَالُ التَّكْلِيفِ ، فَلَا
يَتَكَلَّفُ فِيهَا تَعْلِيلًا إلَّا نَاقِصُ الْفِطْرَةِ قَاصِرُ الْعِلْمِ ؛
وَغَرَضُ الصُّوفِيَّةِ سَاقِطٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، فَمَا
عَبَدَ اللَّهَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ، وَلَا وَلِيٌّ مُكَمَّلٌ إلَّا طَلَبَ
النَّجَاةَ .
الْآيَةُ
الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا
يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الْقَوْلُ فِي الْعَهْدِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقَوْلُ فِي الْوَفَاءِ
بِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَعْدِيدِ عُهُودِ
اللَّهِ ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ ، مُسْتَمِرَّةُ [ الْمَدَدِ وَ ] الْأَمَدِ .
أَعْظَمُهَا عَهْدًا ، وَأَوْكَدُهَا عَقْدًا مَا كَانَ
فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَى الْإِيمَانِ
.
الثَّانِي : مَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّالِثُ :
مَا رَبَطَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ
الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، فَإِنَّهَا أَلْزَمَتْ عُهُودًا ، وَرَبَطَتْ عُقُودًا
، وَوَظَّفَتْ تَكْلِيفًا ، وَذَلِكَ يَتَعَدَّدُ بِعَدَدِ الْوَظَائِفِ
الشَّرْعِيَّةِ ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا ، مِنْهَا الْوَفَاءُ
بِالْعِرْفَانِ ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك
تَرَاهُ ، فَإِنَّك إلَّا تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ .
وَمِنْهَا الِانْكِفَافُ عَنْ الْعِصْيَانِ ،
وَأَقَلُّهُ دَرَجَةً اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَوَاثِيقِ
فِي الذِّكْرِ أَلَا تَسْأَلَ سِوَاهُ ، فَقَدْ كَانَ أَبُو حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيُّ
مِنْ كِبَارِ الْعُبَّادِ سَمِعَ { أَنَّ نَاسًا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَسْأَلُوا أَحَدًا شَيْئًا ، فَكَانَ
أَحَدُهُمْ إذَا وَقَعَ سَوْطُهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا رَفْعَهُ إلَيْهِ } ،
فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ : رَبِّ ، إنَّ هَؤُلَاءِ عَاهَدُوا نَبِيَّك إذْ رَأَوْهُ
، وَأَنَا أُعَاهِدُك أَلَّا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا .
قَالَ : فَخَرَجَ حَاجًّا مِنْ الشَّامِ يُرِيدُ مَكَّةَ
، فَبِينَا هُوَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ بِاللَّيْلِ إذْ بَقِيَ عَنْ أَصْحَابِهِ
لِعُذْرٍ ، ثُمَّ اتَّبَعَهُمْ ، فَبِينَا هُوَ يَمْشِي إلَيْهِمْ إذْ سَقَطَ فِي
بِئْرٍ عَلَى حَاشِيَةِ الطَّرِيقِ ، فَلَمَّا حَصَلَ فِي قَعْرِهِ قَالَ :
أَسْتَغِيثُ ؛ لَعَلَّ أَحَدًا يَسْمَعُنِي فَيُخْرِجُنِي ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ
الَّذِي عَاهَدْته يَرَانِي وَيَسْمَعُنِي ، وَاَللَّهِ
لَا
تَكَلَّمْت بِحَرْفٍ لِبَشَرٍ ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إلَّا يَسِيرًا إذْ مَرَّ
بِتِلْكَ الْبِئْرِ نَفَرٌ ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَلَى حَاشِيَةِ الطَّرِيقِ
قَالُوا : إنَّهُ
لَيَنْبَغِي سَدُّ هَذِهِ الْبِئْرِ ، ثُمَّ قَطَعُوا خَشَبًا ، وَنَصَبُوهَا
عَلَى فَمِ الْبِئْرِ وَغَطَّوْهَا بِالتُّرَابِ .
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو حَمْزَةَ قَالَ : هَذِهِ
مَهْلَكَةٌ ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِهِمْ ، ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا
أَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : أَلَيْسَ
الَّذِي عَاهَدْت يَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ ، فَسَكَتَ وَتَوَكَّلَ ، ثُمَّ اسْتَنَدَ
فِي قَعْرِ الْبِئْرِ مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ ، فَإِذَا بِالتُّرَابِ يَقَعُ عَلَيْهِ
، وَالْخَشَبُ يُرْفَعُ عَنْهُ ، وَسَمِعَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ :
هَاتِ يَدَك .
قَالَ : فَأَعْطَيْته يَدِي ، فَأَقَلَّنِي فِي مَرَّةٍ
وَاحِدَةٍ إلَى فَمِ الْبِئْرِ ، فَخَرَجْت وَلَمْ أَرَ أَحَدًا ، ثُمَّ سَمِعْت
هَاتِفًا يَقُولُ : كَيْفَ رَأَيْت ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ ؟ وَأَنْشَدَ : نَهَانِي
حَيَائِي مِنْك أَنْ أَكْتُمَ الْهَوَى وَأَغْنَيْتنِي بِالْعِلْمِ مِنْك عَنْ
الْكَشْفِ تَلَطَّفْت فِي أَمْرِي فَأَبْدَيْتَ شَاهِدِي إلَى غَائِبِي
وَاللُّطْفُ يُدْرَكُ بِاللُّطْفِ تَرَاءَيْت لِي بِالْعِلْمِ حَتَّى كَأَنَّمَا تُخَبِّرُنِي
بِالْغَيْبِ أَنَّك فِي كَفِّي أَرَانِي وَبِي مِنْ هَيْبَتِي لَك وَحْشَةٌ
فَتُؤْنِسُنِي بِاللُّطْفِ مِنْك وَبِالْعَطْفِ وَتُحْيِي مُحِبًّا أَنْتَ فِي
الْحُبِّ حَتْفُهُ وَذَا عَجَبٍ كَوْنُ الْحَيَاةِ مَعَ الْحَتْفِ فَهَذَا رَجُلٌ
عَاهَدَ اللَّهَ ، فَوَجَدَ الْوَفَاءَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ؛ فَبِهِ
فَاقْتَدُوا تَهْتَدُوا .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : {
أُكُلُهَا دَائِمٌ } بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فِي الْأُكُلِ يَعْنِي بِهِ الْمَأْكُولَ
لَا الْفِعْلَ .
وَصَفَ اللَّهُ طَعَامَ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ غَيْرُ
مَقْطُوعٍ وَلَا مَمْنُوعٍ ، وَطَعَامُ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ وَيُمْنَعُ
فَيَمْتَنِعُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ
نُوحٍ : سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ : " لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنْ
ثِمَارٍ مَا يُشْبِهُ ثِمَارَ الْجَنَّةِ إلَّا الْمَوْزُ " لِأَنَّ اللَّهَ
يَقُولُ : { أُكُلُهَا دَائِمٌ } وَأَنْتَ تَجِدُ الْمَوْزَ فِي الصَّيْفِ
وَالشِّتَاءِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَكَذَلِكَ رُمَّانُ بَغْدَادَ ،
شَاهَدْت الْمُحَوَّلَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى نَهْرِ عِيسَى وَفِي شَجَرِ
الرُّمَّانِ حَبُّ الْعَامَيْنِ يَجْتَمِعُ تَقْطَعُ مِنْهُ مَتَى شِئْت صَيْفًا وَشِتَاءً
، وَقَيْظًا وَخَرِيفًا ، إلَّا أَنَّ الْحَبَّةَ الَّتِي بَقِيَتْ فِي
الشَّجَرَةِ عَامًا لَا تَفْلِقُهَا إلَّا بِالْقَدُومِ مِنْ شِدَّةِ الْقِشْرِ ،
فَإِذَا انْفَلَقَتْ ظَهَرَ تَحْتَهُ حَبُّ الرُّمَّانِ أَجْمَلَ مَا كَانَ
وَأَيْنَعَهُ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى
بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :
{ قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فِيهَا الِاكْتِفَاءُ
بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ ، وَهُوَ خَيْرُ الشَّاهِدِينَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنِّي
الْحَقَّ فِي الدَّعْوَى وَالصِّدْقَ فِي التَّبْلِيغُ فَسَيَنْصُرُنِي ، فَلَا
جَرَمَ صَدَّقَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ ، وَنَصَرَهُ بِالدَّلَالَاتِ ، وَأَكْرَمَهُ بِالظُّهُورِ
فِي الْعَوَاقِبِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
} ؟ قِيلَ : هُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُ
مَقْطُوعٌ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى
.
التَّقْدِيرُ : وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ يَشْهَدُ
لِي بِصِدْقِي ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مُجَاهِدٌ : إنَّ مَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ
قَالَ : { قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا } ،
فَلَوْ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ لَكَانَ تَكْرَارًا
مَحْضًا خَارِجًا عَنْ صِحَّةِ الْمَعْنَى وَجَزَالَةِ اللَّفْظِ ، وَإِنَّمَا
الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ فِي : الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ :
اُخْتُلِفَ فِيمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ
عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
الثَّانِي : أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَدْ قُرِئَ :
وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ بِخَفْضِ الْمِيمِ مِنْ " مِنْ " وَرَفْعِ
الْعَيْنِ مِنْ " عُلِمَ
" .
وَقُرِئَ بِخَفْضِ الْمِيمِ مِنْ " مِنْ "
وَبَاقِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ
.
الرَّابِعُ : الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَدَبُّرِ مَا مَضَى :
أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْيَهُودِ ، كَابْنِ سَلَامٍ
، وَابْنِ يَامِينَ .
وَمِنْ النَّصَارَى ، كَسَلْمَانَ ، وَتَمِيمٍ
الدَّارِيِّ ، فَإِنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُ بِالْكِتَابِ
التَّوْرَاةُ
وَالْإِنْجِيلُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ فَعَوَّلَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَعْلَمُ
الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ
أَعْلَمُ مِنْهُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِي ذِكْرِ
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ أَوْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا } .
وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ ، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدِينَةُ عِلْمٍ وَأَبْوَابُهَا أَصْحَابُهَا ؛ وَمِنْهُمْ
الْبَابُ الْمُنْفَسِحُ ، وَمِنْهُمْ الْمُتَوَسِّطُ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ
فِي الْعُلُومِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ فَصَدَقَ
؛ لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ الْكِتَابَ ، وَيُدْرِك وَجْهَ إعْجَازِهِ ؛ يَشْهَدُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ
فَعَوَّلَ عَلَى حَدِيثٍ خَرَّجَهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمَّا
أُرِيدَ قَتْلُ عُثْمَانَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ لَهُ
عُثْمَانُ : مَا جَاءَ بِك ؟ قَالَ : جِئْت فِي نَصْرِك .
قَالَ : اُخْرُجْ إلَى النَّاسِ ، فَاطْرُدْهُمْ عَنِّي
، فَإِنَّك خَارِجًا خَيْرٌ لِي مِنْك دَاخِلًا .
فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إلَى النَّاسِ ، فَقَالَ :
أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّهُ كَانَ اسْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فُلَانٌ ،
فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ ،
وَنَزَلَتْ فِي آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ فَنَزَلَتْ فِي : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ
بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا ، وَنَزَلَتْ فِي : { قُلْ كَفَى
بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } .
إنَّ لِلَّهِ سَيْفًا مَغْمُودًا عَنْكُمْ ، وَإِنَّ
الْمَلَائِكَةَ قَدْ جَاوَرَتْكُمْ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا الَّذِي نَزَلَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
اللَّهَ اللَّهَ فِي هَذَا الرَّجُلِ أَنْ تَقْتُلُوهُ ،
فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَتُطْرَدَنَّ جِيرَانُكُمْ الْمَلَائِكَةُ ،
وَلَيُسَلَّنَّ
سَيْفُ اللَّهِ الْمَغْمُودُ عَنْكُمْ ، فَلَا يُغْمَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
قَالُوا : اُقْتُلُوا الْيَهُودِيَّ ، وَاقْتُلُوا
عُثْمَانَ .
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَنْزِلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ
سَبَبًا ، وَتَتَنَاوَلَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ لَفْظًا ؛ وَيُعَضِّدُهُ مِنْ
النِّظَامِ أَنَّ قَوْلَهُ : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَعْنِي بِهِ قُرَيْشًا
؛ فَاَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ إلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ أَقْرَبُ
مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي هَذَا قَوْلُ الْمُتَجَادِلِينَ
: كَفَى بِفُلَانٍ بَيْنَنَا شَهِيدًا فَيَرْضَيَانِ بِهِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ ،
وَيَزِيدُ هَذَا عَلَيْهِ ظُهُورُ هَذَا الْحَقِّ يَقِينًا ، وَأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ
نَصْرًا مُبِينًا ، وَيُوَفِّقُ مَنْ يَعْرِفُهُ حَقًّا ، وَيَشْهَدُ بِهِ
تَصْدِيقًا وَصِدْقًا .
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
سُورَةُ إبْرَاهِيمَ
فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ
وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ
: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : مَعْنَى ذَكِّرْهُمْ قُلْ
لَهُمْ قَوْلًا يَتَذَكَّرُونَ بِهِ أَيَّامَ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي أَيَّامِ اللَّهِ
قَوْلَانِ " : أَحَدُهُمَا : نِعَمُهُ .
الثَّانِي : نِقَمُهُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَاؤُهُ
الْحَسَنُ ، وَأَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ
.
وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَشْيَاخِي مِنْ
الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ رَجُلٌ إذَا صَفَا لَهُ يَوْمٌ [
وَاحِدٌ ] جَعَلَ جَوْزًا فِي قِدْرٍ وَخَتَمَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ
عُمْرِهِ أَخْرَجَ الْقِدْرَ وَفَضَّ الْخَتْمَ ، وَعَدَّ الْجَوْزَ ، فَيَرَى
أَنَّ أَيَّامَهُ بِعَدَدِهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَعْظِ ، الْمُرَقِّقِ
لِلْقُلُوبِ ، الْمُقَوِّي لِلْيَقِينِ ؛ فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { بَيْنَمَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ
بِأَيَّامِ اللَّهِ ، وَأَيَّامُ اللَّهِ نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ } ، وَذَكَرَ
حَدِيثَ الْخَضِرِ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا فِيهِ الْغَايَةَ فِي شَرْحِ
الصَّحِيحَيْنِ سَنَدًا وَمَتْنًا
.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
: قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ
مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
الطَّبَرِيُّ : مَعْنَاهُ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا ، إلَّا أَنْ
تَعُودُوا فِي مِلَّتِنَا ، وَهُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ،
فَإِنَّ ( أَوْ ) عَلَى بَابِهَا مِنْ التَّخْيِيرِ .
خَيَّرَ الْكُفَّارُ الرُّسُلَ بَيْنَ أَنْ يَعُودُوا
فِي مِلَّتِهِمْ أَوْ يُخْرِجُوهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ ؛ وَهَذِهِ سِيرَةُ اللَّهِ
فِي رُسُلِهِ وَعِبَادِهِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ } .
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ فِي { حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ
نَوْفَلٍ وَقَوْلُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا
لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُك قَوْمُك .
قَالَ :
أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ : نَعَمْ ،
لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْت بِهِ إلَّا عُودِيَ وَأُخْرِجَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي
يَوْمُك أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا
.
} الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِيهِ إكْرَاهُ
الرُّسُلِ بِالْخُرُوجِ عَنْ أَرْضِهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شِدَّةُ ذَلِكَ
وَوَقْعُهُ مِنْ النُّفُوسِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا
فَعَلُوهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْإِكْرَاهِ الْمُبِيحَةِ
لِلْمَحْظُورِ ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَهَذِهِ سِيرَةُ اللَّهِ فِي رُسُلِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ
؛ فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ ، فَقَالَ : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ } .
وَأَخْبَرَ هُنَا عَنْ عُمُومِ الْأَمْرِ ، فَقَالَ : {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً
طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ
نُزُولِهَا عَلَى مَعْنَاهَا : رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ
الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ ، فَقَالَ : مَثَلُ كَلِمَةٍ
طَيِّبَةٍ الْآيَةَ قَالَ : هِيَ النَّخْلَةُ } .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ، مَثَلُهَا كَمِثْلِ الْمُسْلِمِ ، خَبِّرُونِي
مَا هِيَ } الْحَدِيثَ ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { هِيَ النَّخْلَةُ
} ، فَذَكَرَ
خِصَالًا فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ
حِينٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ الْحِينِ : وَفِيهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: أَنَّهُ سَاعَةٌ أَقَلُّ الزَّمَانِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ ؛ قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ شَهْرَانِ ؛ قَالَهُ ابْنُ
الْمُسَيِّبِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ سَنَةٌ ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ سَبْعَةُ أَعْوَامٍ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً .
التَّاسِعُ : أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .
الْعَاشِرُ : أَنَّهُ مَجْهُولٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ : اعْلَمُوا أَفَادَكُمْ اللَّهُ الْعِرْفَانَ
أَنَّا قَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ مَلْجَئَةِ
الْمُتَفَقِّهِينَ ؛ وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إلَى مَا يُغْنِي فِي ذَلِكَ
الْغَرَضِ ، وَيُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى مَقْصُودِ الْفَتْوَى الْمُفْتَرَضِ ،
فَنَقُولُ : إنَّ الْحِينَ ظَرْفُ زَمَانٍ ، وَهُوَ مُبْهَمٌ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ
، وَلَا تَعْيِينَ فِي الْمُفَسِّرِ لَهُ ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ لُغَةً ، مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ مِنْ عُلَمَاءِ اللِّسَانِ ، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُهُ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ
، وَهُوَ يَحْتَمِلُ سَاعَةً لَحْظِيَّةً ، وَيَحْتَمِلُ يَوْمَ السَّاعَةِ
الْأَبَدِيَّةِ ، وَيَحْتَمِلُ حَالَ الْعَدَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَلْ
أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } .
وَلِأَجْلِ إبْهَامِهِ عُلِّقَ الْوَعِيدُ بِهِ ،
لِيَغْلِبَ الْخَوْفُ ، لِاسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ الْعَذَابِ نِهَايَةَ الْأَبَدِ
فِيهِ ، فَيَكُفَّ عَنْ الذَّنْبِ ، أَوْ يَرْجُوَ لِاقْتِضَاءِ الْوَعِيدِ
أَقَلَّ مُدَّةِ احْتِمَالِهِ ؛ فَيَغْلِبَ الرَّجَاءُ ، وَلَا يَقَعُ الْيَأْسُ
عَنْ الْمَغْفِرَةِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنْ الذَّنْبِ ، ثُمَّ يَفْعَلُ اللَّهُ
مَا يَشَاءُ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّ الْحِينَ غُدْوَةٌ
وَعَشِيَّةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ
تُصْبِحُونَ } ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ نَزَعَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى فِي قِصَّةِ ثَمُودَ : { وَفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا
حَتَّى حِينٍ } .
وَتَعَلَّقَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ بِبَقَاءِ الثَّمَرِ فِي
النَّخْلِ .
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ
بِأَنَّهُ مُدَّةُ الثَّمَرِ مِنْ حِينِ الِابْتِدَاءِ إلَى حِينِ الْجَنْيِ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى حِينٍ
} .
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَبْعُ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ سَنَةً بِأَخْبَارٍ إسْرَائِيلِيَّةٍ وَرَدَتْ فِي مُدَّةِ بَقَاءِ
يُوسُفَ فِي السِّجْنِ بِاخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ وَمِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ
صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ ، وَقَوِيٌّ وَضَعِيفٌ ؛ وَأَظْهَرُهَا اللَّحْظَةُ ؛ لِأَنَّهُ
اللُّغَةُ
وَالْمَجْهُولُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ عَلَى التَّعْيِينِ ،
وَالشَّهْرَانِ وَالسِّتَّةُ أَشْهُرٍ وَالسَّنَةُ [ لِأَنَّهَا ] كُلُّهَا
تَخْرُجُ مِنْ ذِكْرِ الْحِينِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ فِي الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَلْيَصُمْ سَنَةً .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ
حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } .
وَرَوَى أَشْهَبُ ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ : الْحِينُ
الَّذِي يُعْرَفُ مِنْ الثَّمَرَةِ إلَى الثَّمَرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } .
وَمِنْ الْحِينِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ : { هَلْ
أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } .
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : الْحِينُ
الَّذِي يُعْرَفُ قَوْلُهُ : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } فَهَذَا سَنَةٌ ، وَالْحِينُ
الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ : { وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ } ، فَهَذَا حِينٌ لَا يُعْرَفُ .
وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : إنَّ الْحِينَ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الثَّمَرَةُ إلَى أَنْ تُرْطِبَ ، وَمِنْ
حِينِ تُرْطِبُ إلَى أَنْ تَطْلُعَ
.
وَالْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ قَالَ : يَقُولُ
اللَّهُ : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } .
وَمِنْ الْحِينِ الْمَجْهُولِ قَوْلُهُ : {
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
} .
قَالَ الْقَاضِي : الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي
الصَّحِيحِ سَنَةٌ ، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، وَتَبَايَنَ
الْعُلَمَاءُ وَالْأَصْحَابُ مِنْ كُلِّ بَابٍ عَلَى حَالِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ .
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ أَنَّ
الْحِينَ الْمَجْهُولَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، وَالْحِينُ الْمَعْلُومُ
هُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ ، وَأَكْثَرُ
الْمَعْلُومِ سَنَةٌ .
وَمَالِكٌ يَرَى فِي الْأَيْمَانِ وَالْأَحْكَامِ
أَعَمَّ الْأَسْمَاءِ وَالْأَزْمِنَةِ ، وَأَكْثَرَهَا اسْتِظْهَارًا .
وَالشَّافِعِيُّ يَرَى الْأَقَلَّ ؛ لِأَنَّهُ
الْمُتَعَيَّنُ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَسَّطَ ، فَقَالَ : سِتَّةُ
أَشْهُرٍ .
وَلَا مَعْنَى
لِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ عِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا ، وَلَيْسَ
فِيهِ نَصٌّ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى
الْمَعْنَى بَعْدَ مَعْرِفَةِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً ، وَهُوَ أَمْرٌ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْثِلَةِ ؛ وَنَحْنُ نَضْرِبُ فِي ذَلِكَ
الْأَمْثِلَةَ مَا نُبَيِّنُ بِهِ الْمَقْصُودَ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَمْثِلَةٍ :
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : فَنَقُولُ : إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ حِينًا
فَيَحْتَمِلُ رَكْعَةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّافِلَةِ ،
وَرَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ النَّافِلَةِ
فَيَتَقَدَّرُ الزَّمَانُ بِقَدْرِ الْفِعْلِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي : إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا
فَيَحْتَمِلُ يَوْمًا لَا أَقَلَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مِعْيَارُ الصَّوْمِ [ الشَّرْعِيِّ
] ؛ إذْ هِيَ عِبَادَةٌ تَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ ، لَا بِالْأَفْعَالِ ؛
لِأَنَّهُ تَرْكٌ فَلَا يَحُدُّهُ إلَّا الْوَقْتُ ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ ،
فَإِنَّهُ يَحُدُّ نَفْسَهُ .
وَيَحْتَمِلُ الدَّهْرَ ، وَيَحْتَمِلُ سَنَةً ، فَرَأَى
الشَّافِعِيُّ يَوْمًا أَخْذًا بِالْأَقَلِّ ، وَأَلْزَمَ مَالِكٌ الدَّهْرَ ؛
لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ ، وَتَرَكَهُ مَالِكٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا
مِنْ أَنَّهُ مَجْهُولٌ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ
مَجْهُولًا ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ صَوْمُ الدَّهْرِ لَزِمَهُ
وَتَوَسَّطَ ، فَقَالَ سَنَةً ، فَإِنَّهُ عَدْلٌ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ
، وَبُيِّنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ
سِتَّةَ أَشْهُرٍ بُيِّنَ أَيْضًا ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ بِالْأَكْثَرِ فِي ذِكْرِ
النَّخْلَةِ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا حَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ
الدَّارَ حِينًا : وَهِيَ مُتَرَكِّبَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي تَحْدِيدِ
الْحِينِ ، لَكِنَّهُ يَلْحَقُ الصَّلَاةَ فِي احْتِمَالِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ ،
وَيَحْتَمِلُ سَائِرَ الْوُجُوهِ
.
وَالْمُعَوَّلُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا عَلَى الْعُرْفِ فِي
ذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ وَلَا بِسَاطُ حَالٍ ؛ فَيُرَكَّبُ
الْبِرّ وَالْحِنْثُ عَلَى النِّيَّةِ
أَوَّلًا ، وَعَلَى السَّبَبِ ثَانِيًا ، وَعَلَى الْبِسَاطِ ثَالِثًا ، وَعَلَى اللُّغَةِ رَابِعًا ، وَعَلَى الْعُرْفِ خَامِسًا ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ اللُّغَةِ عِنْدَنَا ؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُحَقَّقًا فِي سُورَةِ " ص " وَغَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْآيَةُ
الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا
الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ
مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
تَفْسِيرِهَا : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ : أَنَّ أَوَّلَ مَنْ
سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أُمُّ إسْمَاعِيلَ ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ
أَجَرَّتْ الذَّيْلَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَّتْ هَاجَرُ
مِنْ سَارَةَ أَرْخَتْ ذَيْلَهَا لِتُعَفِّي أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ ، ثُمَّ
جَاءَ بِهَا إبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا
عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ ،
وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمئِذٍ أَحَدٌ ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ ، فَوَضَعَهَا
هُنَالِكَ ، وَوَضَعَ عِنْدَهَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ،
ثُمَّ قَفَلَ إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا ، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ
: يَا إبْرَاهِيمُ ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي
لَيْسَ فِيهِ أَنِيسٌ وَلَا شَيْءٌ ؟ قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا ، وَجَعَلَ لَا
يَلْتَفِتُ إلَيْهَا ، فَقَالَتْ لَهُ : آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَتْ : إذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا اللَّهُ .
ثُمَّ رَجَعَتْ .
فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ
الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتِ ، ثُمَّ
دَعَا بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : { رَبَّنَا إنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } حَتَّى بَلَغَ : {
يَشْكُرُونَ } وَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ
مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا
، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى ، أَوْ قَالَ : يَتَلَبَّطُ ؛ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ
أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ ، فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ
يَلِيهَا ، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ
اسْتَقْبَلَتْ
الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا ، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا ، فَهَبَطَتْ مِنْ
الصَّفَا ، حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ ، رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ، ثُمَّ
سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ ، ثُمَّ
أَتَتْ الْمَرْوَةُ ، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا ، فَعَلَتْ
ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا ، فَلَمَّا
أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ : صَهٍ ، تُرِيدُ
نَفْسَهَا ، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا .
فَقَالَتْ : قَدْ أَسْمَعْتَ ، إنْ كَانَ عِنْدَك
غُوَاثٌ ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ ، فَبَحَثَ
بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تَخُوضُهُ وَتَقُولُ
بِيَدِهَا : هَكَذَا ، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ
يَفُورُ بِقَدْرِ مَا تَغْرِفُ
} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ ، لَوْ تَرَكَتْ مَاءَ
زَمْزَمَ أَوْ قَالَ : لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ عَيْنًا
مَعِينًا } .
قَالَ :
فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا ، فَقَالَ لَهَا
الْمَلَكُ : لَا تَخَافِي الضَّيْعَةَ ؛ فَإِنْ هَاهُنَا بَيْتُ اللَّهِ يَبْنِيه
هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ .
وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْضِ
كَالرَّابِيَةِ ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ ، فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ،
وَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ
مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلَ مَكَّةَ ، فَرَأَوْا طَائِرَ
عَائِفًا ، فَقَالُوا : إنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا
الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا
هُمْ بِالْمَاءِ ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ ، فَأَقْبَلُوا .
قَالَ : وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ ،
فَقَالُوا : أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَك ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ،
وَلَكِنْ
لَا حَقَّ
لَكُمْ فِي الْمَاءِ .
قَالُوا : نَعَمْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَأَلِفَتْ ذَلِكَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ ، وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ
، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إلَى أَهْلَيْهِمْ ، فَنَزَلُوا مَعَهُمْ ، حَتَّى إذَا
كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ ، وَشَبَّ الْغُلَامُ ، وَتَعْلَمَ
الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ أَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ ، فَلَمَّا
أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً فِيهِمْ
} .
وَمَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ
بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ
إسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ ، فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا ،
ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ : نَحْنُ بَشَرٌ فِي
ضِيقٍ وَشِدَّةٍ ، وَشَكَتْ إلَيْهِ
.
فَقَالَ : فَإِذَا جَاءَ زَوْجُك فَاقْرَئِي عَلَيْهِ
السَّلَامَ ، وَقَوْلِي لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ .
فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا
فَقَالَ : هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَتْ : جَاءَنَا شَيْخٌ صِفَتُهُ كَذَا
وَكَذَا ، فَسَأَلْنَا عَنْك ، فَأَخْبَرْته ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا ؟
فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ .
قَالَ : فَهَلْ أَوْصَاك بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ،
أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك السَّلَامَ ، وَيَقُولُ لَك : غَيِّرْ عَتَبَةَ
بَابِك .
قَالَ : ذَاكَ أَبِي ، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَك .
الْحَقِي بِأَهْلِك .
فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى ، فَلَبِثَ
عَنْهُمْ إبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ
، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ ، فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي
لَنَا .
قَالَ :
كَيْفَ أَنْتُمْ ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ
وَهَيْئَتِهِمْ ، فَقَالَتْ : نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ ، وَأَثْنَتْ عَلَى
اللَّهِ ، فَقَالَ : مَا طَعَامُكُمْ قَالَتْ : اللَّحْمُ .
قَالَ : فَمَا شَرَابُكُمْ ؟ قَالَتْ : الْمَاءُ .
قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ
وَالْمَاءِ .
{ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ
فِيهِ } .
قَالَ : فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ
بِغَيْرِ مَكَّةَ إلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ .
قَالَ : فَإِذَا جَاءَ زَوْجُك فَاقْرَئِي عَلَيْهِ
السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بَابِهِ .
فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قَالَ : هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ
أَحَدٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ؛ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ ، وَأَثْنَتْ
عَلَيْهِ ، فَسَأَلَنِي عَنْك فَأَخْبَرْته ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا ؟ فَأَخْبَرْته
أَنَّا بِخَيْرٍ .
قَالَ : فَأَوْصَاك بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ؛ هُوَ
يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ ، وَيَأْمُرُك أَنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بَابِك .
قَالَ : ذَلِكَ أَبِي ، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ ،
أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَك .
ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ جَاءَ
بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ
زَمْزَمَ .
فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ ، فَصَنَعَا كَمَا
يَصْنَعُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ وَالْوَالِدُ بِالْوَلَدِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا
إسْمَاعِيلُ ، إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ .
قَالَ : فَاصْنَعْ مَا أَمَرَك رَبُّك .
قَالَ : وَتُعِينُنِي .
قَالَ : وَأُعِينُك .
قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ
هَاهُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا .
قَالَ :
فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ ،
فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ ، وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي ، حَتَّى إذَا
ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ ،
وَهُوَ يَبْنِي ، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ ؛ وَهُمَا يَقُولَانِ :
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
قَالَ : فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى تَدَوَّرَ حَوْلَ
الْبَيْتِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْت مِنْ ذُرِّيَّتِي
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ فِي
طَرْحِ عِيَالِهِ وَوَلَدِهِ بِأَرْضٍ مَضْيَعَةٍ اتِّكَالًا عَلَى الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ ، وَاقْتِدَاءً بِفِعْلِ إبْرَاهِيمَ ، كَمَا تَقُولُ الْغُلَاةُ مِنْ
الصُّوفِيَّةِ فِي حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ ؛ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ فَعَلَ ذَلِكَ
بِأَمْرِ اللَّهِ ؛ لِقَوْلِهَا لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : آللَّهُ أَمَرَك
بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ
، وَلَمَّا كَانَ بِأَمْرٍ مِنْهُ أَرَادَ تَأْسِيسَ الْحَالِ وَتَمْهِيدَ
الْمَقَامِ ، وَخَطَّ الْمَوْضِعَ لِلْبَيْتِ الْمُحَرَّمِ وَالْبَلْدَةِ
الْحَرَامِ ، أَرْسَلَ الْمَلَكَ فَبَحَثَ بِالْمَاءِ ، وَأَقَامَهُ مَقَامَ
الْغِذَاءِ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ إلَّا هَذَا الْمِقْدَارُ ؛
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَاءُ زَمْزَمَ
لِمَا شُرِبَ لَهُ } .
وَقَدْ اجْتَزَأَ بِهِ أَبُو ذَرٍّ لَيَالِيَ أَقَامَ
بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ لِقَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَسْتَمِعَ مِنْهُ قَالَ : حَتَّى سَمِنْت وَتَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي ،
وَكَانَ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى السُّؤَالِ وَلَا يُمْكِنُهُ الظُّهُورُ وَلَا التَّكَشُّفُ
، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ عَنْ الْغِذَاءِ ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِيهِ إلَى يَوْمِهِ
ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ،
وَسَلِمَتْ طَوِيَّتُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مُكَذِّبًا وَلَا شَرِبَهُ
مُجَرِّبًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَوَكِّلِينَ ، وَهُوَ يَفْضَحُ
الْمُجَرِّبِينَ .
وَلَقَدْ كُنْت بِمَكَّةَ مُقِيمًا فِي ذِي الْحِجَّةِ
سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ، وَكُنْت أَشْرَبُ مَاءَ زَمْزَمَ
كَثِيرًا ، وَكُلَّمَا شَرِبْته نَوَيْت بِهِ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ حَتَّى
فَتَحَ اللَّهُ لِي بَرَكَتَهُ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَسَّرَهُ لِي مِنْ الْعِلْمِ
، وَنَسِيت أَنْ أَشْرَبَهُ لِلْعَمَلِ ؛ وَيَا لَيْتَنِي شَرِبْته لَهُمَا ،
حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهِمَا ، وَلَمْ يُقَدَّرْ
؛ فَكَانَ صَغْوِي إلَى الْعِلْمِ أَكْثَرَ مِنْهُ إلَى الْعَمَلِ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْحِفْظَ وَالتَّوْفِيقَ بِرَحْمَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } : خَصَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الدِّينِ لِفَضْلِهَا فِيهِ وَمَكَانِهَا مِنْهُ ، وَهِيَ عَهْدُ اللَّهِ عِنْدَ الْعِبَادِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ } .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { عِنْدَ بَيْتِك الْمُحَرَّمِ } قَدْ قَدَّمْنَا
الْقَوْلَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ ، وَفَائِدَةُ حُرْمَتِهَا ، وَمَا يَتَرَتَّبُ
عَلَى ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةٍ ، وَتَحْرِيمُهَا كَانَ بِالْعِلْمِ ، وَكَانَ
بِقَوْلِهِ مُخْبِرًا عَنْهُ ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ قَدِيمٌ لَا أَوَّلَ لَهُ ،
وَحَرَّمَهَا بِالْكِتَابِ حِينَ خَلَقَ الْقَلَمَ ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ
الثَّالِثُ ، وَقَالَ لَهُ : اُكْتُبْ فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا كَتَبَ أَنَّ مَكَّةَ بَيْتٌ
مُحَرَّمُ مُكَرَّمٌ مُعَظَّمٌ ؛ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ ، مِنْهَا
أَنَّهُ كَانَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لَيْسَ عَلَيْهِ جِدَارٌ مُحِيطٌ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
فَضَاقَ عَلَى النَّاسِ وَسَّعَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ ، وَاشْتَرَى دُورًا
فَهَدَمَهَا فِيهِ ، وَهَدَمَ عَلَى النَّاسِ مَا قَرُبَ مِنْ الْمَسْجِدِ ،
حَتَّى أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوا ، وَوَضَعَ الْأَثْمَانَ حَتَّى أَخَذُوهَا بَعْدُ
، ثُمَّ أَحَاطَ عَلَيْهِ بِجِدَارٍ قَصِيرٍ دُونَ الْقَامَةِ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ
لَمَّا وَلِيَ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَاشْتَرَى مِنْ قَوْمٍ ، وَأَبَى
آخَرُونَ أَنْ يَبِيعُوا ، فَهَدَمَ عَلَيْهِمْ ، فَصَيَّحُوا فَأَمَرَ بِهِمْ
إلَى الْحَبْسِ حَتَّى كَلَّمَهُ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ
أُسَيْدَ ، وَوُجِدَ فِي الْمَقَامِ كِتَابٌ ، فَجَعَلُوا يُخْرِجُونَهُ لِكُلِّ
مَنْ أَتَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يَعْلَمُونَهُ ، حَتَّى أَتَاهُمْ
حَبْرٌ مِنْ الْيَمَنِ ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا فِيهِ : أَنَا اللَّهُ
ذُو بَكَّةَ صُغْتُهَا يَوْمَ صُغْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، وَبَارَكْت
لِأَهْلِهَا فِي اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحِلُّهَا أَهْلُهَا ، وَذَكَرَ
حَدِيثًا طَوِيلًا خَرَّجَهُ جَمَاعَةٌ ، وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ .
سُورَةُ
الْحِجْرِ فِيهَا عَشْرُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ
وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : {
لَوَاقِحَ } وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : تُلْقِحُ الشَّجَرَ وَالسَّحَابَ ،
وَجُمِعَتْ عَلَى حَذْفِ الزَّائِدِ
.
الثَّانِي : أَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى النَّسَبِ ، أَيْ
ذَاتُ لَقْحٍ وَلِقَاحٍ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ { لَوَاقِحَ } جَمْعُ لَاقِحٍ ، أَيْ حَامِلٍ ،
وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ السَّحَابَ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْجَنُوبِ
لَاقِحٌ وَحَامِلٌ ، وَلِلشِّمَالِ حَائِلٌ وَعَقِيمٌ ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ
: { حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا } مَعْنَاهُ : حَمَلَتْ .
وَأَقْوَى الْوَجْهِ فِيهِ النِّسْبَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ،
وَابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ ،
وَاللَّفْظُ لِأَشْهَبَ قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } ، فَلِقَاحُ
الْقَمْحِ عِنْدِي أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ ، وَلَا أَدْرِي مَا يَيْبَسُ فِي
أَكْمَامِهِ ، وَلَكِنْ يُحَبِّبُ حَتَّى يَكُونَ لَوْ يَبِسَ حِينَئِذٍ لَمْ
يَكُنْ فَسَادًا لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَلِقَاحُ الشَّجَرِ كُلِّهَا أَنْ يُثْمِرَ
الشَّجَرُ وَيَسْقُطَ مِنْهُ مَا يَسْقُطُ ، وَيَثْبُتَ مَا يَثْبُتُ ، وَلَيْسَ
ذَلِكَ بِأَنْ تَوَرَّدَ الشَّجَرُ
.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : إنَّمَا عَوَّلَ مَالِكٌ
فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى تَشْبِيهِ لِقَاحِ الشَّجَرِ بِلِقَاحِ الْحَمْلِ ،
وَأَنَّ الْوَلَدَ إذَا عُقِدَ وَخُلِقَ وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ
تَحَبُّبِ الثَّمَرِ وَسَنْبَلَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمٍ تَشْتَرِك
فِيهِ كُلُّ حَامِلَةٍ ، وَهُوَ اللِّقَاحُ ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْحَدِيثُ : {
نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى
يَشْتَدَّ } .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ
: { كَانَتْ امْرَأَةٌ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْت قَطُّ مِثْلَهَا .
قَالَ
: فَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ إذَا صَلَّوْا
تَقَدَّمُوا ، وَبَعْضُهُمْ يَسْتَأْخِرُ ، فَإِذَا سَجَدُوا نَظَرُوا إلَيْهَا
مِنْ تَحْتِ أَيْدِيهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي شَرْحِ الْمُرَادِ
بِهَا : فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْخَلْقِ إلَى
الْيَوْمِ ، وَالْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بَعْدُ ؛ بَيَانًا ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ
وَجَمَاعَةٌ .
الثَّانِي : مَنْ مَاتَ ، وَمَنْ بَقِيَ ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : الْمُسْتَقْدِمِينَ [ مِنْ ] سَائِرِ
الْأُمَمِ ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ : قَالَ الْحَسَنُ : مَعْنَاهُ
الْمُسْتَقْدِمِينَ فِي الطَّاعَةِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ فِي الْمَعْصِيَةِ .
الْخَامِسُ :
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ
وَالْمُسْتَأْخِرِينَ بِهَا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ ؛ وَكُلُّ هَذَا
مَعْلُومٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ ،
وَبِمَا كَانَ [ وَبِمَا ] يَكُونُ وَبِمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ [
كَانَ ] يَكُونُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ خَاصَّةً ، وَعَلَى فَضْلِ الْمُبَادَرَةِ إلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَيْهَا عَامَّةً ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ يَعْلَمُونَ مَا
فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا
لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ } .
فَإِذَا جَاءَ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ عِنْدَ الزَّوَالِ
فَنَزَلَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، فَقَدْ حَازَ ثَلَاثَ
مَرَاتِبَ فِي الْفَضْلِ : أَوَّلَ الْوَقْتِ ، وَالصَّفَّ الْأَوَّلِ ، وَمُجَاوَرَةَ
الْإِمَامِ .
فَإِنْ جَاءَ عِنْدَ الزَّوَالِ وَنَزَلَ فِي الصَّفِّ
الْآخَرِ أَوْ فِيمَا نَزَلَ عَنْ الْأَوَّلِ فَقَدْ حَازَ فَضْلَ أَوَّلِ
الْوَقْتِ ، وَفَاتَهُ فَضْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَالْمُجَاوَرَةِ .
فَإِنْ جَاءَ وَقْتُ الزَّوَالِ وَنَزَلَ فِي الصَّفِّ
الْأَوَّلِ دُونَ مَا يَلِي الْإِمَامَ فَقَدْ حَازَ فَضْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ ،
وَفَضْلَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ، وَفَاتَهُ مُجَاوَرَةُ الْإِمَامِ ، وَذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ
.
وَمُجَاوِرَةُ الْإِمَامِ لَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا
هِيَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِيَلِيَنِّي
مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } .
فَمَا يَلِي الْإِمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِمَنْ
كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، فَإِنْ نَزَلَهَا غَيْرُهُ أُخِّرَ لَهُ وَتَقَدَّمَ
هُوَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ بِأَمْرِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ ،
كَالْمِحْرَابِ هُوَ مَوْضِعُ الْإِمَامِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : وَكَمَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ
فِي الصَّلَاةِ ، فَكَذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي
الْقِتَالِ ؛ فَإِنَّ الْقِيَامَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ ، وَبَيْعَ النَّفْسِ مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى لَا يُوَازِنُهُ عَمَلٌ فَالتَّقَدُّمُ إلَيْهِ أَفْضَلُ .
وَلَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا خَفَاءَ بِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ
أَحَدٌ يَتَقَدَّمُ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ .
قَالَ الْبَرَاءُ : { كُنَّا إذَا حَمِيَ الْبَأْسُ
اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تَعَالَى : { إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا
امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ } .
قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ بِمَا فِيهِ بَلَاغٌ لِلطَّلَبَةِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ يَرْجِعُ إلَى مَا يَلِيه ، وَلَا يَتَعَلَّقُ
بِالْأَوَّلِ مِنْ الْكَلَامِ تَعَلُّقَ الْأَوَّلِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ ، لِاسْتِحَالَةِ
ذَلِكَ فِيهِ .
وَبَيَانُهُ الْآنَ عَلَى اخْتِصَارٍ لَكُمْ أَنَّا لَوْ
عَلَّقْنَاهُ بِالْأَوَّلِ كَمَا عَلَّقْنَاهُ بِمَا يَلِيه لَكَانَ ذَلِكَ
تَنَاقُضًا وَصَارَ الْكَلَامُ نَفْيًا لِمَا أُثْبِتَ ، وَإِثْبَاتًا لِمَا
نُفِيَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ ، وَمِنْ
النَّفْيِ إثْبَاتٌ ، فَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ إثْبَاتًا فَالِاسْتِثْنَاءُ
مِنْهُ نَفْيٌ ؛ ثُمَّ إنْ اسْتَثْنَى مِنْ النَّفْيِ فَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى بِهِ
إثْبَاتٌ ، فَيَصِيرُ هَذَا الْمُسْتَثْنَى الْآخَرُ مَنْفِيًّا بِالِاسْتِثْنَاءِ
الْأَوَّلِ مُثْبَتًا بِالثَّانِي ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ، وَبَسْطُهُ وَإِيضَاحُهُ
فِي الْأُصُولِ ، فَأَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ } إلَّا آلَ لُوطٍ فَلَيْسُوا مِنْهُمْ ، إلَّا امْرَأَتَهُ
فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ آلِهِ ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ الْفِقْهِ قَوْلُ
الْمُقِرِّ : عِنْدِي عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا وَاحِدًا ، فَثَبَتَ
الْإِقْرَارُ بِثَمَانِيَةٍ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُطَلِّقِ
لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً ،
فَتَكُونُ اثْنَتَيْنِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَأَغْنَى عَنْ الْإِطْنَابِ فِيهِ .
الْآيَةُ
الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إنْ كُنْتُمْ
فَاعِلِينَ } .
لَمَّا تَدَاعَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ إلَى لُوطٍ حِينَ
رَأَوْا وَسَمِعُوا بِجَمَالِ أَضْيَافِهِ ، وَحُسْنِ شَارَتِهِمْ ؛ قَصْدًا
لِلْفَاحِشَةِ فِيهِمْ ، تَحَرَّمَ لَهُمْ لُوطٌ بِالضِّيَافَةِ ، وَسَأَلَهُمْ
تَرْكَ الْفَضِيحَةِ ، وَإِتْيَانَ الْمُرَاعَاةِ ، فَلَمَّا قَالُوا لَهُ : { أَوَلَمْ
نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ } قَالَ لَهُمْ لُوطٌ : إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ
قَضَاءَ الشَّهْوَةِ فَهَؤُلَاءِ بَنَاتِي إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ .
وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَنْ يَعْرِضُوا بَنَاتِهِمْ عَلَى الْفَاحِشَةِ فِدَاءً
لِفَاحِشَةٍ أُخْرَى ؛ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ هَؤُلَاءِ بَنَاتِ أُمَّتِي ؛ لِأَنَّ
كُلَّ نَبِيٍّ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُ أُمَّتِهِ ، وَبَنَاتُهُمْ بَنَاتُهُ ،
فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالتَّزْوِيجِ الشَّرْعِيِّ ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى
النِّكَاحِ الْجَائِزِ كَسْرًا لِسَوْرَةِ الْغُلْمَةِ ، وَإِطْفَاءً لِنَارِ
الشَّهْوَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
عَادُونَ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ بِأَجْمَعِهِمْ : أَقْسَمَ اللَّهُ هُنَا بِحَيَاةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لَهُ ، أَنَّ قَوْمَهُ
مِنْ قُرَيْشٍ فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وَفِي حَيْرَتِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ .
قَالُوا :
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " مَا
خَلَقَ اللَّهُ وَمَا ذَرَأَ وَلَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ
مُحَمَّدٍ ، وَمَا سَمِعْت اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ " .
وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ ، وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي
أَخْرَجَهُمْ عَنْ ذِكْرِ لُوطٍ إلَى ذِكْرِ مُحَمَّدٍ ، وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ
أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ بِحَيَاةِ لُوطٍ ، وَيَبْلُغَ بِهِ مِنْ التَّشْرِيفِ مَا
شَاءَ ؛ فَكُلُّ مَا يُعْطِي اللَّهُ لِلُوطٍ مِنْ فَضْلٍ وَيُؤْتِيه مِنْ شَرَفٍ فَلِمُحَمَّدٍ
ضِعْفَاهُ ؛ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ .
أَوَلَا تَرَاهُ قَدْ أَعْطَى لِإِبْرَاهِيمَ الْخُلَّةَ
، وَلِمُوسَى التَّكْلِيمَ ، وَأَعْطَى ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ ، فَإِذَا أَقْسَمَ
اللَّهُ بِحَيَاةِ لُوطٍ فَحَيَاةُ مُحَمَّدٍ أَرْفَعُ ، وَلَا يُخْرَجُ مِنْ كَلَامٍ
إلَى كَلَامٍ آخَرَ غَيْرِهِ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { لَعَمْرُك إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ } أَرَادَ
بِهِ الْحَيَاةَ وَالْعَيْشَ ، يُقَالُ : عُمْرٌ وَعَمْرٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ
وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ ، وَقَالُوا : إنَّ أَصْلَهَا الضَّمُّ ، وَلَكِنَّهَا
فُتِحَتْ فِي الْقَسَمِ خَاصَّةً لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ ؛ وَالِاسْتِعْمَالُ إنَّمَا
هُوَ فِي غَيْرِ الْقَسَمِ ، فَأَمَّا الْقَسَمُ فَهُوَ بَعْضُ الِاسْتِعْمَالِ ؛
فَلِذَلِكَ صَارَا لُغَتَيْنِ .
فَتَدَبَّرُوا هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : مَنْ أَقْسَمَ بِالنَّبِيِّ
لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ
إلَّا بِهِ ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، كَمَا لَوْ أَقْسَمَ بِاَللَّهِ .
وَقَدَّمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْسِمُ بِمَا
شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ ، وَلَيْسَ لِخَلْقِهِ أَنْ يُقْسِمُوا إلَّا بِهِ لِقَوْلِهِ
: { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت } .
فَإِنْ أَقْسَمَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ آثِمٌ ، أَوْ قَدْ
أَتَى مَكْرُوهًا عَلَى قَدْرِ دَرَجَاتِ الْقَسَمِ وَحَالِهِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ
الرِّجَالِ وَالْمُؤَنَّثِينَ مِنْهُمْ يُقْسِمُونَ بِحَيَاتِك وَبِعَيْشِك ،
وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الذِّكْرِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ أَقْسَمَ بِهِ فِي
هَذِهِ الْقِصَّةِ فَذَلِكَ بَيَانٌ لِشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ وَشَرَفِ الْمَكَانَةِ
، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ سِوَاهُ ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ ،
وَبِهِ أَقُولُ ؛ لَكِنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَطَعَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ ، وَرَدَّ الْقَسَمَ
إلَيْهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي [ الْأُصُولِ وَفِي ] مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
التَّوَسُّمِ : وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنْ الْوَسْمِ ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ الَّتِي
يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبٍ غَيْرِهَا .
قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي تَوَسَّمْت فِيك الْخَيْرَ نَافِلَةً وَاَللَّهُ
يَعْلَمُ أَنِّي صَادِقُ الْبَصَرِ وَفِي الْفِرَاسَةِ أَيْضًا ، يُقَالُ :
تَفَرَّسْت وَتَوَسَّمْت .
وَحَقِيقَتُهَا الِاسْتِدْلَال بِالْخَلْقِ عَلَى
الْخُلُقِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِجُودَةِ الْقَرِيحَةِ ، وَحِدَّةِ الْخَاطِرِ ،
وَصَفَاءِ الْفِكْرِ .
يُحْكَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ
كَانَا جَالِسِينَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَرَاهُ نَجَّارًا ، وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ
حَدَّادًا ، فَتَبَادَرَ مَنْ حَضَرَ إلَى الرَّجُلِ فَسَأَلُوهُ ، فَقَالَ لَهُمْ
: كُنْت نَجَّارًا ، وَأَنَا الْآنَ حَدَّادٌ ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى
الْعَادَةِ ، فَزَعَمَتْ الصُّوفِيَّةُ أَنَّهَا كَرَامَةٌ .
وَقَالَ غَيْرُهُمْ : بَلْ هِيَ اسْتِدْلَالٌ
بِالْعَلَامَةِ ، وَمِنْ الْعَلَامَاتِ ظَاهِرٌ يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ ،
بِأَوَّلِ نَظَرٍ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِيٌّ فَلَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ ،
وَلَا يُدْرَكُ بِبَادِئِ النَّظَرِ
.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اتَّقُوا
فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } وَهَذَا مُبَيَّنٌ
فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23