ج15/كتاب : أحكام القرآن
ج15/لمؤلف:ابن العربي
ج15/
الْآيَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : {
أَقِمْ الصَّلَاةَ } : أَيْ اجْعَلْهَا قَائِمَةً ، أَيْ دَائِمَةً .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ
: { لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : زَالَتْ عِنْدَ كَبِدِ
السَّمَاءِ ؛ قَالَهُ عُمَرُ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَابْنُ
عَبَّاسٍ ، وَطَائِفَةٌ سِوَاهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ .
الثَّانِي :
أَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْغُرُوبُ ؛ قَالَهُ ابْنُ
مَسْعُودٍ ، وَعَلِيٌّ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : { غَسَقِ اللَّيْلِ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
إقْبَالُ ظُلْمَتِهِ .
الثَّانِي : اجْتِمَاعُ ظُلْمَتِهِ .
الثَّالِثُ : مَغِيبُ الشَّفَقِ .
وَقَدْ قَيَّدْت عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ
الدُّلُوكَ إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ إذَا
نَظَرَ إلَى الشَّمْسِ فِيهِ ، أَمَّا فِي الزَّوَالِ فَلِكَثْرَةِ شُعَاعِهَا ،
وَأَمَّا فِي الْغُرُوبِ فَلِيَتَبَيَّنَهَا ، وَهَذَا لَوْ نُقِلَ عَنْ الْعَرَبِ
لَكَانَ قَوِيًّا ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحِ
حَتَّى يُقَالَ دَلَكْت بَرَاحِ كَقَوْلِهِ قَطَامِ وَجَذَامِ ، وَفِي ذَلِكَ
كَلَامٌ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : دُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُهَا .
وَغَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ
وَرِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْهُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
مَالِكٍ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ
.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى الْمَغْرِبَ
وَالنَّاسُ يَتَمَارَوْنَ فِي الشَّمْسِ لَمْ تَغِبْ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟
قَالُوا : نَرَى أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغِبْ .
قَالَ :
هَذَا وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ وَقْتُ هَذِهِ
الصَّلَاةِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ } ؛ قَالَ : وَهَذَا دُلُوكُ الشَّمْسِ ،
وَهَذَا غَسَقُ اللَّيْلِ .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ : أَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْمَيْلُ ،
وَلَهُ أَوَّلٌ عِنْدَنَا وَهُوَ الزَّوَالُ ، وَآخِرٌ وَهُوَ الْغُرُوبُ ،
وَكَذَلِكَ الْغَسَقُ هُوَ الظُّلْمَةُ ، وَلَهَا ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ ،
فَابْتِدَاؤُهَا عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ ، وَانْتِهَاؤُهَا عِنْدَ غَيْبُوبَةِ
الشَّفَقِ ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ،
فَقَوْلُهُ : دُلُوكِ الشَّمْسِ يَتَنَاوَلُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَقَوْلُهُ :
{ غَسَقِ اللَّيْلِ } اقْتَضَى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، وَقَوْلُهُ : { قُرْآنَ
الْفَجْرَ } اقْتَضَى صَلَاةَ الصُّبْحِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ :
وَسَمَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ قُرْآنًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ رُكْنَ الصَّلَاةِ
وَمَقْصُودَهَا الْأَكْبَرُ
الذِّكْرُ
بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ
مِنْ الْقُرْآنِ } ؛ مَعْنَاهُ صَلُّوا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ ، أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي
نِصْفَيْنِ ، يَقُولُ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ، يَقُولُ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي } .
{ وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ : اقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ
وَمَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } ، مَعْنَاهُ صَلُّوا عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَهِيَ أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { الْفَجْرِ } : يَعْنِي سَيَلَانَ الضَّوْءِ ، وَجَرَيَانَ النُّورِ فِي الْأُفُقِ ، مِنْ فَجَرَ الْمَاءُ وَهُوَ ظُهُورُهُ وَسَيَلَانُهُ ، فَيَكُونُ كَثِيرًا ، وَمِنْ هَذَا الْفَجْرُ وَهُوَ كَثْرَةُ الْمَاءِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ النَّهَارِ وَأَوَّلُ الْيَوْمِ وَالْوَقْتُ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ ؛ وَتَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ فِعْلًا وَتَجِبُ إلْزَامًا فِي الذِّمَّةِ وَحَتْمًا ، وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ فِعْلُهَا نَدْبًا ، حَسْبَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ فِيهَا مِنْ مُوَاظَبَتِهِ عَلَى صَلَاتِهَا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَنَازِلِ ، لَا بِالطَّالِعِ مِنْهَا ، وَلَا بِالْغَارِبِ ، وَلَا بِالْمُتَوَسِّطِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ ؛ لِأَنَّك إذَا تَرَاءَيْت الطَّالِعَ أَوْ الْغَارِبَ فَتَرَاءَى الْفَجْرُ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْأَصْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْبَدَلِ ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ بَيِّنَةً لِيَتَسَاوَى فِي دَرْكِهَا الْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ نَصَبَهَا بَيِّنَةً لِلْأَبْصَارِ ، ظَاهِرَةً دُونَ اسْتِبْصَارٍ ، فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّبَهَا خُفْيَةً ؛ فَذَلِكَ عَكْسُ الشَّرِيعَةِ ، وَخَلْطُ التَّكْلِيفِ وَتَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا } : يَعْنِي مَشْهُودًا بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ وَالْكَاتِبِينَ .
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ : { يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ
مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي
صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ .
ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ
فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ
: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ } .
وَبِهَذَا فُضِّلَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ
، وَيُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرُ ، فَيَكُونَانِ جَمِيعًا أَفْضَلَ
الصَّلَوَاتِ ، وَيَتَمَيَّزُ عَلَيْهَا الصُّبْحُ بِزِيَادَةِ فَضْلٍ حَتَّى
تَكُونَ الْوُسْطَى ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ يَتَمَادَى وَقْتُهَا
مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ وُجُوبَهَا عَلَى
الدُّلُوكِ ، وَهَذَا دُلُوكٌ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو
حَنِيفَةَ فِي تَفْصِيلٍ ، وَأَشَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي حَالِ
الضَّرُورَةِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : وَقْتُ الْمَغْرِبِ يَكُونُ مِنْ
الْغُرُوبِ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ ؛ لِأَنَّهُ غَسَقٌ كُلُّهُ ، وَهُوَ
الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلُهُ فِي مُوَطَّئِهِ الَّذِي قَرَأَهُ
طُولَ عُمُرِهِ ، وَأَمْلَاهُ حَيَاتَهُ .
وَمِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي
بَيَّنَّاهَا فِيهَا ، وَأَشَرْنَا إلَيْهَا فِي كُتُبِنَا عِنْدَ جَرَيَانِهَا
أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُعَلَّقَةَ بِالْأَسْمَاءِ ، هَلْ تَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِهَا
أَمْ بِآخِرِهَا ؟ فَيَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِجَمِيعِهَا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ ، وَجَرَى
الْخِلَافُ فِي مَسَائِلِ مَالِكٍ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ
مُخْتَلِفٌ عِنْدَهُ .
وَالْأَقْوَى فِي النَّظَرِ أَنْ يَرْتَبِطَ الْحُكْمُ
بِأَوَائِلِهَا ، لِئَلَّا يَعُودَ ذِكْرُهَا لَغْوًا ، فَإِذَا ارْتَبَطَ
بِأَوَائِلِهَا جَرَى بَعْدَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ إلَى
الْآخِرِ أَمْ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى مَا يُعْطِيه الدَّلِيلُ ،
وَلَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقِ الصَّلَاةِ بِالزَّوَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الدُّلُوكِ .
وَكُنَّا نُعَلِّقُهَا بِالْجَمِيعِ ، إلَّا أَنَّ
صَلَاةَ الْعَصْرِ قَدْ أَخَذَتْ مِنْهَا وَقْتَهَا ، مِنْ كَوْنِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ
مِثْلَهُ ؛ فَانْقَطَعَ حُكْمُ الظُّهْرِ لِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ ، فَبَقِيَ
النَّظَرُ فِي اشْتِرَاكِهِمَا مَعًا ، بِدَلِيلٍ آخَرَ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ
الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَفِيهِ طُولٌ .
وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَمْرُهَا أَبْيَنُ مِنْ
الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الدُّلُوكِ ، وَهُوَ الْغُرُوبُ ،
وَلَيْسَ بَعْدَهَا صَلَاةٌ تُقْطَعُ بِهَا ، وَتَأْخُذُ الْوَقْتَ مِنْهَا إلَى
مَغِيبِ الشَّفَقِ ، فَهَلْ يَتَمَادَى وَقْتُهَا إلَى دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ
الْأُخْرَى ، أَمْ يَتَعَلَّقُ
بِالْأَوَّلِ
خَاصَّةً ؟ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هَذَا كُلَّهُ ، فَقَالَ : { وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ
يَحْضُرْ وَقْتُ الْعِشَاءِ } .
وَقَالَ أَيْضًا فِيهِ : { وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ
يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ } ؛ فَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِبَيَانِ مُبَلِّغِ
الشَّرِيعَةِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ
عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك
عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { فَتَهَجَّدْ بِهِ } : يَعْنِي اسْهَرْ بِهِ .
وَالْهُجُودُ : النَّوْمُ ، وَالتَّهَجُّدُ تَفَعُّلٌ
، وَهُوَ لِاكْتِسَابِ الْفِعْلِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَصْلِ ، وَقَدْ يَأْتِي
لِنَفْيِهِ فِي حُرُوفٍ مَعْدُودَةٍ ، جِمَاعُهَا سَبْعَةٌ : تَهَجَّدَ : نَفَى
الْهُجُودَ ، تَخَوَّفَ : نَفَى الْخَوْفَ ، تَحَنَّثَ : نَفَى الْحِنْثَ ،
تَنَجَّسَ : أَلْقَى النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ .
تَحَرَّجَ ، نَفَى الْحَرَجَ ، تَأَثَّمَ : نَفَى
الْإِثْمَ ، تَعَذَّرَ : نَفَى الْعُذْرَ .
تَقَذَّرَ : نَفَى الْقَذَرَ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ : تَجَزَّعَ : نَفَى الْجَزَعَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { نَافِلَةً لَك } : وَالنَّفَلُ هُوَ الزِّيَادَةُ ،
كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ وَفِي وَجْهِ الزِّيَادَةِ هَاهُنَا قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى فَرْضِهِ خَاصَّةً دُونَ النَّاسِ .
الثَّانِي : قَوْلُهُ : { نَافِلَةً لَك } ؛ أَيْ
زِيَادَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ شَيْئًا ؛ إذْ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ فَاسِدٌ ؛
إذْ نَفْلُهُ وَفَرْضُهُ لَا يُصَادِفُ ذَنْبًا ، و لَا صَلَاةُ اللَّيْلِ وَلَا
صَلَاةُ النَّهَارِ تُكَفِّرَانِ خَطِيئَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي
حَدِّهِ وُجُودًا ، مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ مُؤَاخَذَةً لَوْ كَانَ لِفَضْلِ
الْمَغْفِرَةِ مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ
.
وَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامُ اللَّيْلِ ، { وَكَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ
قَدَمَاهُ } ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ " الْأَحْزَابِ " وَفِي
سُورَةِ " الْمُزَّمِّلِ
" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي صِفَةِ هَذَا
التَّهَجُّدِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ النَّوْمُ ، ثُمَّ الصَّلَاةُ
، ثُمَّ النَّوْمُ ، ثُمَّ الصَّلَاةُ
.
الثَّانِي : أَنَّهُ الصَّلَاةُ بَعْدَ النَّوْمِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ .
وَهَذَا دَعَاوَى مِنْ التَّابِعِينَ فِيهَا ،
وَلَعَلَّهُمْ إنَّمَا عَوَّلُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَنَامُ وَيُصَلِّي ، وَيَنَامُ وَيُصَلِّي ، فَعَوَّلُوا عَلَى
أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ ، فَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي وَجْهِ كَوْنِ قِيَامِ
اللَّيْلِ سَبَبًا لِلْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَارِئَ يَجْعَلُ مَا شَاءَ مِنْ فِعْلِهِ سَبَبًا
لِفَضْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ ، أَوْ
بِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ
.
الثَّانِي
: أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ الْخَلْوَةُ مَعَ
الْبَارِئِ وَالْمُنَاجَاةُ دُونَ النَّاسِ ؛ فَيُعْطَى الْخَلْوَةَ بِهِ وَمُنَاجَاتُهُ
فِي الْقِيَامَةِ ، فَيَكُونُ مَقَامًا مَحْمُودًا ، وَيَتَفَاضَلُ
فِيهِ الْخَلْقُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ ؛ فَأَجَلُّهُمْ فِيهِ دَرَجَةً مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْ الْمَحَامِدِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ ، وَيَشْفَعُ وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ
عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا } .
قَدْ أَطَلْنَا النَّفَسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي
كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحِ بِمَا يَقِفُ بِكُمْ فِيهَا عَلَى الْمَعْرِفَةِ
، فَأَمَّا الْآنَ فَخُذُوا نَبْذَةً تُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى الْغَرَضِ : ثَبَتَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ { ابْنِ
مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ قَالَ بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إذْ مَرَّ
الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ .
فَقَالَ : مَا رَابَكُمْ إلَيْهِ ؟ لَا
يَسْتَقْبِلْنَكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ .
قَالُوا :
سَلُوهُ ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ ، فَأَمْسَكَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا
فَعَلِمْت أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ ، فَقُمْت مَقَامِي ، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ
قَالَ : يَسْأَلُونَكَ عَنْ " الرُّوحِ " الْآيَةَ } .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : لَمْ يَأْتِهِ فِي
ذَلِكَ جَوَابٌ ، وَقَدْ قَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ
عَنْهُ : إنَّ الْيَهُودَ قَالُوا : سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ
فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ ، فَسَأَلُوهُ
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا
يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الْخَلْقِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ ، وَلَا يُفِيضُونَ مَعَهُمْ
فِي الْمُشْكِلَاتِ ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيِّنِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَاتِ
، وَالرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَهُ اللَّهُ فِي
الْأَجْسَامِ ، فَأَحْيَاهَا بِهِ ، وَعَلِمَهَا وَأَقْدَرَهَا ، وَبَنَى
عَلَيْهَا الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةَ ، وَالْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ ، وَقَابَلَهَا
بِأَضْدَادِهَا لِنُقْصَانِ الْآدَمِيَّةِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ
إنْكَارَهَا لَمْ يَقْدِرْ لِظُهُورِ آثَارِهَا ، وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَتَهَا
وَهِيَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ ؛ لِأَنَّهُ قَصُرَ عَنْهَا وَقَصُرَ
بِهِ دُونَهَا .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ سُبْحَانَهُ رَكَّبَ ذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةً ، كَمَا قَالَ : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } لِيَرَى أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى لَا يُقْدَرُ عَلَى جَحْدِهِ لِظُهُورِ آيَاتِهِ فِي أَفْعَالِهِ : فَفِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ لِكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ ، فَإِذَا وَقَفَ مُتَفَكِّرًا فِي هَذَا نَادَاهُ الِاعْتِبَارُ : لَا تَرْتَبْ ، فَفِيك مِنْ ذَلِكَ آثَارٌ ، اُنْظُرْ إلَى مَوْجُودٍ فِي إهَابِك لَا تَقْدِرُ عَلَى إنْكَارِهِ لِظُهُورِ آثَارِهِ ، وَلَا تُحِيطُ بِمِقْدَارِهِ ، لِقُصُورِك عَنْهُ فَيَأْخُذُهُ الدَّلِيلُ ، وَتَقُومُ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْهِ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي
لَأَظُنُّك يَا مُوسَى مَسْحُورًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
تَفْسِيرِ الْآيَاتِ : وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ : هِيَ يَدُهُ ، وَعَصَاهُ ، وَلِسَانُهُ ، وَالْبَحْرُ ، وَالطُّوفَانُ
، وَالْجَرَادُ ، وَالْقُمَّلُ ، وَالضَّفَادِعُ ، وَالدَّمُ .
الثَّانِي
: أَنَّهَا الطُّوفَانُ ، وَالْجَرَادُ ، وَالْقُمَّلُ ،
وَالضَّفَادِعُ ، وَالدَّمُ ، وَالْبَحْرُ ، وَعَصَاهُ ، وَالطَّمْسَةُ ،
وَالْحَجَرُ ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ،
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا الطَّمْسَةُ قَالَ قَوْلُهُ : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ } .
قَالَ : فَدَعَا عُمَرُ بِخَرِيطَةٍ كَانَتْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ أُصِيبَتْ بِمِصْرَ ، فَإِذَا فِيهَا الْجَوْزَةُ وَالْبَيْضَةُ
وَالْعَدَسَةُ ، مُسِخَتْ حِجَارَةً كَانَتْ مِنْ أَمْوَالِ فِرْعَوْنَ بِمِصْرَ .
الثَّالِثُ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ هِيَ :
الْحَجَرُ ، وَالْعَصَا ، وَالْيَدُ ، و الطُّوفَانُ ، وَالْجَرَادُ ،
وَالْقُمَّلُ ، وَالضَّفَادِعُ ، وَالدَّمُ ، وَالطَّوْدُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : الطُّوفَانُ : الْمَاءُ .
الرَّابِعُ :
رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ هِيَ : الطُّوفَانُ ،
وَالْجَرَادُ ، وَالْقُمَّلُ ، وَالضَّفَادِعُ ، وَالدَّمُ ، وَالْعَصَا ، وَالْيَدُ
، وَالْبَحْرُ و الْجَبَلُ ، فِي أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ .
الْخَامِسُ
: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ
عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنْ { يَهُودِيَّيْنِ سَأَلَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ التِّسْعِ الْآيَاتِ ؛ فَقَالَ : هِيَ أَلَّا تُشْرِكُوا
بِاَللَّهِ شَيْئًا ، وَلَا تَسْرِقُوا ، وَلَا تَزْنُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ
إلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَلَا تَسْخَرُوا ، وَلَا تَقْذِفُوا
الْمُحْصَنَاتِ ، وَلَا تُوَلَّوْا الْأَدْبَارَ عِنْدَ الزَّحْفِ ، وَعَلَيْكُمْ
خَاصَّةً يَهُودُ أَلَّا تَعْتَدُوا فِي
السَّبْتِ .
فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ، وَقَالَا : نَشْهَدُ
أَنَّك نَبِيٌّ .
فَقَالَ :
وَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَتَّبِعَانِي ؟ فَقَالَا : إنَّ
دَاوُد دَعَا أَلَّا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ ، وَإِنَّا نَخَافُ إنْ اتَّبَعْنَاك
أَنْ تَقْتُلَنَا يَهُودُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الَّذِي جَرَى مِنْ الْأَحْكَامِ
هَاهُنَا ذِكْرُ الْعَصَا ، وَسَنَسْتَوْفِي الْقَوْلَ فِيهَا فِي سُورَةِ "
طَهَ " إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ
عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ اُدْعُوا اللَّهَ أَوْ اُدْعُوا الرَّحْمَنَ
أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ
وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } فِيهَا ثَلَاثُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ
خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ الصَّلَاةَ هُنَا الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ
، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ ، وَمَنْ أَنْزَلَ
وَمَنْ جَاءَ بِهِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك } فَيَسْمَعَ
الْمُشْرِكُونَ { وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } حَتَّى لَا يَسْمَعَكَ أَصْحَابُك
الْآيَةَ } .
الثَّانِي
: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ ؛ قَالَهُ
الْبُخَارِيُّ ، وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ ، وَابْنِ وَهْبٍ أَيْضًا ، رَوَاهُ
عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ .
الثَّالِثُ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ : قِيلَ لِمُحَمَّدٍ : لَا تُحْسِنْ صَلَاتَك فِي الْعَلَانِيَةِ
مُرَاءَاةً ، وَلَا تُسِيئُهَا فِي الْمُخَافَتَةِ .
الرَّابِعُ : رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ لِأَمْرٍ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى
رَسُولِهِ فِي عَدَدِ خَزَنَةِ النَّارِ : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ }
قَالُوا فِي ذَلِكَ مَا قَالُوا ، وَجَعَلُوا إذَا سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ ، فَكَانَ الرَّجُلُ إذَا
أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ اسْتَرَقَ السَّمْعَ دُونَهُمْ فَرَقًا مِنْهُمْ ، فَإِذَا
رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ ] ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ ،
وَإِنْ خَفَضَ صَوْتَهُ يَظُنُّ الَّذِي يَسْمَعُ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِ
شَيْئًا وَسَمِعَ هُوَ شَيْئًا مِنْهُمْ أَصَاخَ لَهُ يَسْمَعُ مِنْهُ ، فَقِيلَ
لَهُ : لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك فَيَتَفَرَّقُوا عَنْك ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا
فَلَا يَسْمَعُهَا مَنْ يَسْتَرِقُ
السَّمْعَ
، رَجَاءَ أَنْ يَرْعَوِيَ إلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ
الْوَسْنَانُ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ
يُخَافِتُ ، وَعُمَرُ يَجْهَرُ ، فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ :
أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي .
وَقِيلَ لِعُمَرَ فِيهِ ، فَقَالَ : أُوقِظُ
الْوَسْنَانَ ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ ، وَأَذْكُرُ الرَّحْمَنَ .
فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ : ارْفَعْ قَلِيلًا .
وَقِيلَ لِعُمَرَ : اخْفِضْ قَلِيلًا ، وَذَكَرَ هَذَا
عِنْدَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : عَبَّرَ اللَّهُ هَاهُنَا
بِالصَّلَاةِ عَنْ الْقِرَاءَةِ ، كَمَا عَبَّرْ بِالْقِرَاءَةِ عَنْ الصَّلَاةِ
فِي قَوْلِهِ : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا }
؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ ؛ الصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ
عَلَى قِرَاءَةٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ ، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَائِهَا ، فَيُعَبَّرُ
بِالْجُزْءِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَبِالْجُمْلَةِ عَنْ الْجُزْءِ ، عَلَى عَادَةِ
الْعَرَبِ فِي الْمَجَازِ وَهُوَ كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَتَبُّعِ
الْأَسْبَابِ بِالتَّنْقِيحِ : أَمَّا رِوَايَاتُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَصَحُّهَا
الْأَوَّلُ وَأَمَّا رِوَايَةُ عَائِشَةَ فَيُعَضِّدُهَا مَا رُوِيَ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مَسِيرٍ ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ
بِالتَّكْبِيرِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّكُمْ لَا
تَدْعُونَ أَصَمَّ ، وَلَا غَائِبًا ، وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا ؛
إنَّهُ بَيْنَكُمْ و بَيْنَ رُءُوسِ رِحَالِكُمْ } .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنْ صَحَّ فَيَكُونُ خِطَابًا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و الْمُرَادُ أُمَّتُهُ ، إذْ لَا
يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَمُحْتَمَلٌ ، لَكِنَّهُ لَمْ
يَصِحَّ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَيُشْبِهُ
الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي الدُّعَاءِ ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى
الزِّيَادَةِ فِي الْجَهْرِ ، حَتَّى يَضُرَّ ذَلِكَ بِالْقَارِئِ ، وَلَا
يُمْكِنُهُ التَّمَادِي عَلَيْهِ ، فَأَخَذَ بِالْوَسَطِ مِنْ
الْجَهْرِ
الْمُتْعِبِ وَالْإِسْرَارِ الْمُخَافِتِ .
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ فِيهَا
قَوْلًا سَادِسًا ؛ وَهُوَ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك بِالنَّهَارِ وَلَا تُخَافِتْ
بِهَا بِاللَّيْلِ ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا سَنَّهَا اللَّهُ
لِنَبِيِّهِ وَأَوْعَزَ بِهَا إلَيْكُمْ .
سُورَةُ
الْكَهْفِ فِيهَا عِشْرُونَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { إنَّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا } .
قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ : { قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ
الرِّزْقِ } فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ
لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا
لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا
لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ
فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا
عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا
إذًا أَبَدًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى
: { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ } هَذَا
يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ ، وَهُوَ عَقْدُ نِيَابَةٍ أَذِنَ اللَّهُ
فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَقِيَامِ الْمَصْلَحَةِ بِهِ ، إذْ يَعْجَزُ كُلُّ
أَحَدٍ عَنْ تَنَاوُلِ أُمُورِهِ إلَّا بِمَعُونَةٍ مِنْ غَيْرِهِ ، أَوْ
يَتَرَفَّهُ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يُرِيحُهُ ، حَتَّى جَازَ ذَلِكَ فِي
الْعِبَادَاتِ ؛ لُطْفًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ ، وَرِفْقًا بِضَعَفَةِ الْخَلِيقَةِ
، ذَكَرَهَا اللَّهُ كَمَا تَرَوْنَ ، وَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَسْمَعُونَ ، وَهُوَ أَقْوَى آيَةٍ فِي
الْغَرَضِ .
وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي صِحَّةِ
الْوَكَالَةِ مِنْ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
} وَبِقَوْلِهِ : { اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي
يَأْتِ بَصِيرًا } .
وَآيَةُ الْقَمِيصِ ضَعِيفَةٌ ، وَآيَةُ الْعَامِلِينَ
حَسَنَةٌ .
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : {
أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْت لَهُ : إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ ،
فَقَالَ : ائْتِ وَكِيلِي ، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا ، فَإِنْ
ابْتَغَى مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ } .
وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ
عَلَى عَقْدِ نِكَاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ
النَّجَاشِيِّ ، وَوَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ عَلَى نِكَاحِ مَيْمُونَةَ فِي
إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ ، وَوَكَّلَ حَكِيمَ بْنُ حِزَامٍ عَلَى شِرَاءِ شَاةٍ ،
وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ ؛ وَقَدْ
مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، تَحْرِيرُهُ فِي خَمْسَةٍ
وَعِشْرِينَ مِثَالًا : الْأَوَّلُ : الطَّهَارَةُ : وَهِيَ عِبَادَةٌ تَجُوزُ
النِّيَابَةُ فِيهَا فِي صَبِّ الْمَاءِ خَاصَّةً عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ،
وَلَا تَجُوزُ عَلَى عَرْكِهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَضِّئُ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ .
الثَّانِي : النَّجَاسَةُ .
الثَّالِثُ
: الصَّلَاةُ : وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا
بِحَالٍ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّيهَا الْمُكَلَّفُ ،
وَلَوْ بِأَشْفَارِ عَيْنَيْهِ إشَارَةً ، إلَّا فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ .
الرَّابِعُ : الزَّكَاةُ : وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي
أَخْذِهَا وَإِعْطَائِهَا .
الْخَامِسُ :
الصِّيَامُ : وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ بِحَالٍ
، إلَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْلَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْأَوَّلِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
السَّادِسُ الِاعْتِكَافُ وَهُوَ مِثْلُهُ .
السَّابِعُ : الْحَجُّ .
الثَّامِنُ : الْبَيْعُ : وَهِيَ الْمُعَاوَضَةُ
وَأَنْوَاعُهَا .
التَّاسِعُ : الرَّهْنُ .
الْعَاشِرُ :
الْحَجْرُ : يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ الْحَاكِمُ مَنْ
يَحْجُرُ وَيُنَفِّذُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ ، وَالضَّمَانُ
، وَالشَّرِكَةُ ، وَالْإِقْرَارُ ، وَالصُّلْحُ ، وَالْعَارِيَّةُ ؛ فَهَذِهِ
سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا .
وَأَمَّا الْغَصْبُ : فَإِنْ وَكَّلَ فِيهِ كَانَ
الْغَاصِبُ الْوَكِيلَ دُونَ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ فِعْلُهُ لَا
تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الشُّفْعَةُ ، وَالْقَرْضُ ،
وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي اللُّقَطَةِ .
وَأَمَّا قَسْمُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَتَصِحُّ
النِّيَابَةُ فِيهِ .
وَالنِّكَاحُ وَأَحْكَامُهُ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ
، كَالطَّلَاقِ .
وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ لَا وَكَالَةَ فِيهِ .
وَأَمَّا اللِّعَانُ : فَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِيهِ
بِحَالٍ .
وَأَمَّا الظِّهَارُ : فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ
؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ
، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ .
وَالْخِيَانَاتُ : لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهَا
لِهَذِهِ الْعِلَّةِ مِنْ أَنَّهَا بَاطِلٌ وَظُلْمٌ ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ
عَلَى طَلَبِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَائِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ ، وَلَا
وَكَالَةَ فِي الْقَسَامَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ .
وَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الزَّكَاةِ ، وَفِي
الْعِتْقِ وَتَوَابِعِهِ إلَّا فِي الِاسْتِيلَادِ ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةٌ
وَعِشْرُونَ مِثَالًا ، تَكُونُ دُسْتُورًا لِغَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ لَمْ
يَبْقَ بَعْدَهَا إلَّا يَسِيرُ فَرْعٍ لَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ
الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ وَأَكْلِهِ عَلَى الْإِشَاعَةِ .
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالُوهُ
؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ أَعْطَاهُ
وَرِقَهُ مُفْرَدًا ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ اشْتِرَاكٌ ، وَلَا مُعَوِّلَ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا عَلَى حَدِيثَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَأْكُلُونَ تَمْرًا ، فَقَالَ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِقْرَانِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ } .
الثَّانِي : حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَيْشِ
الْخَبَطِ { وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُمْ
وَفَقَدُوا الزَّادَ ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ ،
فَجُمِعَتْ ، فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا } .
وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ ؛ لِأَنَّهُ
كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ يُعْطِيهِمْ كَفَافًا مِنْ
ذَلِكَ الْقُوتِ ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ عَلَيْهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَحَادِيثَ ذَلِكَ وَمَسَائِلَهُ فِي
شَرْحِ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِيهَا
إنَّمَا كَانَتْ مَعَ التَّقِيَّةِ وَخَوْفِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِمْ أَحَدٌ لَمَّا
كَانُوا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ ، وَجَوَازُ تَوْكِيلِ ذِي
الْعُذْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فَأَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ .
وَكَانَ سَحْنُونٌ قَدْ تَلَقَّفَهُ عَنْ أَسَدِ بْنِ
الْفُرَاتِ ، فَحَكَمَ بِهِ أَيَّامَ قَضَائِهِ .
وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الظُّلْمِ
وَالْجَبَرُوتِ ؛ إنْصَافًا مِنْهُمْ ، وَإِرْذَالًا بِهِمْ .
وَهُوَ الْحَقُّ ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مَعُونَةٌ ،
وَلَا تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ
قَائِمٌ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا ،
فَجَازَتْ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ ؛ أَصْلُهُ دَفْعُ الدَّيْنِ .
وَمُعَوِّلُهُمْ عَلَى أَنَّ الْحُقُوقَ تَخْتَلِفُ ،
وَالنَّاسُ فِي الْأَخْلَاقِ يَتَفَاوَتُونَ ، فَرُبَّمَا أَضَرَّ الْوَكِيلُ
بِالْآخَرِ .
قُلْنَا : وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا
فَيَنْظُرُ لِنَفْسِهِ فِيمَنْ يُقَاوِمُ خَصْمَهُ ، وَهَذَا مِمَّا لَا
يَنْضَبِطُ ، فَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ ، وَهُوَ جَوَازُ النِّيَابَةِ فِي
الْإِطْلَاقِ ، وَلِلْوَكَالَةِ مَسَائِلُ يَأْتِي فِي أَبْوَابِهَا ذِكْرُ
فُرُوعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } قِيلَ :
أَرَادَ أَكْثَرَ .
وَقِيلَ :
أَرَادَ أَطْهَرَ ، يَعْنِي أَزْكَى وَأَحَلَّ ، وَلَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَبْعِدَ طَلَبَهُ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ
النَّهَامَةِ ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادًا
فَمَعْنَاهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ رِزْقَهُمْ كَانَ مِنْ عَدَدِهِمْ ، فَاحْتَاجُوا
إلَى وَضْعٍ فِي الْمَطْعُومِ لِيَقُومَ بِهِمْ .
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مِنْ طَلَبِ الطَّهَارَةِ بَيِّنٌ
، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا
إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ
يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ
وَغَيْرُهُ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَللَّهِ
مَا أَرَانَا إلَّا قَدْ أُعْذِرْنَا فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ مِنْ بَنِي
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَصْبَحْت ، ثُمَّ صَنَعَ كَمَا كَانَ
يَصْنَعُ فِي صَلَاتِهِ ، لَقَدْ أَخَذْت صَخْرَةً ، ثُمَّ رَضَخْت رَأْسَهُ
فَاسْتَرَحْنَا مِنْهُ ، فَامْنَعُونِي عِنْدَ ذَلِكَ ، أَوْ أَسْلِمُونِي .
قَالُوا : يَا أَبَا الْحَكَمِ ، وَاَللَّهِ لَا
نُسْلِمُك أَبَدًا .
فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ غَدَا إلَى مُصَلَّاهُ الَّذِي كَانَ
يُصَلِّي فِيهِ ، وَغَدَا أَبُو جَهْلٍ مَعَهُ حَجَرٌ ، وَقُرَيْشٌ فِي
أَنْدِيَتِهِمْ يَنْظُرُونَ مَا يَصْنَعُ ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ بِذَلِكَ الْحَجَرِ
، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا مُنْتَفِعًا لَوْنُهُ ، كَادَتْ
رُوحُهُ تُفَارِقُهُ ، فَقَامَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ سَمِعَ مَا قَالَ
تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، قَالُوا : يَا أَبَا الْحَكَمِ ، مَالَك ؟ فَوَاَللَّهِ
لَقَدْ كُنْت مُجِدًّا فِي أَمْرِك ، ثُمَّ رَجَعْت بِأَسْوَإِ هَيْئَةٍ رَجَعَ
بِهَا رَجُلٌ ، وَمَا رَأَيْنَا دُونَ مُحَمَّدٍ شَيْئًا يَمْنَعُهُ مِنْك .
فَقَالَ : وَيْلَكُمْ ، وَاَللَّهِ لَعَرَضَ دُونَهُ لِي
فَحْلٌ مِنْ الْإِبِلِ ، مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتِهِ وَأَنْيَابِهِ وَقَصَرَتِهِ
لِفَحْلٍ قَطُّ ، يَخْطِرُ دُونَهُ ، لَوْ دَنَوْت لَأَكَلَنِي .
فَلِمَا قَالَهَا أَبُو جَهْلٍ قَامَ النَّضْرُ بْنُ
الْحَارِثِ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَللَّهِ لَقَدْ نَزَلَ
بِسَاحَتِكُمْ أَمْرٌ مَا أَرَاكُمْ اُبْتُلِيتُمْ بِهِ قَبْلَهُ ، قُلْتُمْ
لِمُحَمَّدٍ : شَاعِرٌ ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ .
وَقُلْتُمْ : كَاهِنٌ ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ .
وَقُلْتُمْ
سَاحِرٌ ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ .
وَقُلْتُمْ : مَجْنُونٌ ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ
بِمَجْنُونٍ .
وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ
: أَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا ، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً ، وَخَيْرَكُمْ جِوَارًا ،
حَتَّى بَلَغَ مِنْ السِّنِّ مَا بَلَغَ ، فَأَبْصِرُوا بَصَرَكُمْ ،
وَانْتَبِهُوا لِأَمْرِكُمْ .
فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : هَلْ أَنْتَ يَا نَضْرُ خَارِجٌ إلَى
أَحْبَارِ يَهُودَ بِيَثْرِبَ ، وَنَبْعَثُ مَعَك رَجُلًا ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ
الْكِتَابِ الْأَوَّلِ ، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ نَحْنُ
وَمُحَمَّدٌ فِيهِ ، تَسْأَلُهُمْ ، ثُمَّ تَأْتِينَا عَنْهُمْ بِمَا يَقُولُونَ ؟
قَالَ : نَعَمْ .
فَخَرَجُوا ، وَبَعَثُوا مَعَهُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي
مُعَيْطٍ ، فَقَدِمَا عَلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ ، فَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ ،
وَخِلَافَهُمْ إيَّاهُ ، فَقَالُوا لَهُمَا : سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ ،
نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ : سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوْا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ ،
وَقَدْ كَانَ لَهُمْ خَبَرٌ وَنَبَأٌ ، وَحَدِيثٌ مُعْجِبٌ ، وَأَخْبَرُوهُمْ
خَبَرَهُمْ .
وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ قَدْ بَلَغَ مِنْ
الْبِلَادِ مَا لَمْ يَبْلُغْ غَيْرُهُ مِنْ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا يُقَالُ
لَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ ، وَأَخْبَرُوهُمْ خَبَرَهُ .
وَسَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ مَا هُوَ ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ
بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ فَالرَّجُلُ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
فَالرَّجُلُ كَذَّابٌ ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ .
فَقَدِمَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ عَلَى قُرَيْشٍ مَكَّةُ ،
فَقَالَا : قَدْ أَتَيْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ ،
أَمَرَتْنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ أُمُورٍ ، فَإِنْ
أَخْبَرَنَا بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ، فَاتَّبِعُوهُ ، وَإِنْ عَجَزَ
عَنْهَا فَالرَّجُلُ كَذَّابٌ .
فَمَشَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ؛ أَخْبِرْنَا عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ ،
نَسْأَلُك عَنْهَا ، فَإِنْ أَخْبَرْتنَا عَنْهَا فَأَنْتَ نَبِيٌّ .
أَخْبِرْنَا عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوْا فِي
الزَّمَنِ
الْأَوَّلِ ، كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ مُعْجِبٌ ، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَافٍ بَلَغَ مِنْ
الْبِلَادِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ ، وَعَنْ الرُّوحِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غَدًا أُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ }
وَلَمْ يَسْتَثْنِ ، فَمَكَثَ عَنْهُ جِبْرِيلُ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، مَا
يَأْتِيهِ ، وَلَا يَرَاهُ حَتَّى أَرْجَفَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ ، قَالُوا : إنَّ
مُحَمَّدًا وَعَدَنَا أَنْ يُخْبِرَنَا عَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ غَدًا ،
فَهَذِهِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، فَكَبُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُبْثُ جِبْرِيلُ عَنْهُ ، ثُمَّ جَاءَهُ بِسُورَةِ الْكَهْفِ
، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقَدْ
احْتَبَسْت عَنِّي يَا جِبْرِيلُ حَتَّى سُؤْت ظَنًّا } فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ :
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّك } .
ثُمَّ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ .
فَنَزَلَ فِي أَمْرِ الْفِتْيَةِ : { أَمْ حَسِبْت أَنَّ
أَصْحَابَ الْكَهْفِ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ .
فَقَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْ وَصْفِهِمْ ، وَتَبَيَّنَ
لَهُ خَبَرُهُمْ : { فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا } .
يَقُولُ لَا مُنَازَعَةَ ، وَلَا تَبْلُغْ بِهِمْ فِيهَا
جَهْدَ الْخُصُومَةِ ، وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ، لَا
الْيَهُودُ الَّذِينَ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَسْأَلُوك ، وَلَا الَّذِينَ سَأَلُوا
مِنْ قُرَيْشٍ ، يَقُولُ : قَدْ قَصَصْنَا عَلَيْك خَبَرَهُمْ عَلَى حَقِّهِ
وَصِدْقِهِ .
وَنَزَلَ فِي قَوْلِهِ : أُخْبِرُكُمْ بِهِ غَدًا قَوْله
تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ } فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ أَيُخْبِرُهُمْ
عَمَّا يَسْأَلُونَك عَنْهُ ؟ أَمْ يَتْرُكُهُمْ ؟ { وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت }
الْآيَةَ .
وَجَاءَهُ : { وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوحِ } الْآيَةَ
، وَزَعَمُوا أَنَّهُ نَادَاهُمْ الرُّوحُ جِبْرِيلُ .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَبَلَغَنَا { أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ لَهُ
أَحْبَارُ يَهُودَ : بَلَغَنَا يَا مُحَمَّدُ أَنَّ فِيمَا تَلَوْت
حِينَ سَأَلَك
قَوْمُك عَنْ الرُّوحِ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا ،
فَإِيَّانَا أَرَدْت بِهَا أَمْ قَوْمَك ؟ فَقَالَ : كُلًّا أُرِيدُكُمْ بِهَا } .
قَالُوا : أَوَلَيْسَ فِيمَا تَتْلُو : إنَّا أُوتِينَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ ؟ قَالَ : { بَلَى ، وَالتَّوْرَاةُ فِي
عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ ، وَهِيَ عِنْدَكُمْ كَثِيرٌ مُجْزِئٌ } فَيَذْكُرُونَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلْنَ عِنْدَ ذَلِكَ : { وَلَوْ
أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْيَهُودَ
سَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ بِالْمَدِينَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ .
وَهُوَ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ
ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا تَأْدِيبٌ مِنْ
اللَّهِ لِرَسُولِهِ ، أَمَرَهُ فِيهِ أَنْ يُعَلِّقَ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ إذْ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ وَمِنْ نَفِيسِ اعْتِقَادِهِمْ ( مَا شَاءَ
اللَّهُ كَانَ ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ) لَا جَرَمَ فَلَقَدْ تَأَدَّبَ
نَبِيُّنَا بِأَدَبِ اللَّهِ حِينَ عَلَّقَ الْمَشِيئَةَ بِالْكَائِنِ لَا
مَحَالَةَ ، فَقَالَ يَوْمًا وَقَدْ خَرَجَ إلَى الْمَقْبَرَةِ : { السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ
لَاحِقُونَ } .
وَقَالَ أَيْضًا : { إنِّي وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ
عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ
خَيْرٌ ، وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي
} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَالَهُ
الْمَرْءُ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الِاعْتِقَادِ ، فَهَلْ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً فِي
الْيَمِينِ أَمْ لَا ؟ قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ : يَكُونُ
اسْتِثْنَاءً .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَابْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَالِكٍ .
إنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ
إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } .
إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ
السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ دَلِيلًا ؛ لِأَنَّ رَبْطَ الْمَشِيئَةِ ، وَذِكْرَهَا
قَوْلًا مِنْ الْعَبْدِ لِفِعْلِ الْعَبْدِ ، فَقَالَ لِعَبْدِهِ : لَا تَقُلْ
إنِّي فَاعِلٌ شَيْئًا فِيمَا تَسْتَقْبِلُهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ، تَقْدِيرُهُ
عِنْدَ قَوْمٍ : إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ .
وَتَقْدِيرُهُ عِنْد آخَرِينَ : إلَّا أَنْ تَقُولَ إنْ
شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ ،
وَهَذَا عَزْمٌ مِنْ اللَّهِ لِعَبْدِهِ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ قَوْلًا وَعَقْدًا
فِي مَشِيئَةِ رَبِّهِ ، فَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ؛ وَقَوْلُ
ذَلِكَ أَجْدَرُ فِي
قَضَاءِ
الْأَمْرِ ، وَدَرْكِ الْحَاجَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد
: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً
تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَلَمْ
يَقُلْ ، فَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
فَهَذَا بَيَانُ الثُّنْيَا فِي الْيَمِينِ ، وَأَنَّهَا
حَالَةٌ لِعَقْدِ الْأَيْمَانِ ، وَأَصْلٌ فِي سُقُوطِ سَبَبِ الْكَفَّارَةِ
عَنْهَا ، وَإِنَّمَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ عِنْدَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ
يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت } .
وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ : مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي
الْأَيْمَانِ ، مَتَى ذَكَرْتَ ، وَلَوْ إلَى سَنَةٍ ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ
أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالْحَسَنُ
.
الثَّانِي : قَالَ عِكْرِمَةُ : مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ
رَبَّك إذَا غَضِبْت .
الثَّالِثُ :
أَنَّ مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت
بِالِاسْتِثْنَاءِ ، فَيَرْفَعُ عَنْهُ ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ الْحَرَجَ ،
وَتَبْقَى الْكَفَّارَةُ .
وَإِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا انْتَفَى
الْحَرَجُ وَالْكَفَّارَةُ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك
إذَا نَسِيت بِالِاسْتِثْنَاءِ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِنِّي
وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا
أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا
غَضِبْتَ بِالْغَيْنِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ فَمَعْنَاهُ التَّثَبُّتُ
عِنْدَ الْغَضَبِ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ عَجَلَةٍ ، وَمَزَلَّةُ قَدَمٍ ، وَالْمَرْءُ
يُؤَاخَذُ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ فَمُهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَمَنْ رَوَاهُ بِالْعَيْنِ وَالصَّادِ
الْمُهْمَلَتَيْنِ
فَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ
أُمَّتُهُ ، لِاسْتِحَالَةِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ شَرْعًا
بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ الصَّادِقِ فِي تَنْزِيهِهِمْ عَنْهَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك
بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ لِيَرْتَفِعَ عَنْك الْحَرَجُ دُونَ
الْكَفَّارَةِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ
إرَادَةُ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَرْفَعُ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ بِاَللَّهِ
تَعَالَى وَهِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَدَتْ فِي الْيَمِينِ بِهِ خَاصَّةً لَا
تَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ فَقَالُوا : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ نَافِعٌ فِي كُلِّ
يَمِينٍ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ تَنْعَقِدُ مُطْلَقَةً ، فَإِذَا
قَرَنَ بِهَا ذِكْرَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا
انْعِقَادَهَا ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ .
وَمُعَوِّلُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ إنَّمَا تُعْلَمُ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَكُونُ إلَّا مَا يَشَاءُ ، فَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ،
أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَقَدْ كَانَ
الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الْمَشِيئَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ عَلَامَةٌ
عَلَيْهَا ، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي }
الْآيَةَ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَمْرٌ قِيلَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى التَّبَرُّكِ أَوْ التَّأْدِيبِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ
رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ مِيعَادِكُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ قُرْبٍ ، وَقَدْ فَاتَ الْأَجَلُ
؟ قُلْنَا : الْقُرْبُ هُوَ مَا أَرَادَ اللَّهُ وَقْتَهُ وَإِنْ بَعُدَ ،
وَالْبُعْدُ مَا لَمْ يُرِدْ اللَّهُ وَقْتَهُ وَإِنْ قَرُبَ الثَّالِثُ :
الْمَعْنَى إنَّكُمْ طَلَبْتُمْ مِنِّي آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى نُبُوَّتِي ،
فَأَخْبَرْتُكُمْ ، فَلَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي ، فَعَسَى أَنْ يُعْطِيَنِي اللَّهُ
مَا هُوَ أَقْرَبُ لِإِجَابَتِكُمْ مِمَّا سَأَلْتُمْ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَالَ قَوْمٌ : أَيُّ فَائِدَةٍ لِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ
حَقِيقٌ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ ، وَكُلُّ أَحَدٍ
قَدْ عَلِمَ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ .
قُلْنَا
: عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ
تَعَبُّدٌ مِنْ اللَّهِ ، فَامْتِثَالُهُ وَاجِبٌ ، لِالْتِزَامِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ، وَانْقِيَادِهِ إلَيْهِ ، وَمُوَاظَبَتِهِ
عَلَيْهِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَرْءَ قَدْ اشْتَمَلَ عَقْدُهُ
عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ مَا وَعَدَ بِفِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ
وَاتَّصَلَ بِكَلَامِهِ فِي ضَمِيرِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِلَ ذَلِكَ مِنْ
قَوْلِهِ فِي كَلَامِهِ بِلِسَانِهِ ، حَتَّى يَنْتَظِمَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ
عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ شِعَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ ،
فَتَعَيَّنَ الْإِجْهَارُ بِهِ ، لِيُمَيَّزَ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ .
الرَّابِعُ :
أَنَّ فِيهِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا يَطْرَأُ فِي
الْعَوَاقِبِ بِدَفْعٍ أَوْ تَأَتٍّ ، وَرَفْعَ الْإِيهَامِ الْمُتَوَقَّعِ
بِقَطْعِ الْعَقْلِ الْمُطْلَقِ فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ .
وَهَذِهِ كَانَتْ فَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ دَخَلَتْ
فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ رُخْصَةً ، وَبَقِيَتْ سَائِرُ الِالْتِزَامَاتِ عَلَى
الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ
: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَهُوَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ .
وَلَوْ قَالَهَا فِي الطَّلَاقِ لَمْ تَلْزَمْ ؛
لِأَنَّهُ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ
يَرْفَعُ الْعَقْدَ الْمُلْتَزَمَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَالطَّلَاقِ
فَلْيَرْفَعْهُ فِي الْعِتْقِ ، وَإِنْ كَانَتْ رُخْصَةً فِي الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهَا فَلَا يُقَاسُ عَلَى الرُّخَصِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ حُجْزَةٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالْبِدْعَةِ
وَالسُّنَّةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَدَّبَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِرَبْطِ الْأُمُورِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ، تَقَدَّسَ تَعَالَى ، وَأَجْمَعَتْ
الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ
: وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَجَاءَ الْغَدُ
وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ ، وَلَا
يَلْحَقُهُ فِيهِ كَذِبٌ ، وَالتَّأْخِيرُ مَعْصِيَةٌ مِنْ الْغَنِيِّ الْقَادِرِ
، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَشَأْ التَّأْخِيرَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، وَهُوَ
لَا يَشَاءُ الْمَعَاصِيَ ، كَمَا يَقُولُونَ ، إذَنْ كَانَ يَكُونُ الْحَالِفُ
كَاذِبًا حَانِثًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك
إنْ عِشْت غَدًا ، فَعَاشَ فَلَمْ يُعْطِهِ كَانَ حَانِثًا كَاذِبًا .
وَعِنْدَ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ أَنَّ
مَشِيئَةَ اللَّهِ لِإِعْطَاءِ هَذَا الْحَالِفِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ
أَمْرُهُ ، وَقَدْ عُلِمَ حُصُولُ أَمْرِهِ بِذَلِكَ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ
اسْتِثْنَاءُ الْحَالِفِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْلُومِ حُصُولُهُ
بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَاءِ الْحَالِفِ بِكُلِّ مَعْلُومٍ حُصُولُهُ ، وَكَمَا لَوْ
قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك إنْ أَمَرَنِي اللَّهُ غَدًا بِذَلِكَ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، بَيْدَ أَنَّ أَهْلَ
الْبَصْرَةِ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَرَادَ إعْطَاءَ حَقِّ هَذَا إرَادَةً
مُتَقَدِّمَةً لِلْأَمْرِ بِهِ ، وَبِذَلِكَ صَارَ الْأَمْرُ أَمْرًا ، وَهِيَ
مُتَجَدِّدَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَالْحَالِفُ كَاذِبٌ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ
، حَانِثٌ .
وَقَدْ زَعَمَ الْبَغْدَادِيُّونَ أَنَّ مَشِيئَةَ
اللَّهِ هِيَ تَقِيَّةُ الْعَبْدِ إلَى غَدٍ وَتَأْخِيرُهُ لَهُ ، وَرَفْعُ
الْعَوَائِقِ عَنْهُ .
وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَوَجَبَ إذَا أَصْبَحَ
الْحَالِفُ حَيًّا بَاقِيًا سَالِمًا مِنْ الْعَوَائِقِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا
حَانِثًا إذَا لَمْ يُعْطِهِ حَقَّهُ
.
وَقَدْ قَالُوا : إنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحِنْثُ
إذَا قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛
رُخْصَةً
مِنْ الشَّرْعِ .
قُلْنَا :
حَكَمَ الشَّرْعُ بِسُقُوطِ الْحَرَجِ وَالْحِنْثِ
عَنْهُ إذَا قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَبَقَائِهِ عَلَيْهِ إذَا قَالَ : إنْ
أَبْقَانِي اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ مَعْنًى ، كَمَا
هُوَ بَيِّنٌ لَفْظًا ؛ إذْ لَوْ كَانَ مَعْنًى وَاحِدًا لَمَا اخْتَلَفَ
الْحُكْمُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ إلْجَائِي إلَيْهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ
أَلْجَأَهُ إلَيْهِ لَمْ يُتَصَوَّرْ التَّكْلِيفُ فِيهِ بِالْإِلْزَامِ ؛ لِأَنَّ
الْإِكْرَاهَ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ عِنْدَهُمْ مُحَالٌ ،
فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ بِحَالٍ
.
وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بِأَعَمَّ
مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
: قَوْلُهُ : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا
تِسْعًا قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا
يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَالَ مَالِكٌ : الْكَهْفُ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّومِ .
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ
غَزْوَةَ الْمَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ ، فَمَرَرْنَا بِالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ
أَصْحَابُ الْكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
بِطُولِهِ .
وَاسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ بنجلوس .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : الْكَهْفُ الْغَارُ فِي الْوَادِي
، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَقَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْكَهْفَ فِي نَاحِيَةِ الشَّامِ
عَلَى قُرْبٍ مِنْ وَادِي مُوسَى ، يَنْزِلُهُ الْحُجَّاجُ إذَا سَارُوا إلَى
مَكَّةَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ : " أَمْ حَسِبْت
أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ " .
ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ بَابَ " حَدِيثُ الْغَارِ
" وَذَكَرَ عَلَيْهِ خَبَرَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَاهُمْ الْمَطَرُ إلَى
غَارٍ ، وَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالُوا : " { وَاَللَّهِ لَا
يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْلِهِ : { قُلْ اللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } هِيَ الْحُجَّةُ : لِأَنَّ قَوْلَهُ : { وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ } مِنْ كَلَامِهِمْ
.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا قَبْلُ سُكْنَى الْجِبَالِ
وَدُخُولَ الْغِيرَانِ لِلْعُزْلَةِ عَنْ الْخَلْقِ وَالِانْفِرَادِ بِالْخَالِقِ
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِيهِ جَوَازُ الْفِرَارِ مِنْ الظَّالِمِ : وَهِيَ سُنَّةُ
الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَحِكْمَةُ اللَّهِ فِي الْخَلِيقَةِ .
وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ
لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ إنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْك مَالًا وَوَلَدًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الذِّكْرُ
مَشْرُوعٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى النَّدْبِ ، وَقَدْ رَوَى
التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ كُلَّ أَحْيَانِهِ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الصَّحِيحِ : { لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ : بِسْمِ
اللَّهِ ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتنَا
، فَقُضِيَ بَيْنَهَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا } .
وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ
فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ إذَا دَخَلَ أَحَدُنَا مَنْزِلَهُ أَوْ مَسْجِدَهُ ، وَهِيَ
: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ اللَّهُ : { وَلَوْلَا
إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } أَيْ مَنْزِلَك قُلْت : { مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ
إلَّا بِاَللَّهِ } .
قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ : يَنْبَغِي لِكُلِّ
مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ لِي حَفْصُ بْنُ
مَيْسَرَةَ : رَأَيْت عَلَى بَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَكْتُوبًا { مَا شَاءَ
اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ
} .
وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ قَالَ أَرْبَعًا أَمِنَ مِنْ أَرْبَعٍ
، مَنْ قَالَ هَذِهِ أَمِنَ مِنْ هَذَا ، وَمَنْ قَالَ : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ أَمِنَ مِنْ كَيْدِ النَّاسِ لَهُ قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ
لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } .
وَمَنْ قَالَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ أَمَّنَهُ
اللَّهُ مِنْ الْمَكْرِ .
قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْعَبْدِ الصَّالِحِ
أَنَّهُ قَالَ : { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ
سُوءُ الْعَذَابِ } .
وَمَنْ قَالَ : { لَا إلَهَ
إلَّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } ، أَمِنَ مِنْ الْغَمِّ ، وَقَدْ
قَالَ قَوْمٌ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ فَأَصَابَهُ
شَيْءٌ إلَّا رَضِيَ بِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
قَوْله تَعَالَى : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ
بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مَا عَدَا اللَّهَ
وَصِفَاتِهِ الْعُلَا لَهُ أَوَّلٌ ، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مَا عَدَا نَعِيمَ
أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ لَهُ آخِرٌ ، وَكُلُّ مَا لَا آخِرَ
لَهُ فَهُوَ الْبَاقِي حَقِيقَةً
.
وَلَكِنَّ الْبَاقِيَ بِالْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ هُوَ
اللَّهُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ .
فَأَمَّا نَعِيمُ الْجَنَّةِ فَأُصُولٌ مُذْ خُلِقَتْ
لَمْ تَفْنَ وَلَا تَفْنَى بِخَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَفُرُوعٌ وَهِيَ
النِّعَمُ ، هِيَ أَعْرَاضٌ إنَّمَا تُوصَفُ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ
أَمْثَالَهَا يَتَجَدَّدُ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ
وَغَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلُ فِي
سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ
جُلُودًا غَيْرَهَا } فَهَذَا فَنَاءٌ وَتَجْدِيدٌ ، فَيَجْعَلُهُ بَقَاءً
مَجَازًا بِالْإِضَافَةِ إلَى غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَفْنَى فَلَا يَعُودُ ،
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَهِيَ
: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَالْأَعْمَالُ الَّتِي
تَصْدُرُ عَنْ الْخَلْقِ مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ لَا بَقَاءَ لَهَا ، وَلَا
تَجَدُّدَ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ ، فَهِيَ بَاقِيَاتٌ صَالِحَاتٌ وَطَالِحَاتٌ
، حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْأَعْمَالُ
أَسْبَابًا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَكَانَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ
دَائِمَيْنِ لَا يَنْقَطِعَانِ ، وَبَاقِيَيْنِ لَا يَفْنَيَانِ ، كَمَا
قَدَّمْنَا بَيَانَهُ ، وُصِفَتْ الْأَعْمَالُ بِالْبَقَاءِ ، حَمْلًا مَجَازِيًّا
عَلَيْهَا ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهِ تَسْمِيَةِ
الْمَجَازِ .
وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِسَبَبِهِ
الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ ، أَوْ تَسْمِيَتُهُ بِفَائِدَتِهِ
الْمَقْصُودَةِ
بِهِ ، فَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَنَبَّهَ
عَلَى أَنَّهَا خَيْرُ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ ، وَعَمَلٍ وَحَالٍ
فِي الْمَآلِ ، فَقَالَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّك ثَوَابًا مِنْ الْمَالِ وَالْبَنِينَ ،
وَخَيْرٌ أَمَلًا فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ إرَادَتَهُ ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ ، وَهِيَ
: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ بِهَذَا الْعُمُومِ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ
كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَهُوَ الَّذِي وَعَدَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ ، إلَّا
أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ عَيَّنُوا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا ، وَرَوَوْا فِيهِ
أَحَادِيثَ ، وَاخْتَارُوا مِنْ ذَلِكَ أَنْوَاعًا يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا ،
وَيَطُولُ إيرَادُهَا ، أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ : رَوَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ ، { أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ قَوْلُ الْعَبْدِ :
اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } .
الثَّانِي : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ مِثْلَهُ .
الثَّالِثُ : مِثْلُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ ؛ وَبِهِ أَقُولُ ، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ ، وَلَيْسَ فِي
الْبَابِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، أَمَّا أَنَّ فَضْلَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ
وَالْحَوْقَلَةِ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ كَثِيرٌ ، وَلَا مِثْلَ لِلصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ فِي ذَلِكَ بِحِسَابٍ وَلَا تَقْدِيرٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ
مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } .
وَهِيَ آيَةٌ سَيَرْتَبِطُ بِهَا غَيْرُهَا ؛ لِأَنَّهُ
حَدِيثُ الْخَضِرِ كُلُّهُ ، وَذَلِكَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَرْدِ الْحَدِيثِ ،
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ بِغَايَةِ الْإِيعَابِ ،
وَشَرَحْنَا مَسَائِلَهُ ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَنَحْنُ
الْآنَ هَاهُنَا لَا نَعْدُو مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَاتِ عَلَى التَّقْرِيبِ
الْمُوجِزِ الْمُوعِبِ فِيهَا بِعَوْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ .
فَأَمَّا حَدِيثُهُ فَهُوَ مَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ
وَغَيْرُهُ ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ
مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَيْسَ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ ، فَقَالَ :
كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ ، سَمِعْت أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فِي بَنِي
إسْرَائِيلَ ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ فَقَالَ : أَنَا أَعْلَمُ .
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، إذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ
إلَيْهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ
الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْك
.
قَالَ مُوسَى : أَيْ رَبِّ ، فَكَيْفَ لِي بِهِ ؟
فَقَالَ لَهُ : احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ ، فَحَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ فَثَمَّ
هُوَ ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ ، فَجَعَلَ مُوسَى حُوتًا
فِي مِكْتَلٍ ، فَانْطَلَقَ وَفَتَاهُ يَمْشِيَانِ حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ ،
فَرَقَدَ مُوسَى وَفَتَاهُ ، فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ
الْمِكْتَلِ ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ قَالَ : وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ
الْمَاءِ ، حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطَّاقِ ، وَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا ،
وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا
وَلَيْلَتِهِمَا ، وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَى أَنْ يُخْبِرَهُ .
فَلَمَّا أَصْبَحَ مُوسَى قَالَ لِفَتَاهُ : {
آتِنَا
غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } .
قَالَ : وَلَمْ يَنْصَبْ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ
الَّذِي أُمِرَ بِهِ .
قَالَ :
{ قَالَ أَرَأَيْتَ إذْ أَوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ
فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا
} .
قَالَ : فَكَانَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا .
قَالَ سُفْيَانُ : يَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ تِلْكَ
الصَّخْرَةَ عِنْدَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ ، وَلَا يُصِيبُ مَاؤُهَا مَيِّتًا إلَّا
عَاشَ .
قَالَ : وَكَانَ الْحُوتُ قَدْ أَكَلَ مِنْهُ ، فَلَمَّا
قَطَرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ عَاشَ
.
قَالَ :
فَقَصَّا آثَارَهُمَا حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ ،
فَرَأَى رَجُلًا مُسَجًّى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ :
إنِّي بِأَرْضِك السَّلَامِ ؟ قَالَ : أَنَا مُوسَى .
قَالَ : مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ
قَالَ : يَا مُوسَى ، إنَّك عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ لَا
أَعْلَمُهُ ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا
تَعْلَمُهُ .
فَقَالَ مُوسَى : { أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي
مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا } .
قَالَ لَهُ الْخَضِرُ : { فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلَا
تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَك مِنْهُ ذِكْرًا } قَالَ : نَعَمْ .
فَانْطَلَقَ الْخَضِرُ وَمُوسَى يَمْشِيَانِ عَلَى
سَاحِلِ الْبَحْرِ ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ ، فَكَلَّمَاهُمْ أَنْ
يَحْمِلُوهُمَا ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ ، فَحَمَلُوهَا بِغَيْرِ نَوْلٍ ، فَعَمَدَ
الْخَضِرُ إلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ ، فَقَالَ لَهُ
مُوسَى .
قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْت إلَى
سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ، لَقَدْ جِئْت شَيْئًا إمْرًا .
قَالَ :
{ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } .
ثُمَّ خَرَجَا مِنْ السَّفِينَةِ ، فَبَيْنَمَا هُمَا
يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إذَا بِغُلَامٍ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ ،
فَأَخَذَ
الْخَضِرُ
بِرَأْسِهِ ، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ ، فَقَتَلَهُ .
قَالَ لَهُ مُوسَى : { أَقَتَلْت نَفْسًا زَكِيَّةً
بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إنَّكَ
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا
} .
قَالَ : وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنْ الْأُولَى : { إنْ سَأَلْتُكَ
عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا
فَانْطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا
فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ
فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاِتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا
فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ
عَلَيْهِ صَبْرًا } .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا أَنَّهُ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ
عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا } قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْأُولَى كَانَتْ مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا .
قَالَ
: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ
، ثُمَّ نَقَرَ فِي الْبَحْرِ ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ : مَا عِلْمِي وَعِلْمُك
فِي عِلْمِ اللَّهِ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ
الْبَحْرِ .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يَقْرَأُ : وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ
غَصْبًا .
وَكَانَ يَقْرَأُ : وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ
كَافِرًا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ أُبَيٌّ : قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ
الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا } .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ ؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ
عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ
مُوسَى لِفَتَاهُ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ يَخْدُمُهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ وَهُوَ يُوشَعُ
بْنُ نُونِ بْنِ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ .
وَإِنَّمَا سَمَّاهُ
فَتَاهُ ؛
لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْفَتَى ، وَهُوَ الْعَبْدُ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ
اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } وَقَالَ : { تُرَاوِدُ فَتَاهَا } وَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي ،
وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي
} .
فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَبْدٌ .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ .
وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَا يُقْطَعُ بِهِ ، فَالْوَقْفُ
فِيهِ أَسْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَقَدْ رَحَلَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِ وَأُذِنَ لَهُمْ فِي التَّرَحُّلِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَضْلًا عَنْ الدِّينِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ : { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ
بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } .
جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النِّسْيَانَ سَبَبًا
لِلزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسِيرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ
كَتَبَ لَهُ لِقَاءَهُ ، وَكَتَبَ الزِّيَادَةَ فِي السَّيْرِ عَلَى مَوْضِعِ
اللِّقَاءِ ، فَنَفَذَ الْكُلُّ ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ فِي مَعَانِي الدِّينِ ، وَهُوَ
عَفْوٌ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ مِنْ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ : قَوْله تَعَالَى : { قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا } بَيَّنَ ذَلِكَ جَوَازَ الِاسْتِخْدَامِ لِلْأَصْحَابِ أَوْ الْعَبِيدِ فِي أُمُورِ الْمَعَاشِ وَحَاجَةِ الْمَنَافِعِ ، لِفَضْلِ الْمَنْزِلَةِ ، أَوْ لِحَقِّ السَّيِّدِيَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ مِنْ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أَنْسَانِيهِ
إلَّا الشَّيْطَانُ } : نَسِيَهُ يُوشَعُ ، وَنَسِيَهُ أَيْضًا مُوسَى ،
وَنِسْبَةُ الْفَتَى نِسْيَانَهُ إلَى الشَّيْطَانِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ
مِنْهُ .
وَلَا يُنْسَبُ نِسْيَانُ الْأَنْبِيَاءِ إلَى
الشَّيْطَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا نِسْيَانُهُمْ
أُسْوَةٌ لِلْخَلْقِ وَسُنَّةٌ فِيهِمْ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَصَارَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ مِثْلَ الطَّاقِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِمُوسَى ، وَلَوْلَاهُ مَا عَلِمَ أَيْنَ فَقَدَ الْحُوتَ ، وَلَا وَجَدَ إلَى لِقَاءِ الْمَطْلُوبِ سَبِيلًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مِنْ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ } : وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ تَبَعٌ لِلْعَالِمِ ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ الْمَرَاتِبُ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّك
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا } .
حَكَمَ عَلَيْهِ بِعَادَةِ الْخَلْقِ فِي عَدَمِ
الصَّبْرِ عَمَّا يَخْرُجُ مِنْ الِاعْتِيَادِ ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْحُكْمِ
بِالْعَادَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ
اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَك أَمْرًا } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ :
اسْتَثْنَى فِي التَّصَبُّرِ ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ ،
فَلَا جَرَمَ وَجَّهَ مَا اسْتَثْنَى فِيهِ ، فَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ
السَّفِينَةَ أَوْ يَقْتُلَ الْغُلَامَ لَمْ يَقْبِضْ يَدَهُ ، وَلَا نَازَعَهُ ،
وَخَالَفَهُ فِي الْأَمْرِ ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ ، وَسَأَلَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : {
لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } .
ذَكَرَ أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ
؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ
التَّكْلِيفِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي طَلَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : {
إنْ سَأَلْتُك عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي } .
فَهَذَا شَرْطٌ ، وَهُوَ لَازِمٌ ، وَالْمُسْلِمُونَ
عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا الْتَزَمَهُ
الْأَنْبِيَاءُ ، أَوْ اُلْتُزِمَ لِلْأَنْبِيَاءِ ، فَهَذَا أَصْلٌ مِنْ
الْقَوْلِ بِالشُّرُوطِ وَارْتِبَاطِ الْأَحْكَامِ بِهَا ، وَهُوَ يُسْتَدَلُّ
بِهِ فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { قَدْ بَلَغْتَ
مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا } هَذَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الِاعْتِذَارِ بِالْمَرَّةِ
الْوَاحِدَةِ مُطْلَقًا ، وَبِقِيَامِ الْحُجَّةِ مِنْ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ
بِالْقَطْعِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : صَبَرَ مُوسَى
عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَهُ الْقَتْلَ ، وَلَمْ يَغْتَرَّ لَمَّا
كَانَ أَعْلَمَهُ مِنْ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَلَوْ لَا
ذَلِكَ مَا صَبَرَ عَلَى حَالٍ ظَاهِرُهَا الْمُحَالُ ، وَكَانَ هُوَ أَعْلَمُ
بِبَاطِنِهَا فِي الْمَآلِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : {
فَانْطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } .
وَصَلَا إلَى الْقَرْيَةِ مُحْتَاجَيْنِ إلَى الطَّعَامِ
، فَعَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً ، فَأَبَوْا عَنْ
قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، وَهَذَا سُؤَالٌ ، وَهُوَ عَلَى مَرَاتِبَ فِي
الشَّرْعِ ، وَمَنَازِلَ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ .
وَهَذَا السُّؤَالُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ هُوَ
سُؤَالُ الضِّيَافَةِ ، وَهِيَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ ،
وَسُؤَالُهَا جَائِزٌ ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِقَوْمٍ فَاسْتَضَافُوهُمْ ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ ،
فَلُدِغَ سَيِّدُهُمْ ، فَسَأَلُوهُمْ : هَلْ مِنْ رَاقٍ ، فَجَعَلُوهُمْ عَلَى
قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ .
.
الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ .
وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَجَوَّزَ الْكُلَّ ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى حِينَ سَقَى لِبِنْتَيْ
شُعَيْبٍ أَجْوَعَ مِنْهُ حِينَ أَتَى الْقَرْيَةَ مَعَ الْخَضِرِ ، وَلَمْ
يَسْأَلْ قُوتًا ؛ بَلْ سَقَى ابْتِدَاءً ، وَفِي الْقَرْيَةِ سَأَلَا الْقُوتَ ،
وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ انْفِصَالَاتٌ كَثِيرَةٌ ، مِنْهَا أَنَّ مُوسَى كَانَ
فِي حَدِيثِ مَدْيَنَ مُنْفَرِدًا ، وَفِي قِصَّةِ الْقَرْيَةِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ .
وَقِيلَ : كَانَ هَذَا سَفَرَ تَأْدِيبٍ فَوُكِلَ إلَى تَكْلِيفِ
الْمَشَقَّةِ ، وَكَانَ ذَلِكَ سَفَرَ هِجْرَةٍ فَوُكِلَ إلَى الْعَوْنِ
وَالْقُوَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : {
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْت
أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } .
فَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ
الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ ، وَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْمٌ حَتَّى قَرَءُوهَا لِمَسَّاكِينَ
بِتَشْدِيدِ السِّينِ مِنْ الِاسْتِمْسَاكِ ، وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ؛
فَإِنَّهُ إنَّمَا نَسَبَهُمْ إلَى الْمَسْكَنَةِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ ،
بَلْ عَدَمِهَا فِي الْبَحْرِ ، وَافْتِقَارِ الْعَبْدِ إلَى الْمَوْلَى كَسْبًا
وَخَلْقًا .
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ الْحَوْلَ
وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّك أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } .
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرْجًا عَلَى أَنْ
تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ : الْخَرْجُ : الْجَزَاءُ
وَالْأُجْرَةُ ، وَكَانَ مَلِكًا يَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ ، وَيَقُومُ
بِمَصَالِحِهِمْ ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ جَزَاءً فِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مَا
يَجِدُونَهُ مِنْ عَادِيَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَعَلَى الْمَلِكِ فَرْضُ
أَنْ يَقُومَ بِحِمَايَةِ الْخَلْقِ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهِمْ ، وَسَدِّ فُرْجَتِهِمْ
، وَإِصْلَاحِ ثَغْرِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي تَفِيءُ عَلَيْهِمْ ،
وَحُقُوقِهِمْ الَّتِي يَجْمَعُهَا خَزَنَتُهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَنَظَرِهِ ،
حَتَّى لَوْ أَكْلَتهَا الْحُقُوقُ ، وَأَنْفَدَتْهَا الْمُؤَنُ ، وَاسْتَوْفَتْهَا
الْعَوَارِضُ ، لَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَعَلَيْهِ
حُسْنُ النَّظَرِ لَهُمْ ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : الْأَوَّلُ : أَلَّا
يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ عَلَيْهِمْ
.
الثَّانِي : أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ
فَيُعِينُهُمْ .
الثَّالِثُ :
أَنْ يُسَوِّيَ فِي الْعَطَاءِ بَيْنَهُمْ عَلَى
مِقْدَارِ مَنَازِلِهِمْ ، فَإِذَا فَنِيَتْ بَعْدَ هَذَا ذَخَائِرُ الْخِزَانَةِ وَبَقِيَتْ
صِفْرًا فَأَطْلَعَتْ الْحَوَادِثُ أَمْرًا بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ
أَمْوَالِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فَأَمْوَالُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ
عَلَى تَقْدِيرٍ ، وَتُصْرَفُ بِأَحْسَنِ تَدْبِيرٍ .
فَهَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ
الْمَالَ قَالَ : لَسْت أَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا أَحْتَاجُ إلَيْكُمْ
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ، أَيْ اخْدِمُوا بِأَنْفُسِكُمْ مَعِي ، فَإِنَّ
الْأَمْوَالَ عِنْدِي وَالرِّجَالَ عِنْدَكُمْ ؛ وَرَأَى أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا
تُغْنِي دُونَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَخَذُوهَا أُجْرَةً نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ ، فَكَانَ التَّطَوُّعُ
بِخِدْمَةِ الْأَبْدَانِ أَوْلَى
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْفَيْءِ
وَالْخَرَاجِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا ،
وَهَذَا
الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَتَمَامُهُ هُنَالِكَ .
وَضَبْطُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ
مَالِ أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَعْرِضُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْمَالُ جَهْرًا لَا
سِرًّا ، وَيُنْفَقُ بِالْعَدْلِ لَا بِالِاسْتِئْثَارِ ، وَبِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ
لَا بِالِاسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ
.
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ
عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ
أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ : أَجَابَ اللَّهُ عَمَّا وَقَعَ
التَّقْرِيرُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَزْنًا } .
لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ ، وَأَلْحَقُوا بِهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ
مِمَّنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ ، وَيَرْجِعُونَ فِي الْجُمْلَةِ إلَى ثَلَاثَةِ
أَصْنَافٍ : الصِّنْفُ الْأَوَّلُ
: الْكُفَّارُ بِاَللَّهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ،
وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَالتَّكْلِيفِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ زَيَّنَ لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ ، إنْفَاذًا لِمَشِيئَتِهِ ، وَحُكْمًا بِقَضَائِهِ ، وَتَصْدِيقًا لِكَلَامِهِ .
الصِّنْفُ الثَّانِي : أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الدَّلِيلِ
الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } كَأَهْلِ حَرُورَاءَ وَالنَّهْرَوَانِ ، وَمَنْ عَمَل بِعَمَلِهِمْ
الْيَوْمَ ، وَشَغَبَ الْآنَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَشْغِيبَ أُولَئِكَ حِينَئِذٍ
، فَهُمْ مِثْلُهُمْ وَشَرٌّ مِنْهُمْ
.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمًا ، وَهُوَ عَلَى
الْمِنْبَرِ : لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا
أَخْبَرْته ، فَقَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا
سَأَلَ عَنْهُ صُبَيْغُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ : مَا الذَّارِيَاتُ
ذَرْوًا ؟ قَالَ عَلِيٌّ : الرِّيَاحُ
.
قَالَ : مَا الْحَامِلَاتُ وِقْرًا ؟ قَالَ : السَّحَابُ .
قَالَ : فَمَا الْجَارِيَاتُ يُسْرًا ؟ قَالَ :
السُّفُنُ .
قَالَ : فَمَا الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا ؟ قَالَ :
الْمَلَائِكَةُ .
قَالَ : فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا } قَالَ : ارْقَ إلَيَّ أُخْبِرْك .
قَالَ : فَرَقَى إلَيْهِ دَرَجَتَيْنِ قَالَ :
فَتَنَاوَلَهُ
بِعَصًا
كَانَتْ بِيَدِهِ ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا .
ثُمَّ قَالَ : أَنْتَ وَأَصْحَابُك .
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ
الْمُتَأَوِّلِينَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا نُبْذَةً مِنْهُ ، وَتَمَامُهَا فِي
كُتُبِ الْأُصُولِ .
الصِّنْفُ الثَّالِثُ : الَّذِينَ أَفْسَدُوا
أَعْمَالَهُمْ بِالرِّيَاءِ وَضَيَّعُوا أَحْوَالَهُمْ بِالْإِعْجَابِ ، وَقَدْ
أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ ، وَيَلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ
الْأَصْنَافِ كَثِيرٌ ، وَهُمْ الَّذِينَ أَفْنَوْا زَمَانَهُمْ النَّفِيسَ فِي
طَلَبِ الْخَسِيسِ .
كَانَ شَيْخُنَا الطُّوسِيُّ الْأَكْبَرُ يَقُولُ : لَا يَذْهَبُ
بِكُمْ الزَّمَانُ فِي مُصَاوَلَةِ الْأَقْرَانِ وَمُوَاصَلَةِ الْإِخْوَانِ .
وَقَدْ خَتَمَ الْبَارِي الْبَيَانَ ، وَخَتَمَ الْبُرْهَانَ
بِقَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا
إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ
عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } .
سُورَةُ
مَرْيَمَ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ : الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { ذِكْرُ
رَحْمَةِ رَبِّك عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا
يُنَاسِبُ قَوْلَهُ : { اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } .
وَقَدْ رَوَى سَعْدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ ، وَخَيْرُ
الرِّزْقِ مَا يَكْفِي } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ ، فَأَمَّا
دُعَاءُ زَكَرِيَّا فَإِنَّمَا كَانَ خَفِيًّا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
: لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ لَيْلًا .
وَالثَّانِي :
لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي دُعَائِهِ أَحْوَالًا تَفْتَقِرُ
إلَى الْإِخْفَاءِ ، كَقَوْلِهِ : وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي .
وَهَذَا مِمَّا يُكْتَمُ وَلَا يُجْهَرُ بِهِ ، وَقَدْ
أَسَرَّ مَالِكٌ الْقُنُوتَ ، وَجَهَرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ
؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِهِ
جَهْرًا حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ
امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ
بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةَ مَعَانٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
وَالْحَدِيثِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الْوَارِثُ ، وَابْنُ
الْعَمِّ .
وَلَمْ يَخَفْ زَكَرِيَّا إرْثَ الْمَالِ ، وَلَا
رَجَاهُ مِنْ الْوَلَدِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ إرْثَ النُّبُوَّةِ ، وَعَلَيْهَا
خَافَ أَنْ تَخْرُجَ عَنْ عَقِبِهِ ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا
تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ } .
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : { إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ
يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا } .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَجَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ
فِي الْوَلَدِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ دَعَاهُ لِإِظْهَارِ دِينِهِ ،
وَإِحْيَاءِ نُبُوَّتِهِ ، وَمُضَاعَفَةِ أَجْرِهِ ، فِي وَلَدٍ صَالِحٍ نَبِيٍّ بَعْدَهُ
، وَلَمْ يَسْأَلْهُ لِلدُّنْيَا
.
الثَّانِي : لِأَنَّ رَبَّهُ كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ
الْإِجَابَةَ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ
شَقِيًّا } .
وَهَذِهِ وَسِيلَةٌ حَسَنَةٌ أَنْ يَتَشَفَّعَ إلَيْهِ
بِنِعَمِهِ ، وَيَسْتَدِرَّ فَضْلَهُ بِفَضْلِهِ .
يُرْوَى أَنَّ حَاتِمَ الْجَوَادَ لَقِيَهُ رَجُلٌ ،
فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ حَاتِمٌ : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا الَّذِي أَحْسَنْت
إلَيْهِ عَامَ أَوَّلٍ .
قَالَ : مَرْحَبًا بِمَنْ تَشَفَّعَ إلَيْنَا بِنَا .
الْآيَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ
وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ
بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ وَالْحُكْمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا
، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ ، وَأَوْضَحْنَا وُجُوهَهَا ومُتَصَرَّفاتِها ومُتَعَلَّقاتِها
كُلَّهَا .
وَأَجَلُّهَا مَرْتَبَةُ النُّبُوَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ
بِالْحُكْمِ هَاهُنَا : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْوَحْيُ .
وَالثَّانِي : النُّبُوَّةُ .
وَالثَّالِثُ : الْمَعْرِفَةُ وَالْعَمَلُ بِهَا .
وَهَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ يَفْتَقِرُ إلَى تَحْقِيقٍ ؛
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْوَحْيُ فَجَائِزٌ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إلَى
الصَّغِيرِ ، وَيُكَاشِفَهُ بِمَلَائِكَتِهِ وَأَمْرِهِ ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةُ
نُبُوَّةً غَيْرَ مَهْمُوزَةٍ رِفْعَةً وَمَهْمُوزَةً إخْبَارًا ، وَيَجُوزُ أَنْ
يُرْسِلَهُ إلَى الْخَلْقِ كَامِلَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مُؤَيَّدًا
بِالْمُعْجِزَةِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ خَبَرٌ ، وَلَا كَانَ فِيمَنْ
تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُ عِيسَى : { إنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ
الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا
} .
إخْبَارٌ عَمَّا وَجَبَ لَهُ حُصُولُهُ ، لَا عَمَّا
حَصَلَ بَعْدُ .
وَأَمَّا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ
وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } .
قَالَ عِيسَى : أُوصِيكُمْ بِالْحِكْمَةِ ،
وَالْحِكْمَةُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ ، وَالِاتِّبَاعُ لَهَا ،
وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ ، وَقَالَ : وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّك
تَجِدُ الرَّجُلَ عَاقِلًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا ذَا بَصَرٍ فِيهَا ، وَتَجِدُ
آخَرَ ضَعِيفًا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ عَالِمًا بِأَمْرِ دِينِهِ بَصِيرًا بِهِ ، يُؤْتِيهِ
اللَّهُ إيَّاهُ ، وَيَحْرِمُهُ هَذَا ، فَالْحِكْمَةُ الْفِقْهُ فِي دِينِ
اللَّهِ .
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } قَالَ :
الْمَعْرِفَةُ وَالْعَمَلُ بِهِ
.
انْتَهَى قَوْلُ مَالِكٍ .
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّهُ قِيلَ
لِيَحْيَى ، وَهُوَ صَغِيرٌ : أَلَا تَذْهَبُ نَلْعَبُ ؟ قَالَ : مَا خُلِقْت لِلَّعِبِ .
الْآيَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { هُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { هُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } أَمْرٌ بِتَكَلُّفِ الْكَسْبِ
فِي الرِّزْقِ ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ غَيْرِ
تَكَسُّبٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا
قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ قَلْبُهَا فَارِغًا لِلَّهِ
، فَفَرَّغَ اللَّهُ جَارِحَتَهَا عَنْ النَّصَبِ ، فَلَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى ،
وَتَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِحُبِّهِ ، وَكَّلَهَا اللَّهُ إلَى كَسْبِهَا ،
وَرَدَّهَا إلَى الْعَادَةِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ ، وَفِي مَعْنَاهُ
أَنْشَدُوا : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ إلَيْك فَهُزِّي
الْجِذْعَ يَسَّاقَطْ الرُّطَبْ وَلَوْ شَاءَ أَحْنَى الْجِذْعَ مِنْ غَيْرِ
هَزِّهَا إلَيْهَا وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ وَقَدْ كَانَ حُبُّ اللَّهِ
أَوْلَى بِرِزْقِهَا كَمَا كَانَ حُبُّ الْخَلْقِ أَدْعَى إلَى النَّصَبْ الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي صِفَةِ الْجِذْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ
كَانَ لِنَخْلَةٍ خَضْرَاءَ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ زَمَانَ الشِّتَاءِ ، فَصَارَ
وُجُودُ التَّمْرِ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ آيَةً .
الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ جِذْعًا يَابِسًا فَهَزَّتْهُ
، فَاخْضَرَّ وَأَوْرَقَ وَأَثْمَرَ فِي لَحْظَةٍ .
وَدَخَلْتُ بَيْتَ لَحْمٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ ، فَرَأَيْت فِي مُتَعَبَّدِهِمْ غَارًا عَلَيْهِ جِذْعٌ
يَابِسٌ كَانَ رُهْبَانُهُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ جِذْعُ مَرْيَمَ بِإِجْمَاعٍ ،
فَلَمَّا كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ دَخَلَتْ بَيْتَ
لَحْمٍ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ الرُّومِ عَلَيْهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَرَأَيْت الْغَارَ
فِي الْمُتَعَبَّدِ خَالِيًا مِنْ الْجِذْعِ .
فَسَأَلَتْ الرُّهْبَانَ بِهِ ، فَقَالُوا : نَخَرَ
وَتَسَاقَطَ ، مَعَ أَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا يَقْطَعُونَهُ اسْتِشْفَاءً حَتَّى
فُقِدَ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ :
قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ : رُطَبًا جَنِيًّا .
الْجَنِيُّ :
مَا طَابَ مِنْ غَيْرِ نَقْشٍ وَلَا إفْسَادٍ ،
وَالنَّقْشُ أَنْ يُنْقَشَ فِي أَسْفَلِ الْبُسْرَةِ حَتَّى تُرَطَّبَ ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ
يَعْنِي مَالِكٌ أَنَّ هَذَا تَعْجِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ رِقَّتِهِ ، وَإِفْسَادٌ
لِجَنَاهُ ؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ ، وَلَوْ فَعَلَهُ فَاعِلٌ
مَا كَانَ ذَلِكَ مُجَوِّزًا لِبَيْعِهِ ، وَلَا حُكْمًا بِطِيبِهِ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : لَقَدْ كَادَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْنَا
السَّاعَةَ بِقَوْلِهِمْ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا
لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ
كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } .
وَصَدَقَ ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ عَظِيمٌ سَبَقَ الْقَضَاءَ
وَالْقَدْرَ ، وَلَوْلَا أَنَّ الْبَارِئَ لَا يَضَعُهُ كُفْرُ الْكَافِرِ ، وَلَا
يَرْفَعُهُ إيمَانُ الْمُؤْمِنِ ، وَلَا يَزِيدُ هَذَا فِي مُلْكِهِ ، كَمَا لَا
يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِ ، مَا جَرَى شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ
، وَلَكِنَّهُ الْقُدُّوسُ الْحَكِيمُ الْحَلِيمُ ، فَلَمْ يُبَالِ بَعْدَ ذَلِكَ
بِمَا يَقُولُهُ الْمُبْطِلُونَ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا
آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ابْنَهُ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْوَلَدِيَّةَ وَالْعَبْدِيَّةَ فِي طَرَفَيْ
تَقَابُلٍ ، فَنَفَى إحْدَاهُمَا ، وَأَثْبَتَ الْأُخْرَى ، وَلَوْ اجْتَمَعَتَا
لَمَا كَانَ لِهَذَا الْقَوْلِ فَائِدَةٌ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا ، وَالِاسْتِدْلَالُ
عَلَيْهَا ، وَالتَّبَرِّي مِنْهَا ؛ وَلِهَذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ
أَمَةَ الرَّجُلِ إذَا حَمَلَتْ فَإِنَّ وَلَدَهَا فِي بَطْنِهَا حُرٌّ لَا رِقَّ
فِيهِ بِحَالٍ ، وَمَا جَرَى فِي أُمِّهِ مَوْضُوعٌ عَنْهُ ، وَلَوْ لَمْ يُوضَعْ
عَنْهُ ، فَلَا خِلَافَ فِي الْوَلَدِ ، وَبِهِ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ .
وَإِذَا اشْتَرَى الْحُرُّ أَبَاهُ وَابْنَهُ عَتَقَا
عَلَيْهِ ، حِينَ يَتِمُّ الشِّرَاءُ
.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ
وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } .
فَهَذَا نَصٌّ .
وَالْأَوَّلُ دَلِيلٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ
الْأَبَ إذَا لَمْ يَمْلِكْ ابْنَهُ مَعَ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عَلَيْهِ
فَالِابْنُ بِعَدَمِ مِلْكِ الْأَبِ أَوْلَى مَعَ قُصُورِهِ عَنْهُ ، وَكَانَ
الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ ، فَإِذَا أَزَالَ
مِلْكَ الْغَيْرِ بِالشِّرَاءِ إلَيْهِ تَبْطُلُ عَنْهُ ، وَعَتَقَ ، وَالْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ
، وَفِي ذَلِكَ تَفْرِيعٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ شَرْحُ الْحَدِيثِ ، وَمَسَائِلُ
الْفِقْهِ ، فَلْيُنْظَرْ فِيهَا
.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ
لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى
مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ : إنِّي
أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ .
ثُمَّ يُنَادِي مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ : إنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ ؛ فَتُحِبُّهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ
يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : {
إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ
وُدًّا } .
وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا فَذَكَرَ مِثْلَهُ } .
وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَحَادِيثُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ أَعْرَضْنَا عَنْهَا لِضَعْفِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ
وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ
: { اتَّقِ اللَّهَ يُحِبَّك النَّاسُ ، وَإِنْ كَرِهُوك
} ، فَقَالَ : هَذَا حَقٌّ ، وَقَرَأَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةَ .
وَقَرَأَ مَالِكٌ : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْك مَحَبَّةً
مِنِّي } .
وَهَذَا يُبَيِّنُ سَبَبَ حُبِّ اللَّهِ ، وَخَلْقَهُ
الْمَحَبَّةَ فِي الْخَلْقِ ؛ وَذَلِكَ نَصٌّ فِي قَوْلِهِ : { فَإِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الشَّرِيعَةِ مِنْ اجْتِنَابِ
النَّهْيِ .
سُورَةُ طَهَ
فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنِّي أَنَا رَبُّك
فَاخْلَعْ نَعْلَيْك إنَّك بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طَوًى } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
خَلْعِ النَّعْلَيْنِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَنْبَأَنَا أَبُو زَيْدٍ
الْحِمْيَرِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ ، أَنْبَأَنَا
أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدَ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ ، أَنْبَأَنَا عَمِّي عَبْدُ الصَّمَدِ
، حَدَّثَنَا عَمِّي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا
إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ
يُونُسَ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَانَتْ نَعْلَا مُوسَى مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ } .
وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْهَرَوِيُّ ، حَدَّثَنَا
خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ الْأَشْجَعِيُّ ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : يَوْمَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى
كَانَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ ، وَكِسَاءُ صُوفٍ ، وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ ، وَكُمَّةُ
صُوفٍ ، وَنَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ مُذَكًّى .
وَرَوَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ
بِمِثْلِهِ مُسْنَدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّانِي : قَالَ مُجَاهِدٌ : قَالَ لَهُ رَبُّهُ :
اخْلَعْ نَعْلَيْك ، أَفِضْ بِقَدَمَيْك إلَى بَرَكَةِ الْوَادِي .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَسْأَلَةِ
الثَّانِيَةِ : إنْ قُلْنَا : إنَّ خَلْعَ النَّعْلَيْنِ كَانَ لِيَنَالَ بَرَكَةَ
التَّقْدِيسِ فَمَا أَجْدَرَهُ بِالصِّحَّةِ ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ التَّنْزِيهَ
عَنْ النَّعْلِ ، وَاسْتَحَقَّ الْوَاطِئُ التَّبَرُّكَ بِالْمُبَاشَرَةِ ، كَمَا
لَا تُدْخَلُ الْكَعْبَةَ بِنَعْلَيْنِ ، وَكَمَا كَانَ مَالِكٌ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً
بِالْمَدِينَةِ ، بِرًّا بِتُرْبَتِهَا الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الْأَعْظُمِ
الشَّرِيفَةِ ، وَالْجُثَّةِ الْكَرِيمَةِ .
وَإِنْ قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَإِنْ
لَمْ تَصِحَّ ، فَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ
مُوسَى أُمِرَ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ ، وَكَانَ أَوَّلُ تَعَبُّدٍ أُحْدِثَ إلَيْهِ ، كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَا قِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } .
وَقَدْ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ عَلَى حَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ قَالَ
ابْنُ شِهَابٍ ، لِمُطْلَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ } وَلَمْ يَذْكُرْ دِبَاغًا .
الثَّانِي :
أَنَّهُ يُدْبَغُ فَيُنْتَفَعُ بِهِ مَدْبُوغًا ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ
فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ } قَالَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ ، لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } .
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ قِرْبَةٍ مَدْبُوغَةٍ مِنْ جِلْدِ مَيْتَةٍ ،
حَتَّى صَارَتْ شَنًّا } قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي ، وَهُوَ الرَّابِعُ
، وَوَرَاءَ هَذِهِ تَفْصِيلٌ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَعْلَا مُوسَى لَمْ تُدْبَغَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
تَكُونَا دُبِغَتَا ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ إذْنٌ فِي اسْتِعْمَالِهَا .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تُدْبَغْ ، وَقَدْ
اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ فِي الْبَابِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : { لِذِكْرِي } وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَقِمْ الصَّلَاةَ ، لَأَنْ تَذْكُرَنِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي لَك
بِالْمَدْحِ .
الثَّالِثُ : أَقِمْ الصَّلَاةَ إذَا ذَكَرْتنِي .
وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
وَرُوِيَتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِلذِّكْرِ ، وَقُرِئَ : لِلذِّكْرَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ
الذِّكْرَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الضَّمِيرِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا
إلَى الْفَاعِلِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ
نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : أَقِمْ الصَّلَاةَ
لِلذِّكْرَى ، وَلِذِكْرِي ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : لِلذِّكْرَى إذَا ذَكَّرْتُك بِهَا
، وَلِتَذْكُرَنِي فِيهَا ، وَلِذِكْرِي لَك بِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : الذِّكْرُ مَصْدَرٌ فِي الْإِثْبَاتِ ،
وَلَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ .
قُلْنَا :
بَلْ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ ، كَمَا تَقُولُ : عَجِبْت
مِنْ ضَرْبِي زَيْدًا ، إذَا كَانَ الضَّرْبُ الْوَاقِعُ بِهِ عَامًّا فِي جَمِيعِ
أَنْوَاعِ الضَّرْبِ ، فَيَكُونُ الْعُمُومُ فِي كَيْفِيَّاتِ الضَّرْبِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ
، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ الَّتِي لَا تَعُمُّ مَا يَتَنَاوَلُ
الْأَشْخَاصَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ
: { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا }
يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ ذَاكِرٍ إذَا ذَكَرَ ، سَوَاءٌ كَانَ
الذِّكْرُ دَائِمًا ، كَالتَّارِكِ لَهَا عَنْ عِلْمٍ ، أَوْ كَانَ الذِّكْرُ
طَارِئًا ، كَالتَّارِكِ لَهَا عَنْ غَفْلَةٍ ، وَكُلُّ نَاسٍ تَارِكٌ ، إلَّا
أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ ، فَمَتَى كَانَ الذِّكْرُ
وَجَبَ الْفِعْلُ دَائِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا .
فَافْهَمُوا هَذِهِ النُّكْتَةَ تُرِيحُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ
شَغَبِ الْمُبْتَدِعَةِ ، فَمَا زَالُوا يُزَهِّدُونَ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ ،
حَتَّى قَالُوا : إنَّ مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا ،
وَنَسَبُوا ذَلِكَ إلَى مَالِكٍ
.
وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ ذِهْنَهُ أَحَدُّ ،
وَسَعْيَهُ فِي حِيَاطَةِ الدِّينِ آكَدُ مِنْ ذَلِكَ ، إنَّمَا قَالَ : إنَّ مَنْ
تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا لَا يَقْضِي أَبَدًا .
كَمَا قَالَ فِي الْأَثَرِ : { مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا
مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ }
إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا مَضَى لَا يَعُودُ ، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ
تَوْفِيَةِ التَّكْلِيفِ حَقَّهُ بِإِقَامَةِ الْقَضَاءِ مَقَامَ الْأَدَاءِ ،
وَإِتْبَاعِهِ بِالتَّوْبَةِ ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَالَتْ الْمُتَزَهِّدَةُ : مَعْنَى : { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي
} أَيْ : لَا تَذْكُرْ فِيهَا غَيْرِي ، فَإِنَّهُ قَالَ : فَاعْبُدْنِي ، أَيْ لِي تَذَلَّلْ ،
وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِمُجَرَّدِ ذِكْرِي ، تَحَرَّمَ عَنْ الدُّنْيَا ،
وَأَخْلِصْ لِلْأُخْرَى ، وَاعْمُرْ لِسَانَك وَقَلْبَك بِذِكْرِ الْمَوْلَى .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ
هُوَ الْأَوْلَى ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ كُتِبَ لَهُ مِنْهَا بِمِقْدَارِ ذَلِكَ
فِيهَا ، وَقَدْ مَهَّدْنَا هَذَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْآيَةُ
الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا
مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي
وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى
} .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا
سَأَلَهُ عَنْهَا لَمَّا كَانَ أَضْمَرَ مِنْ الْآيَةِ لَهُ فِيهَا ، حَتَّى إذَا
رَجَعَ عَلَيْهَا ، وَتَحَقَّقَ حَالَهَا ، وَكُسِيَتْ تِلْكَ الْحُلَّةَ الثُّعْبَانِيَّةَ
بِمَرْأًى مِنْهُ لِابْتِدَائِهَا كَانَ تَبْدِيلُهَا مَعَ الذِّكْرِ أَوْقَعَ فِي
الْقَلْبِ وَأَيْسَرَ لَهُ مِنْ أَنْ يَغْفُلَ عَنْهَا ، فَيَرَاهَا بِحُلَّةِ
الثُّعْبَانِيَّةِ مَكْسُوَّةً ، فَيَظُنُّ أَنَّمَا عَيَّنَ أُخْرَى سِوَاهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { قَالَ هِيَ عَصَايَ }
قَالَ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ : الْجَوَابُ الْمُطْلَقُ أَنْ يَقُولَ هِيَ عَصًا ، وَلَا
يُضِيفُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ
أَفْرَدَ عَنْهَا بِصِفَةِ الْحَيَّةِ ، فَبَقِيَ وَحْدَهُ لِلَّهِ ، كَمَا
يُحِبُّ ، حَتَّى لَا يَكُونَ مَعَهُ إلَّا اللَّهُ ، يَقُولُ اللَّهُ : أَنْتَ عَبْدِي
، وَيَقُولُ مُوسَى : أَنْتَ رَبِّي
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَجَابَ مُوسَى بِأَكْثَرَ
مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي
الْجَوَابِ أَرْبَعَةَ مَعَانٍ ، وَكَانَ يَكْفِي وَاحِدٌ قَالَ : الْإِضَافَةُ ،
وَالتَّوَكُّؤُ ، وَالْهَشُّ ، وَالْمَآرِبُ الْمُطْلَقَةُ ، وَكَانَ ذَلِكَ
دَلِيلًا عَلَى جَوَابِ السُّؤَالِ بِأَكْثَرَ مِنْ مُقْتَضَى ظَاهِرِهِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } لِمَنْ سَأَلَهُ
عَنْ طَهُورِ مَاءِ الْبَحْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْهَشُّ : هُوَ أَنْ
يَضَعَ الْمِحْجَنَ فِي أَصْلِ الْغُصْنِ وَيُحَرِّكَهُ فَيَسْقُطُ مِنْهُ مَا سَقَطَ
، وَيَثْبُتُ مَا ثَبَتَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ، وَرُوِيَ عَنْهُ
أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرَاعٍ يَعْضِدُ شَجَرَةً فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ : هُشُّوا وَارْعَوْا } ،
وَهَذَا
مِنْ بَابِ الِاقْتِصَادِ فِي الِاقْتِيَاتِ ، فَإِنَّهُ إذَا عَضَّدَ الشَّجَرَةَ
الْيَوْمَ لَمْ يَجِدْ فِيهَا غَدًا شَيْئًا وَلَا غَيْرَهُ مِمَّنْ يَخْلُفُهُ ،
فَإِذَا هَشَّ وَرَعَى أَخَذَ وَأَبْقَى ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ،
فَلْيَأْخُذْ وَلْيَدْعُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كَثِيرًا فَلْيَأْخُذْهُ
كَيْفَ شَاءَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ .
تَعَرَّضَ قَوْمٌ لِتَعْدِيدِ مَنَافِعِ الْعَصَا ،
كَأَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ قَوْلَ مُوسَى { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى
} ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي
أَنْ يَصْرِفَ الْعَصَا فِي حَاجَةٍ عَرَضَتْ ؛ أَمَّا إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا
فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إجْمَاعًا وَهُوَ الْخُطْبَةُ ، وَفِي مَوْضِعٍ
آخَرَ بِاخْتِلَافٍ وَهُوَ التَّوَكُّؤُ عَلَيْهَا فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا
ذِكْرَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هُنَا وَسِوَاهُ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : { اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا
لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ
أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ رَسُولَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذِكْرَ قَاضِيَيْنِ
وَأَمِيرَيْنِ ، وَالرِّسَالَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهَا تَبْلِيغٌ عَنْ
اللَّهِ ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ وَقُلْنَا
لَا يَجُوزُ لِنَبِيٍّ أَنْ يُشَرِّعَ إلَّا بِوَحْيٍ جَازَ أَنْ يَحْكُمَا مَعًا
، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ النَّبِيُّ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا
أَحَدُهُمَا ، وَهَذَا يَتِمُّ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
بِاللِّينِ لِمَنْ مَعَهُ الْقُوَّةُ ، وَضُمِنَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ ، أَلَا
تَرَاهُ قَالَ لَهُمَا : قَوْلَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ، وَلَا تَخَافَا إنَّنِي
مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى .
فَفِي الإسرائليات أَنَّ مُوسَى أَقَامَ عَلَى بَابِ
فِرْعَوْنَ سَنَةً لَا يَجِدُ رَسُولًا يُبَلِّغُ كَلَامًا ، حَتَّى لَقِيَهُ
حِينَ خَرَجَ فَجَرَى لَهُ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِ ، وَكَانَ
ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي سِيرَتِهِمْ مَعَ
الظَّالِمِينَ .
وَرَبُّك أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ
فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي مِثْلِهَا مِنْ أَحْكَامٍ ؛
بَيْدَ أَنَّهُ كُنَّا فِي الْإِمْلَاءِ الْأَوَّلِ قَدْ وَعَدْنَا فِي قَوْلِهِمْ
: إنَّهُ أَكَلَهَا نَاسِيًا بِبَيَانِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَهَا نَحْنُ
بِقُوَّةِ اللَّهِ نَنْتَقِضُ مِنْ عُهْدَةِ الْوَعْدِ ، فَنَقُولُ : كَمَا قَالَ
فِي تَنْزِيهِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِمَنْزِلَتِهِمْ مِمَّا
يَنْسِبُ الْجَهَلَةُ إلَيْهِمْ مِنْ وُقُوعِهِمْ فِي الذُّنُوبِ عَمْدًا مِنْهُمْ
إلَيْهَا ، وَاقْتِحَامًا لَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا ، وَحَاشَ لِلَّهِ ، فَإِنَّ
الْأَوْسَاطَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَرَّعُونَ عَنْ ذَلِكَ ، فَكَيْفَ
بِالنَّبِيِّينَ ، وَلَكِنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُكْمِهِ
النَّافِذِ ، وَقَضَائِهِ السَّابِقِ ، أَسْلَمَ آدَمَ إلَى الْمُخَالَفَةِ ،
فَوَقَعَ فِيهَا مُتَعَمِّدًا نَاسِيًا ، فَقِيلَ فِي تَعَمُّدِهِ : { وَعَصَى
آدَم رَبَّهُ } .
وَقِيلَ فِي بَيَانِ عُذْرِهِ : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ
} .
وَنَظِيرُهُ مِنْ التَّمْثِيلَاتِ أَنْ يَحْلِفَ
الرَّجُلُ لَا يَدْخُلُ دَارًا أَبَدًا ، فَيَدْخُلَهَا مُتَعَمِّدًا نَاسِيًا
لِيَمِينِهِ ، أَوْ مُخْطِئًا فِي تَأْوِيلِهِ ، فَهُوَ عَامِدٌ نَاسٍ ،
وَمُتَعَلِّقُ الْعَمْدِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ النِّسْيَانِ ، وَجَازَ لِلْمَوْلَى
أَنْ يَقُولَ فِي عَبْدِهِ : عَصَى تَحْقِيرًا وَتَعْذِيبًا ، وَيَعُودَ عَلَيْهِ
بِفَضْلِهِ فَيَقُولَ : نَسِيَ تَنْزِيهًا ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ
يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ ، إلَّا إذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْلِ
اللَّهِ عَنْهُ ، أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ .
وَأَمَّا أَنْ نَبْتَدِئَ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ
أَنْفُسِنَا فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنَيْنَ إلَيْنَا ،
الْمُمَاثِلَيْنِ لَنَا ، فَكَيْفَ بِأَبِينَا الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ ،
النَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ ، الَّذِي عَذَرَهُ اللَّهُ ، وَتَابَ عَلَيْهِ ،
وَغَفَرَ لَهُ .
وَوَجْهُ الْخَطَأِ فِي قِصَّةِ آدَمَ غَيْرُ
مُتَعَيَّنٍ ، وَلَكِنَّ وُجُوهَ الِاحْتِمَالَاتِ تَتَصَرَّفُ ، وَالْمُدْرَكُ
مِنْهَا
عِنْدَنَا أَنْ يُذْهَلَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ ، كَمَا ضَرَبْنَا الْمَثَلَ فِي
دُخُولِ الدَّارِ .
الثَّانِي :
أَنْ يُذْهَلَ عَنْ جِنْسٍ مَنْهِيٍّ مِنْهُ ،
وَيَعْتَقِدَهُ فِي عَيْنِهِ ؛ إذْ قَالَ اللَّهُ لَهُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ ، كَمَا
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
.
الثَّالِثُ : أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ
عَلَى مَعْنَى الْجَزْمِ الشَّرْعِيِّ لِمَعْنًى مُغَيَّبٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { فَتَكُونَا مِنْ
الظَّالِمِينَ } .
قُلْنَا : قَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ مِنْ الظَّالِمِينَ
لِأَنْفُسِكُمَا ، كَمَا قَالَ : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ ، وَهُوَ
الَّذِي نَسِيَ مِنْ تَحْذِيرِ اللَّهِ لَهُ ، أَوْ تَأْوِيلُهُ فِي تَنْزِيلِهِ ،
وَرَبُّك أَعْلَمُ كَيْفَ دَارَ الْحَدِيثُ .
وَالتَّعْيِينُ يَفْتَقِرُ إلَى تَأْوِيلِهِ ، وَكَذَلِكَ
قُلْنَا إنَّ النَّاسِيَ فِي الْحِنْثِ مَعْذُورٌ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
قَوْله تَعَالَى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّك تَرْضَى } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى
: { وَمِنْ آنَاءِ } وَزْنُهُ أَفْعَالٌ ، وَاحِدُهَا إنْيٌ مِثْلُ عَدْلٍ ،
وَإِنًى مِثْلُ عِنَبٍ فِي السَّالِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { غَيْرَ نَاظِرِينَ
إنَاهُ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى هَاهُنَا : { سَبِّحْ } ، صَلِّ ؛
لِأَنَّهُ غَايَةُ التَّسْبِيحِ وَأَشْرَفُهُ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ ذَلِكَ بَيَانٌ لِصَلَاةِ
الْفَرْضِ أَمْ لِصَلَاةِ النَّفْلِ ؟ فَقِيلَ : قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَعْنِي
الصُّبْحَ .
وَقَبْلَ غُرُوبِهَا يَعْنِي الْعَصْرَ .
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ،
فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا
} .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا : { مَنْ صَلَّى
الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ
} .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ } يَعْنِي سَاعَاتِهِ
، يُرِيدُ بِذَلِكَ قِيَامَ اللَّيْلِ كُلِّهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَفِي الثَّانِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ
عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى : { حِينَ تُمْسُونَ } فِي الْفَرْضِ ، وَعَلَى حَدِّ
قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } ،
عَلَى حَدِّ قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ النَّفَلُ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } : يَعْنِي فِي
أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ صَلَاةَ الظُّهْرِ .
وَقِيلَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ ؛ لِأَنَّهَا فِي الطَّرَفِ
الثَّانِي .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مِنْ طَرَفِ
اللَّيْلِ ، لَا مِنْ طَرَفِ النَّهَارِ .
وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي بِعْنِي بِهِ صَلَاةَ
التَّطَوُّعِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَعَلَّكَ تَرْضَى } : هُوَ مُجْمَلُ قَوْلِهِ الْمُفَسِّرِ : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } ، وَيُمَاثِلُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } .
سُورَةُ
الْأَنْبِيَاءِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : {
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ ، وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ فِي
شَيْءٍ قَطُّ إلَّا فِي ثَلَاثٍ : قَوْلُهُ : إنِّي سَقِيمٌ ، وَلَمْ يَكُنْ
سَقِيمًا ، وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ : أُخْتِي ؛ وقَوْله تَعَالَى : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ
هَذَا } } .
وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَمْ يَكْذِبْ
إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ : ثِنْتَيْنِ مِنْهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ ،
قَوْلُهُ : { إنِّي سَقِيمٌ } وَقَوْلُهُ : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا }
وَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنْ
الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ : إنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ
النَّاسِ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟
قَالَ : أُخْتِي .
فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ : يَا سَارَةُ ، لَيْسَ عَلَى
وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَك ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي
فَأَخْبَرْته أَنَّك أُخْتِي ، فَلَا تَكْذِبِينَنِي .
فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ
يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ ، فَأُخِذَ ، فَقَالَ : اُدْعِي اللَّهَ لِي وَلَا
أَضُرُّك ، فَدَعَتْ اللَّهَ ، فَأُطْلِقَ .
ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا
أَوْ أَشَدَّ .
فَقَالَ :
اُدْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّك ، فَأُطْلِقَ ،
فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ : لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ ، إنَّمَا
أَتَيْتنِي بِشَيْطَانٍ ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ظَاهِرِ الْمَقْصُودِ بِهِ ،
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا تَعْرِيضٌ ، وَفِي التَّعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ
الْكَذِبِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إنْ
كَانُوا يَنْطِقُونَ ؛ فَشَرَطَ النُّطْقَ
فِي
الْفِعْلِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ : لِأَنَّهُ عَدَّدَهُ عَلَى
نَفْسِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْرِيضِ ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ ،
وَهُمْ كَمَا قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ
وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْك شَيْئًا ؟ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ : بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا ، لِيَقُولُوا إنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ
وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : فَلِمَ تَعْبُدُونَ ؟ فَتَقُومُ
الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ
.
وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ فَرْضُ
الْبَاطِلِ مَعَ الْخَصْمِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ ،
فَإِنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْحُجَّةِ وَأَقْطَعُ لِلشُّبْهَةِ ، كَمَا قَالَ
لِقَوْمِهِ : هَذَا رَبِّي ، عَلَى مَعْنَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ، حَتَّى إذَا
أَفَلَ مِنْهُمْ تَبَيَّنَ حُدُوثُهُ ، وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِهِ إلَهًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : هَذَا رَبِّي ،
هَذِهِ أُخْتِي ، وَإِنِّي سَقِيمٌ ، وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ : هَذِهِ وَإِنْ
كَانَتْ مَعَارِيضَ وَحَسَنَاتٍ ، وَحُجَجًا فِي الْحَقِّ ، وَدَلَالَاتٍ ،
لَكِنَّهَا أَثَّرَتْ فِي الرُّتْبَةِ ، وَخَفَّضَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ الْمَنْزِلَةِ
، وَاسْتَحْيَا مِنْهَا قَائِلُهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ ؛
لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَلِيقُ بِمَرْتَبَتِهِ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَّةِ أَنْ
يَصْدَعَ بِالْحَقِّ ، وَيُصَرِّحَ بِالْأَمْرِ فَيَكُونُ مَا كَانَ ، وَلَكِنَّهُ
رُخِّصَ لَهُ فَقَبِلَ الرُّخْصَةَ ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ الْقِصَّةِ ،
وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ : { إنَّمَا اُتُّخِذْت خَلِيلًا مِنْ
وَرَاءَ وَرَاءَ } يَعْنِي بِشَرْطِ أَنْ تُتَّبَعَ عَثَرَاتِي ، وَتُخْتَبَرَ أَحْوَالِي
، وَالْخِلَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ : { لِيَغْفِرَ
لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ } ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ
الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا : ابْغِنِي مِنْ وَرَائِي ، أَيْ اخْتَبِرْ حَالِي .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُكْتَةٌ عُظْمَى تَقْصِمُ الظَّهْرَ ، وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ : ثِنْتَيْنِ مِنْهَا مَاحَلَ بِهِمَا عَنْ دِينِ اللَّهِ } وَهِيَ قَوْلُهُ : إنِّي سَقِيمٌ ، وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، وَلَمْ يَعُدَّ قَوْلَهُ : هَذِهِ أُخْتِي فِي ذَاتِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِهَا مَكْرُوهًا ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهَا حَظٌّ مِنْ صِيَانَةِ فِرَاشِهِ ، وَحِمَايَةِ أَهْلِهِ ، لَمْ يَجْعَلْ فِي جَنْبِ اللَّهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ فِي ذَاتِ اللَّهِ إلَّا الْعَمَلَ الْخَالِصَ مِنْ شَوَائِبِ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، أَوْ الْمَعَانِي الَّتِي تَرْجِعُ إلَى النَّفْسِ ، حَتَّى إذَا خَلَصَتْ لِلدِّينِ كَانَتْ لِلَّهِ ، كَمَا قَالَ : { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وَهَذَا لَوْ صَدَرَ مِنَّا لَكَانَ لِلَّهِ ، وَلَكِنَّ مَنْزِلَةَ إبْرَاهِيمَ اقْتَضَتْ هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ
يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا
لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا
وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ وَالنَّسَائِيُّ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ
وَكُنَّا فَاعِلِينَ } .
فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ }
لَمْ يُرِدْ إذْ جَمَعَهُمَا فِي الْقَوْلِ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الْحُكْمِ ، فَإِنَّ
حَاكِمَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنَّمَا
حَكَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادٍ بِحُكْمٍ ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ هُوَ
الْفَاهِمُ لَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي دُسْتُورٍ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
ذَكَرَ لِرَسُولِهِ مَا جَرَى مِنْ الْأُمَمِ وَعَلَيْهَا ، وَأَقْوَالَ
الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْعَالَهَا ، فَأَحْسَنَ الْقَصَصَ وَهُوَ أَصْدَقُهُ ؛
فَإِنَّ الإسرائليات ذَكَرُوهَا مُبَدَّلَةً وَبِزِيَادَةٍ بَاطِلَةٍ مَوْصُولَةٍ
، أَوْ بِنُقْصَانٍ مُحَرَّفٍ لِلْمَقْصِدِ مَنْقُولَةٍ ، وَمَا نُقِلَ مِنْ
حَدِيثِ نَفْشِ الْغَنَمِ ، وَقَضَاءِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ فِيهَا ، اُنْظُرُوا
إلَيْهِ ، فَمَا وَافَقَ مِنْهُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ فَهُوَ صَحِيحٌ ، وَمَا
خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَمَا لَمْ يَرِدْ لَهُ فِيهِ ذِكْرٌ فَهُوَ
مُحْتَمَلٌ ، رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ .
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي ذِكْرِ وَصْفِ مَا قَضَاهُ النَّبِيَّانِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فِيهِ : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّهُ كَانَ زَرْعًا وَقَعَتْ فِيهِ الْغَنَمُ لَيْلًا ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ كَرْمًا نَبَتَتْ
عَنَاقِيدُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّفْشَ رَعْيُ اللَّيْلِ ،
وَالْهَمَلَ رَعْيُ النَّهَارِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي ذِكْرِ وَصْفِ
قَضَائِهِمَا : أَمَّا حُكْمُ دَاوُد فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَضَى لِصَاحِبِ
الْحَرْثِ بِالْغَنَمِ .
وَأَمَّا حُكْمُ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ قَضَى بِأَنْ
تُدْفَعَ الْغَنَمُ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ عَلَّه يَغْتَلُّهَا ، وَيُدْفَعَ
الْحَرْثُ إلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ لِيَقُومَ بِعِمَارَتِهِ ، فَإِذَا عَادَ فِي
السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ إلَى مِثْلِ حَالَتِهِ رُدَّ إلَى كُلِّ أَحَدٍ مَالُهُ قَالَهُ
ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، فَرَجَعَ دَاوُد إلَى حُكْمِ سُلَيْمَانَ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : فِي صِفَةِ حُكْمِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيهَا : رَوَى الزُّهْرِيُّ ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَحَرَامُ
بْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ { أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطًا ، فَأَفْسَدَتْ
، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ
الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا بِالنَّهَارِ ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي
بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي
حِفْظُهَا بِاللَّيْلِ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا حَكَمَ بِهِ ، إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ ، وَهَكَذَا فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى : فَأَمَّا أَنْ يَنْظُرَ قَاضٍ فِيمَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَدَاعَى إلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ عُظْمَى مِنْ جِهَةِ نَقْضِ الْأَحْكَامِ ، وَتَبْدِيلِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ ، وَعَدَمِ ضَبْطِ قَوَانِينِ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ إلَى نَقْضِ مَا رَآهُ الْآخَرُ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِمَا يَظْهَرُ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ دَاوُد لَمْ يَكُنْ أَنْفَذَ
الْحُكْمَ ، وَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَمْ يَكُنْ حُكْمًا ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ فُتْيَا ، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَاوُد كَانَ فُتْيَا
فَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ النَّبِيُّ ، وَفُتْيَاهُ حُكْمٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْآخَرُ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ
أَنْفَذَ الْحُكْمَ فَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ .
فَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { إذْ يَحْكُمَانِ }
، فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ قَدْ حَكَمَ ، عَلَى أَنَّهُ
قَدْ قِيلَ : إنَّ الْفُتْيَا حُكْمٌ ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَفْظًا ، وَفِي بَعْضِ
الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقَلِّدَ قَوْلُهُ ، وَلَا يَلْزَمُ
الْمُجْتَهِدَ قَوْلُ غَيْرِهِ
.
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ اللَّهَ أَوْحَى أَنَّ الْحُكْمَ حُكْمُ
سُلَيْمَانَ ، فَعَلَى هَذَا كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ اللَّهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ
مُحْتَمَلٌ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَقَدْ
بَيَّنَّا فِي كِتَابِ التَّمْحِيصِ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ
دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ، فَلَا إحَالَةَ فِي أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا عُدِمَ
النَّصُّ ، وَهُمْ لَا يَعْدَمُونَهُ ، لِأَجْلِ نُزُولِ الْمَلَكِ .
قُلْنَا : إذَا لَمْ يَنْزِلْ الْمَلَكُ فَقَدْ عَدِمُوا
النَّصَّ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ عِنْدَنَا دَلِيلٌ
مَعَ عَدَمِ النَّصِّ ، وَعِنْدَهُمْ هُوَ دَلِيلٌ مَعَ وُجُودِهِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا : وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ، لَكِنَّ
الْمَوَاشِيَ جَاءَ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ } .
فَحَكَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِعْلَ الْبَهَائِمِ هَدَرٌ ، وَهَذَا عُمُومٌ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ سَنَدًا وَمَتْنًا ، وَحَدِيثُ نَاقَةِ الْبَرَاءِ خَاصٌّ ، وَمَا قَضَى
بِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عَلَى التَّعْيِينِ مِمَّنْ يَقْطَعُ
بِصِدْقِهِ ، فَتَعَيَّنَ أَنْ نَعْتَنِيَ بِشَرْعِنَا ، فَنَقُولَ : لَا خِلَافَ
أَنَّ الْعَامَّ يَقْضِي عَلَيْهِ الْخَاصُّ ، وَقَضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاقَةِ الْبَرَاءِ بِأَنَّ حِفْظَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ
بِالنَّهَارِ عَلَى أَرْبَابِهَا ؟ لِمَا عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي مِنْ
الْمَشَقَّةِ فِي حِفْظِهَا بِالنَّهَارِ ، وَبِأَنَّ حِفْظَ الْكُلِّ بِاللَّيْلِ
عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حِفْظِ الزُّرُوعِ
وَالثِّمَارِ شَاقٌّ عَلَى أَرْبَابِهَا ، فَجَرَى الْحُكْمُ عَلَى الْأَوْفَقِ
وَالْأَسْمَحِ بِمُقْتَضَى الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ، وَمَجْرَى الْمَصْلَحَةِ
، وَكَانَ ذَلِكَ أَوْفَقَ لِلْفَرِيقَيْنِ ، وَأَسْهَلَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ ،
وَأَحْفَظَ لِلْمَالِكَيْنِ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ ؛ لِمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّينَ
الْمُتَقَدِّمِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فِي أَصْلِ الضَّمَانِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ فِي صِفَتِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا ضَمَانَ عَلَى
أَرْبَابِ الْمَوَاشِي فِيمَا أَصَابَتْ بِالنَّهَارِ وَقَالَ اللَّيْثُ :
يَضْمَنُ أَرْبَابُ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي
لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَمْ يَكُنْ عَلَى صَاحِبِهَا ضَمَانٌ .
وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ مَعْنَى حَدِيثِ {
الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ } وَهَذَا يَنْفِي الضَّمَانَ كُلَّهُ ، وَمَعْنَى حَدِيثِ
الْبَرَاءِ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ،
فَوَجَبَ تَخْصِيصُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِحَدِيثِ الْعَجْمَاءِ ، وَلَيْسَ
عِنْدَنَا بِقَضَاءِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ نَصٌّ ، فَنَقُولُ : إنَّهُ يُعَارِضُ
هَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ،
فَيُفْتَقَرُ حِينَئِذٍ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ ، وَالتَّرْجِيحِ فِيهِ ، فَوَجَبَ
الْوُقُوفُ عِنْدَهَا وَقْفَ بِنَاءِ النَّصِّ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا قُلْنَا :
إنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي يَضْمَنُونَ مَا أَفْسَدَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ
، فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ قِيمَةَ الزَّرْعِ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَتِمَّ أَوْ لَا
يَتِمَّ قَالَ عَنْهُ مُطَرِّفٌ ، وَلَا يَسْتَأْنِي بِالزَّرْعِ أَنْ يَنْبُتَ
أَوْ لَا يَنْبُتَ كَمَا يَفْعَلُ فِي سِنِّ الصَّغِيرِ .
وَقَالَ عِيسَى ، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : قِيمَتُهُ
لَوْ حَلَّ بَيْعُهُ .
وَقَالَ أَشْهَبُ ، وَابْنُ نَافِعٍ عَنْهُ فِي
الْمَجْمُوعَةِ : وَإِنْ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ .
وَالْأَوَّلُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهَا صِفَتُهُ ،
فَيُقَوَّمُ كَذَلِكَ لَوْ تَمَّ أَوْ لَمْ يَتِمَّ ، كَمَا يُقَوَّمُ كُلُّ
مُتْلَفٍ عَلَى صِفَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا أَفْسَدَتْ
الْمَوَاشِي ذَلِكَ فَعَلَى أَرْبَابِهَا قِيمَةُ مَا أَفْسَدَتْ ، وَإِنْ زَادَ
عَلَى قِيمَتِهَا .
وَقَالَ اللَّيْثُ : تَسْقُطُ الزِّيَادَةُ عَلَى
الْقِيمَةِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى أَرْبَابِ
الْمَوَاشِي ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْمَوَاشِي ، وَتُخَالِفُ هَذَا جِنَايَةُ
الْعَبْدِ ، فَإِنَّهَا عَلَيْهِ ، فَيَحْمِلُ
السَّيِّدُ مِنْهَا إنْ أَرَادَ فِدَاءَهُ قِيمَتَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَوْ لَمْ يُقْضَ فِي الْمُفْسِدِ بِشَيْءٍ حَتَّى نَبَتَ
أَوْ انْجَبَرَ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ مَنْفَعَةُ رَعْيٍ أَوْ شَيْءٍ
ضَمِنَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَا ضَمَانَ
رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ .
وَقَالَ أَصْبَغُ : يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ قَدْ
تَحَقَّقَ ، وَالْجَبْرُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ ، فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَصْبَغُ
فِي الْمَدِينَةِ : لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَوَاشِي أَنْ يُخْرِجُوا مَوَاشِيَهُمْ
إلَى قُرَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ ذُوَّادٍ ، فَرَكَّبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا
أَنَّ الْبُقْعَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ بُقْعَةَ زَرْعِ أَوْ بُقْعَةَ سَرْحٍ
، فَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ زَرْعٍ فَلَا تَدْخُلُهَا مَاشِيَةٌ إلَّا مَاشِيَةً تُحْتَاجُ
فِي الزَّرْعِ ، وَعَلَى أَرْبَابِهَا حِفْظُهَا ، وَمَا أَفْسَدَتْ [ فَصَاحِبُهَا
] ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، وَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ
سَرْحٍ فَعَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ الَّذِي يَحْرُثُهُ فِيهَا حِفْظُهُ ، وَلَا
شَيْءَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَشْهَبُ ،
وَابْنُ نَافِعٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ : سَوَاءٌ كَانَتْ الثِّمَارُ
وَالزُّرُوعُ مُحْظَرًا عَلَيْهَا أَوْ بِغَيْرِ حِظَارٍ ، وَلَا يَخْتَلِفُ
الْحُكْمُ بِالْحِظَارِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يَخْتَلِفُ .
وَهَذَا أَصْوَبُ ، فَإِنَّ الْعَجْمَاءَ لَا يَرُدُّهَا
حِظَارٌ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : الْمَوَاشِي عَلَى قِسْمَيْنِ ضَوَارِي ، وَحَرِيسَةٌ ،
وَعَلَيْهَا قَسَّمَهَا مَالِكٌ ، فَالضَّوَارِي هِيَ الْمُعْتَادَةُ لِلزُّرُوعِ
وَالثِّمَارِ ، فَقَالَ مَالِكٌ : تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ فِي بَلَدٍ لَا زَرْعَ
فِيهِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ رَبُّهَا ،
وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الدَّابَّةِ الَّتِي ضَرِيَتْ إفْسَادَ الزَّرْعِ :
تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ .
وَأَمَّا مَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَلَا
يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ بِإِخْرَاجِهِ ، هَذَا بَيِّنٌ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَصْبَغُ : النَّحْلُ ، وَالْحَمَامُ ، وَالْإِوَزُّ
، وَالدَّجَاجُ ، كَالْمَاشِيَةِ ، لَا يُمْنَعُ صَاحِبُهَا مِنْ اتِّخَاذِهَا ،
وَإِنْ أَضَرَّتْ ، وَعَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ حِفْظُ زُرُوعِهِمْ .
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا ،
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ
مُكِّنَ مِنْهُ ، وَأَمَّا انْتِفَاعُهُ بِمَا يَتَّخِذُهُ بِإِضْرَارِهِ بِأَحَدٍ
فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَهَذِهِ الضَّوَارِي عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي
الْمَدِينَةِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِهَا إلَّا بَعْدَ التَّقَدُّمِ .
وَأَرَى الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّقَدُّمِ ،
إذَا كَانَتْ ضَوَارِيَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ الْحَسَنُ : لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْت
الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ
بِصَوَابِهِ ، وَعَذَرَ دَاوُد بِاجْتِهَادِهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي
الْفُرُوعِ إذَا اخْتَلَفُوا ، هَلْ الْحَقُّ فِي قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ
مُعَيَّنٍ ، أَمْ جَمِيعُ أَقْوَالِهِمْ حَقٌّ ؟ وَاَلَّذِي نَرَاهُ أَنَّ جَمِيعَهَا
حَقٌّ لِقَوْلِهِ : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا
وَعِلْمًا } .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّمْحِيصِ ،
فَلْيُنْظَرْ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
سُورَةُ الْحَجِّ
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ
لِكَيْ لَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً
فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ
زَوْجٍ بَهِيجٍ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } يَعْنِي آدَمَ ، { ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ } يَعْنِي وَلَدَهُ ، وَهُوَ الْمَنِيُّ سُمِّيَ نُطْفَةً لِقِلَّتِهِ ،
وَهُوَ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } يَعْنِي قِطْعَةً
صَغِيرَةً مِنْ دَمٍ .
{ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } يَعْنِي ثُمَّ مِنْ جُزْءٍ
مُخَثَّرٍ يُشْبِهُ اللُّقْمَةَ الَّتِي مُضِغَتْ .
وَقَوْلُهُ :
{ مُخَلَّقَةٍ } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : صَارَتْ خَلْقًا ، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ مَا قَذَفَتْهُ الرَّحِمُ
نُطْفَةً ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ
.
الثَّانِي : تَامَّةُ الْخَلْقِ ، وَغَيْرُ تَامَّةِ الْخَلْقِ
قَالَ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : مَعْنَاهُ مُصَوَّرَةٌ وَغَيْرُ
مُصَوَّرَةٍ كَالسَّقْطِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ : يُرِيدُ تَامَّةَ الشُّهُورِ ، وَغَيْرَ
تَامَّةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا
مِنْ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْغَرَضِ ، وَنَحْنُ الْآنَ نُفِيضُ فِيهِ بِمَا إذَا
اتَّصَلَ بِمَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ كَانَ بَيَانًا لِلْمَسْأَلَةِ وَعِرْفَانًا
، فَنَقُولُ : فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالٌ عَنْ السَّلَفِ : فَأَمَّا الرِّوَايَاتُ فَقَدْ قَدَّمْنَا
بَعْضَهَا وَنُعِيدُ مِنْهَا هَاهُنَا الرِّوَايَةَ الْأُولَى : رَوَى يَحْيَى
بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، حَدَّثَنَا دَاوُد عَنْ عَامِرٍ عَنْ
عَلْقَمَةَ
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوه ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النُّطْفَةَ إذَا
اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ ؟
ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى ؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ؟ مَا الْأَجَلُ ؟ مَا الْأَثَرُ ؟
وَبِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ؟ قَالَ دَاوُد : وَشُكِّلَتْ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ
، فَيُقَالُ لَهُ : انْطَلِقْ إلَى أُمِّ الْكِتَابِ ، فَإِنَّك تَجِدُ فِيهَا
قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ ، فَيَنْطَلِقُ فَيَجِدُ قِصَّتَهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ
تَتَخَلَّقُ فَتَأْكُلُ رِزْقَهَا ، وَتَطَأُ أَثَرَهَا ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهَا
قُبِضَتْ فَدُفِنَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُدِّرَ لَهَا ، ثُمَّ قَرَأَ عَامِرٌ
: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ
مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } .
الثَّانِيَةُ : مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ
دَاوُد بِمِثْلِهِ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : إذَا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَةُ فِي
الرَّحِمِ أَدَارَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ ، وَقَالَ : أَيْ رَبِّ ، مُخَلَّقَةٌ أَوْ
غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ ؟ قَالَ : فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا
الْأَرْحَامُ دَمًا ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّقَةً قَالَ : أَيْ رَبِّ ، أَذَكَرٌ
أَمْ أُنْثَى ؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ؟ مَا الرِّزْقُ ؟ مَا الْأَثَرُ ؟ بِأَيِّ
أَرْضٍ تَمُوتُ ؟ وَآثَارُ السَّلَفِ أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ : قَالَ عَامِرٌ فِي
النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ : فَإِذَا انْتَكَسَتْ فِي الْخَلْقِ
الرَّابِعِ كَانَتْ نَسَمَةً مُخَلَّقَةً ، وَإِذَا قَذَفَتْهَا قَبْلَ ذَلِكَ
فَهِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ .
الثَّانِي : قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : غَيْرُ
مُخَلَّقَةٍ : السَّقْطُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ .
الثَّالِثُ : قَالَ قَتَادَةُ : تَامَّةٌ وَغَيْرُ
تَامَّةٍ .
الرَّابِعُ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الْمُخَلَّقَةُ
الَّتِي خَلَقَ فِيهَا الرَّأْسَ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ .
وَغَيْرُ مُخَلَّقَةٍ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا
شَيْئًا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : إنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ
عَلَى السَّقْطِ ، وَيَقُولُ : سَمُّوهُمْ وَاغْسِلُوهُمْ ، وَكَفِّنُوهُمْ
وَحَنِّطُوهُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ بِالْإِسْلَامِ صَغِيرَكُمْ
وَكَبِيرَكُمْ ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ : { إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } ، لَمْ يَسْتَتِمَّ سَائِرُ خَلْقِهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ
يَبْعَثُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلْقًا تَامًّا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا رَجَعْنَا إلَى أَصْلِ
الِاشْتِقَاقِ فَإِنَّ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ مُخَلَّقَةٌ ؛
لِأَنَّ الْكُلَّ خَلْقُ اللَّهِ ، وَإِذَا رَجَعْنَا إلَى التَّصْوِيرِ الَّذِي
هُوَ مُنْتَهَى الْخِلْقَةِ كَمَا قَالَ : ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ
فَذَلِكَ مَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : إنَّهَا الَّتِي صُوِّرَتْ بِرَأْسٍ وَيَدَيْنِ
وَرِجْلَيْنِ ، وَبَيْنَهَا حَالَاتٌ
.
فَأَمَّا النُّطْفَةُ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَقِينًا ، وَأَمَّا
إنْ تَلَوَّنَتْ فَقَدْ تَخَلَّقَتْ فِي رَحِمِ الْأُمِّ بِالتَّلْوِينِ ،
وَتَخَلَّقَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّخْثِيرِ ؛ فَإِنَّهُ إنْشَاءٌ بَعْدَ إنْشَاءٍ .
وَيَزْعُمُ قَوْمٌ أَنَّ مَعَ التَّخْثِيرِ يَظْهَرُ
التَّخْطِيطُ وَمِثَالُ التَّصْوِيرِ ، فَلِذَلِكَ شَكَّ مَالِكٌ فِيهِ ، وَقَالَ
: وَمِنْ رَأْيِي مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ سَقْطٌ فَهُوَ الَّذِي تَكُونُ بِهِ أُمَّ
وَلَدٍ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ ،
وَشَرْحُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلَ مَا جَاءَ مِنْ الْأَخْبَارِ
وَالْآثَارِ عَلَى الْمُخَلَّقِ وَغَيْرِ الْمُخَلَّقِ ، وَعَلَى التَّامِّ
وَالنَّاقِصِ .
وَلَعَلَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَرَادَ السَّقْطَ
مَا تَبَيَّنَ خَلْقُهُ فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى ، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ
خَلْقُهُ فَلَا وُجُودَ لَهُ ، وَالِاسْمُ فِيهِ دُونَ مَوْجُودٍ يُسَمَّى
وَبِمَاذَا تَكُونُ الْوَلَدُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ كَمَا أَشَرْنَا
إلَيْهِ ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا بِعِزَّتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ
عِدَّةَ
الْمَرْأَةِ
تَنْقَضِي بِالسَّقْطِ الْمَوْضُوعِ ، ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي ، وَاحْتَجَّ
عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَمْلٌ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
} ، وَكَذَلِكَ
قَالَ : لَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَا يَرْتَبِطُ شَيْءٌ مِنْ
الْأَحْكَامِ بِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُخَلَّقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } ،
فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَلْقٌ ، كَمَا أَنَّهُ حَمْلٌ .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ
الْوَلَدَ لَيْسَ بِمُضْغَةٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى الْقُدْرَةِ .
قُلْنَا : فَأَيْنَ الْمَقْدُورُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ
الْقُدْرَةُ ؟ هَلْ هُوَ تَصْرِيفُ الْوَلَدِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ ، وَنَقْلِهِ
مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ ؟ فَذَكَرَ أَنَّ أَصْلَهُ النُّطْفَةُ ، ثُمَّ تَتَدَاوَلُهُ
الصِّفَاتُ ، فَيَكُونُ خَلْقًا وَحَمْلًا .
قَالَ الْمُعْتَرِضُ : وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : {
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } مَا يُسَمَّى وَلَدًا .
قُلْنَا :
بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَا يُسَمَّى حَمْلًا وَخَلْقًا
لِشَغْلِ الرَّحِمِ ؛ فَإِذَا سَقَطَ بَرِئَتْ الرَّحِمُ مِنْ شُغْلِهَا .
قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ : وَالدَّلِيلُ عَلَى
صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرِثُ أَبَاهُ ، فَدَلَّ عَلَى وُجُودِهِ خَلْقًا ،
وَكَوْنِهِ وَلَدًا وَحَمْلًا .
قَالَ الْمُعْتَرِضُ : لَا حُجَّةَ فِي الْمِيرَاثِ ؛
لِأَنَّهُ جَاءَ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ كَوْنِهِ نُطْفَةً .
قُلْنَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْقًا مَوْجُودًا ، وَلَا
وَلَدًا مَحْسُوبًا مَا أُسْنِدَ مِيرَاثُهُ إلَى حَالٍ وَلَا قُضِيَ لَهُ بِهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ { أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ
عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ ، وَمَنَعُوهُ ، فَقَاضَاهُمْ عَلَى الْعَامِ
الْمُسْتَقْبَلِ ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ ،
وَحَلَقَ رَأْسَهُ ، وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : {
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَسْجِدَ
نَفْسَهُ ، دُونَ الْحَرَمِ ؛ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَذْكُرْ غَيْرَهُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ
الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ عَنْهُ ، فَنَزَلَ خَارِجًا مِنْهُ فِي الْحِلِّ ، وَعَيَّرَهُمْ
اللَّهُ بِذَلِكَ ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ : { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ،
فَصِفَةُ الْحَرَامِ تَقْتَضِي الْحَرَمَ كُلَّهُ ، ؛ لِأَنَّهُ بِصِفَتِهِ فِي
التَّحْرِيمِ ، وَآخِذٌ بِجَزَاءٍ عَظِيمٍ مِنْ التَّكْرِمَةِ وَالتَّعْظِيمِ
بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { جَعَلَ
اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } ، وَكَانَ الْحَرَمُ
مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَرِيمُهُ ، وَحَرِيمُ الدَّارِ مِنْ الدَّارِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ
} يُرِيدُ خَلَقْنَاهُ لَهُمْ ، وَسَمَّيْنَاهُ ، وَوَضَعْنَاهُ شَرْعًا وَدِينًا
، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْجَعْلِ وَتَصَرُّفَاتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { سَوَاءً
الْعَاكِفُ } .
يَعْنِي الْمُقِيمَ ، وَكَذَلِكَ اسْمُهُ فِي اللُّغَة .
وَالْبَادِي : يُرِيدُ
الطَّارِئَ
عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْ
قَوْلِ اللَّهِ : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } فَقَالَ لِي مَالِكٌ :
السَّعَةُ وَالْأَمْنُ وَالْحَقُّ
.
قَالَ مَالِكٌ : وَقَدْ كَانَتْ الْفَسَاطِيطُ تُضْرَبُ
فِي الدُّورِ يَنْزِلُهَا النَّاسُ
.
وَالْبَادِي أَهْلُ الْبَادِيَةِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ
يَقْدُمُ عَلَيْهِمْ .
ثُمَّ قَالَ : { وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ } قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ : وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : سَوَاءٌ فِي
الْحَقِّ وَالسَّعَةِ ، وَالْبَادِي أَهْلُ الْبَادِيَةِ ، وَمَنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِمْ
، وَقَدْ كَانَتْ تُضْرَبُ الْفَسَاطِيطُ فِي الدُّورِ ، وَلَقَدْ سَمِعْت أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْزِعُ أَبْوَابَ مَكَّةَ إذَا قَدِمَ النَّاسُ .
قَالَ : وَالْحَجُّ كُلُّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي الْمَعْنَى الَّذِي
فِيهِ التَّسْوِيَةُ : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي دُورِهِ
وَمَنَازِلِهِ ، لَيْسَ الْمُقِيمُ فِيهَا أَوْلَى بِهَا مِنْ الطَّارِئِ
عَلَيْهَا .
هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ
وَغَيْرِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا فِي الْحَقِّ سَوَاءٌ
وَالْحُرْمَةُ وَالنُّسُكُ .
وَالصَّحِيحُ عُمُومُ التَّسْوِيَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ
، كَمَا قَالَ مَالِكٌ ، وَعَلَيْهِ حَمَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، فَقَدْ
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ فِي الْمَوْسِمِ بِقَلْعِ أَبْوَابِ دُورِ مَكَّةَ
حَتَّى يَدْخُلَهَا الَّذِي يَقْدُمُ ، فَيَنْزِلُ حَيْثُ شَاءَ ، وَهَذَا يَنْبَنِي
عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ دُورَ مَكَّةَ [ هَلْ هِيَ ] مِلْكٌ
لِأَرْبَابِهَا أَمْ هِيَ لِلنَّاسِ ؟ الثَّانِي : يَنْبَنِي عَلَيْهِ هَذَا
الْأَصْلُ ، وَهُوَ أَنَّ مَكَّةَ هَلْ اُفْتُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا ؟
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ رَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ قَالَ :
تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
وَمَا نَرَى رِبَاعَ مَكَّةَ إلَّا السَّوَائِبَ ، مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ ، وَمَنْ
اسْتَغْنَى أَسْكَنَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ الْقَوْلَ
فِي رِبَاعِ مَكَّةَ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي الْآنَ
فِيهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً ، لَكِنَّهُ مَنَّ
عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ ، فَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ فِي
أَمْوَالِهِمْ ، أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى : مَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ
فَهُوَ آمِنٌ ، وَتَرَكَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلَى أَحْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ
تَغْيِيرٍ عَلَيْهِمْ } ، وَلَكِنَّ
النَّاسَ إذَا كَثُرُوا وَارِدِينَ عَلَيْهِمْ شَارَكُوهُمْ بِحُكْمِ الْحَاجَةِ
إلَى ذَلِكَ .
وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ
كَانَ نَهَى أَنْ تُغْلَقَ مَكَّةُ زَمَنَ الْحَاجِّ ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا
يَنْزِلُونَ مِنْهَا حَيْثُ وَجَدُوا فَارِغًا ، حَتَّى كَانُوا يَضْرِبُونَ
الْفَسَاطِيطَ فِي جَوْفِ الدُّورِ
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي
دُخُولِ الْبَاءِ هَاهُنَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا زَائِدَةٌ ، كَزِيَادَتِهَا
فِي قَوْلِهِ : { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } ، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ
: نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجْ نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو
بِالْفَرَجْ أَرَادَ وَنَرْجُو الْفَرَجَ .
وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سَبِيلِ
الْعَرَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْمَعْنَى عَلَى الْفِعْلِ أَوْلَى مِنْ
حَمْلِهِ عَلَى الْحَرْفِ .
فَيُقَالُ الْمَعْنَى : وَمَنْ يُهِمُّ فِيهِ بِمِيلٍ
يَكُونُ ذَلِكَ الْمَيْلُ ظُلْمًا ؛ لِأَنَّ الْإِلْحَادَ هُوَ الْمَيْلُ فِي
اللُّغَةِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ مَيْلًا مَذْمُومًا
، فَرَفَعَ اللَّهُ الْإِشْكَالَ ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيْلَ بِالظُّلْمِ هُوَ
الْمُرَادُ هَاهُنَا ، وَالظُّلْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وَضْعُ
الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالذُّنُوبِ الْمُطْلَقَةِ
بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ ، وَبِالذُّنُوبِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى الْخَلْقِ ، وَهُوَ
أَعْظَمُ .
وَلِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَهُ فُسْطَاطَانِ : أَحَدُهُمَا فِي
الْحِلِّ ، وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ ؛ فَكَانَ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ دَخَلَ
فُسْطَاطَ الْحَرَمِ ، وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَ لِبَعْضِ شَأْنِهِ دَخَلَ
فُسْطَاطَ الْحِلِّ ، صِيَانَةً لِلْحَرَمِ عَنْ قَوْلِهِمْ : كَلًّا وَاَللَّهِ ،
وَبَلَى وَاَللَّهِ ، حِينَ عَظَّمَ اللَّهُ الذَّنْبَ فِيهِ ، وَبَيَّنَ أَنَّ
الْجِنَايَاتِ تُعَظَّمُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الزَّمَانِ ، كَالْأَشْهُرِ
الْحُرُمِ ، وَعَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْمَكَانِ ، كَالْبَلَدِ الْحَرَامِ ،
فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا بِنَفْسِ الْمُخَالَفَةِ ، وَالثَّانِيَةُ
بِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، أَوْ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فَإِنْ
أَشْرَكَ فِيهِ أَحَدٌ فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ
مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ مُتَأَوِّلًا
فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ
مَكَّةَ حَرَّمَهَا
اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ
اللَّهِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، فَإِنْ
أَحَدٌ تَرَخَّصَ فِيهَا بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ الْعَدَوِيُّ لِعَمْرِو
بْنِ سَعِيدٍ الْعَاصِي ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ : { ائْذَنْ
لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثُك قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ
، وَوَعَاهُ قَلْبِي ، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ : حَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ
يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا ، أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً ، فَإِنْ
أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقُولُوا لَهُ : إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ،
وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا
الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ ، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } .
فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ : مَا قَالَ لَك عَمْرٌو ؟
قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ مِنْك بِذَلِكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ ، إنَّ الْحَرَمَ لَا
يُعِيذُ عَاصِيًا ، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ .
وَهَذَا مِنْ احْتِجَاجِ عَمْرٍو بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ
ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَائِمًا بِالْحَقِّ ، عَادِلًا
فِي الْحَرَمِ ، دَاعِيًا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
الْآيَةُ
الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ
مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَالُوا مَعْنَاهُ وَطَّأْنَا وَمَهَّدْنَا .
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا ؛ إنَّمَا الْمَبَاءَةُ
الْمَنْزِلُ ، وَبَوَّأْنَا فَعَّلْنَا مِنْهُ فَالْمَعْنَى وَإِذْ نَزَّلْنَا
بِتَشْدِيدِ الزَّايِ لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ، أَيْ عَرَّفْنَاهُ بِهِ
مَنْزِلًا ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ اللَّامُ فِيهِ ، فَخَفِيَ الْأَمْرُ عَلَى
يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا حَتَّى قَالَ : إنَّ اللَّامَ هَاهُنَا زَائِدَةٌ ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ النَّاسُ : جَعَلَ اللَّهُ
لِإِبْرَاهِيمَ عَلَامَةً رِيحًا هَبَّتْ حَتَّى كَشَفَتْ أَسَاسَ آدَمَ فِي
الْبَيْتِ .
وَقِيلَ : نَصَبَ لَهُ ظِلًّا عَلَى قَدْرِ الْبَيْتِ ،
فَقَدَّرَهُ بِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَطَّهُ لَهُ جِبْرِيلُ .
وَهَذِهِ الْجُمَلُ لَا تَتَخَصَّصُ إلَّا بِنَصٍّ
صَرِيحٍ صَحِيحٍ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ إبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ
مِنْهُ مَعَ هَاجَرَ وَابْنِهَا ، وَكَيْف عَادَ ، وَكَيْف بَنَى ، وَلَيْسَ فِيهِ
ذِكْرٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى أَبُو ذَرٍّ ، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لَهُ : أَيُّ
الْمَسْجِدِ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ الْأَوَّلَ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ .
قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى .
قُلْت : كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ
سَنَةً .
ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ } ،
كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هَاهُنَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَطَهِّرْ بَيْتِي } يَعْنِي لَا تَقْرَبْهُ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا
قَذَارَةٍ ، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى شَاءَ اللَّهُ فَعُبِدَ فِيهِ غَيْرُهُ ،
وَأُشْرِكَ فِيهِ بِهِ ، وَلُطِّخَ بِالدِّمَاءِ النَّجِسَةِ ، وَمُلِئَ مِنْ
الْأَقْذَارِ الْمُنْتِنَةِ .
الْآيَةُ
الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { وَأَذِّنْ
} تَقَدَّمَ بَيَانُ { أَذِّنْ } فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ
، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ أَعْلِمْ ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ
إبْرَاهِيمَ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ، وَذَلِكَ نَصُّ الْقُرْآنِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ النِّدَاءِ كَيْف
وَقَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فِي جُمْلَةِ شَرَائِعِ
الدِّينِ ، الصَّلَاةُ ، وَالزَّكَاةُ ، وَالصِّيَامُ ، وَالْحَجُّ ، حَسْبَمَا تَمَهَّدَتْ
بِهِ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَسَّسَهَا لِسَانُهُ ، وَأَوْضَحَهَا
بِبَيَانِهِ ، وَخَتَمَهَا مُبَلَّغَةً تَامَّةً بِمُحَمَّدٍ فِي زَمَانِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَرْقَى عَلَى
أَبِي قُبَيْسٍ وَيُنَادِي : أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ
الْحَجَّ فَحُجُّوا ، فَلَمْ تَبْقَ نَفْسٌ إلَّا أَبْلَغَ اللَّهُ نِدَاءَ
إبْرَاهِيمَ إلَيْهَا ، فَمَنْ لَبَّى حِينَئِذٍ حَجَّ ، وَمَنْ سَكَتَ لَمْ
يَكُنْ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ ، وَرَبُّنَا عَلَى ذَلِكَ مُقْتَدِرٌ ، فَإِنْ صَحَّ
بِهِ الْأَثَرُ اسْتَمَرَّ عَقِيدَةً وَاسْتَقَرَّ ، وَإِلَّا فَالْأَوَّلُ
يَكْفِي فِي الْمَعْنَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { يَأْتُوك رِجَالًا } قَالَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ : لَا يُفْتَرَضُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ زَادٌ وَلَا رَاحِلَةٌ ، وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ ، حَسْبَمَا تُفَسَّرُ فِي حَدِيثِ الْجَوْزِيِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عُمْرَانِ ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ ، بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي أَنَّ حَالَ الْحَاجِّ فِي فَرْضِ الْإِجَابَةِ مُنْقَسِمَةٌ إلَى رَاجِلٍ وَرَاكِبٍ ، وَلَيْسَ عَنْ هَذَا لِأَحَدٍ مَذْهَبٌ ، وَلَا بَعْدَهُ فِي الدَّلِيلِ مَطْلَبٌ ، حَسْبَمَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ ، فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عِنْدَنَا صِفَةُ الْمُسْتَطِيعِ ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِبَدَنِهِ ، فَإِذَا قَدَرَ يَمْشِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ ، وَإِذَا عَجَزَ وَوَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَتَحَقَّقَ الْوَعْدُ بِالْوَجْهَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ }
يَعْنِي الَّتِي انْضَمَّ جَنْبَاهَا مِنْ الْهُزَالِ حَتَّى أَكَلَتْهَا
الْفَيَافِي ، وَرَعَتْهَا الْمَفَازَاتُ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْهَا أَوَانَ
انْفِصَالِهِ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى بَدَنٍ ، فَإِنَّ حَرْبَ الْبَيْدَاءِ
وَمُعَالَجَةَ الْأَعْدَاءِ رَدَّهَا هِلَالًا ، فَوَصَفَهَا اللَّهُ بِالْمَآلِ الَّذِي
انْتَهَتْ عَلَيْهِ إلَى مَكَّةَ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { يَأْتِينَ } رَدَّ
الضَّمِيرَ إلَى الْإِبِلِ تَكْرِمَةً لَهَا ؛ لِقَصْدِهَا الْحَجَّ مَعَ
أَرْبَابِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
: { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } فِي خَيْلِ الْجِهَادِ
تَكْرِمَةً لَهَا حِينَ سَعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { عَمِيقٍ }
يَعْنِي بَعِيدٌ ، وَبِنَاءُ " عَمُقَ " لِلْبُعْدِ قَالَ الشَّاعِرُ
يَصِفُ قَفْرًا : وَقَاتِمُ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُحْتَرَقِ يُرِيدُ
بِالْأَعْمَاقِ الْأَبْعَادَ تَرَى عَلَيْهَا قَتَامًا يُخْتَرَقُ مِنْهَا جَوًّا
خَاوِيًا ، وَتَمْشِي فِيهِ كَأَنَّك وَإِنْ كُنْت مُصْعِدًا هَاوٍ ، وَلِذَلِكَ
يُقَالُ بِئْرٌ عَمِيقَةٌ ، أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ
حَجَّتَيْنِ ، وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ ثَالِثَةً } ،
وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ حَجَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ وَدَعْوَتِهِ ،
وَإِنَّمَا حَجَّ عَلَى دِينِهِ وَمِلَّتِهِ تَنَفُّلًا بِالْعِبَادَةِ ، وَاسْتِكْثَارًا
مِنْ الطَّاعَةِ ، فَلَمَّا جَاءَهُ فَرْضُ الْحَجِّ بَعْدَ تَمَلُّكِهِ لِمَكَّةَ
وَارْتِفَاعِ الْعَوَائِقِ ، وَتَطْهِيرِ الْبَيْتِ ، وَتَقْدِيسِ الْحَرَمِ ،
قَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ ، ثُمَّ أَدَّى الَّذِي
عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الثَّانِي ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ تَأْخِيرِهِ إلَى
حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ قَبْلُ
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : لَمَّا قَدَّمَ اللَّهُ
تَعَالَى ذِكْرَهُ رِجَالًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ حَجَّ
الرَّاجِلِ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الرَّاكِبِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّهَا لَحَوْجَاءُ فِي
نَفْسِي أَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا ، لِأَنِّي سَمِعْت اللَّهَ
يَقُولُ : { يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } فَبَدَأَ بِأَهْلِ
الرِّجْلَةِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ إبْرَاهِيمَ
وَعِيسَى حَجَّا مَاشِيَيْنِ ، وَإِنَّمَا { حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِبًا وَلَمْ يَحُجَّ مَاشِيًا } ؛ لِأَنَّهُ إنْ اقْتَدَى
بِهِ أَهْلُ مِلَّتِهِ لَمْ يَقْدِرُوا ، وَإِنْ قَصَّرُوا عَنْهُ تَحَسَّرُوا ،
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا .
وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ طَافَ رَاكِبًا لِيَرَى
النَّاسُ هَيْئَةَ الطَّوَافِ .
قَوْله تَعَالَى
: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
هَذِهِ لَامُ الْمَقْصُودِ وَالْفَائِدَةُ الَّتِي يَنْسَاقُ الْحَدِيثُ لَهَا
وَتُنَسَّقُ عَلَيْهِ ، وَأَجَلُّهَا قَوْلُهُ : { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } .
وَقَدْ تَتَّصِلُ بِالْفِعْلِ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ ؛
وَتَتَّصِلُ بِالْحَرْفِ ، كَقَوْلِهِ { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } .
وَقَدْ حَقَّقْنَا مَوْرِدَهَا فِي مَلْجَئَةِ
الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ { مَنَافِعَ } فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: الْمَنَاسِكُ .
الثَّانِي : الْمَغْفِرَةُ .
الثَّالِثُ : التِّجَارَةُ .
الرَّابِعُ : مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ نُسُكٍ وَتِجَارَةٍ وَمَغْفِرَةٍ
وَمَنْفَعَةٍ دُنْيَا وَآخِرَةٌ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِ : { مَنَافِعَ }
فَكُلُّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ ، وَهَذَا يُعَضِّدُهُ مَا
فِي الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } وَذَلِكَ هُوَ التِّجَارَةُ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي
أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا عَشْرُ ذِي
الْحِجَّةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ .
وَبِالْأَوَّلِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَعْلُومَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ
إعَادَتِهِ هَاهُنَا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ :
الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ ؛ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ
بَعْدَهُ .
وَقَالَ : هُوَ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ .
وَمِثْلَهُ رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ
عَنْ مَالِكٍ ، وَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّ الْمُرَادَ بِذَكَرِ اسْمِ اللَّهِ
هَاهُنَا الْكِنَايَةُ عَنْ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَكُلُوا } قَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ ، وَجَرَى فِيهِ شَيْءٌ مِنْ
ذِكْرِ الْهَدْيِ ، وَحَقِيقَتُهُ تَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ
} : فَأَمَّا الْفَقِيرُ فَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ عَلَى نَعْتِ مَا
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ .
وَأَمَّا الْبَائِسُ فَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ عَلَيْهِ
الْبُؤْسُ ، وَهُوَ ضَرَرُ الْمَرَضِ أَوْ ضَرَرُ الْحَاجَةِ .
: قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : فِيهَا أَرْبَعُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ التَّفَثِ : قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ
: هَذِهِ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ عَرَبِيَّةٌ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا
شِعْرًا ، وَلَا أَحَاطُوا بِهَا خَبَرًا ، وَتَكَلَّمَ السَّلَفُ عَلَيْهَا عَلَى
خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : التَّفَثُ حَلْقُ
الشَّعْرِ ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ ، وَمَا أَتْبَعَ ذَلِكَ مِمَّا يَحِلُّ بِهِ
الْمُحْرِمُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ ؛ رَوَاهُ ابْنُ
عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : حَلْقُ الرَّأْسِ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الرَّابِعُ : رَمْيُ الْجِمَارِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الْخَامِسُ :
إزَالَةُ قَشَفِ الْإِحْرَامِ ، مِنْ تَقْلِيمِ
أَظْفَارٍ ، وَأَخْذِ شَعْرٍ ، وَغُسْلٍ ، وَاسْتِعْمَالِ طِيبٍ قَالَهُ الْحَسَنُ
، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ
.
فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فَلَوْ
صَحَّ عَنْهُمَا لَكَانَ حُجَّةً ، لِشَرَفِ الصُّحْبَةِ وَالْإِحَاطَةِ
بِاللُّغَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ قَتَادَةَ إنَّهُ حَلْقُ الرَّأْسِ
فَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ إنَّهُ رَمْيُ الْجِمَارِ
فَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، ثُمَّ تَتَبَّعْت التَّفَثَ لُغَةً
فَرَأَيْت أَبَا عُبَيْدَةَ مَعْمَرَ بْنَ الْمُثَنَّى قَدْ قَالَ : إنَّهُ قَصُّ الْأَظْفَارِ
، وَأَخْذُ الشَّارِبِ ، وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ، إلَّا
النِّكَاحُ ، وَلَمْ يَجِيءَ فِيهِ بِشِعْرٍ يُحْتَجُّ بِهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ : التَّفَثُ هُوَ الرَّمْيُ ،
وَالْحَلْقُ ، وَالتَّقْصِيرُ ، وَالذَّبْحُ ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَالشَّارِبِ
، وَنَتْفُ الْإِبْطِ .
وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ نَحْوَهُ ، وَلَا
أُرَاهُ أَخَذَهُ إلَّا مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ قُطْرُبٌ : تَفِثَ الرَّجُلُ إذَا كَثُرَ
وَسَخُهُ ، وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ : حَفُّوا رُءُوسَهُمْ لَمْ
يَحْلِقُوا تَفَثًا وَلَمْ يَسُلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا وَإِذَا
انْتَهَيْتُمْ إلَى هَذَا الْمَقَامِ ظَهَرَ لَكُمْ أَنَّ مَا
ذُكِرَ
أَشَارَ إلَيْهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ ، وَمَا ذَكَرَهُ قُطْرُبٌ هُوَ
الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفَثِ ، وَهَذِهِ صُورَةُ قَضَاءِ
التَّفَثِ لُغَةً .
وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِذَا نَحَرَ
الْحَاجُّ أَوْ الْمُعْتَمِرُ هَدْيَهُ ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ ، وَأَزَالَ وَسَخَهُ
، وَتَطَهَّرَ وَتَنَقَّى ، وَلَبِسَ الثِّيَابَ ، فَيَقْضِي تَفَثَهُ وَأَمَّا
وَفَاءُ نَذْرِهِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فَإِنَّ النَّذْرَ كُلُّ مَا لَزِمَ الْإِنْسَانَ أَوْ الْتَزَمَهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ
الْقَاسِمِ وَابْنِ بُكَيْر : إنَّهُ رَمْيُ الْجِمَارِ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ الْعَقْلُ
، فَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ ، لِأَجَلِ النَّذْرِ يَعْنِي بِالْعَقْلِ الدِّيَةَ .
وَالْأَوَّلُ أَقْوَى : لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِرَمْيِ
الْجِمَارِ ، وَبِنَحْرِ الْهَدْيِ ، وَيَجْتَنِبُ الْوَطْءَ وَالطِّيبَ ، حَتَّى
تَقَعَ الزِّيَارَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } هَذَا هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ ، وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ بِاتِّفَاقٍ ، وَبِهِ يَتِمُّ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْمَالِهِ وَنِهَايَةُ أَرْكَانِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : وَفِي
تَسْمِيَتِهِ بِالْعَتِيقِ قَوْلَانِ
: أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ عَتُقَ أَيْ قَدُمَ ؛ إذْ
هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ عَتَقَ ، أَيْ خَلُصَ مِنْ
الْجَبَابِرَةِ عَنْ الْهَوَانِ إلَى انْقِضَاءِ الزَّمَانِ ، حَسْبَمَا
بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
قَوْله
تَعَالَى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الْحُرُمَاتُ : امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ ، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ ،
فَإِنَّ لِهَذَا حُرْمَةَ الْمُبَادَرَةِ إلَى الِامْتِثَالِ ، وَلِذَلِكَ
حُرْمَةُ الِانْكِفَافِ وَالِانْزِجَارِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَأُحِلَّتْ لَكُمْ
الْأَنْعَامُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي
سُورَةِ الْمَائِدَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ } وَصَفَ اللَّهُ الْأَوْثَانَ بِأَنَّهَا رِجْسٌ ، وَالرِّجْسُ النَّجِسُ ، وَهِيَ نَجِسَةٌ حُكْمًا ، وَالنَّجَاسَةُ لَيْسَتْ وَصْفًا ذَاتِيًّا لِلْأَعْيَانِ ، وَإِنَّمَا هِيَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّهَا لَا تُزَالُ إلَّا بِالْإِيمَانِ كَمَا لَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ فِي الْأَعْضَاءِ إلَّا بِالْمَاءِ ، إذْ الْمَنْعَانِ مُتَمَاثِلَانِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ لَيْسَا بِجِنْسَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } وَهُوَ الْكَذِبُ .
وَلَهُ مُتَعَلِّقَاتٌ ، أَعْظَمُهَا عُقُوبَةُ
الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ فِي ذَاتِهِ ، أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ ، وَهُوَ
الشِّرْكُ .
وَيُلْحَقُ بِهِ الْكَذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى اللَّهِ ؛ إذْ بِكَلَامِهِ
يَتَكَلَّمُ .
الْمُتَعَلِّقُ الثَّانِي : الشَّهَادَةُ .
وَهُوَ تَصْوِيرُ الْبَاطِلِ بِصُورَةِ الْحَقِّ فِي
طَرِيقِ الْحُكْمِ ؛ { وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمْرَهَا ، فَذَكَرَ الْكَبَائِرَ ، فَقَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ
، وَشَهَادَةُ الزُّورِ } ، ثُمَّ قَالَ : { وَقَوْلُ الزُّورِ ، أَلَا وَقَوْلُ
الزُّورِ .
فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا : لَيْتَهُ
سَكَتَ } .
وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ : { عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ
الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ
الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } } .
ثُمَّ تَتَفَاوَتُ مُتَعَلِّقَاتُ الْكَذِبِ بِحَسَبِ
عِظَمِ ضَرَرِهِ وَقِلَّتِهِ .
قَوْله تَعَالَى
: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :
{ شَعَائِرَ اللَّهِ } : وَاحِدُهَا شَعِيرَةٌ ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا
الْمَعَالِمُ .
وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا فَعِيلَةٌ ، مِنْ شَعَرَتْ ،
بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ .
وَشَعَرْتُ :
دَرَيْتُ ، وَتَفَطَّنْتُ ، وَعَلِمْتُ ، وَتَحَقَّقْتُ
؛ كُلَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْأَصْلِ ، وَتَتَبَايَنُ الْمُتَعَلِّقَاتُ فِي
الْعُرْفِ ، هَذَا مَعْنَاهُ لُغَةً
.
فَأَمَّا الْمُرَادُ بِهَا فِي الشَّرْعِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهَا عَرَفَةُ ، وَالْمُزْدَلِفَةُ ، وَالصَّفَا ، وَالْمَرْوَةُ ، وَمَحَلُّ
الشَّعَائِرِ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ .
قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَتَعْظِيمُهُ
اسْتِيفَاؤُهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْبُدْنُ ، وَتَعْظِيمُهَا
اسْتِسْمَانُهَا .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَكُتُبُهُ ،
وَتَعْظِيمُهَا الْتِزَامُهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا جَمِيعُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِنَّهَا
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } يُرِيدُ فَإِنَّ حَالَةَ التَّعْظِيمِ إذَا كَسَتْ الْعَبْدَ
بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَأَصْلُهُ تُقَاةُ الْقَلْبِ بِصَلَاحِ السِّرِّ وَإِخْلَاصِ
النِّيَّةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْظِيمَ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ ، وَهُوَ
الْأَصْلُ لِتَعْظِيمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَفْعَالِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : أَنَّهَا التِّجَارَةُ ؛ وَيَكُونُ الْأَجَلُ عَلَى هَذَا
الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَنَافِعَ الثَّوَابُ ،
وَالْأَجَلَ يَوْمُ الدِّينِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ الْمَنَافِعَ الرُّكُوبُ ، وَالدُّرُّ وَالنَّسْلُ
، وَالْأَكْلُ ؛ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا الْبُدْنُ ،
وَالْأَجَلَ إيجَابُ الْهَدْيِ
.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا الْبُدْنُ ، وَتَدُلُّ عَلَى غَيْرِهَا
إمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَإِمَّا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ } : يُرِيدُ أَنَّهَا تَنْتَهِي إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، وَهُوَ
الطَّوَافُ ؛ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ : إنَّ الْحَجَّ كُلَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
، يَعْنِي أَنَّ شَعَائِرَ الْحَجِّ كُلَّهَا تَنْتَهِي إلَى الطَّوَافِ
بِالْبَيْتِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : تَنْتَهِي إلَى مَكَّةَ ، هَذَا
عُمُومٌ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْبَيْتِ ، فَلَا
مَعْنَى لِإِلْغَائِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ إلَى الْحِلِّ
وَالْحَرَمِ ، وَهَذَا إنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الشَّعَائِرَ هِيَ الْبُدْنُ
، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ
الشَّعَائِرِ مَعَ عُمُومِهَا .
قَوْله
تَعَالَى : { وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ
الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قُرِئَ مَنْسِكٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا ، وَبَابُ مَفْعَلُ فِي اللُّغَةِ
يَخْتَلِفُ حَالُ دَلَالَتِهِ بِاخْتِلَافِ حَالِ فِعْلِهِ ؛ فَإِذَا كَانَ
مَكْسُورَ الْعَيْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَاسْمُ الْمَكَانِ مِنْهُ مَفْعَلُ ، وَالْمَصْدَرُ
مَفْتُوحُ الْعَيْنِ ، وَاسْمُ الزَّمَانِ مِنْهُ كَاسْمِ الْمَكَانِ ، قَالُوا :
أَتَتْ النَّاقَةُ عَلَى مَضْرِبِهَا وَمَحْلَبِهَا .
وَمَا كَانَ الْعَيْنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْهُ
مَفْتُوحًا فَالْمَصْدَرُ وَالْمَكَانُ مَفْتُوحَانِ ، كَالْمَشْرَبِ
وَالْمَلْبَسِ ، وَيَأْتِي لِغَيْرِهِ كَالْمَكْبَرِ مِنْ كَبُرَ يَكْبُرُ ، وَمَا
كَانَ عَلَى فَعَلَ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ فَبِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ عَلَى يَفْعَلُ
مَفْتُوحًا ، لَمْ يَقُولُوا فِيهِ مَفْعَلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ .
وَقَدْ جَاءَ الْمَصْدَرُ مَكْسُورًا فِي هَذَا الْبَابِ
، قَالُوا مَطْلِعَ الشَّمْسِ ، وَالْحِجَازِيُّونَ يَفْتَحُونَهُ ، وَقَدْ
كَسَرُوا اسْمَ الْمَكَانِ أَيْضًا ، فَقَالُوا : الْمَنْبِتُ لِمَوْضِعِهِ ، وَالْمَطْلِعُ
لِمَوْضِعِهِ ، فَعَلَى هَذَا قُلْ : مَنْسَكًا وَمَنْسِكًا بِالْفَتْحِ
وَالْكَسْرِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ ،
فَقِيلَ : مَعْنَى مَنْسَكًا حَجًّا .
قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَقِيلَ : ذَبْحًا قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَقِيلَ : عِيدًا قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ نَسَكْت ، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ
مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : تَعَبَّدْت ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا } خُصَّ فِي الْحَجِّ عَلَى عَادَةِ اللُّغَةِ .
الثَّانِي : قَالَ ثَعْلَبٌ : هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ
النَّسِيكَةِ ، وَالنَّسِيكَةُ : الْمُخَلَّصَةُ مِنْ الْخَبَثِ ، وَيُقَالُ
لِلذَّبْحِ نُسُكٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ
؛ لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ لِغَيْرِهِ
.
وَادَّعَى ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ مَعْنَى نَسَكْت ذَهَبْت
، وَكُلُّ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبًا فَقَدْ نَسَكَ .
وَلَا يَرْجِعُ إلَّا إلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَلَمَّا رَأَى قَوْمٌ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَكَرَّرُ
قَالَ : إنَّ نَسَكْت بِمَعْنَى تَعَهَّدْت .
وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّهُ
الْعِيدُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمَنَاسِكِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ }
يَعْنِي يَذْبَحُونَهَا لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ فِي هَدْيٍ أَوْ ضَحِيَّةٍ
حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ :
وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا
وَجَبَتْ جَنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ
كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ
اللَّهِ } الْبُدْنُ جَمْعُ بَدَنَةٍ ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْإِبِلِ ،
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ السِّمَنُ ، يُقَالُ : بَدُنَ
الرَّجُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ : إذَا سَمِنَ ، وَبَدَّنَ بِتَشْدِيدِهَا : إذَا
كَبِرَ وَأَسَنَّ ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا بِصِفَتِهَا لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى
اخْتِيَارِهَا ، وَتَعْيِينِ الْأَفْضَلِ مِنْهَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ مَا
اُخْتِيرَ لَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ الْبَقَرَةَ
يُقَالُ لَهَا بَدَنَةٌ وَحَكَى ابْنُ شَجَرَةَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْغَنَمِ ، وَهُوَ
قَوْلٌ شَاذٌّ ، وَالْبُدْنُ هِيَ الْإِبِلُ .
وَالْهَدْيُ عَامٌّ فِي الْإِبِلِ ، وَالْبَقَرِ ،
وَالْغَنَمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهَا بَعْضُ
الشَّعَائِرِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَكُمْ فِيهَا
خَيْرٌ } يَعْنِي مَنْفَعَةَ اللِّبَاسِ وَالْمَعَاشِ وَالرُّكُوبِ وَالْأَجْرِ ،
فَأَمَّا الْأَجْرُ فَهُوَ خَيْرٌ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ خَيْرٌ
إذَا قَوَّى عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ
.
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } : فِيهَا ثَلَاثُ
قِرَاءَاتٍ : صَوَافَّ بِفَاءٍ مُطْلَقَةٍ ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ .
صَوَافِنَ بِنُونٍ ، قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ .
صَوَافِّي بِيَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ
تَحْتِهَا ، قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
فَأَمَّا قَوْلُ صَوَافَّ فَمِنْ صَفَّ يَصُفُّ إذَا
كَانَتْ جُمْلَةً ؛ مِنْ مَقَامٍ أَوْ قُعُودٍ ، أَوْ مُشَاةٍ ، بَعْضُهَا إلَى
جَانِبِ بَعْضٍ عَلَى الِاسْتِوَاءِ ، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا هَاهُنَا صَفَّتْ
قَوَائِمَهَا فِي حَالِ نَحْرِهَا ، أَوْ صَفَّتْ أَيْدِيَهَا قَالَ مُجَاهِدٌ .
وَأَمَّا صَوَافِنُ فَالصَّافِنُ هُوَ الْقَائِمُ .
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي يَثْنِي إحْدَى رِجْلَيْهِ .
وَأَمَّا صَوَافِّي فَهُوَ جَمْعُ صَافِيَةٍ ، وَهِيَ
الَّتِي أَخْلَصَتْ لِلَّهِ نِيَّةً وَجَلَالًا ، وَإِشْعَارًا وَتَقْلِيدًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا إشْعَارَ ، وَهُوَ
بِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ ؛ وَكَأَنَّهُ لَا خَبَرَ عِنْدَهُ لِلسُّنَّةِ
الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَعَاضِدَةِ ، فَهِيَ فِعْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ وَمَعَهُ وَالْخُلَفَاءُ
لِلْإِشْعَارِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } يَعْنِي انْحَرُوهَا ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذِكْرَ
اللَّهِ اسْمٌ صَارَ كِنَايَةً عَنْ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ
أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ وَأَصْلٌ مَعَهُ
.
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : فِي كَيْفِيَّةِ نَحْرِ الْهَدْيِ : وَفِيهِ أَقْوَالٌ : الْأَوَّلُ : قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ : أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ
الصَّوَافِّ ، فَقَالَ : يُقَيِّدُهَا ثُمَّ يَصُفُّهَا .
وَقَالَ لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِثْلَهُ .
وَقَالَ
: فَيَنْحَرُهَا قَائِمَةً ، وَلَا يَعْقِلُهَا ، إلَّا
أَنْ يَضْعُفَ إنْسَانٌ فَيَتَخَوَّفَ أَنْ تَتَفَلَّتَ بَدَنَتُهُ ، فَلَا بَأْسَ
بِأَنْ يَنْحَرَهَا مَعْقُولَةً ، وَإِنْ كَانَ يَقْوَى عَلَيْهَا فَلْيَنْحَرْهَا
قَائِمَةً مَصْفُوفَةً يَدَاهَا بِالْقُيُودِ .
قَالَ
: وَسَأَلْت مَالِكًا عَنْ الْبَدَنَةِ تُنْحَرُ وَهِيَ
قَائِمَةٌ هَلْ تُعَرْقَبُ ؟ قَالَ : مَا أُحِبُّ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ
الْإِنْسَانُ يَضْعُفُ عَنْهَا ، فَلَا يَقْوَى عَلَيْهَا ، فَيَخَافُ أَنْ
تَتَفَلَّتَ مِنْهُ ، فَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يُعَرْقِبَهَا ، وَهَذِهِ
الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ لِلْعُلَمَاءِ : الْأَوَّلُ : يُقِيمُهَا .
الثَّانِي : يُقَيِّدُهَا أَوْ يَعْقِلُهَا .
الثَّالِثُ : يُعَرْقِبُهَا .
وَزَادَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ يَخْتَلِفُ
بِحَسَبِ قُوَّةِ الرَّجُلِ وَضَعْفِهِ
.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلُهُ .
وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ :
الْأَوَّلُ : فِي نَحْرِهَا مُقَيَّدَةً : فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ فَنَحَرَهَا قَالَ : "
ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ " .
الثَّانِي : فِي نَحْرِهَا قَائِمَةً : فِي الصَّحِيحِ
عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ
بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا
} .
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ الْحَرْبَةَ
بِيَدِهِ فِي عُنْفُوَانِ أَيْدِهِ فَيَنْحَرُ بِهَا فِي صَدْرِهَا وَيُخْرِجُهَا
عَلَى سَنَامِهَا ، فَلَمَّا أَسَنَّ كَانَ يَنْحَرُهَا بَارِكَةً لِضَعْفِهِ ،
وَيُمْسِكُ مَعَهُ رَجُلٌ الْحَرْبَةَ ، وَآخَرُ بِخِطَامِهَا .
وَالْعَقْلُ بَعْضُ تَقْيِيدٍ ، وَالْعَرْقَبَةُ
تَعْذِيبٌ لَا أَرَاهُ إلَّا لَوْ نَدَّ ، فَلَا بَأْسَ بِعَرْقَبَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا } يَعْنِي
سَقَطَتْ عَلَى جُنُوبِهَا ، يُرِيدُ مَيِّتَةً ، كَنَّى عَنْ الْمَوْتِ بِالسُّقُوطِ عَلَى الْجَنْبِ ، كَمَا كَنَّى عَنْ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ بِذَكَرِ اسْمِ اللَّهِ ، وَالْكِنَايَاتُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغُ مِنْ التَّصْرِيحِ قَالَ الشَّاعِرُ : لِمُعَفَّرٍ قَهْدٌ يُنَازِعُ شِلْوَهُ غُبْسٌ كَوَاسِبُ مَا يُمَنَّ طَعَامُهَا وَقَالَ آخَرُ : فَتَرَكْنَهُ جَزْرَ السِّبَاعَ يَنُشْنَهُ مَا بَيْنَ قُلَّةِ رَأْسِهِ وَالْمِعْصَمِ فِي مَعْنَاهُ ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوا مِنْهَا } وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ
الْهَدْيُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا ، فَأَمَّا هَدْيُ التَّطَوُّعِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ
، وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ ، أُصُولُهَا
ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : لَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِحَالٍ ؛
قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي
: أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ
وَالْقِرَانِ ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ الْوَاجِبِ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ الْوَاجِبِ كُلِّهِ إلَّا مِنْ
ثَلَاثٍ : جَزَاءُ الصَّيْدِ ، وَفِدْيَةُ الْأَذَى ، وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ .
وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ
إخْرَاجُهُ مِنْ مَالِهِ ، فَكَيْفَ يَأْكُلُ مِنْهُ ؟ وَتَعَلَّقَ أَبُو
حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ الْتَحَقَ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ .
وَتَعَلَّقَ مَالِكٌ بِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ جَعَلَهُ
اللَّهُ لِلْمَسَاكِينِ بِقَوْلِهِ : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } ،
وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ ، وَقَالَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى : {
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي فِدْيَةِ الْأَذَى : وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ لِكُلِّ
مِسْكِينٍ } ، وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ مُصَرَّحٌ بِهِ ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ
مِنْ الْهَدَايَا فَهُوَ عَلَى أَصْلِ قَوْله تَعَالَى : { وَالْبُدْنَ
جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا
الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ ، وَقَدْ ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ
بُدْنَهُ ، وَأَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ ، فَطَبَخَهَا وَأَكَلَ
مِنْهَا ، وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا ، وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ وَاجِبًا ، وَهُوَ
دَمُ الْقِرَانِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي حَجِّهِ } .
وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَكْلِ
لَأَجْلِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَرَى أَنْ تَأْكُلَ مِنْ
نُسُكِهَا
، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ ، فَلَا جَرَمَ كَذَلِكَ شُرِعَ
وَبَلَّغَ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ حِينَ أَهْدَى وَأَحْرَمَ .
وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ .
فَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَظْرِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ قَوْله تَعَالَى { فَكُلُوا } ، { وَأَطْعِمُوا } عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمَا
وَاجِبَانِ قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي ثَعْلَبَةَ .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ قَالَهُ ابْنُ
شُرَيْحٍ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ الْأَكْلَ مُسْتَحَبٌّ ، وَالْإِطْعَامَ وَاجِبٌ ؛
قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِ مَالِكٍ ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُمَا
وَاجِبَانِ فَتَعَلَّقَ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ
الْجَاهِلِيَّةِ ، فَفِيهِ غَرِيبَةٌ مِنْ الْفِقْهِ لَمْ تَقَعْ لِي ، مُذْ
قَرَأْت الْعِلْمَ ، لَهَا نَظِيرٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ :
إنَّهُمَا جَمِيعًا يُتْرَكَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ لَمْ يُتَصَوَّرْ
شَرْعًا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ إلَّا إتْلَافُهَا ، وَذَلِكَ لَا
يَجُوزُ ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِحْبَابُهُمَا مَعًا ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ
أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ عَلَى الْبَدَلِ ، أَوْ يُقَالُ الْأَكْلُ مُسْتَحَبٌّ ،
وَالْإِطْعَامُ وَاجِبٌ ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ .
وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْأَكْلَ وَاجِبٌ ، وَقَدْ
احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِأَمْثِلَةٍ وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ، وَلَمْ تَكُنْ
وَاجِبَةً ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ أَمْرٌ
بِدَلِيلٍ لَا يَسْقُطُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : إذَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ الَّذِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ ،
فَفِيهِ لِعُلَمَائِنَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ
أَنَّهُ إنْ كَانَ جَهْلٌ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
قَالَ مَالِكٌ : وَقَدْ كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ يَقُولُونَ : يَأْكُلُ مِنْهُ .
وَقَالَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِنَا : إنَّهُ
إذَا أَكَلَ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ فِدْيَةِ الْأَذَى بَعْدَ أَنْ بَلَغَ
مَحَلَّتَهُ غَرِمَ .
وَمَاذَا يَغْرَمُ ؟ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُ
الْهَدْيَ كُلَّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ .
الثَّانِي : لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا غُرْمُ قَدْرِ مَا
أَكَلَ ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ ، لَا شَيْءَ غَيْرُهُ .
وَكَذَا لَوْ نَذَرَ هَدْيَ الْمَسَاكِينِ ، فَأَكَلَ
مِنْهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مَحِلَّهُ لَا يَغْرَمُ إلَّا مَا أَكَلَ ، خِلَافًا
لِلْمُدَوِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِي مَا ذَكَرْته لَكُمْ ، إذْ
النَّحْرُ قَدْ وَقَعَ ، وَالتَّعَدِّي إنَّمَا هُوَ فِي اللَّحْمِ ، فَيَغْرَمُ
بِقَدْرِ مَا تَعَدَّى فِيهِ .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يَغْرَمُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ اللَّحْمِ .
وَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ : إنَّهُ يَغْرَمُهُ طَعَامًا .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إنَّمَا هُوَ
فِي مُقَابَلَةِ الْهَدْيِ كُلِّهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ عِبَادَةً ، وَلَيْسَ
حُكْمُ التَّعَدِّي حُكْمَ الْعِبَادَةِ ، فَأَمَّا إذَا عَطِبَ الْوَاجِبُ كُلُّهُ
قَبْلَ مَحَلِّهِ فَلِيَأْكُلْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَعَطِبَ قَبْلَ مَحَلِّهِ لَمْ
يَأْكُلْ ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ أَسْرَعَ بِهِ لِيَأْكُلَهُ ،
وَهَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الْقَانِعَ :
وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : الْمُعْتَرَّ : وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ : الْقَانِعُ
الْفَقِيرُ ، وَالْمُعْتَرُّ الزَّائِرُ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَعُقْبَةُ :
السَّائِلُ ، وَقَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ .
الثَّالِثُ : الْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِيك ؛ قَالَهُ
مُجَاهِدٌ ، وَالْقَانِعُ الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ : الْقَانِعُ الَّذِي يَرْضَى بِالْقَلِيلِ .
وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَمُرُّ بِك وَلَا يُبَايِتُكَ ؛
قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ .
الْخَامِسُ : الَّذِي يَقْنَعُ هُوَ الْمُتَعَفِّفُ ،
وَالْمُعْتَرُّ السَّائِلُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : هَذِهِ
الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ ، فَأَمَّا الْقَانِعُ فَفِعْلُهُ قَنَعَ يَقْنَعُ ،
وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ :
أَحَدُهُمَا الَّذِي يَرْضَى بِمَا عِنْدَهُ .
وَالثَّانِي : الَّذِي يُذَلُّ ، وَكِلَاهُمَا
يَنْطَلِقُ عَلَى الْفَقِيرِ ، فَإِنَّهُ ذَلِيلٌ .
فَإِنْ وَقَفَ عِنْدَ رِزْقِهِ فَهُوَ قَانِعٌ ، وَإِنْ
لَمْ يَرْضَ فَهُوَ مُلْحِفٌ .
وَأَمَّا الْمُعْتَرُّ وَالْمُعْتَرِي فَهُمَا مُتَقَارِبَانِ
مَعْنًى ، مَعَ افْتِرَاقِهِمَا اشْتِقَاقًا ، فَالْمُعْتَرُّ مُضَاعَفٌ ،
وَالْمُعْتَرِي مُعْتَلُّ اللَّامِ ، وَمِنْ النَّادِرِ فِي الْعَرَبِيَّةِ
كَوْنُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ : وَشَيْبَةُ
فِيهِمْ وَالْوَلِيدُ وَمِنْهُمْ أُمَيَّةُ مَأْوَى الْمُعْتَرِينَ وَذِي
الرَّحَلِ يُرِيدُ بِالْمُعْتَرِينَ مَنْ يُقِيمُ لِلزِّيَارَةِ ، وَذُو الرَّحْلِ
مَنْ يَمُرُّ بِك فَتُضَيِّفُهُ
.
وَقَالَ زُهَيْرٌ : عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ
يَعْتَرِيهِمْ وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ وَيُعَضِّدُ هَذَا
قَوْله تَعَالَى : { إنْ نَقُولُ إلَّا اعْتَرَاك بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ }
يُرِيدُ نَزَلَ بِك ؛ فَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُعْتَلِّ .
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْمُضَاعَفِ ، فَكَقَوْلِ
الشَّاعِرِ : يُعْطِي ذَخَائِرَ مَالِهِ مُعَتَّرَهُ قَبْلَ السُّؤَالِ وَقَالَ
الْكُمَيْتُ : أَيَا خَيْرَ مَنْ يَأْتِهِ الطَّارِقُو نَ إمَّا
عِيَادًا
وَإِمَّا اعْتِرَارًا وَقَالَ آخَرُ : لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي
مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنْ الْقُنُوعِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : وَاَلَّذِي
عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا مُتَقَارِبٌ كَتَقَارُبِ مَعْنَى الْفَقِيرِ
وَالْمِسْكِينِ .
وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْأَكْلِ
وَإِطْعَامِ الْفَقِيرِ .
وَالْفَقِيرُ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُلَازِمٌ لَك ،
وَمَارٌّ بِك ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي إطْعَامِ الْكُلِّ مِنْهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ
حَالِهِمَا ، وَمِنْ هَاهُنَا وَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ ، فَقَالَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إنَّ الْقَانِعَ هُوَ جَارُك الْغَنِيُّ ، وَلَيْسَ
لِذَلِكَ وَجْهٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ
.
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْهَدْيَ يُقَسَّمُ أَثْلَاثًا
: قِسْمٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ ، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْقَانِعُ ، وَقِسْمٌ
يَأْخُذُهُ الْمُعْتَرُّ ، وَإِنَّمَا يُقَسَّمُ قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ يَأْخُذُهُ
الْآكِلُ ، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْقَانِعُ وَالْمُعْتَرُّ ؛ وَلِهَذَا قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : لَيْسَ عِنْدَنَا فِي الضَّحَايَا قِسْمٌ
مَعْلُومٌ مَوْصُوفٌ .
قَالَ مَالِكٌ فِي حَدِيثِهِ : بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ شَيْءٌ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَنَا ، وَهُوَ الَّذِي أَشَرْنَا
إلَيْهِ : قِسْمَتُهَا أَثْلَاثًا
.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ
فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
لِيُجَزَّأَ أَثْلَاثًا ؛ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَيْسَ
بِأَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ : { ضَحَّى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ ثُمَّ قَالَ لِي :
أَصْلِحْ لَحْمَهَا ، فَمَا زَالَ يَأْكُلُ مِنْهُ ، حَتَّى قَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ صَدَقَةً
} .
وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا
وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا
اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ } مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ ؛ فَإِنَّ
النَّيْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَارِئِ سُبْحَانَهُ ، وَلَكِنْ عَبَّرَ بِهِ
تَعْبِيرًا مَجَازِيًّا عَنْ الْقَبُولِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا نَالَ الْإِنْسَانَ
مُوَافِقٌ أَوْ مُخَالِفٌ ؛ فَإِنْ نَالَهُ مُوَافِقٌ قَبِلَهُ ، أَوْ مُخَالِفٌ
كَرِهَهُ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَفْعَالِ بَدَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ مَالِيَّةً بِالْإِضَافَةِ
إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ إذْ لَا يُخْتَلَفُ فِي حَقِّهِ إلَّا بِمُقْتَضَى
نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ ، وَإِنَّمَا مَرَاتِبُهَا الْإِخْلَاصُ فِيهَا وَالتَّقْوَى
مِنْهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ : لَنْ يَصِلَ إلَى اللَّهِ لُحُومُهَا
وَلَا دِمَاؤُهَا ، وَإِنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ التَّقْوَى مِنْكُمْ ، فَيَقْبَلُهُ
وَيَرْفَعُهُ إلَيْهِ وَيَسْمَعُهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا
لَكُمْ } امْتَنَّ عَلَيْنَا سُبْحَانَهُ بِتَذْلِيلِهَا لَنَا وَتَمْكِينِنَا
مِنْ تَصْرِيفِهَا ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَّا أَبْدَانًا ، وَأَقْوَى أَعْضَاءً ،
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْأُمُورَ لَيْسَتْ عَلَى مَا تَظْهَرُ إلَى
الْعَبْدِ مِنْ التَّدْبِيرِ وَإِنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ مَا يُدَبِّرُهَا
الْعَزِيزُ الْقَدِيرُ ، فَيَغْلِبُ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ ، لِيَعْلَمَ الْخَلْقُ
أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
اسْمَهُ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا فَقَالَ : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا صَوَافَّ } ، وَذَكَرَ
هَاهُنَا التَّكْبِيرَ ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَهَا إذَا نَحَرَ
هَدْيَهُ ، فَيَقُولُ : " بِسْمِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " .
وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : التَّسْمِيَةُ
عِنْدَ الذَّبْحِ
وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَ الْإِحْلَالِ بَدَلًا مِنْ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ
الْإِحْرَامِ ، وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ أَفْقَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَة
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
سَبَبُ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ
مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ ، إنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، لَيَهْلِكُنَّ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَعَرَفْت أَنَّهُ سَيَكُونُ
قِتَالٌ } ؛ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
الثَّانِي :
قَالَ مُجَاهِدٌ : الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ ، نَزَلَتْ فِي
قَوْمٍ مُهَاجِرِينَ ، وَكَانُوا يُمْنَعُونَ ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي قِتَالِهِمْ
، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ .
الثَّالِثُ : قَالَ الضَّحَّاكُ : اسْتَأْذَنَ أَصْحَابُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ ، فَقِيلَ
: { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } فَلَمَّا هَاجَرَ نَزَلَتْ
: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } ، وَهَذَا نَاسِخٌ
لِكُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إعْرَاضٍ وَتَرْكٍ وَصَفْحٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ
فِي قِسْمِ النَّسْخِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى { أُذِنَ } أُبِيحَ ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِإِبَاحَةِ كُلِّ مَمْنُوعٍ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ قَبْلَ الشَّرْعِ ، لَا إبَاحَةً وَلَا حَظْرًا إلَّا مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ ، وَبَيَّنَهُ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ بَعَثَ رَسُولَهُ وَدَعَا قَوْمَهُ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَصَرَّفُوا إلَّا بِأَمْرٍ ، وَلَا فَعَلُوا إلَّا بِإِذْنٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَعَثَ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُجَّةِ دَعَا قَوْمَهُ إلَى اللَّهِ
دُعَاءً دَائِمًا عَشَرَةَ أَعْوَامٍ ، لِإِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ،
وَوَفَاءً بِوَعْدِهِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ بِفَضْلِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } ، وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ فِي
الطُّغْيَانِ ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِوَاضِحِ الْبُرْهَانِ ، وَحِينَ أَعْذَرَ
اللَّهُ بِذَلِكَ إلَى الْخَلْقِ ، وَأَبَوْا عَنْ الصِّدْقِ أَمَرَ رَسُولَهُ
بِالْقِتَالِ ، لِيَسْتَخْرِجَ الْإِقْرَارَ بِالْحَقِّ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قُرِئَ يُقَاتِلُونَ
بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا ، فَإِنْ كَسَرْت التَّاءَ كَانَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ
الْمَأْذُونِ لَهُمْ ، وَإِنْ فَتَحْتَهَا كَانَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِمْ
بِهِمْ ، وَإِنَّ الْإِذْنَ وَقَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَهُمْ ، فَفِي فَتْحِ
التَّاءِ بَيَانُ سَبَبِ الْقِتَالِ ، وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَتَعَمَّدُونَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْإِذَايَةِ ،
وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالنِّكَايَةِ : لَقَدْ خَنَقَهُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى
كَادَتْ نَفْسُهُ تَذْهَبُ ، فَتَدَارَكَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَقَالَ : {
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ } وَقَدْ بَلَغَ بِأَصْحَابِهِ إلَى
الْمَوْتِ ؛ فَقَدْ قَتَلَ أَبُو جَهْلٍ سُمَيَّةَ أُمَّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ .
وَقَدْ عُذِّبَ بِلَالٌ ، وَمَا بَعْدَ هَذَا إلَّا
الِانْتِصَارُ بِالْقِتَالِ .
وَالْأَقْوَى عِنْدِي قِرَاءَةُ كَسْرِ التَّاءِ ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وُقُوعِ الْعَفْوِ
وَالصَّفْحِ عَمَّا فَعَلُوا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ
اسْتِقْرَارِهِ بِالْمَدِينَةِ ، فَأَخْرَجَ الْبُعُوثَ ، ثُمَّ خَرَجَ بِنَفْسِهِ
، حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنَّ
اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
} .
.
الْآيَةُ
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْحَرْبِ
، وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ الدِّمَاءُ } ، إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ
، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى ، وَالصَّفْحِ عَنْ الْجَاهِلِ [ مُدَّةَ عَشَرَةَ
أَعْوَامٍ ، لِإِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ، وَوَفَاءً
بِوَعْدِهِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ بِفَضْلِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولًا } فَاسْتَمَرَّ الطُّغْيَانُ وَمَا اسْتَدَلُّوا بِوَاضِحِ
الْبُرْهَانِ ] .
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اضْطَهَدَتْ مَنْ اتَّبَعَهُ
مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ،
وَنَفَوْهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ ، فَهُمْ بَيْنَ مَفْتُونٍ فِي دِينِهِ ،
وَمُعَذِّبٍ ، وَبَيْنَ هَارِبٍ فِي الْبِلَادِ مُغَرَّبٍ ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ
إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَمِنْهُمْ
مَنْ صَبَرَ عَلَى الْأَذَى ، فَلَمَّا عَتَتْ قُرَيْشٌ عَلَى اللَّهِ ، وَرَدُّوا
أَمْرَهُ وَكَرَامَتَهُ ، وَكَذَّبُوا نَبِيَّهُ ، وَعَذَّبُوا مَنْ آمَنَ بِهِ
وَعَبَدَهُ وَوَحَّدَهُ ، وَصَدَّقَ نَبِيَّهُ ، وَاعْتَصَمَ بِدِينِهِ ، أَذِنَ
اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي الْقِتَالِ وَالِامْتِنَاعِ وَالِانْتِصَارِ مِمَّنْ
ظَلَمَهُمْ وَبَغَى عَلَيْهِمْ ؛ فَكَانَتْ أَوَّلُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي إذْنِهِ
لَهُ بِالْحَرْبِ وَإِحْلَالِهِ لَهُ الدِّمَاءَ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } إلَى قَوْلِهِ : ( " الْأُمُورِ " ) .
أَيْ إنَّمَا أَحْلَلْت لَهُمْ الْقِتَالَ ؛ لِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
النَّاسِ
إلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَأَنَّهُمْ إذَا ظَهَرُوا أَقَامُوا الصَّلَاةَ .
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ : { وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .
وَعَنْ هَذَا عَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الزَّاهِدِ قَالَ : حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُوسَى ، أَنْبَأَنَا الْمَرْوَزِيِّ ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ ،
حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمُسْنَدِيُّ ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ : سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُمِرْت أَنْ
أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ،
فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ
الْإِسْلَامِ ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ } دَلِيلٌ عَلَى نِسْبَةِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُلْجَأِ
الْمُكْرَهِ إلَى الَّذِي أَلْجَأَهُ وَأَكْرَهَهُ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
حُكْمُ فِعْلِهِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى
إتْلَافِ الْمَالِ يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ ، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِ
الْغَيْرِ يَلْزَمُهُ الْقَتْلُ .
وَرُوِيَ فِي مُخْتَصَرِ الطَّبَرِيِّ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنُوهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ ، إذْ
آذَوْهُ بِمَكَّةَ غِيلَةً ، فَنَزَلَتْ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ
خَوَّانٍ كَفُورٍ } فَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ أَطْلَقَ قِتَالَهُمْ ،
وَهَذَا إنْ كَانَ صَحِيحًا فَقَدْ نَسَخَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : إنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ لِكَعْبِ بْنِ
الْأَشْرَفِ ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ ؟ قَالَ :
نَعَمْ فَقَتَلَهُ مَعَ أَصْحَابِهِ غِيلَةً } .
وَكَذَلِكَ { بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَهْطًا إلَى أَبِي رَافِعٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ ،
فَقَتَلُوهُ غِيلَةً } .
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا
نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ
اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاَللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي
شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ
آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ ، أَظْهَرُهَا وَمَا
فِيهَا ظَاهِرٌ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ
فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قَوْمِهِ ، كَثِيرٌ أَهْلُهُ ، فَتَمَنَّى يَوْمَئِذٍ
أَلَّا يَأْتِيَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ يَوْمَئِذٍ ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْهِ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } فَقَرَأَ حَتَّى إذَا بَلَغَ إلَى
قَوْلِهِ : { أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الْأُخْرَى } .
أَلْقَى الشَّيْطَانُ كَلِمَتَيْنِ : تِلْكَ
الْغَرَانِيقُ الْعُلَا ، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى .
فَتَكَلَّمَ بِهَا ، ثُمَّ مَضَى بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ
كُلِّهَا ، ثُمَّ سَجَدَ فِي آخَرِ السُّورَةِ ، وَسَجَدَ الْقَوْمُ جَمِيعًا
مَعَهُ ، وَرَفَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تُرَابًا إلَى جَبْهَتِهِ
وَسَجَدَ عَلَيْهِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا ، فَلَمَّا أَمْسَى أَتَاهُ جِبْرِيلُ
، فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ : مَا جِئْتُك
بِهَاتَيْنِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ
الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا
لَاِتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ
إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ
الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَك عَلَيْنَا نَصِيرًا } فَمَا زَالَ مَغْمُومًا
مَهْمُومًا
حَتَّى
نَزَلَتْ : { وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } .
} وَفِي رِوَايَةٍ { أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ : لَقَدْ
تَلَوْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى النَّاسِ شَيْئًا لَمْ آتِك بِهِ ، فَحَزِنَ وَخَافَ
خَوْفًا شَدِيدًا ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ
رَسُولٌ وَلَا نَبِيٌّ تَمَنَّى كَمَا تَمَنَّى ، وَأَحَبَّ كَمَا أَحَبَّ ، إلَّا
وَالشَّيْطَانُ قَدْ أَلْقَى فِي أُمْنِيَّتِهِ كَمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى
لِسَانِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : اعْلَمُوا أَنَارَ اللَّهُ أَفْئِدَتكُمْ بِنُورِ هُدَاهُ ،
وَيَسَّرَ لَكُمْ مَقْصِدَ التَّوْحِيدِ وَمَغْزَاهُ أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ
، فَسُبْحَانَ مَنْ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ
يَشَاءُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ فِي فَصْلِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ
عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ بِمَا نَرْجُو بِهِ عِنْدَ اللَّهِ الْجَزَاءَ
الْأَوْفَى ، فِي مَقَامِ الزُّلْفَى ، وَنَحْنُ الْآنَ نَجْلُو بِتِلْكَ
الْفُصُولِ الْغَمَاءَ ، وَنُرَقِّيكُمْ بِهَا عَنْ حَضِيضِ الدَّهْمَاءِ ، إلَى
بِقَاعِ الْعُلَمَاءِ فِي عَشْرِ مَقَامَاتٍ : الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : أَنَّ
النَّبِيَّ إذَا أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكُ بِوَحْيِهِ ، فَإِنَّهُ
يَخْلُقُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِهِ
، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَحَّتْ الرِّسَالَةُ ، وَلَا تَبَيَّنَتْ النُّبُوَّةُ ،
فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ تَمَيَّزَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِ ،
وَثَبَتَ الْيَقِينُ ، وَاسْتَقَامَ سَبِيلُ الدِّينِ ، وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ إذَا
شَافَهَهُ الْمَلَكُ بِالْوَحْيِ لَا يَدْرِي أَمَلُك هُوَ أَمْ إنْسَانٌ ، أَمْ
صُورَةٌ مُخَالِفَةٌ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَلْقَتْ عَلَيْهِ كَلَامًا ،
وَبَلَّغَتْ إلَيْهِ قَوْلًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ ، وَلَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ ، فَهَذِهِ سَبِيلٌ
مُتَيَقَّنَةٌ ، وَحَالَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ ، لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَلَا خِلَافَ فِي
الْمَنْقُولِ وَلَا فِي الْمَعْقُولِ فِيهَا ، وَلَوْ جَازَ لِلشَّيْطَانِ أَنْ
يَتَمَثَّلَ فِيهَا ، أَوْ يَتَشَبَّهَ بِهَا مَا أَمِنَاهُ عَلَى آيَةٍ ، وَلَا عَرَفْنَا
مِنْهُ بَاطِلًا مِنْ حَقِيقَةٍ ؛ فَارْتَفَعَ بِهَذَا الْفَصْلِ اللَّبْسُ ،
وَصَحَّ الْيَقِينُ فِي النَّفْسِ
.
.
الْمَقَامُ
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَ رَسُولَهُ مِنْ الْكُفْرِ ، وَآمَنَهُ مِنْ
الشِّرْكِ ، وَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِهِمْ فِيهِ
، وَإِطْبَاقِهِمْ عَلَيْهِ ؛ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ
يَكْفُرَ بِاَللَّهِ ، أَوْ يَشُكَّ فِيهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، فَقَدْ خَلَعَ
رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ؛ بَلْ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي فِي
الْأَفْعَالِ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْكُفْرِ فِي الِاعْتِقَادِ ؛
بَلْ هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ فِعْلًا وَاعْتِقَادًا .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
بِأَوْضَحِ دَلِيلٍ .
الْمَقَامُ
الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَرَّفَ رَسُولَهُ بِنَفْسِهِ ، وَبَصَّرَهُ
بِأَدِلَّتِهِ ، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ ، وَعَرَّفَهُ سُنَنَ
مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ إخْوَتِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ مَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ ، وَنَحْنُ حُثَالَةُ أُمَّتِهِ ؛ وَمَنْ خَطَرَ
لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ، غَيْرَ عَارِفٍ
بِنَبِيِّهِ وَلَا بِرَبِّهِ .
الْمَقَامُ الرَّابِعُ : تَأَمَّلُوا فَتَحَ اللَّهُ
أَغْلَاقَ النَّظَرِ عَنْكُمْ إلَى قَوْلِ الرُّوَاةُ الَّذِينَ هُمْ بِجَهْلِهِمْ
أَعْدَاءٌ عَلَى الْإِسْلَامِ ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِعَدَاوَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَلَسَ مَعَ قُرَيْشٍ تَمَنَّى أَلَّا يَنْزِلَ
عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَحْيٌ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمَنْ مَعَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ
أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
آثَرَ وَصْلَ قَوْمِهِ عَلَى وَصْلِ رَبِّهِ ، وَأَرَادَ أَلَا يَقْطَعَ أُنْسَهُ
بِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي كَانَ
حَيَاةَ جَسَدِهِ وَقَلْبِهِ ، وَأُنْسَ وَحْشَتِهِ ، وَغَايَةَ أُمْنِيَّتِهِ .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ ؛ فَإِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ
بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ فَيُؤْثِرُ عَلَى هَذَا مُجَالَسَةَ
الْأَعْدَاءِ .
الْمَقَامُ
الْخَامِسُ : أَنَّ قَوْلَ الشَّيْطَانِ تِلْكَ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا ، وَإِنَّ
شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَهُ
مِنْهُ ؛ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالْمَلَكِ ، وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ
التَّوْحِيدُ بِالْكُفْرِ ، حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا .
وَأَنَا مِنْ أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَةً ،
وَأَقَلِّهِمْ مَعْرِفَةً بِمَا وَفَّقَنِي اللَّهُ لَهُ ، وَآتَانِي مِنْ
عِلْمِهِ ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ لَا يَجُوزُ
وُرُودُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
.
وَلَوْ قَالَهُ أَحَدٌ لَكُمْ لَتَبَادَرَ الْكُلُّ
إلَيْهِ قَبْلَ التَّفْكِيرِ بِالْإِنْكَارِ وَالرَّدْعِ ، وَالتَّثْرِيبِ
وَالتَّشْنِيعِ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْهَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَالَ الْقَوْلِ ، وَيَخْفَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ ، وَلَا يَتَفَطَّنُ
لِصِفَةِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهَا الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا ، وَأَنَّ شَفَاعَتَهَا
تُرْتَجَى .
وَقَدْ عَلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا جَمَادَاتٌ
لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ ، وَلَا تَنْطِقُ وَلَا تَضُرُّ ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا
تَنْصُرُ وَلَا تَشْفَعُ ، بِهَذَا كَانَ يَأْتِيه جِبْرِيلُ الصَّبَاحُ
وَالْمَسَاءُ ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى التَّوْحِيدُ ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْ
جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ ، فَكَيْفَ يَخْفَى هَذَا
عَلَى الرَّسُولِ ؟ ثُمَّ لَمْ يَكْفِ هَذَا حَتَّى قَالُوا : إنَّ جِبْرِيلَ
لَمَّا عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُعَارِضَهُ فِيمَا أَلْقَى إلَيْهِ
الْوَحْيُ كَرَّرَهَا عَلَيْهِ جَاهِلًا بِهَا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ
أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ جِبْرِيلُ ، وَقَالَ لَهُ : مَا جِئْتُك بِهَذِهِ .
فَحَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِذَلِكَ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَنْ الَّذِي
أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } ، فَيَا لِلَّهِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ
وَالْعَالَمِينَ مِنْ شَيْخٍ فَاسِدٍ وَسُوسٍ هَامِدٍ ، لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ نَافِيَةً لِمَا زَعَمُوا ، مُبْطِلَةً لِمَا رَوَوْا وَتَقَوَّلُوا ،
وَهُوَ : الْمَقَامُ السَّادِسُ
: وَذَلِكَ أَنَّ
قَوْلَ
الْعَرَبِيِّ : كَادَ يَكُونُ كَذَا : مَعْنَاهُ قَارَبَ وَلَمْ يَكُنْ ؛
فَأَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَارَبُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ
عَنْ الَّذِي أُوحِيَ إلَيْهِ ، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ ، ثُمَّ قَالَ :
لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ
.
وَهُوَ :
الْمَقَامُ السَّابِعُ : وَلَمْ يَفْتَرِ ، وَلَوْ
فَتَنُوك وَافْتَرَيْت لَاتَّخَذُوك خَلِيلًا ، فَلَمْ تُفْتَتَنْ وَلَا
افْتَرَيْت ، وَلَا عَدُّوك خَلِيلًا
.
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك وَهُوَ :
الْمَقَامُ
الثَّامِنُ : { لَقَدْ كِدْت تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } ؛ فَأَخْبَرَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ ثَبَّتَهُ ، وَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ
وَالْمَعْرِفَةَ فِي قَلْبِهِ ، وَضَرَبَ عَلَيْهِ سُرَادِقَ الْعِصْمَةِ ،
وَآوَاهُ فِي كَنَفِ الْحُرْمَةِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ إلَى نَفْسِهِ ، وَرَفَعَ عَنْهُ ظِلَّ
عِصْمَتِهِ لَحْظَةً لَأَلْمَمَت بِمَا رَامُوهُ ، وَلَكِنَّا أَمَرْنَا عَلَيْك
بِالْمُحَافَظَةِ ، وَأَشْرَقْنَا بِنُورِ الْهِدَايَةِ فُؤَادَك ، فَاسْتَبْصِرْ
وَأَزِحْ عَنْك الْبَاطِلَ ، وَادْحَرْ
.
فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي عِصْمَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا نُسِبَ
إلَيْهِ ، فَكَيْفَ يَتَأَوَّلُهَا أَحَدٌ ؟ عَدُّوا عَمَّا نُسِبَ مِنْ
الْبَاطِلِ إلَيْهِ .
الْمَقَامُ التَّاسِعُ : قَوْلُهُ : فَمَا زَالَ
مَهْمُومًا حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } الْآيَةَ
.
فَأَمَّا غَمُّهُ وَحُزْنُهُ فَبِأَنْ تَمَكَّنَ
الشَّيْطَانُ مِمَّا تَمَكَّنَ ، مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يَنَالَ الشَّيْطَانُ
مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ تَأْثِيرُهُ .
الْمَقَامُ
الْعَاشِرُ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي غَرَضِنَا ، دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ
مَذْهَبِنَا ، أَصْلٌ فِي بَرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَنَا ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ
تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا
إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أَمْنِيَّتِهِ } فَأَخْبَرَ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ فِي رُسُلِهِ وَسِيرَتِهِ فِي أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ
إذَا قَالُوا عَنْ اللَّهِ قَوْلًا زَادَ الشَّيْطَانُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ
، كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ الْمَعَاصِي ، كَمَا تَقُولُ : أَلْقَيْت فِي الدَّارِ
كَذَا ، وَأَلْقَيْت فِي الْعِكْمِ كَذَا ، وَأَلْقَيْت فِي الْكِيسِ كَذَا .
فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ زَادَ فِي الَّذِي
قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَنَّ النَّبِيَّ
قَالَهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
إذَا قَرَأَ تَلَا قُرْآنًا مُقَطَّعًا ، وَسَكَتَ فِي مَقَاطِعِ الْآيِ سُكُوتًا
مُحَصَّلًا ، وَكَذَلِكَ كَانَ حَدِيثُهُ مُتَرَسِّلًا مُتَأَنِّيًا ، فَيَتَّبِعُ
الشَّيْطَانُ تِلْكَ السَّكَتَاتِ الَّتِي بَيْنَ قَوْلِهِ : { وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الْأُخْرَى } وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى : { أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى
} ، فَقَالَ يُحَاكِي صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا ، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى .
فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ لِقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ وَفَسَادِ السَّرِيرَةِ فَتَلَوْهَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبُوهَا بِجَهْلِهِمْ إلَيْهِ ، حَتَّى
سَجَدُوا مَعَهُ اعْتِقَادًا أَنَّهُ مَعَهُمْ ، وَعَلِمَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
فَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَرْفُضُونَ غَيْرَهُ ، وَتُجِيبُ قُلُوبُهُمْ إلَى
الْحَقِّ ، وَتَنْفِرُ عَنْ الْبَاطِلِ ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ مِنْ اللَّهِ وَمِحْنَةٌ .
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ ، وَلَيْسَ فِي
الْقُرْآنِ إلَّا غَايَةُ الْبَيَانِ بِصِيَانَةِ
النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ عَنْ الشَّكِّ
وَالْكُفْرَانِ .
وَقَدْ أَوْعَدْنَا إلَيْكُمْ تَوْصِيَةً أَنْ
تَجْعَلُوا الْقُرْآنَ إمَامَكُمْ ، وَحُرُوفَهُ أَمَامَكُمْ ، فَلَا تَحْمِلُوا
عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا ، وَلَا تَرْبِطُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ،
وَمَا هُدِيَ لِهَذَا إلَّا الطَّبَرِيُّ بِجَلَالَةِ قَدْرِهِ ، وَصَفَاءِ
فِكْرِهِ ، وَسَعَةِ بَاعِهِ فِي الْعِلْمِ ، وَشِدَّةِ سَاعِدِهِ وَذِرَاعِهِ فِي
النَّظَرِ ؛ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الْغَرَضِ ، وَصَوَّبَ عَلَى هَذَا الْمَرْمَى
فَقَرْطَسَ بَعْدَمَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ كُلِّهَا بَاطِلَةٌ
، لَا أَصْلَ لَهَا ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَمَا رَوَاهَا أَحَدٌ وَلَا سَطَرَهَا
، وَلَكِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ
بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِفَضْلِهِ
وَرَحْمَتِهِ .
.
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
حَمَلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُنَا لَهُ قَوْمٌ عَلَى
أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ ، فَسَجَدُوهَا .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ سُجُودُ الصَّلَاةِ ،
فَقَصَرُوهُ عَلَيْهِ .
وَرَأَى عُمَرُ أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ .
وَإِنِّي لَأَسْجُدُ بِهَا وَأَرَاهَا كَذَلِكَ ؛ لِمَا
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ
الْأَنْصَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ ،
فَسَجَدَ فِيهَا السَّجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ
بِسَجْدَتَيْنِ .
قَالَ مَالِكٌ : وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
دِينَارٍ قَالَ : رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَسْجُدُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ
سَجْدَتَيْنِ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدْوَةً .
رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ { قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفِي سُورَةِ
الْحَجِّ سَجْدَتَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ
.
وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا لَا يَقْرَأْهُمَا } ،
رَوَاهُ وَهْبُ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مُسَرِّحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْهُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةَ
عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاَللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ
فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْحَرَجُ هُوَ
الضِّيقُ ، وَمِنْهُ الْحَرَجَةُ ، وَهِيَ الشَّجَرَاتُ الْمُلْتَفَّةُ لَا
تَسْلُكُ ؛ لِالْتِفَافِ شَجَرَاتِهَا ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ التَّفْسِيرُ فِيهِ
مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
رُوِيَ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ جَاءَ فِي نَاسٍ
مِنْ قَوْمِهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَرَجِ ، فَقَالَ : أَوَ
لَسْتُمْ الْعَرَبَ ؟ فَسَأَلُوهُ ثَلَاثًا .
كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ : أَوَ لَسْتُمْ الْعَرَبَ ، ثُمَّ
قَالَ : اُدْعُ لِي رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ ، فَقَالَ لَهُ : مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ
؟ قَالَ : الْحَرَجَةُ مِنْ الشَّجَرَةِ : مَا لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ذَلِكَ الْحَرَجُ ، وَلَا
مَخْرَجَ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَحَلِّ النَّفْي :
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله
تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } قَالَ : هَذَا
فِي تَقْدِيمِ الْأَهِلَّةِ وَتَأْخِيرهَا بِالْفِطْرِ ، وَالْأَضْحَى ، وَفِي
الصَّوْمِ .
وَثَبَتَ صَحِيحًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : تَقُولُ
: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، إنَّمَا ذَلِكَ سَعَةُ
الْإِسْلَامِ : مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : أُحِلَّ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ .
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ .
وَقَدْ كَانَتْ الشَّدَائِدُ وَالْعَزَائِمُ فِي
الْأُمَمِ ، فَأَعْطَى اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ الْمُسَامَحَةِ وَاللِّينِ
مَا
لَمْ
يُعْطِ أَحَدًا قَبْلَهَا فِي حُرْمَةِ نَبِيِّهَا ، وَرَحْمَةِ نَبِيِّهَا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا } .
فَأَعْظَمُ حَرَجٍ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا نُبْدِي
فِي أَنْفُسِنَا وَنُخْفِيهِ ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ إصْرٍ وُضِعَ ، كَمَا
بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا .
وَمِنْهَا التَّوْبَةُ بِالنَّدَمِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى
تَرْكِ الْعَوْدِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ
وَاللِّسَانِ .
وَقِيلَ لِمَنْ قَبْلَنَا : { فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } ، وَلَوْ ذَهَبْت إلَى تَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ فِي
رَفْعِ الْحَرَجِ لَطَالَ الْمَرَامُ
.
وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا تَعَالَى
إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ أَيْضًا فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو وَغَيْرِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ ، فَقَالَ رَجُلٌ :
لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ .
قَالَ : اذْبَحْ ، وَلَا حَرَجَ .
فَجَاءَ آخَرُ ، فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ
قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَقَالَ : ارْمِ وَلَا حَرَجَ .
فَمَا سُئِلَ يَوْمَهُ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا
أُخِّرَ إلَّا قَالَ : افْعَلْ وَلَا حَرَجَ } .
فَأَعْجَبُ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ الدَّمَ عَلَى مَنْ
قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : وَلَا حَرَجَ ، وَلَقَدْ نَزَلَتْ بِي هَذِهِ النَّازِلَةُ
سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ ، كَانَ مَعِي مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ،
فَلَمَّا رَمَيْت جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، وَانْصَرَفْت إلَى النَّحْرِ جَاءَ الْمُزَيِّنُ
وَحَضَرَ الْهَدْيَ ، فَقَالَ أَصْحَابِي : نَنْحَرُ وَنَحْلِقُ ، فَحَلَقْت ،
وَلَمْ أَشْعُرْ قَبْلَ النَّحْرِ ، وَمَا تَذَكَّرْت إلَّا وَجُلُّ شَعْرِي قَدْ
ذَهَبَ بِالْمُوسَى ، فَقُلْت :
دَمٌ عَلَى دَمٍ ، لَا يَلْزَمُ ، وَرَأَيْت بَعْدَ
ذَلِكَ الِاحْتِيَاطَ لِارْتِفَاعِ الْخِلَافِ .
وَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ ، فَهُوَ الْمَعْقُولُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا بِالْحَظْرِ ، وَالْآخَرُ
بِالْإِبَاحَةِ ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ مَالَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ ، وَقَالَ
: يُقَدَّمُ دَلِيلُ الْحَظْرِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقَدَّمُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ
، وَيَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ مَقَاصِدُ مَالِكٍ ، إلَّا فِي بَابِ الرِّبَا ،
فَيُقَدَّمُ دَلِيلُ الْحَظْرِ ، وَذَلِكَ مِنْ فِقْهِهِ الْعَظِيمِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ رُكْنٍ
فِي الْعِبَادَةِ ، أَوْ شَرْطٍ ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إسْقَاطِهِ ،
فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِيهِ ؛ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَخَذَ
بِالِاحْتِيَاطِ ، وَقَضَى بِزِيَادَةِ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَ بِالْخِفَّةِ ، وَقَالَ بِدَلِيلِ الْإِسْقَاطِ ، وَلَمْ يُعَوِّلْ مَالِكٌ
هَاهُنَا عَلَى أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ : كَانَ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِإِسْقَاطٍ ،
وَرَأْيُهُ هُوَ الَّذِي نَرَاهُ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، فَهُنَالِكَ
يُنْظَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامًّا فِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا ، وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ ، وَذَلِكَ يُعْرَضُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَمِنْهُ خُذُوهُ بِعَوْنِ اللَّهِ .
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ
هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي قَالَ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
يَقُولُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ ، فَأُنْزِلَ
عَلَيْهِ يَوْمًا ، فَلَبِثْنَا سَاعَةً ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ ، فَاسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا
، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا ، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا ، وَآثِرْنَا
وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا ، وَارْضِنَا وَارْضَ عَنَّا ثُمَّ قَالَ : أُنْزِلَ
عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ .
ثُمَّ قَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } حَتَّى
خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ
وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو عِيسَى وَقَطَعَهُ .
وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي
السَّمَاءِ إذَا صَلَّى ، فَنَزَلَتْ آيَةٌ } .
قَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ لَمْ تَكُنْ { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ
خَاشِعُونَ } فَلَا أَدْرِي أَيَّةَ آيَةٍ هِيَ ؟ قَالَ الْقَاضِي : هُوَ
مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ مَقْطُوعٌ مَظْنُونٌ ،
فَمَقْصُودُهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ ، فَسُقْنَاهُ عَلَى حَالِهِ لَكُمْ حَتَّى
نَكُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ سَوَاءً مَعَكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : هُوَ الْخُضُوعُ ، وَهُوَ الْإِخْبَاتُ ، وَالِاسْتِكَانَةُ ،
وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَقَارِبَةٌ ، أَوْ مُتَلَازِمَةٌ ؛ {
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ
: خَضَعَ لَك سَوَادِي ، وَآمَنَ بِك فُؤَادِي } .
وَحَقِيقَتُهُ السُّكُونُ عَلَى حَالَةِ الْإِقْبَالِ
الَّتِي تَأَهَّبَ لَهَا وَاحْتَرَمَ بِهَا بِالسِّرِّ فِي الضَّمِيرِ ،
وَبِالْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ ؛ فَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ خَاشِعًا خَاضِعًا } ،
وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ حَفِيدُهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
.
قَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ لِعُرْوَةِ : لَوْ رَأَيْت
قِيَامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ لَقُلْت
: غُصْنٌ تَصْفِقُهُ الرِّيَاحُ ، وَحِجَارَةُ الْمَنْجَنِيقِ تَقَعُ هَاهُنَا ، وَرَضْفٌ
عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إذَا قَامَ
يُصَلِّي كَأَنَّهُ عُودٌ مِنْ الْخُشُوعِ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ
كَانَ يُصَلِّي فِي الْحِجْرِ مُرْخِيًا ثِيَابَهُ .
فَجَاءَ حَجَرُ الْخَذَّافِ ، فَذَهَبَ بِطَائِفَةٍ مِنْ
ثَوْبِهِ ، فَمَا الْتَفَتَ ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
إذَا صَلَّى لَا يَتَحَرَّكُ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهِيَ
: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنَّهُ يَضَعُ بَصَرَهُ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ ؛
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالصُّوفِيَّةُ بِأَسْرِهِمْ ، فَإِنَّهُ أَحْضَرُ
لِقَلْبِهِ ، وَأَجْمَعُ لِفِكْرِهِ
.
قَالَ مَالِكٌ : إنَّمَا يَنْظُرُ أَمَامَهُ ، فَإِنَّهُ
إنْ حَنَى رَأْسَهُ ذَهَبَ بَعْضُ الْقِيَامِ الْمَنْقُوضِ عَلَيْهِ فِي الرَّأْسِ
، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ مِنْهُ ، وَإِنْ أَقَامَ رَأْسَهُ وَتَكَلَّفَ النَّظَرَ
بِبَصَرِهِ إلَى الْأَرْضِ فَتِلْكَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَحَرَجٌ ، يَعْرِفُونَ
ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ؛
وَإِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْجِهَةَ بِبَصَائِرِنَا
وَأَبْصَارِنَا
، أَمَّا إنَّهُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مَتَى قَدَرَ وَكَيْفَ قَدَرَ ،
وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ فِي الصَّلَاةِ إلَى السَّمَاءِ ،
فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ السَّمَاءَ ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ
يَسْتَقْبِلَ الْجِهَةَ الْكَعْبِيَّةَ ، فَإِذَا رَفَعَ بَصَرَهُ فَهُوَ إعْرَاضٌ
عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا ، حَتَّى { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ
إلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا حِينَ
رَأَوْا عَامَّةَ الْخَلْقِ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ
سَالِمَةٌ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْخَطْفِ هَاهُنَا أَخْذُهَا عَنْ الِاعْتِبَارِ
حِينَ يَمُرُّ بِآيَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ مُعْرِضٌ ، وَذَلِكَ
أَشَدُّ الْخَطْفِ ، وَمِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ بِرَفْعِ الْحَرَجِ
الْإِذْنُ فِي أَنْ يَلْحَظَ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي
بِبَصَرِهِ وَرَأْسِهِ دُونَ بَدَنِهِ ، أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : فَمِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْمَحُ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَا
يَلْتَفِتُ } .
وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ قَالَ : قِيلَ لِابْنِ
عُمَرَ : إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إذَا صَلَّى لَمْ يَقُلْ هَكَذَا وَهَكَذَا .
فَقَالَ : لَكِنَّا نَقُولُ هَكَذَا وَهَكَذَا ،
وَنَكُونُ مِثْلَ النَّاسِ ؛ إشَارَةً مِنْ ابْنِ عُمَرَ إلَى أَنَّهُ تَكْلِيفٌ
يَخْرُجُ إلَى الْحَرَجِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } قَالَ :
الْإِقْبَالُ عَلَيْهَا .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ : لَا يَعْرِفُ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ
، وَلَا مَنْ عَلَى يَسَارِهِ .
صَلَّيْت الْمَغْرِبَ لَيْلَةً مَا بَيْنَ بَابِ
الْأَخْضَرِ ، وَبَابِ حِطَّةٍ مِنْ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ، وَمَعَنَا شَيْخُنَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَغْرِبِيِّ
الزَّاهِدُ ، فَلَمَّا
سَلَّمْنَا
تَمَارَى رَجُلَانِ كَانَا عَنْ يَمِينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيِّ ؛
وَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ : أَسَأْت صَلَاتَك ، وَنَقَرْت نَقْرَ
الْغُرَابِ .
وَالْآخَرُ يَقُولُ لَهُ : كَذَبْت ؛ بَلْ أَحْسَنْت
وَأَجْمَلْت .
فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الزَّاهِدِ : أَلَمْ يَكُنْ إلَى جَانِبِك ؛ فَكَيْفَ رَأَيْته يُصَلِّي ؟ قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لَا عِلْمَ لِي بِهِ ، كُنْت مُشْتَغِلًا بِنَفْسِي
وَصَلَاتِي عَنْ النَّاسِ وَصَلَاتِهِمْ .
فَخَجِلَ الرَّجُلُ وَأُعْجِبَ الْحَاضِرُونَ
بِالْقَوْلِ .
وَصَدَقَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدُ ؛
لَوْ كَانَ لِصَلَاتِهِ قَدْرٌ ، أَوْ لَهُ بِهَا شُغْلٌ وَإِقْبَالٌ
بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا عَلِمَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ فَضْلًا
عَنْ مَعْرِفَتِهِ كَيْفِيَّةَ صَلَاتِهِ ، وَإِلَّا فَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ
أَسَاءَ صَلَاتَهُ فِي حَذْفِ صِفَاتِهَا ، وَاخْتِصَارِ أَرْكَانِهَا ، وَهَذَا أَسَاءَ
صَلَاتَهُ فِي الِاشْتِغَالِ بِصَلَاةِ هَذَا ، حَتَّى ذَهَبَ حِفْظُ صَلَاتِهِ وَخُشُوعُهَا .
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَك : "
اللَّهُ أَكْبَرُ " يُحَرِّمُ عَلَيْك الْأَفْعَالَ بِالْجِوَارِ ،
وَالْكَلَامَ بِاللِّسَانِ ؛ وَنِيَّةَ الصَّلَاةِ تُحَرِّمُ عَلَيْك الْخَوَاطِرَ
بِالْقَلْبِ ، وَالِاسْتِرْسَالَ عَنْ الْأَفْكَارِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ
لَمَّا عَلِمَ أَنَّ ضَبْطَ الشَّرِّ مِنْ السِّرِّ يَفُوتُ طَوْقَ الْبَشَرِ
سَمَحَ فِيهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانًا لَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23