ج18/كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي
وَحَدَّثَهُمْ بِأَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ ، وَيَقُولُ : حَدِيثِي هَذَا أَحْسَنُ مِنْ قُرْآنِ مُحَمَّدٍ .
الثَّانِي
: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ اشْتَرَى جَارِيَةً
مُغَنِّيَةً ، فَشُغِلَ النَّاسُ بِلَهْوِهَا عَنْ اسْتِمَاعِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :
هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ
بِحَالٍ ، لِعَدَمِ ثِقَةِ نَاقِلِيهَا إلَى مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْأَعْيَانِ
فِيهَا .
وَأَصَحُّ مَا فِيهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْبَاطِلُ .
فَأَمَّا
قَوْلُ الطَّبَرِيِّ : إنَّهُ الطَّبْلُ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ : طَبْلُ
حَرْبٍ ، وَطَبْلُ لَهْوٍ ، فَأَمَّا طَبْلُ الْحَرْبِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ
؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ النُّفُوسَ ، وَيُرْهِبُ عَلَى الْعَدُوِّ .
وَأَمَّا طَبْلُ اللَّهْوِ فَهُوَ كَالدُّفِّ .
وَكَذَلِكَ
آلَاتُ اللَّهْوِ الْمُشْهِرَةُ لِلنِّكَاحِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا
فِيهِ ، لِمَا يَحْسُنُ مِنْ الْكَلَامِ ، وَيَسْلَمُ مِنْ الرَّفَثِ .
وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَيْنَاتِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْمَعَ غِنَاءَ جَارِيَتِهِ ، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ حَرَامًا ، لَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا ، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْ التَّلَذُّذِ بِصَوْتِهَا .
وَلَمْ يَجُزْ الدُّفُّ فِي الْعُرْسِ لِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يُشْهِرُهُ ، فَكُلُّ مَا أَشْهَرَهُ جَازَ .
وَقَدْ
بَيَّنَّا جَوَازَ الزَّمْرِ فِي الْعُرْسِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ
أَبِي بَكْرٍ : { أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ
فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ } ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ انْكِشَافُ النِّسَاءِ
لِلرِّجَالِ وَلَا هَتْكُ الْأَسْتَارِ ، وَلَا سَمَاعُ الرَّفَثِ ،
فَإِذَا خَرَجَ ذَلِكَ إلَى مَا لَا يَجُوزُ مُنِعَ مِنْ أَوَّلِهِ ،
وَاجْتُنِبَ مِنْ أَصْلِهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اُشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ
يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ حَمِيدٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي ذِكْرِ لُقْمَانَ : وَفِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : كَانَ لُقْمَانُ أَسْوَدَ
مِنْ سُودَانِ مِصْرَ ، حَكِيمًا ، ذَا مَشَافِرَ ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا
.
الثَّانِي : قَالَ قَتَادَةُ : خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ
النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ ، فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ ، فَأَتَاهُ
جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ ، فَقَذَفَ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ ، فَأَصْبَحَ
يَنْطِقُ بِهَا ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ
إلَيَّ النُّبُوَّةَ عَزْمَةً لَرَجَوْت الْفَوْزَ بِهَا ، وَلَكِنَّهُ
خَيَّرَنِي ؛ فَخِفْت أَنْ أَضْعُفَ عَنْ النُّبُوَّةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ مِنْ النُّوبَةِ قَصِيرًا أَفْطَسَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ كَانَ حَبَشِيًّا .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ كَانَ خَيَّاطًا .
السَّادِسُ
: أَنَّهُ كَانَ رَاعِيًا ، فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ
ذَلِكَ قَالَ : أَلَسْت عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي كُنْت تَرْعَى
بِالْأَمْسِ ؟ قَالَ : بَلَى .
قَالَ : فَمَا بَلَغَ بِك مَا أَرَى ؟
قَالَ : قَدَرُ اللَّهِ ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ ،
وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي .
السَّابِعُ : أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا
نَجَّارًا قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ : اذْبَحْ شَاةً ، وَأْتِنِي بِأَطْيَبِهَا
بِضْعَتَيْنِ فَأَتَاهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ .
ثُمَّ أَمَرَهُ
بِذَبْحِ شَاةٍ ، وَقَالَ لَهُ : أَلْقِ أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ ،
فَأَلْقَى اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ ، فَقَالَ : أَمَرْتُك أَنْ تَأْتِيَنِي
بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَيْتنِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ ،
وَأَمَرْتُك أَنْ تُلْقِي أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ ، فَأَلْقَيْت
اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ ، فَقَالَ : لَيْسَ شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إذَا
طَابَا ، وَلَا شَيْءَ أَخْبَثُ مِنْهَا إذَا خَبُثَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ
لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ ؛ إنَّ النَّاسَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ مَا
يُوعَدُونَ ، وَهُمْ إلَى الْآخِرَةِ سِرَاعًا يَذْهَبُونَ ، وَإِنَّك قَدْ
اسْتَدْبَرْت الدُّنْيَا مُنْذُ كُنْت ، وَاسْتَقْبَلْت الْآخِرَةَ ،
وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إلَيْهَا أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ
عَنْهَا .
وَقَالَ لُقْمَانُ ، يَا بُنَيَّ ؛ لَيْسَ غِنًى كَصِحَّةٍ ، وَلَا نِعْمَةٌ كَطِيبِ نَفْسٍ .
وَقَالَ
لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ لَا تُجَالِسْ الْفُجَّارَ ، وَلَا
تُمَاشِهِمْ ، اتَّقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مِنْ السَّمَاءِ ،
فَيُصِيبَك مَعَهُمْ .
وَقَالَ : يَا بُنَيَّ ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَمَاشِهِمْ ، عَسَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَك مَعَهُمْ .
وَقَالَ
: يَا بُنَيَّ ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْك ؛
فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ بِالْعِلْمِ ، كَمَا
يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
: ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُ كَانَ لُقْمَانُ بْنَ عَادٍ الْأَكْبَرَ
، وَكَانَ لُقْمَانُ الْأَصْغَرَ ، وَلَيْسَ بِلُقْمَانَ الْمَذْكُورِ فِي
الْقُرْآنِ .
وَكَانَ لُقْمَانُ هَذَا الَّذِي تَذْكُرُهُ الْعَرَبُ حَكِيمًا .
وَفِي
أَخْبَارِهَا أَنَّ أُخْتَ لُقْمَانَ كَانَتْ امْرَأَةً مُحَمَّقَةً ،
وَكَانَ لُقْمَانُ حَكِيمًا نَجِيًّا ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ لِامْرَأَتِهِ :
هَذِهِ لَيْلَةُ طُهْرِي فَهَبِي لِي لَيْلَتَك ، طَمَعًا فِي أَنْ
تَعْلَقَ مِنْ أَخِيهَا بِنَجِيبٍ ، فَفَعَلَتْ ، فَحَمَلَتْ مِنْ أَخِيهَا
، فَوَلَدَتْ لُقَيْمَ بْنَ لُقْمَانَ ، وَفِيهِ يَقُولُ النَّمِرُ بْنُ
تَوْلَبٍ : لُقَيْمُ بْنُ لُقْمَانَ مِنْ أُخْتِهِ فَكَانَ ابْنَ أُخْتٍ
لَهَا وَابْنَا لَيَالِي حُمْقٌ فَاسْتَحْصَنَتْ عَلَيْهِ فَغُرَّ بِهَا
مُظْلِمًا فَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ مُحْكِمٌ فَجَاءَتْ بِهِ رَجُلًا مُحْكَمًا
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : ذَكَرَ مَالِكٌ كَلَامًا كَثِيرًا مِنْ
الْحِكْمَةِ عَنْ لُقْمَانَ ، وَأَدْخَلَ مِنْ حِكْمَتِهِ فَصْلًا فِي
كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ مُوَطَّئِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُ فِي
كِتَابِهِ ، وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ فَصْلًا يَعْضُدُهُ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ ، لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تُؤْخَذُ
مِنْ كُلِّ أَحَدٍ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا ، وَجَائِزٌ أَنْ
يَكُونَ عَالِمًا أَيْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُصَعِّرْ
خَدَّك لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك } يَعْنِي لَا
تُمِلْهُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا ، يُرِيدُ أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا ،
مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا ، وَإِذَا حَدَّثَك أَحَدُهُمْ فَأَصْغِ إلَيْهِ ،
حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَكُنَّا
إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ
فَتَقَوَّمَ يُرِيدُ : فَتَقَوَّمْ أَنْتَ ، أَمْرٌ ، ثُمَّ كُسِرَتْ
لِلْقَافِيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا
تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ
سُبْحَانَ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ : {
بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ
فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ ، وَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ } .
وَعَنْهُ ، صَحِيحًا : { الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَعَنْهُ مِثْلُهُ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } .
وَعَنْهُ
مِثْلُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
الْإِزَارِ ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِعِلْمٍ :
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : {
إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ ، وَمَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ
فَفِي النَّارِ } .
قَالَ الْقَاضِي : رُوِيَ أَنَّ الْمُخْتَالَ هُوَ قَارُونُ ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ مِنْ الْخَسْفِ .
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ ، وَفِي صَحِيحِ الْأَخْبَارِ { أَنَّهُ سَيُخْسَفُ بِجَيْشٍ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْصِدُ الْبَيْتَ } .
وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، أَمَا إنَّهُ يَتَبَخْتَرُ
فَلَمْ تُخْسَفْ بِهِ الْأَرْضُ حَقِيقَةً خُسِفَ بِهِ فِي الْعَمَلِ
مَجَازًا ، فَلَمْ يَرْقَ لَهُ عَمَلٌ إلَى السَّمَاءِ ، وَهُوَ أَشَدُّ
الْخَسْفِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاقْصِدْ
فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ
الْحَمِيرِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الْقَصْدُ فِي الْمَشْيِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ السُّرْعَةَ ، وَيَحْتَمِلُ التُّؤَدَةَ ؛
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ
الْمَشْيَ بِقَصْدٍ ، لَا يَكُونُ عَادَةً ، بَلْ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ
النِّيَّةِ ، وَلَا يَسْتَرْسِلُ اسْتِرْسَالَ الْبَهِيمَةِ ؛ وَالْكُلُّ
صَحِيحٌ مُرَادٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِك } يَعْنِي لَا
تَتَكَلَّفْ رَفْعَ الصَّوْتِ ، وَخُذْ مِنْهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ ؛
فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْحَاجَةِ تَكَلُّفٌ يُؤْذِي .
وَقَدْ
قَالَ عُمَرُ لِمُؤَذِّنٍ تَكَلَّفَ رَفْعَ الْأَذَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ
طَاقَتِهِ : لَقَدْ خَشِيت أَنْ تَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُك .
وَالْمُؤَذِّنُ هُوَ أَبُو مَحْذُورَةَ سَمُرَةَ بْنُ مِعْيَرٍ .
وَالْمُرَيْطَاءُ : مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي
عَامَيْنِ أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْمَصِيرُ } .
يَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
سُورَةُ
السَّجْدَةِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : {
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا
وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمَضَاجِعُ جَمْعُ مَضْجَعٍ ، وَهِيَ مَوَاضِعُ النَّوْمِ .
وَيُحْتَمَلُ وَقْتُ الِاضْطِجَاعِ ، وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ .
وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى ، وَذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ السَّهَرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إلَى أَيِّ طَاعَةِ اللَّهِ تَتَجَافَى ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : ذِكْرُ اللَّهِ .
وَالْآخَرُ الصَّلَاةُ .
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا عَامٌّ ، وَالْآخَرَ خَاصٌّ .
فَإِنْ
قُلْنَا : إنَّ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ، فَأَيُّ صَلَاةٍ هِيَ ؟ فِي
ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا النَّفَلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ؛ قَالَ
قَتَادَةُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْعَتَمَةُ ؛ قَالَهُ أَنَسٌ وَعَطَاءٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ ؛ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قِيَامُ اللَّيْلِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ .
قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ : هُوَ قِيَامُ اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ ، وَذَلِكَ
أَثْقَلُهُ عَلَى النَّاسِ ، وَمَتَى كَانَ النَّوْمُ حِينَئِذٍ أَحَبَّ
فَالصَّلَاةُ حِينَئِذٍ أَحَبُّ وَأَوْلَى .
وَالْقَوْلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَضَى ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الزُّمَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } .
قَالَ
الْقَاضِي : هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا مَنْ طَالَعْت كَلَامَهُ فِي
جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ ، وَذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ فِي
كُتُبِ الْفِقْهِ خَاصَّةً مُنْتَزِعًا بِهَا لِجَوَازِ الْوَكَالَةِ مِنْ
قَوْلِهِ : { الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } وَهَذَا أَخْذٌ مِنْ لَفْظِهِ ، لَا
مِنْ مَعْنَاهُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ إنَّمَا يَفْعَلُ
بِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ ، لَا بِمَا جَعَلَ إلَيْهِ ،
حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ .
وَلَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ
لَقُلْنَا فِي قَوْلِهِ : { قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا } أَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ،
وَوَكَالَةٌ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ ، وَلَقُلْنَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ
: { وَآتُوا الزَّكَاةَ } إنَّهُ وَكَالَةٌ فِي أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ
الرِّزْقَ لِكُلِّ دَابَّةٍ ، وَخَصَّ الْأَغْنِيَاءَ بِالْأَغْذِيَةِ ،
وَأَوْعَزَ إلَيْهِمْ بِأَنَّ رِزْقَ الْفُقَرَاءِ عِنْدَهُمْ ،
وَأَمَرَهُمْ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ ، مُقَدَّرًا مَعْلُومًا فِي وَقْتٍ
مَعْلُومٍ ، وَدَبَّرَهُ بِعِلْمِهِ ، وَأَنْفَذَهُ مِنْ حُكْمِهِ ،
وَقَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَلَا
تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِالْأَلْفَاظِ ، إلَّا أَنْ تُرَدَّ عَلَى
مَوْضُوعَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ فِي مَقَاصِدِهَا الْمَطْلُوبَةِ ، فَإِنْ
ظَهَرَتْ فِي غَيْرِ مَقْصِدِهَا لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهَا مَقَاصِدُهَا .
أَلَا
تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ مَعْلُومُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ،
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } .
وَلَا
يُقَالُ : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُبَايَعَةِ السَّيِّدِ
لِعَبْدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَيْنِ مُخْتَلِفَانِ .
وَهَذَا غَرَضٌ
شَبَّ طَوْقُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ ، فَإِذَا أَرَادُوا لُبْسَهُ لَمْ
يَسْتَطِيعُوا جَوْبَهُ ، وَلَا وُجِدَ امْرُؤٌ مِنْهُمْ جَيْبَهُ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ
الْآيَةِ
فِي الْمُشْكَلَيْنِ ، وَأَحْسَنُ مَا قَيَّدْنَا فِيهَا عَنْ
الْإسْفَرايِينِيّ ، مِنْ طَرِيقِ الشَّهِيدِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْدِسِيِّ
أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ ، الْفَاعِلُ حَقِيقَةً
لِكُلِّ فِعْلٍ ، فِي أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ ، وَمَتَى تَرَتَّبَ الْمُحَالُ ،
وَتَنَاسَقَتْ الْأَفْعَالُ فَالْكُلُّ إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَعَلَى
قُدْرَتِهِ مُحَالُونَ ، وَمَنْ فَعَلَهُ مَحْسُوبٌ ، وَفِي كِتَابِهِ
مَكْتُوبٌ ؛ وَقَدْ خَلَقَ مَلَكَ الْمَوْتِ ، وَخَلَقَ عَلَى يَدَيْهِ
قَبْضَ الْأَرْوَاحِ ، وَاسْتِلَالَهَا مِنْ الْأَجْسَامِ ، وَإِخْرَاجَهَا
مِنْهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَخَلَقَ
جُنْدًا يَكُونُونَ مَعَهُ ، يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ بِأَمْرِهِ مَثْنَى
وَفُرَادَى .
وَالْبَارِي تَعَالَى خَالِقُ الْكُلِّ ، فَأَخْبَرَ عَنْ
الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ ، فَقَالَ : { اللَّهُ
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا } ، إخْبَارًا عَنْ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ
.
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ
الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } خَبَرًا عَنْ الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ
الَّذِي نِيطَ بِهِ ، وَخَلَقَ فِعْلَهُ فِيهِ .
وَقَالَ : { وَلَوْ
تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ } ، وَمَا
أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ خَبَرًا عَنْ الْحَالَةِ
الثَّانِيَةِ الَّتِي تُبَاشِرُ فِيهَا ذَلِكَ .
فَالْأُولَى حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ إلَهِيَّةٌ ، وَالثَّانِيَةُ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِحُكْمِ الْمُبَاشَرَةِ .
وَقَالَ
: مَلَكُ الْمَوْتِ إنْ بَاشَرَ مِثْلَهَا وَإِنْ أُمِرَ فَهُوَ
كَقَوْلِهِمْ : حَدَّ الْأَمِيرُ الزَّانِيَ وَعَاقَبَ الْجَانِيَ .
وَهَذِهِ نِهَايَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ .
قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَا إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ
التَّسَوُّرِ عَلَى الْمَعَانِي ، وَدَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهَا فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهَا ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمَقَاصِدِ فِي ذَلِكَ ، فَيُقَالُ :
إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ
مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ قَسْرًا دُونَ
أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ أَوْ يَرْتَبِطَ بِهِ رِضًا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ .
وَهُوَ التَّحْقِيقُ الْحَاضِرُ الْآنَ ، وَتَمَامُهُ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ .
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } .
فِيهَا
مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِيمَنْ نَزَلَتْ ؟ وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمُؤْمِنِ ،
وَفِي عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الْكَافِرِ ، فَاخَرَ عُقْبَةُ
عَلِيًّا ، فَقَالَ : أَنَا أَبْسَطُ مِنْك لِسَانًا ، وَأَحَدُّ سِنَانًا ،
وَأَمْلَأُ فِي الْكَتِيبَةِ مِنْك حَشْوًا .
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : لَيْسَ كَمَا قُلْت يَا فَاسِقُ .
قَالَ قَتَادَةُ : وَاَللَّهِ مَا اسْتَوَيَا فِي الدُّنْيَا ، وَلَا عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا الْقَوْلِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ
الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ، وَبِهَذَا مُنِعَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا ؛ إذْ
مِنْ شُرُوطِ وُجُودِ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ
وَالْمَقْتُولِ ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ
فِي قَتْلِهِ الْمُسْلِمَ بِالذِّمِّيِّ .
وَقَالَ : أَرَادَ نَفْيَ
الْمُسَاوَاةِ هَاهُنَا فِي الْآخِرَةِ فِي الثَّوَابِ ، وَفِي الدُّنْيَا
فِي الْعَدَالَةِ ، وَنَحْنُ حَمَلْنَاهُ عَلَى عُمُومِهِ ؛ وَهُوَ أَصَحُّ
؛ إذْ لَا دَلِيلَ يَخُصُّهُ حَسْبَمَا قَرَرْنَاهُ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
سُورَةُ الْأَحْزَابِ فِيهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ
آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ
مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللَّائِي
تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ
أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاَللَّهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهَا أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِزَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَك .
الثَّانِي : قَالَ قَتَادَةُ :
كَانَ رَجُلٌ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إلَّا وَعَاهُ ، فَقَالَ النَّاسُ : مَا
يَعِي هَذَا إلَّا لِأَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَلْبَيْنِ
؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ فَكَانَ مَا قَالَ ] .
الثَّالِثُ : قَالَ
مُجَاهِدٌ : إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ قَالَ : إنَّ فِي جَوْفِي
قَلْبَيْنِ ، أَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ
عَمَلِ مُحَمَّدٍ .
الرَّابِعُ : قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَرَأَيْت
قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ
فِي جَوْفِهِ } مَا عَنَى بِذَلِكَ ؟ قَالَ : قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَرَ خَطْرَةً ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ
الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ : أَلَا تَرَوْنَ لَهُ قَلْبَيْنِ : قَلْبًا
مَعَكُمْ ، وَقَلْبًا مَعَهُمْ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ قَلْبَيْنِ } الْقَلْبُ :
بِضْعَةٌ صَغِيرَةُ الْجُرْمِ عَلَى هَيْئَةِ الصَّنَوْبَرَةِ ، خَلَقَهَا
اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآدَمِيِّ وَجَعَلَهَا مَحَلًّا لِلْعِلْمِ ،
وَالرُّوحِ أَيْضًا ، فِي قَوْلٍ ، يُحْصِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الْعُلُومِ
مَا لَا يَسَعُ فِي أَسْفَارٍ ، يَكْتُبُهُ اللَّهُ لَهُ فِيهِ بِالْخَطِّ
الْإِلَهِيِّ ، وَيَضْبُطُهُ فِيهِ بِالْحِفْظِ الرَّبَّانِيِّ حَتَّى
يُحْصِيَهُ وَلَا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا .
وَهُوَ بَيْنَ لَمَّتَيْنِ : لَمَّةٌ مِنْ الْمَلَكِ ، وَلَمَّةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ .
وَهُوَ
مَحَلُّ الْخَطِرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ ، وَمَكَانُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ
، وَمَوْضِعُ الْإِصْرَارِ وَالْإِنَابَةِ ، وَمَجْرَى الِانْزِعَاجِ
وَالطُّمَأْنِينَةِ .
وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ
فِي الْقَلْبِ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالُ ،
وَالْإِنَابَةُ وَالْإِصْرَارُ ، وَهَذَا نَفْيٌ لِكُلِّ مَا تَوَهَّمَهُ
أَحَدٌ فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِيقَةٍ أَوْ مَجَازٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللَّائِي
تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ
تَكُونَ الزَّوْجَةُ أُمًّا بِقَوْلِ الرَّجُلِ : هِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ
أُمِّي .
وَلَكِنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ تَحْرِيمَ
الْقَوْلِ يَمْتَدُّ إلَى غَايَةٍ ، وَهِيَ الْكَفَّارَةُ ، عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } كَانَ الرَّجُلُ يَدْعُو الرَّجُلَ ابْنًا إذَا رَبَّيْهِ ، كَأَنَّهُ تَبَنَّاهُ أَيْ يُقِيمُهُ مَقَامَ الِابْنِ ؛ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا بِهِ إلَى أَنْ قَالُوا : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ : وَإِلَى أَنْ يَقُولُوا : زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فَمَسَخَ اللَّهُ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ ، وَبَتَّ حَبْلَهَا ، وَقَطَعَ وَصْلَهَا بِمَا أَخْبَرَ مِنْ إبْطَالِ ذَلِكَ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي
الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ
بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ
ابْنَ عُمَرَ قَالَ : مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَّا
زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، حَتَّى نَزَلَتْ : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } .
وَكَانَ مِنْ قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ جَبَلَةُ فِي الْحَيِّ ، فَقَالُوا :
أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ زَيْدٌ ؟ فَقَالَ : زَيْدٌ أَكْبَرُ مِنِّي ، وَأَنَا
وُلِدْت قَبْلَهُ ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ : كَانَتْ أُمُّنَا
امْرَأَةً مِنْ طَيِّئٍ ، فَمَاتَ أَبُونَا ، وَبَقِينَا فِي حِجْرِ جَدِّي
، فَجَاءَ عَمَّايَ ، فَقَالَا لِجَدِّي : نَحْنُ أَحَقُّ بِابْنِ
أَخِينَا مِنْك .
فَقَالَ : مَا عِنْدَنَا خَيْرٌ لَهُمَا ، فَأَبَيَا .
فَقَالَ : خُذَا جَبَلَةَ وَدَعَا زَيْدًا .
فَانْطَلَقَا
بِي ، فَجَاءَتْ خَيْلٌ مِنْ تِهَامَةَ ، فَأَصَابَتْ زَيْدًا ،
فَتَرَاقَى بِهِ الْأَمْرُ إلَى خَدِيجَةَ ، فَوَهَبَتْهُ خَدِيجَةَ
لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَغْزُ وَغَزَا زَيْدٌ أَعْطَاهُ سِلَاحَهُ .
وَأُهْدِيَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مِرْجَلَانِ ،
فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا ، وَأَعْطَى عَلِيًّا الْآخَرَ .
وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ابْتَاعَهُ ، وَكَانَ مَسْبِيًّا مِنْ
الشَّامِ ، فَوَهَبَهُ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ ، فَوَهَبَتْهُ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَنَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُوهُ يَدُورُ بِالشَّامِ وَيَقُولُ :
بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلٌ أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ
أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِلٌ
أَغَالَك بَعْدِي السَّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي
هَلْ
لَك الدَّهْرُ أَوْبَةً فَحَسْبِي مِنْ الدُّنْيَا رُجُوعُك لِي أَمَلْ
تُذَكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَتُعْرِضُ ذِكْرَاهُ إذَا
غَرْبُهَا أَفَلْ فَإِنْ هَبَّتْ الْأَرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ فَيَا
طُولُ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَيَا وَجَلْ سَأُعْمِلُ نَصَّ الْعِيسِ فِي
الْأَرْضِ جَاهِدًا وَلَا أَسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ
حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ
غَرَّهُ الْأَمَلْ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ بِمَكَّةَ ، فَجَاءَ إلَيْهِ ،
فَهَلَكَ عِنْدَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْهِ ، فَخَيَّرَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَارَ الْمَقَامَ
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعَادَتِهِ ،
وَتَبَنَّاهُ وَرَبَّاهُ ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى رَسْمِ الْعَرَبِ ، فَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ
ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ
يَهْدِي السَّبِيلَ اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ
وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ
أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ
تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
مَسْطُورًا } .
فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِحَارِثَةَ ، وَعَرَفَتْ كَلْبٌ نَسَبَهُ ، فَأَقَرُّوا بِهِ ،
وَأَثْبَتُوا نِسْبَتَهُ .
وَهُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ؛ أَيْ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ قَوْلًا وَحُكْمًا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى
أَنَّ مَنْ لَا أَبَ لَهُ مِنْ وَلَدٍ دُعِيَ أَوْ لِعَانٍ لَا يَنْتَسِبُ
إلَى أُمِّهِ ، وَلَكِنَّهُ يُقَالُ أَخُو مُعْتِقِهِ وَوَلَدُهُ إنْ كَانَ
حُرًّا ، أَوْ عَبْدُهُ إنْ كَانَ رِقًّا .
فَأَمَّا وَلَدُ
الْمُلَاعَنَةِ إنْ كَانَ حُرًّا فَإِنَّهُ يُدْعَى إلَى أُمِّهِ ،
فَيُقَالُ : فُلَانٌ ابْنُ فُلَانَةَ ، لِأَنَّ أَسْبَابَهُ فِي
انْتِسَابِهِ مُنْقَطِعَةٌ ، فَرَجَعَتْ إلَى أُمِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِيهِ إطْلَاقُ اسْمِ الْأُخُوَّةِ دُونَ إطْلَاقِ اسْمِ
الْأُبُوَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانَنَا .
قَالُوا : أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك ، قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي ، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ } .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَوَالِيكُمْ } يَجُوزُ إطْلَاقُ
الْمَوْلَى عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ ، وَعَلَى الْمُعْتِقِ
بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ ، وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى
الْوِلَايَةِ ، وَهِيَ الْقُرْبُ ، كَمَا تَرْجِعُ الْأُخُوَّةُ إلَى
أَصْلٍ هُوَ مَقَامُ الْأُبُوَّةِ مِنْ الدِّينِ وَالصَّدَاقَةِ .
وَلِلْمَوْلَى
ثَمَانِيَةُ مَعَانٍ ، مِنْهَا مَا يَجْتَمِعُ أَكْثَرُهَا فِي الشَّيْءِ
الْوَاحِدِ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ مُعَايَنَةِ اثْنَيْنِ
بِحَسَبِ مَا يُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ ، وَيَقْتَضِيهِ الْحَالُ
وَتَوْجِيهُ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : هَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ التَّبَنِّي وَالتَّوَارُثِ ، وَيَكُونُ نَسْخًا لِلسُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا ؛ لِعَدَمِ شُرُوطِ النَّسْخِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ مَا جَاءَ مِنْ الشَّرِيعَةِ لَا يُقَالُ إنَّهُ نَسْخٌ لِبَاطِلِ الْخَلْقِ ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَالِ وَالضَّلَالِ ، وَقَبِيحِ الْأَفْعَالِ ، وَمُسْتَرْسَلِ الْأَعْمَالِ ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ نَسْخَ الِاشْتِقَاقِ ، بِمَعْنَى الرَّفْعِ الْمُطْلَقِ ، وَالْإِزَالَةِ الْمُبْهَمَةِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : {
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ
أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ
تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
مَسْطُورًا } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ غَزْوَةَ تَبُوكَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ ،
فَقَالَ قَوْمٌ : نَسْتَأْذِنُ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا ؛ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ } } .
وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ : وَهُوَ أَبُوهُمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ .
وَالْحَدِيثُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَوْضُوعٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ مُؤْمِنٍ
إلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ
مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا ، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ
ضِيَاعًا فَلْيَأْتِنِي ، فَأَنَا مَوْلَاهُ } .
فَانْقَلَبَتْ الْآنَ
الْحَالُ بِالذُّنُوبِ ، فَإِنْ تَرَكُوا مَالًا ضُويِقَ الْعَصَبَةُ فِيهِ
، وَإِنْ تَرَكُوا ضِيَاعًا أَسْلَمُوا إلَيْهِ ، فَهَذَا تَفْسِيرُ
الْوِلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَفْسِيرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْيِينِهِ ، وَلَا عِطْرَ بَعْدَ
عَرُوسٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَأَزْوَاجُهُ
أُمَّهَاتُهُمْ } وَلَسْنَ لَهُمْ بِأُمَّهَاتٍ ، وَلَكِنْ أُنْزِلْنَ
مَنْزِلَتَهُنَّ فِي الْحُرْمَةِ ، كَمَا يُقَالُ : زَيْدُ الشَّمْسِ ،
أَيْ أُنْزِلَ فِي حُسْنِهِ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ ، وَحَاتِمُ الْبَحْرِ
أَيْ أُنْزِلَ فِي عُمُومِ جُودِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ ؛ كُلُّ ذَلِكَ
تَكْرِمَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِفْظًا
لِقَلْبِهِ مِنْ التَّأَذِّي بِالْغَيْرَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ : { تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ
سَعْدٍ ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي } .
وَلِهَذَا
قَالَ : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ
تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ
اللَّهِ عَظِيمًا } .
وَلَمْ يُنَزَّلْ فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ أَحَدٌ
مَنْزِلَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رُوعِيَتْ
فِيهِ هَذِهِ الْخِصِّيصَةُ ، وَإِنْ غَارَ وَتَأَذَّى ؛ وَلَكِنَّهُ
مُحْتَمَلٌ مَعَ حَظِّ الْمَنْزِلَةِ مِنْ خَفِيفِ الْأَذَى .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : حَرَّمَ أَزْوَاجَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ
بَعْدِهِ ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ : { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا
أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ
عَظِيمًا } فَكُلُّ مَنْ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَتَخَلَّى عَنْهَا فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ
هَذِهِ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ ، فَقِيلَ : هِيَ لِمَنْ
دَخَلَ بِهَا دُونَ مَنْ فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَقَدْ هَمَّ
عُمَرُ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ فَارَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ ، فَقَالَتْ لَهُ : وَلِمَ ؟ وَمَا
ضَرَبَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حِجَابًا وَلَا دُعِيت أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ .
فَكَفَّ عَنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ }
اخْتَلَفَ النَّاسُ ، هَلْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ،
أَمْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ خَاصَّةً ، عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقِيلَ :
ذَلِكَ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
وَقِيلَ : هُوَ خَاصٌّ
لِلرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ إنْزَالُهُنَّ مَنْزِلَةَ
أُمَّهَاتِهِمْ فِي الْحُرْمَةِ ، حَيْثُ يُتَوَقَّعُ الْحِلُّ ،
وَالْحِلُّ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ بَيْنَ النِّسَاءِ ، فَلَا يُحْجَبُ
بَيْنَهُنَّ بِحُرْمَةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ : يَا أُمَّاهُ .
فَقَالَتْ : لَسْت لَك بِأُمٍّ ، إنَّمَا أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي
ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
وَثَبَتَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ
الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، فَارْتَثَّ كَعْبٌ يَوْمَ
أُحُدٍ ، فَجَاءَ بِهِ الزُّبَيْرُ يَقُودُهُ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ ،
فَلَوْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ كَعْبٌ عَنْ الضِّحِّ وَالرِّيحِ لَوَرِثَهُ
الزُّبَيْرُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ
أَوْلَى مِنْ الْحَلِفِ ، فَتُرِكَتْ الْمُوَارَثَةُ بِالْحَلِفِ ،
وَوَرِثُوا بِالْقَرَابَةِ ، وَقَوْلُهُ : { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ } يَتَعَلَّقُ حَرْفُ الْجَرِّ بِأَوْلَى ، وَمَا فِيهِ
مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ ، لَا بِقَوْلِهِ : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ }
بِإِجْمَاعٍ ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُوجِبُ تَخْصِيصَهَا بِبَعْضِ
الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا خِلَافَ فِي عُمُومِهَا ، وَهَذَا حَلُّ
إشْكَالِهَا .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ
جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ
تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } .
فِيهَا
أَحْكَامٌ وَسِيَرٌ ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مَالِكٌ ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا ،
وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ ، وَالْأَحْزَابِ ، وَبَنِي
قُرَيْظَةَ ، وَكَانَتْ حَالَ شِدَّةٍ ، مُعَقَّبَةٌ بِنِعْمَةٍ ،
وَرَخَاءٍ وَغِبْطَةٍ ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً ،
وَيَقْتَضِي مَسَائِلَ ثَلَاثًا : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ
وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } قَالَ :
ذَلِكَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ } ، جَاءَتْ قُرَيْشٌ مِنْ هَاهُنَا ،
وَالْيَهُودُ مِنْ هَاهُنَا ، وَالنَّجْدِيَّةُ مِنْ هَاهُنَا ، يُرِيدُ
مَالِكٌ أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ فَوْقِهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ ،
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ،
وَابْنُ الْقَاسِمِ : كَانَتْ وَقْعَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ أَرْبَعٍ ،
وَهِيَ وَبَنُو قُرَيْظَةَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ
وَالنَّضِيرِ أَرْبَعُ سِنِينَ .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ خَمْسٍ .
قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ
حِينَ نَزَلَتْ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ ، وَجَاءَ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ ، وَهُوَ
عَلَى أَتَانٍ ، فَمَرَّ بِهِ حَتَّى لَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ قَالَ : أَنْشَدْتُك اللَّهَ يَا سَعْدُ فِي
إخْوَانِي وَأَنْصَارِي ، ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتُّمِائَةِ رَاجِلٍ ،
فَإِنَّهُمْ جَنَاحِي ، وَهُمْ مَوَالِيك وَحُلَفَاؤُك .
فَقَالَ
سَعْدٌ : قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلَّا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ
لَائِمٍ ، فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ ،
وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقَدْ حَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ بِحُكْمِ الْمَلِكِ } .
زَادَ غَيْرُهُ : مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ .
{
فَأَتَى ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إلَى ابْنِ بَاطَا ، وَكَانَتْ
لَهُ عِنْدَهُ يَدٌ ، وَقَالَ : قَدْ اسْتَوْهَبْتُك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدِك الَّتِي لَك عِنْدِي .
قَالَ : كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْكَرِيمُ بِالْكَرِيمِ .
ثُمَّ
قَالَ : وَكَيْفَ يَعِيشُ رَجُلٌ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا أَهْلَ ؟ قَالَ :
فَأَتَى ثَابِتٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَأَعْطَاهُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ .
فَأَتَاهُ
فَأَعْلَمَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَكَيْفَ يَعِيشُ رَجُلٌ لَا مَالَ لَهُ ،
فَأَتَى ثَابِتٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَبَهُ
، فَأَعْطَاهُ مَالَهُ .
فَرَجَعَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ :
مَا فَعَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ
صِينِيَّةٌ ؟ قَالَ : قُتِلَ .
فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ ، وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ ؟ قَالَ : قُتِلُوا .
قَالَ : فَمَا فَعَلَتْ الْقَيْنَتَانِ ؟ قَالَ : قُتِلَتَا .
قَالَ
: بَرِئَتْ ذِمَّتُك ، وَلَنْ أَصُبَّ فِيهَا دَلْوًا أَبَدًا يَعْنِي
النَّخْلَ فَأَلْحِقْنِي بِهِمْ ، فَأَبَى أَنْ يَقْتُلَهُ وَقَتَلَهُ
غَيْرُهُ } .
وَالْيَدُ الَّتِي كَانَتْ لِابْنِ بَاطَا عِنْدَ ثَابِتٍ أَنَّهُ أَسَرَهُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَأَطْلَقَهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ .
وَقَالَ
ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ تُوُفِّيَ سَعْدٌ : نَخْشَى أَنْ نُغْلَبَ عَلَيْك ،
كَمَا غُلِبْنَا عَلَى حَنْظَلَةَ .
قَالَ : وَكَانَ قَدْ أُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ ، فَانْتَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ .
}
{ وَكَانَتْ عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَاهَدُ ثَغْرَةً مِنْ الْجَبَلِ يُحَافِظُ
عَلَيْهَا
، ثُمَّ يُزْلِفُهُ الْبَرْدُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ،
فَيَأْتِي فَيَضْطَجِعُ فِي حِجْرِي ، ثُمَّ يَقُومُ ، فَسَمِعْت حِسَّ
رَجُلٍ عَلَيْهِ حَدِيدٌ وَقَدْ أَسْنَدَ فِي الْجَبَلِ ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ :
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، جِئْتُك لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِك .
فَأَمَرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ فِي تِلْكَ
الثَّغْرَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ : وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجْرِي حَتَّى سَمِعْت غَطِيطَهُ ، وَكَانَتْ
عَائِشَةُ لَا تَنْسَاهَا لِسَعْدٍ قَالَ مَالِكٌ : وَانْصَرَفَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ ، فَاغْتَسَلَ ،
فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : أَوَضَعْت اللَّأْمَةَ
أَوْ لَمْ تَضَعْهَا ؟ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَخْرُجَ إلَى بَنِي
قُرَيْظَةَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : وَقَسَمَ قُرَيْظَةَ
سُهْمَانًا ، فَأَمَّا النَّضِيرُ فَقَسَمَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ
الْأَوَّلِينَ ، وَلِثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ؛ وَهُمْ سَهْلُ
بْنُ حُنَيْفٍ ، وَأَبُو دُجَانَةَ ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ قَالَ
مَالِكٌ : وَكَانَتْ النَّضِيرُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُمْ
يَرْتَجِزُونَ : اللَّهُمَّ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ
لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ ، فَاغْفِرْ
لِلْمُهَاجِرَةِ وَالْأَنْصَارِ .
} قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَشْهَدُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } .
وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِثْلُهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَمْ يُسْتَشْهَدْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ .
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : اسْتَشْهَدَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِتَّةُ نَفَرٍ : سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ .
وَمِنْ
بَنِي جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ : الطُّفَيْلُ
بْنُ النُّعْمَانِ ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنْمَةَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي
سَلِمَةَ ، وَكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ .
وَقُتِلَ
مِنْ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةٌ : مُنَبِّهَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ ، وَنَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فَتَوَرَّطَ
فِيهِ ، فَقُتِلَ .
فَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَسَدِهِ ، فَرُوِيَ
عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ أَعْطَوْا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَسَدِهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : لَا
حَاجَةَ لَنَا بِجَسَدِهِ وَلَا بِثَمَنِهِ .
فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ .
وَعَمْرُو
بْنُ عَبْدِ وُدٍّ قَتَلَهُ عَلِيٌّ فِي الْمُبَارَزَةِ ، اقْتَحَمَ عَنْ
فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ ، وَضَرَبَ وَجْهَهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ
فَتَنَازَلَا ، فَغَلَبَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَالَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ : نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ
رَأْيِهِ وَنَصَرْت رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَوَابِ فَصَدَدْت حِينَ تَرَكْته
مُتَجَدِّلًا كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكَ وَرَوَابِي وَعَفَفْت عَنْ
أَثْوَابِهِ وَلَوْ أَنَّنِي كُنْت الْمُقَطِّرَ بَزَّنِي أَثْوَابِي لَا
تَحْسَبَنَّ اللَّهَ خَاذِلَ دِينِهِ وَنَبِيَّهُ يَا مَعْشَرَ
الْأَحْزَابِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : { إنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ
مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ ، وَعَبَّادَ بْنَ بَشِيرٍ ، وَأَبَا عَبَّاسٍ
الْحَارِثِيَّ ، وَرَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ إلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ
الْيَهُودِيِّ لِيَقْتُلُوهُ ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَتَأْذَنُ لَنَا أَنْ نَنَالَ مِنْك إذَا جِئْنَاهُ .
فَأَذِنَ
لَهُمْ فَخَرَجُوا نَحْوَهُ لَيْلًا ، فَلَمَّا جَاءُوا وَنَادَوْهُ
لِيَطْلُعَ إلَيْهِمْ ، وَكَانَ بَيْنَ عَبَّادِ بْنِ بَشِيرٍ وَبَيْنَ
ابْنِ الْأَشْرَفِ رَضَاعٌ ، فَقَالَتْ لَهُ
امْرَأَتُهُ : لَا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْك .
فَقَالَ
: وَاَللَّهِ لَوْ كُنْت نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي فَخَرَجَ إلَيْهِمْ ،
فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟ فَقَالُوا : جِئْنَا لِتُسْلِفَنَا شَطْرَ
وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ ، وَوَقَعُوا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ،
ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّا لَنَجِدُ مِنْك رِيحَ عَبِيرٍ قَالَ :
فَأَدْنَى إلَيْهِمْ رَأْسَهُ ، وَقَالَ : شُمُّوا ، فَذَلِكَ حِينَ
ابْتَدَرُوهُ فَقَتَلُوهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ : إنِّي لَأَجِدُ رِيحَ دَمِ كَافِرٍ } .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ عَمِّي أَنَسُ
بْنُ النَّضْرِ : سَمَّيْت بِهِ ، لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ :
أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غِبْت عَنْهُ ، أَمَا وَاَللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ
مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا
بَعْدَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ .
قَالَ وَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا .
فَشَهِدَ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ
مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، فَقَالَ
: يَا أَبَا عَمْرٍو ، أَيْنَ ؟ قَالَ : وَاهَا لِرِيحِ الْجَنَّةِ ،
إنِّي أَجِدُهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، فَوُجِدَ
فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةً بَيْنَ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ
وَرَمْيَةٍ .
قَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ : فَمَا عَرَفْت أَخِي إلَّا بِبَنَانِهِ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
{
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى
نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } .
وَكَذَلِكَ
رَوَى طَلْحَةُ أَنَّ { أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِأَعْرَابِيٍّ جَاهِلٍ : سَلْهُ عَمَّنْ قَضَى
نَحْبَهُ مِنْهُمْ ، وَكَانُوا لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَى مَسْأَلَتِهِ ؛
يُوَقِّرُونَهُ وَيَهَابُونَهُ فَسَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ ، فَأَعْرَضَ
عَنْهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ إنِّي اطَّلَعْت
مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ ، وَعَلَيَّ ثِيَابٌ خُضْرٌ ، فَلَمَّا رَآنِي
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ
عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : هَا أَنَا ذَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ } النَّحْبُ : النَّذْرُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : سَمِعْت أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ انْتَقَلَ
إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَتْهُ
الْجِرَاحُ
فِي خُصٍّ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَكَانَ فِيهِ ، وَكَانَ جُرْحُهُ
يَنْفَجِرُ ، ثُمَّ يُفِيقُ مِنْهُ ، فَخَرَجَ مِنْهُ دَمٌ كَثِيرٌ حَتَّى
سَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَمَاتَ مِنْهُ .
وَبَلَغَنِي أَنَّ سَعْدَ
بْنَ مُعَاذٍ مَرَّ بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَنِسَاءٌ مَعَهَا
فِي الْأُطُمِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فَارِعٌ ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ
مُقَلَّصَةٌ ، مُشَمِّرَ الْكُمَّيْنِ ، وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ وَهُوَ
يَرْتَجِزُ : لَبِّثْ قَلِيلًا يَشْهَدُ الْهَيْجَا حَمَلْ لَا بَأْسَ
بِالْمَوْتِ إذَا حَانَ الْأَجَلْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : إنِّي لَسْت
أَخَافُ أَنْ يُصَابَ سَعْدٌ الْيَوْمَ إلَّا مِنْ أَطْرَافِهِ ، فَأُصِيبَ
فِي أَكْحَلِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : فَرُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ
عَاصِمُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرْقَةِ ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ :
خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا ابْنُ الْعَرْقَةِ .
فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ :
عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَك فِي النَّارِ ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت أَبْقَيْت
مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا ، فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ
أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَك وَكَذَّبُوهُ
وَأَخْرَجُوهُ ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت وَضَعْت الْحَرْبَ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ شَهَادَةً لِي ، وَلَا تُمِيتنِي حَتَّى تُقِرَّ
عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ
أَبُو أُسَامَةَ يَعْنِي الْجُشَمِيَّ ؛ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا
لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ : أَعَكْرِمُ هَلَّا لُمْتنِي إذْ تَقُولُ
لِي فِدَاك بِآطَامِ الْمَدِينَةِ خَالِدُ أَلَسْت الَّذِي أَلْزَمْت
سَعْدًا مَنِيَّةً لَهَا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْمَرَافِقِ عَاقِدُ قَضَى
نَحْبَهُ مِنْهَا سَعِيدٌ فَأَعْوَلَتْ عَلَيْهِ مَعَ الشَّمَطِ
الْعَذَارَى النَّوَاهِدُ وَأَنْتَ الَّذِي دَافَعْت عَنْهُ وَقَدْ دَعَا
عُبَيْدَةَ جَمْعًا مِنْهُمْ إذْ يُكَايِدُ عَلَى حِينِ مَا هُوَ جَائِرٌ
عَنْ طَرِيقِهِ وَآخَرُ مَدْعُوٌّ عَلَى الْقَصْدِ قَاصِدُ وَقَدْ رُوِيَ
غَيْرُ ذَلِكَ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ
مَالِكٍ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : مَا رَأَيْت رَجُلًا أَجْمَلَ مِنْ سَعْدِ
بْنِ مُعَاذٍ ، حَاشَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأُصِيبَ
فِي أَكْحَلِهِ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ حَرْبُ قُرَيْظَةَ
لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَاقْبِضْنِي إلَيْك ، وَإِنْ كَانَ قَدْ
بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ فَأَبْقِنِي حَتَّى أُجَاهِدَ مَعَ رَسُولِك
أَعْدَاءَهُ .
فَلَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ تُوُفِّيَ ،
فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ ، وَقَالُوا : نَرْجُو أَنْ تَكُونَ قَدْ
اُسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ :
وَقَالَ سَعْدٌ : اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي كُنْت أُحِبُّ أَنْ
يَقْتُلَنِي قَوْمٌ بَعَثْت فِيهِمْ نَبِيَّك فَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ ،
فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ الْحَرْبَ قَدْ بَقِيَتْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ فَأَبْقِنِي ، وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ
مِنْهَا شَيْءٌ فَاقْبِضْنِي إلَيْك .
فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدٌ تَبَاشَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ .
وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : لَقَدْ نَزَلَ
بِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَا نَزَلُوا
الْأَرْضَ قَبْلَهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : قَوْلُهُ : { لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } يَعْنِي فِي رُجُوعِهِ
مِنْ الْخَنْدَقِ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ : { كَانَتْ وَقْعَةُ
الْخَنْدَقِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ ، وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ إلَى
حِينِ غَابَتْ الشَّمْسُ } .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : لَمَّا
انْصَرَفَ عَنْ الْخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلَاحَ وَلَا أَدْرِي اغْتَسَلَ
أَمْ لَا ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ؛ أَتَضَعُونَ
اللَّأْمَةَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجُوا إلَى قُرَيْظَةَ ؛ لَا تَضَعُوا
السِّلَاحَ حَتَّى تَخْرُجُوا إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ .
فَصَاحَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ
صَلَاةَ الْعَصْرِ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ } .
فَصَلَّى بَعْضُ
النَّاسِ لِفَوَاتِ الْوَقْتِ ، وَلَمْ يُصَلِّ بَعْضٌ ، حَتَّى لَحِقُوا
بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ اتِّبَاعًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَهَذِهِ الْآيَاتُ التِّسْعَ عَشْرَةَ
نَزَلْنَ فِي شَأْنِ الْأَحْزَابِ بِمَا انْدَرَجَ فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ مِمَّا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَشَرَحْنَاهُ عِنْدَ وُرُودِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِتَكْرَارِهِ مَعْنًى ، وَمَا خَرَجَ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ الْحَدِيثِ يُشْرَحُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَقَدْ
بَقِيَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ تَتِمَّةُ عِشْرِينَ آيَةٍ نَزَلَتْ
فِي الْأَحْزَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ : { وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ
جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهَا هُنَالِكَ .
وَاَلَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالِاسْتِئْذَانِ وَقَوْلُهُ : { إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } ، أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ .
وَاَلَّذِينَ
{ عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ } : هُمْ
بَنُو حَارِثَةَ ، وَبَنُو سَلَمَةَ ، عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِمْ فِي
أُحُدٍ ، وَنَدِمُوا ، ثُمَّ عَادُوا فِي الْخَنْدَقِ .
وَقَدْ أَثْنَى
اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ بِقَوْلِهِ : { إذْ هَمَّتْ
طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاَللَّهُ وَلِيُّهُمَا } .
قَالَ جَابِرٌ : وَمَا وَدِدْت أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لِقَوْلِهِ : { وَاَللَّهُ وَلِيُّهُمَا } .
الْآيَةُ
الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ
اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } .
فِيهَا
ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ ، وَخَيَّرَهُنَّ أَلَّا
يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ ، فَلَمَّا اخْتَرْنَهُ أَمْسَكَهُنَّ ؛ قَالَهُ
مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
خَيَّرَ نَبِيَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ
الْمُوَكَّلُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ بِمَفَاتِحِهَا ، وَقَالَ لَهُ : إنَّ
اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا ، وَبَيْنَ أَنْ
تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا .
فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ ، فَأَشَارَ إلَيْهِ
أَنْ تَوَاضَعْ فَقُلْت : بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا ، أَجُوعُ يَوْمًا
وَأَشْبَعُ يَوْمًا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ،
وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ } .
فَلَمَّا اخْتَارَ ذَلِكَ
أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ عَلَى
مِثَالِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ أَزْوَاجَهُ
طَالَبْنَهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ ، فَكَانَتْ أُولَاهُنَّ أُمُّ
سَلَمَةَ ؛ سَأَلَتْهُ سَتْرًا مُعْلَمًا ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ .
وَسَأَلَتْهُ مَيْمُونَةُ حُلَّةً يَمَانِيَّةً .
وَسَأَلَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ثَوْبًا مُخَطَّطًا .
وَسَأَلَتْهُ أُمُّ حَبِيبَةَ ثَوْبًا سُحُولِيًّا .
وَسَأَلَتْهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ قَطِيفَةً خَيْبَرِيَّةً .
وَكُلُّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئًا ، إلَّا عَائِشَةَ ؛
فَأَمَرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ حَكَاهُ النَّقَّاشُ ، وَهَذَا بِهَذَا
اللَّفْظِ بَاطِلٌ .
وَالصَّحِيحُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ
جُلُوسًا عِنْدَ بَابِهِ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ : فَأَذِنَ
لِأَبِي بَكْرٍ ، فَدَخَلَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ
فَأُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ ، وَاجِمًا سَاكِتًا قَالَ :
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ
بِنْتُ خَارِجَةَ ، سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْت إلَيْهَا فَوَجَأْت
عُنُقَهَا ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ : هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ .
فَقَامَ
أَبُو بَكْرٍ إلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا ، وَقَامَ عُمَرُ إلَى
حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا ، كِلَاهُمَا يَقُولُ : تَسْأَلْنَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ .
ثُمَّ
اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا ، ثُمَّ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ التَّخْيِيرِ :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } } .
فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَائِشَةَ طَلَبَتْهُ أَيْضًا .
فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِ النَّقَّاشِ .
الرَّابِعُ
: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ : نُرِيدُ مَا تُرِيدُ
النِّسَاءُ مِنْ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُنَّ :
لَوْ كُنَّا عِنْدَ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَكَانَ لَنَا حُلِيٌّ وَثِيَابٌ وَشَأْنٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى تَخْيِيرَهُنَّ ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ .
الْخَامِسُ : أَنَّ
أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ ، فَحَلَفَ أَلَّا
يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا ، وَنَصُّهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمْ
أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ
الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ فِيهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ تَتُوبَا
إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فَمَكَثْت سَنَةً مَا
أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ ، حَتَّى حَجَّ عُمَرُ ،
وَحَجَجْت مَعَهُ ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ عَدَلَ عُمَرُ
إلَى الْأَرَاك ، فَقَالَ : أَدْرِكْنِي بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ ،
فَأَتَيْته بِهَا وَعَدَلْت مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ ، فَتَبَرَّزَ عُمَرُ ،
ثُمَّ أَتَانِي ، فَسَكَبْت عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ ، فَقُلْت :
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ،
فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا
أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَك .
فَقَالَ عُمَرُ : وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ
عَبَّاسٍ ، لَا تَفْعَلْ ، مَا ظَنَنْت أَنَّ عِنْدِي فِيهِ عِلْمًا ،
فَسَلْنِي عَنْهُ ، فَإِنْ كُنْت أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُك .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : كَرِهَ وَاَللَّهِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَكْتُمْهُ .
قَالَ : هُمَا وَاَللَّهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ .
قَالَ
: { كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَقَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ ، فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ
نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ .
قَالَ : وَكَانَ مَنْزِلِي
فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي فَتَغَيَّظْتُ يَوْمًا
عَلَى امْرَأَتِي ، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ قَالَتْ
لِي : لَوْ صَنَعْت كَذَا .
فَقُلْت لَهَا : مَالَك أَنْتِ وَلِهَذَا
وَتَكَلُّفُك فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ ، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي ،
فَقَالَتْ : مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك ، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَاجِعْنَهُ ،
وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا إلَى اللَّيْلِ .
فَأَخَذْت
رِدَائِي ، وَشَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي ، فَانْطَلَقْت ، وَذَلِكَ قَبْلَ
أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ ، فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ ، فَقُلْت لَهَا :
يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، قَدْ
بَلَغَ مِنْ شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : مَالِي
وَلَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، عَلَيْك بِعَيْبَتِك .
فَدَخَلْت عَلَى
حَفْصَةَ ، فَقُلْت : قَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَتْ : نَعَمْ .
فَقُلْت : أَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ ، فَقَالَتْ : نَعَمْ .
قُلْت
: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَتْ ، أَفَتَأْمَنُ
إحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ ،
فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ وَلَا
تَسْأَلِيهِ شَيْئًا ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَك ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ
أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وَحُبُّ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهَا ؛ هِيَ
أَوْسَمُ مِنْك ، وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْك يُرِيدُ عَائِشَةَ .
لَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحِبُّك ، وَلَوْلَا أَنَا
لَطَلَّقَك ؛ فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ .
وَدَخَلْت عَلَى أُمِّ
سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتهَا ، فَقَالَتْ لِي : وَاعْجَبَا
لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، قَدْ دَخَلْت فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى
تَبْغِي أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِ ؛ وَإِنَّهُ كَسَرَنِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ
مَا كُنْت أَجِدُ .
وَكَانَ لِي جَارٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَكُنَّا
نَتَنَاوَبُ فِي النُّزُولِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا ، وَيَأْتِينِي بِخَبَرِ
الْوَحْيِ ، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ
غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ تَغْزُونَا ، فَنَزَلَ صَاحِبِي ثُمَّ
أَتَانِي عَشِيًّا ، فَضَرَبَ بَابِي ، وَنَادَانِي ، فَخَرَجْت إلَيْهِ ،
فَقَالَ : حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ .
فَقُلْت : مَاذَا ؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ ؟ فَقَالَ : بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ .
فَقُلْت : مَا تَقُولُ ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ ؟ فَقُلْت : قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ ،
وَخَسِرَتْ ، قَدْ كُنْت أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ ؛ حَتَّى
إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ شَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي ، ثُمَّ نَزَلْت ،
فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ ، وَهِيَ تَبْكِي .
فَقُلْت : طَلَّقَكُنَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : لَا
أَدْرِي ، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ .
فَأَتَيْت
غُلَامًا أَسْوَدَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ مُدْلِيًا
رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جَذَعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْحَدِرُ .
فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ ، فَدَخَلَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ .
فَانْطَلَقْت
، حَتَّى أَتَيْت الْمِنْبَرَ ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي
بَعْضُهُمْ ، فَجَلَسْت قَلِيلًا ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ ، فَأَتَيْت
الْغُلَامَ ، فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ .
فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ
إلَيَّ فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ ، فَخَرَجْت فَجَلَسْت إلَى
الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ ،
فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنِّي جِئْت مِنْ أَجْلِ
حَفْصَةَ ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهَا
لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا .
قَالَ : وَرَفَعْت صَوْتِي ، فَدَخَلَ ،
ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ ، فَوَلَّيْت
مُدْبِرًا ، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ : اُدْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ
لَك .
فَدَخَلْت ، فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ ، قَدْ
أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ ، وَتَحْتَ
رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ ، حَشْوُهَا لِيفٌ .
فَقُلْت : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، أَطَلَّقْت نِسَاءَك ؟ مَا يَشُقُّ عَلَيْك مِنْ أَمْرِ
النِّسَاءِ ؟ فَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَك
وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ ، وَأَنَا وَأَبَا بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنِينَ .
قَالَ : وَقَلَّمَا تَكَلَّمْت وَأَحْمَدُ
اللَّهَ
بِكَلَامٍ إلَّا رَجَوْت أَنَّ اللَّهَ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ
، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ : { عَسَى رَبُّهُ إنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ
مُؤْمِنَاتٍ } .
فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إلَيَّ فَقَالَ : لَا .
فَقُلْت
: اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكُنَّا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ
فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا
يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا ،
فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي ، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي .
قَالَتْ : مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك .
فَوَاَللَّهِ
إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ .
فَقُلْت
: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ ، أَفَتَأْمَنُ
إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ .
فَتَبَسَّمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْت : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ دَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْت : لَا يَغُرَّنَّكِ
أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك فَتَبَسَّمَ أُخْرَى ؛ وَإِنِّي
لَمَّا قَصَصْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ ، وَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى
انْحَسَرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَكَشَّرَ ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ
النَّاسِ ثَغْرًا .
فَقُلْت : أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك ، قَالَ : نَعَمْ .
فَجَلَسْت
فَرَفَعْت بَصَرِي فِي الْبَيْتِ ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت فِيهِ
شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ ، إلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً ، وَإِلَّا قَبْضَةً
مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ ، وَقَرَظٌ مَصْبُورٌ فِي نَاحِيَةِ
الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ ؛ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ ،
فَقَالَ : مَا يُبْكِيك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ فَقُلْت : وَمَا لِي لَا
أَبْكِي ،
وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِك ، وَهَذِهِ
خَزَائِنُك لَا أَرَى فِيهَا شَيْئًا إلَّا مَا أَرَى ، وَذَلِكَ كِسْرَى
وَقَيْصَرُ فِي الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ
وَصَفْوَتُهُ ؟ وَقُلْت : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ لِأُمَّتِك ،
فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ
اللَّهَ .
فَاسْتَوَى جَالِسًا ، وَقَالَ : أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا
ابْنَ الْخَطَّابِ ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .
فَقُلْت : اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ .
وَإِنَّ
عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ ، فَأَذِنَ
لَهُ ، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يُنَادِي : لَمْ يُطَلِّقْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ ، وَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ الْأَمْنِ أَوْ
الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }
فَكُنْت أَنَا الَّذِي اسْتَنْبَطْت ذَلِكَ الْأَمْرَ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى آيَةَ التَّخْيِيرِ } .
وَكَانَ أَقْسَمَ لَا يَدْخُلُ
عَلَيْهِنَّ شَهْرًا ، يَعْنِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ يَعْنِي
قِصَّةَ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ
فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ .
هَذَا نَصُّ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى سِوَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : هَذَا الْحَدِيثُ بِطُولِهِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ
كِتَابُ الصَّحِيحِ يَجْمَعُ لَك جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ عَلَى
أَزْوَاجِهِ مِنْ أَجْلِ سُؤَالِهِنَّ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ،
لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَلِقَوْلِ عُمَرَ لِحَفْصَةَ ، لَا تَسْأَلِي رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، وَسَلِينِي مَا بَدَا
لَك .
وَسَبَبُ غَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ ،
لِقَوْلِ
ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ : مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ ؟
وَقَوْلُهُ : { عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا
خَيْرًا مِنْكُنَّ } .
وَذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ ؛ فَهَذَانِ قَوْلَانِ وَقَعَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَصًّا .
وَفِيهِ
الْإِشَارَةُ لِمَا فِيهَا بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ عَدَمِ
قُدْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
النَّفَقَةِ ، حَتَّى تَجَمَّعْنَ حَوْلَهُ بِمَا ظَهَرَ لِعُمَرَ مِنْ
ضِيقِ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
سِيَّمَا لَمَا اطَّلَعَ فِي مَشْرُبَتِهِ مِنْ عَدَمِ الْمِهَادِ ،
وَقِلَّةِ الْوِسَادِ .
وَفِيهِ إبْطَالُ مَا ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ مِنْ
أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَسْأَلْهُ شَيْئًا ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُنَّ حَوْلِي ، كَمَا تَرَى ، وَقِيَامِ
أَبِي بَكْرٍ لِعَائِشَةَ يَجَأُ فِي عُنُقِهَا ، وَلَوْلَا سُؤَالُهَا مَا
أَدَّبَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : ( قُلْ )
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَاحْتَجَّ
بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي سَرَدْنَاهُ آنِفًا ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛
أَمَّا أَنَّ قَوْلَهُ : ( قُلْ ) يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالْإِبَاحَةَ ،
فَإِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِنُزُولِ الْآيَةِ تَخْيِيرَ اللَّهِ لَهُ بَيْنَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ ، فَأَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ
ذَلِكَ بِأَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ مَعَهُ فِي مَنْزِلَتِهِ ،
وَلِيَتَخَلَّقْنَ بِأَخْلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ ، وَلِيَصُنَّ خَلَوَاتِهِ
الْكَرِيمَةَ مِنْ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ
عَلَى الْوُجُوبِ .
وَإِنْ كَانَ لِسُؤَالِهِنَّ الْإِنْفَاقَ فَهُوَ
لَفْظُ إبَاحَةٍ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنْ ضَاقَ صَدْرُك
بِسُؤَالِهِنَّ لَك مَا لَا تُطِيقُ فَإِنْ شِئْت فَخَيِّرْهُنَّ ، وَإِنْ
شِئْت فَاصْبِرْ مَعَهُنَّ ، وَهَذَا بَيِّنٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إطْنَابٍ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِأَزْوَاجِك }
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَزْوَاجِ الْمَذْكُورَاتِ ؛
فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ : كَانَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ
نِسْوَةٍ سِوَى الْخَيْبَرِيَّةِ ؛ خَمْسٌ مِنْ قُرَيْشٍ : عَائِشَةُ ،
وَحَفْصَةُ ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَأَمُّ سَلَمَةَ
بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ
بْنِ قَيْسٍ .
وَكَانَتْ تَحْتَهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ
أَخْطَبَ الْخَيْبَرِيّةُ ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ
الْهِلَالِيَّةُ ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ ،
وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، فَذَهَبَتْ ، وَكَانَتْ بَدَوِيَّةً .
قَالَ
رَبِيعَةُ : فَكَانَتْ أَلْبَتَّةَ ، وَاسْمُهَا عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ
الْكِلَابِيَّةُ ؛ اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ ، فَذَهَبَتْ ، فَابْتَلَاهَا
اللَّهُ بِالْجُنُونِ .
وَيُقَالُ : إنَّ أَبَاهَا تَرَكَهَا تَرْعَى
غَنَمًا لَهُ ، فَصَارَتْ فِي طَلَبِ إحْدَاهُنَّ ، فَلَمْ يُعْلَمْ مَا
كَانَ مِنْ أَمْرِهَا إلَى الْيَوْمِ .
وَقِيلَ : إنَّهَا كِنْدِيَّةٌ .
وَقِيلَ : لَمْ يُخَيِّرْهَا ، وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَرَدَّهَا ، وَقَالَ : لَقَدْ اسْتَعَذْتِ بِمَعَاذٍ .
هَذَا
مُنْتَهَى قَوْلِهِمْ ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُهُ بَيَانًا شَافِيًا ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَنَقُولُ : كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ
الصَّحِيحَيْنِ ، وَالْحَاضِرُ الْآنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ
زَوْجَةً ، عَقَدَ عَلَى خَمْسٍ ، وَبَنَى بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ ، وَمَاتَ
عَنْ تِسْعٍ ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمُخَيَّرُ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ : الْأُولَى :
سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لُؤَيٍّ .
الثَّانِيَةُ : عَائِشَةُ
بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، تَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْأَبِ الثَّامِنِ .
الثَّالِثُ : حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَبِ التَّاسِعِ .
الرَّابِعَةُ
: أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَبِ السَّابِعِ .
وَذَكَرَ
جَمَاعَةٌ [ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ] أَنَّ الْمُخَيَّرَاتِ مِنْ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ ، وَذَكَرَ
النَّقَّاشُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبَ مِمَّنْ سَأَلَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّفَقَةَ ، وَنَزَلَ لِأَجْلِهِنَّ
آيَةُ التَّخْيِيرِ .
وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ عَظِيمٌ ؛ فَإِنَّ فِي
الصَّحِيحِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ
الْمُتَقَدِّمِ : فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ
الْحِجَابُ ؛ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْحِجَابُ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ ،
وَكَذَلِكَ إنَّمَا زَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيُّ بِالْيَمَنِ ، وَهُوَ أَصْدَقَ
عَنْهُ ، فَأَرْسَلَ بِهَا إلَيْهِ مِنْ الْيَمَنِ ، وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ
.
وَأَمَّا الْكِلَابِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فَلَمْ يَبْنِ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَيُقَالُ
: إنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ ، وَقَالَ لَهُ : إنَّهَا لَمْ
تَمْرَضْ قَطُّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
مَا لِهَذِهِ قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ، فَطَلَّقَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا ،
وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ : إنَّهَا كَانَتْ بَدَوِيَّةً ، فَاخْتَارَتْ
نَفْسَهَا لَمْ يَصِحَّ .
وَقَوْلُ رَبِيعَةَ : إنَّهَا كَانَتْ
أَلْبَتَّةَ لَمْ يَثْبُتْ وَإِنَّمَا بَنَاهُ مَنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ
مَذْهَبَ رَبِيعَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَتَاتٌ ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } وَهُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } ، فَعَلَّقَ التَّخْيِيرَ عَلَى شَرْطٍ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ وَالطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَيْنِ عَلَى شَرْطٍ صَحِيحَانِ ، يَنْفُذَانِ وَيَمْضِيَانِ ، خِلَافًا لِلْجُهَّالِ الْمُبْتَدِعَةِ ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْمُنْجَزُ لَا غَيْرَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } مَعْنَاهُ إنْ كُنْتُنَّ تَقْصِدْنَ
الْحَالَةَ الْقَرِيبَةَ مِنْكُنَّ ؛ فَإِنَّ لِلْإِنْسَانِ حَالَتَيْنِ :
حَالَةٌ هُوَ فِيهَا تُسَمَّى الدُّنْيَا ، وَحَالَةٌ لَا بُدَّ أَنْ
يَصِيرَ إلَيْهَا وَهِيَ الْأُخْرَى ، وَتَقْصِدْنَ التَّمَتُّعَ بِمَا
فِيهَا ، وَالتَّزَيُّنَ بِمَحَاسِنِهَا ، سَرَحْتُكُنَّ لِطَلَبِ ذَلِكَ ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ
فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا
وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } .
وَلَا بُدَّ لِلْمَرْءِ
مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَتَيْنِ : إمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى هَذِهِ
الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ ، وَيَجْمَعَ لَهَا ، وَيَنْظُرَ فِيهَا [
وَمِنْهَا ] .
وَإِمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى حَالَتِهِ الْأُخْرَى ،
فَإِيَّاهَا يَقْصِدُ ، وَلَهَا يَسْعَى وَيَطْلُبُ ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَارَ
اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحَالَةَ الْأُخْرَى ، فَقَالَ لَهُ : { وَلَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك
خَيْرٌ وَأَبْقَى } يَعْنِي رِزْقَهُ فِي الْآخِرَةِ ؛ إذْ الْمَرْءُ لَا
بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ رِزْقُهُ فِي الدُّنْيَا طَلَبَهُ أَوْ
تَرَكَهُ فَإِنَّهُ طَالِبٌ لَهُ طَلَبَ الْأَجَلِ .
وَأَمَّا رِزْقُهُ
فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَأْتِيهِ إلَّا وَيَطْلُبُهُ ، فَخَيَّرَ اللَّهُ
أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ فِي هَذَا لِيَكُونَ لَهُنَّ الْمَنْزِلَةُ الْعُلْيَا
، كَمَا كَانَتْ لِزَوْجِهِنَّ .
وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَى أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : { لَمْ يُخَيِّرْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ إلَّا بَيْنَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ : خَيَّرَهُنَّ
بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ لَوْ اخْتَارَتْ مِنْهُنَّ
الدُّنْيَا مَثَلًا ، هَلْ كَانَتْ تَبِينُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أَمْ
لَا ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا تَبِينُ ، لِمَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ اخْتِيَارَ الدُّنْيَا سَبَبُ الِافْتِرَاقِ ؛ فَإِنَّ
الْفِرَاقَ إذَا وَقَعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ إمْضَاؤُهُ ؛
أَصْلُهُ يَمِينُ اللِّعَانِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ هَلْ
تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ بِنَفْسِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ
الْفِرَاقِ ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ ؟ حَسْبَمَا
بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الثَّانِي : أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : اخْتَارِي نَفْسَك وَنَوَى الْفِرَاقَ وَاخْتَارَتْ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ .
وَالدُّنْيَا كِنَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } :
هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ ، وَهُوَ فِعْلُ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ ، مِنْ
قَوْلِك " تَعَالَى " وَهُوَ دُعَاءٌ إلَى الْإِقْبَالِ إلَيْهِ ، تَقُولُ :
تَعَالَى بِمَعْنَى " أَقْبِلْ " وُضِعَ لِمَنْ لَهُ جَلَالَةٌ وَرِفْعَةٌ
، ثُمَّ صَارَ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَوْضُوعًا لِكُلِّ دَاعٍ إلَى
الْإِقْبَالِ .
وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ
؛ فَإِنَّ الدَّاعِيَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي أَرْفَعِ رُتْبَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أُمَتِّعْكُنَّ } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أُسَرِّحْكُنَّ } : مَعْنَاهُ أُطَلِّقُكُنَّ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي السَّرَاحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : وَهِيَ مَقْصُودُ الْبَابِ وَتَحْقِيقُهُ فِي
بَيَانِ الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي
كَيْفِيَّةِ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَزْوَاجِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : الْأَوَّلُ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ أَزْوَاجَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ فِي
الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ، أَوْ الطَّلَاقِ .
فَاخْتَرْنَ
الْبَقَاءَ مَعَهُ ، قَالَتْهُ عَائِشَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ،
وَالشَّعْبِيُّ ، وَابْنُ شِهَابٍ ، وَرَبِيعَةُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ : إنَّهُ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ ،
وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ فِي
الطَّلَاقِ ، ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ، وَمِنْ الصَّحَابَةِ
عَلِيٌّ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ
قَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْآيَةَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِلَفْظِ
التَّخْيِيرِ ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ إذًا قَبْلَ ثَلَاثٍ ، وَاَللَّهُ
أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ ، وَقَدْ قَالَ : {
سَرَاحًا جَمِيلًا } وَالثَّلَاثُ لَيْسَ مِمَّا يَجْمُلُ ؛ وَإِنَّمَا
السَّرَاحُ الْجَمِيلُ وَاحِدَةٌ لَيْسَ الثَّلَاثُ الَّتِي يُوجِبُهُنَّ
قَبُولُ التَّخْيِيرِ .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا
عَائِشَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْهَا قَطُّ ، إنَّمَا الْمَرْوِيُّ
عَنْهَا أَنَّ مَسْرُوقًا سَأَلَهَا عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ زَوْجَتَهُ
فَتَخْتَارُهُ ، أَيَكُونُ طَلَاقًا ؟ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا
فِيهِ .
فَقَالَتْ عَائِشَةُ : خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ ، أَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا ؟
خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَرُوِيَ ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا ، فَلَا وَجَدُوا
لَفْظَ ( خَيَّرَ ) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَقَوْلُهَا : لَمَّا أُمِرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ
بَدَأَ بِي ، فَقَالَ : إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ } .
وَلَيْسَ فِي هَذَا تَخْيِيرٌ بِطَلَاقٍ كَمَا
زَعَمُوا
، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَوَّلُ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : التَّخْيِيرُ
بَيْنَ الدُّنْيَا ، فَيُوقَعُ الطَّلَاقُ ؛ وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيَكُونُ
الْإِمْسَاكُ ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ قَوْلُهُمْ إلَى آيَةِ التَّخْيِيرِ ،
وَقَوْلُهَا ، خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نِسَاءَهُ ، أَوْ أُمِرَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ ، فَإِنَّمَا يَعُودُ
ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ التَّخْيِيرِ .
وَاَلَّذِي
يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ سَمَّى كَمَا تَقَدَّمَ آيَةَ التَّخْيِيرِ
: { عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا
مِنْكُنَّ } .
وَلَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ فِيهَا ذِكْرٌ لَفْظِيٌّ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ نَسَبَهَا إلَى الْمَعْنَى .
الثَّانِي
: أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَدْ قَالَ : إنَّ مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ
قَرَأَ عَلَيْهِنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ ؛ وَقَوْلُهُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ
أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ صَحِيحٌ .
وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ نَصُّ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا إنَّمَا وَقَعَ
بَيْنَ الْآخِرَةِ ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ ؛ وَبَيْنَ الدُّنْيَا ،
فَيَكُونُ الْفِرَاقُ ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ ، وَلَيْسَ
يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَ مِنْ أَنَّ التَّخْيِيرَ ثَلَاثٌ ، وَاَللَّهُ
أَمَرَهُ بِأَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ ؛ فَإِنَّ كَوْنَ
قَبُولِ الْخِيَارِ ثَلَاثًا إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ، وَلَا يَصِحُّ
لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى حُكْمٍ بِمَذْهَبٍ بِقَوْلٍ يُخَالِفُ
فِيهِ ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ يَقُولَانِ : إنَّهَا
وَاحِدَةٌ فِي تَفْصِيلٍ ، وَقَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ قَالَ : سَرَاحًا
جَمِيلًا .
وَالثَّلَاثُ مِمَّا لَا يَجْمُلُ خَطَأً ؛ بَلْ هِيَ مِمَّا
يَجْمُلُ وَيَحْسُنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَسَمَّى الثَّلَاثَ
تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا تُوصَفُ بِالْإِحْسَانِ إذَا فُرِّقَتْ ؛ فَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ جُمْلَةً فَلَا .
قُلْنَا : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ الثَّلَاثَ فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ ، كَمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ عِنْدَك
فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ .
وَإِنَّمَا
الْمَعْنَى السَّرَاحُ الْجَمِيلُ ، وَالسَّرَاحُ الْحَسَنُ فُرْقَةٌ مِنْ
غَيْرِ ضَرَرٍ ، كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ
مِمَّا ظَنَّهُ هَذَا الْعَالِمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ
: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : { قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ : ابْعَثِي
إلَى أَبَوَيْك .
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَ ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُخَيِّرَكُنَّ .
فَقَالَتْ : إنِّي أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَسَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ .
فَقَالَتْ
لَهُ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً ؛ لَا
تُخَيِّرْ مِنْ نِسَائِك مَنْ تُحِبُّ أَنْ تُفَارِقَنِي ، فَخَيَّرَهُنَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا ،
فَكُلُّهُنَّ اخْتَرْنَهُ } .
{ قَالَتْ عَائِشَةُ : خَيَّرَنَا فَاخْتَرْنَاهُ ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا } .
وَفِي
الصَّحِيحِ { عَنْ عَائِشَةَ : لَمَّا نَزَلَتْ : { وَإِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَدَأَ بِي ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ
؛ إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَلَّا تُعَجِّلِي حَتَّى
تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك .
قَالَتْ : وَقَدْ عَلِمَ وَاَللَّهِ أَنَّ
أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ ، فَقَرَأَ عَلَيَّ : {
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ
لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } .
فَقُلْت : أَوَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } .
هَذِهِ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ .
قَالَ
مَعْمَرٌ : وَقَالَ أَيُّوبُ : قَالَتْ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
لَا تُخْبِرْ أَزْوَاجَك أَنِّي اخْتَرْتُك ؛ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ
يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتًا ، إنَّمَا بَعَثَنِي مُبَلِّغًا } .
وَفِي
رِوَايَةٍ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَقْرَأُ عَلَى أَزْوَاجِهِ الْآيَةَ وَيَقُولُ : قَدْ اخْتَارَتْنِي
عَائِشَةُ ، فَاخْتَرْنَهُ كُلُّهُنَّ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ
عَشْرَةَ : رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : لَمَّا خَيَّرَهُنَّ
اخْتَرْنَهُ ، فَقَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ ، وَنَزَلَتْ : { لَا
يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ
أَزْوَاجٍ } .
وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَدْ بَيَّنَّا كَيْفَ وَقَعَ التَّخْيِيرُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ ، وَمَسْأَلَةُ التَّخْيِيرِ طَوِيلَةٌ عَرِيضَةٌ ، لَا
يَسْتَوْفِيهَا إلَّا الْإِطْنَابُ بِالتَّطْوِيلِ مَعَ اسْتِيفَاءِ
التَّفْصِيلِ ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْعُجَالَةِ ،
وَبَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، فَنُشِيرُ مِنْهُ الْآنَ إلَى
طَرَفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إذَا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ
فَاخْتَارَتْهُ .
الثَّانِي : إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا .
أَمَّا
الطَّرَفُ الْأَوَّلُ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا ، وَقَدْ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ ،
وَعَائِشَةُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ زَيْدٍ ،
وَعَلِيٍّ ، إلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ .
وَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا
طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ،
وَالْحَسَنُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَتَعَلَّقُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ : " اخْتَارِي
" كِنَايَةٌ عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ ؛ فَإِذَا أَضَافَهُ إلَيْهَا
وَقَعَتْ طَلْقَةٌ ، كَقَوْلِهِ ، أَنْتِ بَائِنٌ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ عَائِشَةَ : خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ .
أَفَكَانَ
ذَلِكَ طَلَاقًا ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قُلْتُمْ : إنَّ تَخْيِيرَ
عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الزَّوْجِيَّةِ وَالْفِرَاقِ ، وَإِنَّمَا
كَانَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فَيُمْسِكُ ، وَبَيْنَ الْفِرَاقِ فَيَسْتَأْنِفُ
إيقَاعَهُ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا عِنْدَكُمْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ
عَلَيْنَا مِنْكُمْ .
قُلْنَا : كَذَلِكَ قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ كَانَ .
وَقَوْلُكُمْ
: لَا حُجَّةَ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ حُجَّتُهُ ظَاهِرَةٌ ؛
لِأَنَّكُمْ قَدْ قُلْتُمْ : إنَّهَا كِنَايَةٌ ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ
أَنْ تَقُولُوا : إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَذَا أَيْضًا .
فَإِذَا
قُلْتُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ : إنَّهُ لَا يَقَعُ ، كَانَتْ الْأُخْرَى
مِثْلَهَا ؛ لِأَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ ، فَلَوْ لَزِمَ الطَّلَاقُ
بِإِحْدَاهُمَا لَزِمَ بِالْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَبِهَذَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِسِعَةِ عِلْمِهَا ، وَعَظِيمِ فِقْهِهَا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا
إيقَاعٌ
بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ ،
وَهُمَا ضِدَّانِ ، لَيْسَ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا لِلثَّانِي
بِحَالٍ .
وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي : وَهُوَ إذَا اخْتَارَتْ
الْفِرَاقَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا ثَلَاثٌ
مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا بَيْنُونَةٍ .
فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ مَا نَوَى .
هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ .
الثَّانِي
: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ
وَلَا مَبْتُوتَةٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا إذَا نَوَيَاهُ
جَمِيعًا ، وَلَا يَقَعُ مِنْهُ إلَّا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَمِيعًا ،
فَإِنْ اخْتَلَفَا وَقَعَ الْأَقَلُّ ، وَبَطَلَ الْأَكْثَرُ .
وَدَلِيلُنَا
أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِقَوْلِهِ : " اخْتَارِي " أَلَّا يَكُونَ لَهُ
عَلَيْهِ سَبِيلٌ ، وَلَا يَمْلِكَ مِنْهَا شَيْئًا ؛ إذْ قَدْ جَعَلَ
إلَيْهَا أَنْ تُخْرِجَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْهَا عَنْهُ أَوْ تُقِيمَ مَعَهُ
، فَإِذَا أَخْرَجَتْ الْبَعْضَ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ ،
وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَاخْتَارَ
غَيْرَهُمَا .
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ
الطَّلَاقَ بِخَبَرٍ مِنْ جِهَتِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى
نِيَّتِهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ
فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ كَخِيَارِ
الْمُعْتَقَةِ .
الْجَوَابُ : إنَّا نَقُولُ : أَمَّا اعْتِبَارُ
نِيَّتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا مُوقِعَةٌ لِلطَّلَاقِ
بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ
يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا
لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَنِيَابَةٌ ، وَأَمَّا
خِيَارُ الْمُعْتِقَةِ فَلَا نُسَلِّمُهُ ، بَلْ هُوَ ثَلَاثٌ .
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ لَفْظُ الثَّلَاثِ وَلَا نِيَّتُهَا .
الْجَوَابُ : إمَّا نَقُولُ : قَدْ اقْتَرَنَ بِهِ لَفْظُهَا كَمَا
بَيَّنَّاهُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ
اللَّهُ عِلْمَهُ وَأَفَاضَ عَلَيْكُمْ حُكْمَهُ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ
عَلَى قِسْمَيْنِ : قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ ، وَخَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ ،
وَالْمَخْلُوقُ وَالْمُحْدَثُ عَلَى قِسْمَيْنِ : حَيَوَانٌ وَجَمَادٌ .
وَالْحَيَوَانُ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُكَلَّفٌ ، وَغَيْرُ مُكَلَّفٍ .
وَالْمُكَلَّفُ حَالَتَانِ : حَالَةٌ هُوَ فِيهَا ، وَحَالَةٌ هُوَ مَنْقُولٌ إلَيْهَا ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَالْحَالَةُ
الْمُنْتَقَلُ إلَيْهَا هِيَ الْحَبِيبَةُ إلَى اللَّهِ الْمَمْدُوحَةُ
مِنْهُ ، وَالْحَالَةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا هِيَ الْمُبْغَضَةُ إلَى
اللَّهِ الْمَذْمُومَةُ عِنْدَهُ ؛ فَإِنْ رَكَنَ إلَيْهَا ، وَعَمِلَ
بِمُقْتَضَاهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ ، وَأَهْمَلَ الْحَالَةَ
الَّتِي يَنْتَقِلُ إلَيْهَا ، وَهِيَ الْمَحْمُودَةُ ، هَلَكَ .
وَإِنْ
كَانَ مَقْصِدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ تِلْكَ الْآخِرَةَ ،
وَكَانَ لَهَا يَعْمَلُ ، وَإِيَّاهَا يَطْلُبُ ، وَاعْتَقَدَ نَفْسَهُ
بِمَنْزِلَةِ الْمُسَافِرِ إلَى مَقْصِدٍ ، فَهُوَ فِي طَرِيقِهِ يَعْبُرُ ،
وَعَلَى مَسَافَتِهِ يَرْتَحِلُ ؛ وَقَلْبُ الْأَوَّلِ مَعْمُورٌ بِذِكْرِ
الدُّنْيَا ، مَغْمُورٌ بِحُبِّهَا ، وَقَلْبُ الثَّانِي مَغْمُورٌ
بِذِكْرِ اللَّهِ ، مَعْمُورٌ بِحُبِّهِ ، وَجَوَارِحُهُ مُسْتَعْمَلَةٌ
بِطَاعَتِهِ ، فَقِيلَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَتَقْصِدْنَ
الدَّارَ الْآخِرَةَ وَثَوَابَهُ فِيهَا ، فَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ
ثَوَابَكُنَّ وَثَوَابَ أَمْثَالِكُنَّ فِي أَصْلِ الْقَصْدِ لَا فِي
مِقْدَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ
يَعْمَلُ مَحَبَّةً فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِذَاتَيْهِمَا ، وَفِي
الدَّارِ الْآخِرَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّوَابِ .
قَالَ
قَوْمٌ : لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحَبَّ اللَّهُ لِذَاتِهِ وَلَا رَسُولُهُ
لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا الْمَحْبُوبُ الثَّوَابُ مِنْهُمَا ، الْعَائِدُ
عَلَيْهِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَحَقَّقْنَا
أَنَّ
الْعَبْدَ يُحِبُّ نَفْسَهُ ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
لَغَنِيَّانِ عَنْ الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَسْطُورِ فِيهَا
.
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : {
لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ } الْإِحْسَانُ فِي الْفِعْلِ يَكُونُ
بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ
.
وَالثَّانِي : التَّمَادِي عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ ،
فَكَأَنَّهُ قَالَ : قُلْ لَهُنَّ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْفِعْلِ
الْمَطْلُوبِ مِنْكُنَّ كَمَا أُمِرَ بِهِ ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ إلَى
حَالَةِ الِاحْتِرَامِ بِالْمُنْيَةِ ، فَعِنْدَنَا لَهُ أَفْضَلُ
الْجَلَالَةِ وَالْإِكْرَامِ .
وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } إلَى آخِرِ الْمَعْنَى .
فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَجْرًا عَظِيمًا }
الْمَعْنَى أَعْطَاهُنَّ اللَّهُ بِذَلِكَ ثَوَابًا مُتَكَاثِرَ
الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ
بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } ، وَزِيَادَةُ
رِزْقٍ كَرِيمٍ مُعَدٍّ لَهُنَّ .
أَمَّا ثَوَابُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ
فَكَوْنُهُنَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ ، وَلَا غَايَةَ بَعْدَهَا ، وَلَا مَزِيَّةَ
فَوْقَهَا ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ عَلَى
غَيْرِهِنَّ ؛ فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالنَّعِيمَ عَلَى قَدْرِ الْمَنْزِلَةِ
.
وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا :
أَنَّهُ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ ،
وَتَأْكِيدًا لِحُرْمَتِهِنَّ ، وَتَشْرِيفًا لِمَنْزِلَتِهِنَّ .
الثَّانِي
: أَنَّهُ حَظَرَ عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ ، وَمَنَعَهُ مِنْ
الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ ، فَقَالَ : { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ
بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك
حُسْنُهُنَّ } .
وَالْحِكْمَةُ أَنَّهُنَّ لَمَّا لَمْ يَخْتَرْنَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ أَمَرَ بِمُكَافَأَتِهِنَّ فِي التَّمَسُّكِ بِنِكَاحِهِنَّ .
فَأَمَّا
مَنْعُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ هَلْ بَقِيَ
ذَلِكَ مُسْتَدَامًا أَمْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ ، عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهٍ مِنْ رَحْمَتِهِ
وَخَيْرَاتِهِ ، وَلَا يَنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ .
وَقَدْ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا ، وَيَنْقَصُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَنْ قَذَفَهُنَّ حُدَّ حَدَّيْنِ ، كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ .
وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النُّورِ ،
مِنْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً } .
يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْصَنَةٍ ،
وَلَا يَقْتَضِي شَرَفُهُنَّ زِيَادَةً فِي الْحَدِّ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَنْزِلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ بِزِيَادَةٍ ، وَلَا نَقْصُهَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَدِّ بِنَقْصٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ
مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْفَاحِشَةِ
وَتِبْيَانِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ ، وَأَنَّهَا تَنْطَبِقُ
عَلَى الزِّنَا ، وَعَلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ نِسَاءِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَاحِشَةٍ يُضَاعَفُ لَهَا
الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ، لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ ، وَفَضْلِ
دَرَجَتِهِنَّ ، وَتَقَدُّمِهِنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ أَجْمَعَ ؛
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ كُلَّمَا تَضَاعَفَتْ
الْحُرُمَاتُ فَهُتِكَتْ تَضَاعَفَتْ الْعُقُوبَاتُ ؛ وَلِذَلِكَ ضُوعِفَ
حَدُّ الْحُرِّ عَلَى حَدِّ الْعَبْدِ ، وَالثَّيِّبِ عَلَى الْبِكْرِ ؛
لِزِيَادَةِ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ فِيهِمَا عَلَى قَرِينِهِمَا ؛ وَذَلِكَ
مَشْرُوحٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَدْ
قَالَ مَسْرُوقٌ : إنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُحْدَدْنَ حَدَّيْنِ .
وَيَا مَسْرُوقُ ، لَقَدْ كُنْت فِي
غِنًى عَنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ لَا يَأْتِينَ أَبَدًا
بِفَاحِشَةٍ تُوجِبُ حَدًّا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا
بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ ؛ وَإِنَّمَا خَانَتْ فِي الْإِيمَانِ
وَالطَّاعَةِ ، وَلَوْ أَمْسَكَ النَّاسُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي بَلْ عَمَّا
لَا يَعْنِي لَكَثُرَ الصَّوَابُ ، وَظَهَرَ الْحَقُّ .
الْآيَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ
وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } .
بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّهُ كَمَا يُضَاعَفُ ، بِهَتْكِ الْحُرُمَاتِ ، الْعَذَابُ ، كَذَلِكَ
يُضَاعَفُ بِصِيَانَتِهَا الثَّوَابُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ :
قَوْله تَعَالَى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ
النِّسَاءِ إنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى
وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } .
فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ
النِّسَاءِ } يَعْنِي فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ فَإِنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ
مِنْ الْآدَمِيَّاتِ فَلَسْنَ كَإِحْدَاهُنَّ ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْبَشَرِ جِبِلَّةً ،
فَلَيْسَ مِنْهُمْ فَضِيلَةً وَمَنْزِلَةً ، وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ لَا
يَحْتَمِلُ الْعَثَرَاتِ ، فَإِنَّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ ، وَتُرْفَعُ
مَنْزِلَتُهُ عَلَى الْمَنَازِلِ جَدِيرٌ بِأَنْ يَرْتَفِعَ فِعْلُهُ عَلَى
الْأَفْعَالِ ، وَيَرْبُوَ حَالُهُ عَلَى الْأَحْوَالِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ }
أَمَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ جَزْلًا ،
وَكَلَامُهُنَّ فَصْلًا ، وَلَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُحْدِثُ فِي
الْقَلْبِ عَلَاقَةً بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ اللِّينِ الْمُطْمِعِ
لِلسَّامِعِ ، وَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ مَعْرُوفًا ،
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قِيلَ : الْمَعْرُوفُ هُوَ
السِّرُّ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ الْكَلَامِ .
وَقِيلَ
الْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَعُودُ إلَى الشَّرْعِ بِمَا أُمِرْنَ
فِيهِ بِالتَّبْلِيغِ ، أَوْ بِالْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْبَشَرِ
مِنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } يَعْنِي اُسْكُنَّ فِيهَا وَلَا تَتَحَرَّكْنَ
، وَلَا تَبْرَحْنَ مِنْهَا ، حَتَّى إنَّهُ رُوِيَ وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ
حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ لِأَزْوَاجِهِ هَذِهِ ؛ ثُمَّ ظُهُورُ الْحُصْرِ ؛
إشَارَةً إلَى مَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ مِنْ لُزُومِ بَيْتِهَا ،
وَالِانْكِفَافِ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ ، إلَّا لِضَرُورَةٍ .
وَلَقَدْ
دَخَلْتَ نَيِّفًا عَلَى أَلْفِ قَرْيَةٍ مِنْ بَرِيَّةٍ ، فَمَا رَأَيْت [
نِسَاءً ] أَصْوَنَ عِيَالًا ، وَلَا أَعَفَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ
نَابُلُسَ الَّتِي رُمِيَ فِيهَا الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِالنَّارِ ، فَإِنِّي أَقَمْت فِيهَا أَشْهُرًا ، فَمَا رَأَيْت امْرَأَةً
فِي طَرِيقٍ ، نَهَارًا ، إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَإِنَّهُنَّ
يَخْرُجْنَ إلَيْهَا حَتَّى يَمْتَلِئَ الْمَسْجِدُ مِنْهُنَّ ، فَإِذَا
قُضِيَتْ الصَّلَاةُ ، وَانْقَلَبْنَ إلَى مَنَازِلِهِنَّ لَمْ تَقَعْ
عَيْنِي عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى .
وَسَائِرُ الْقُرَى تُرَى نِسَاؤُهَا مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَعُطْلَةٍ ، مُتَفَرِّقَاتٍ فِي كُلِّ فِتْنَةٍ وَعُضْلَةٍ .
وَقَدْ رَأَيْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَفَائِفَ مَا خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفِهِنَّ حَتَّى اسْتَشْهَدْنَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ تَعَلَّقَ الرَّافِضَةُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِهَذِهِ
الْآيَةِ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إذْ
قَالُوا : إنَّهَا خَالَفَتْ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَتْ تَقُودُ الْجُيُوشَ ، وَتُبَاشِرُ
الْحُرُوبَ ، وَتَقْتَحِمُ مَآزِقَ الْحَرْبِ وَالضَّرْبِ ، فِيمَا لَمْ
يُفْرَضْ عَلَيْهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا .
وَلَقَدْ حُصِرَ عُثْمَانُ ،
فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَمَرَتْ بِرَوَاحِلِهَا فَقُرِّبَتْ ، لِتَخْرُجَ
إلَى مَكَّةَ ، فَقَالَ لَهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ : يَا أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ ؛ أَقِيمِي هَاهُنَا ، وَرُدِّي هَؤُلَاءِ الرَّعَاعَ عَنْ
عُثْمَانَ ؛ فَإِنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ خَيْرٌ مِنْ حَجِّك .
وَقَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ
نَذَرَتْ الْحَجَّ قَبْلَ الْفِتْنَةِ ، فَلَمْ تَرَ التَّخَلُّفَ عَنْ
نَذْرِهَا ؛ وَلَوْ خَرَجَتْ عَنْ تِلْكَ الثَّائِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ
صَوَابًا لَهَا .
وَأَمَّا خُرُوجُهَا إلَى حَرْبِ الْجَمَلِ فَمَا
خَرَجَتْ لِحَرْبٍ ، وَلَكِنْ تَعَلَّقَ النَّاسُ بِهَا ، وَشَكَوْا
إلَيْهَا مَا صَارُوا إلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ الْفِتْنَةِ ، وَتَهَارَجَ
النَّاسِ ، وَرَجَوْا بَرَكَتَهَا فِي الْإِصْلَاحِ ، وَطَمِعُوا فِي
الِاسْتِحْيَاءِ مِنْهَا إذَا وَقَفَتْ إلَى الْخَلْقِ وَظَنَّتْ هِيَ
ذَلِكَ ، فَخَرَجَتْ مُقْتَدِيَةً بِاَللَّهِ فِي قَوْلِهِ : { لَا خَيْرَ
فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } .
وَبِقَوْلِهِ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } .
وَالْأَمْرُ
بِالْإِصْلَاحِ مُخَاطَبٌ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ، فَلَمْ يُرِدْ اللَّهُ بِسَابِقِ قَضَائِهِ ،
وَنَافِذِ حُكْمِهِ ، أَنْ يَقَعَ إصْلَاحٌ ، وَلَكِنْ جَرَتْ مُطَاعَنَاتٌ
وَجِرَاحَاتٌ ، حَتَّى كَادَ يَفْنَى الْفَرِيقَانِ ، فَعَمَدَ بَعْضُهُمْ
إلَى الْجَمَلِ فَعَرْقَبَهُ ، فَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَلُ لِجَنْبِهِ
أَدْرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ ، فَاحْتَمَلَهَا إلَى
الْبَصْرَةِ ، وَخَرَجَتْ فِي
ثَلَاثِينَ امْرَأَةٍ قَرَنَهُنَّ
عَلِيٌّ بِهَا ، حَتَّى أَوْصَلُوهَا إلَى الْمَدِينَةِ بَرَّةً تَقِيَّةً
مُجْتَهِدَةً ، مُصِيبَةً ثَابِتَةً فِيمَا تَأَوَّلَتْ ، مَأْجُورَةً
فِيمَا تَأَوَّلَتْ وَفَعَلَتْ ؛ إذْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأَحْكَامِ
مُصِيبٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ تَصْوِيبَ الصَّحَابَةِ فِي الْحُرُوبِ ، وَحَمْلَ أَفْعَالِهِمْ عَلَى أَجْمَلِ تَأْوِيلٍ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّبَرُّجِ .
وَقَوْلُهُ
: { الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ ابْنَ
عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : أَفَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } ؟ لِأَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةً
غَيْرَ وَاحِدَةٍ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ؛ هَلْ سَمِعْت بِأُولَى إلَّا لَهَا آخِرَةٌ ، قَالَ :
فَأْتِنَا بِمَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَجَاهِدُوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } جَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ .
فَقَالَ عُمَرُ : فَمَنْ أَمَرَ بِأَنْ نُجَاهِدَ ؟ قَالَ : مَخْزُومٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا تَكُونُ جَاهِلِيَّةً أُخْرَى .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ الْأُولَى مَا بَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ
الْقَاضِي : الَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا جَاهِلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ
قَبْلَ الْإِسْلَامِ ؛ وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِالْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا
صِفَتُهَا الَّتِي لَيْسَ لَهَا نَعْتُ غَيْرِهَا ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ : {
قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ } وَهَذِهِ حَقِيقَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ يَحْكُمُ إلَّا بِالْحَقِّ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ :
قَوْلُهُ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } : فِيهَا أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْإِثْمُ .
الثَّانِي : الشِّرْكُ .
الثَّالِثُ : الشَّيْطَانُ .
الرَّابِعُ
: الْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ ؛
فَالْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ كَالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ ؛ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ كَالشُّحِّ ، وَالْبُخْلِ ،
وَالْحَسَدِ ، وَقَطْعِ الرَّحِمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ :
قَوْلُهُ : { أَهْلَ الْبَيْتِ } رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ
أَنَّهُ قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } فِي
بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا ، وَجَعَلَ عَلِيًّا خَلْفَ ظَهْرِهِ ،
وَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلَ
بَيْتِي ، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا .
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ .
قَالَ : أَنْتِ عَلَى مَكَانِك وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ } .
وَرَوَى
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إذَا خَرَجَ
إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ : الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ ،
إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } .
خَرَّجَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
الْآيَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي
بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ
لَطِيفًا خَبِيرًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : آيَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : آيَاتُ اللَّهِ الْحِكْمَةُ : وَقَدْ بَيَّنَّا
الْحِكْمَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَآيَاتُ اللَّهِ حِكْمَتُهُ ، وَسُنَّةُ
رَسُولِهِ حِكْمَتُهُ ، وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ حِكْمَتُهُ ،
وَالشَّرْعُ كُلُّهُ حِكْمَتُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :
أَمَرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ رَسُولِهِ بِأَنْ يُخْبِرْنَ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بُيُوتِهِنَّ ، وَمَا يَرَيْنَ مِنْ أَفْعَالِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِهِ فِيهِنَّ ،
حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ إلَى النَّاسِ ، فَيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ ،
وَيَقْتَدُوا بِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّينِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فِي هَذَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ ؛ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ
أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِ مَا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَتَعْلِيمِ مَا عَلِمَهُ مِنْ
الدِّينِ ؛ فَكَانَ إذَا قَرَأَهُ عَلَى وَاحِدٍ ، أَوْ مَا اتَّفَقَ ،
سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ ، وَعَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إلَى
غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ
وَلَا كَانَ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى
النَّاسِ فَيَقُولَ لَهُمْ : نَزَلَ كَذَا ، وَكَانَ كَذَا .
وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ ، وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَلَوْ كَانَ
الرَّسُولُ لَا يَعْتَدُّ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُ مَا
أُمِرْنَ بِالْإِعْلَامِ بِذَلِكَ ، وَلَا فَرَضَ عَلَيْهِنَّ تَبْلِيغَهُ ؛
وَلِذَلِكَ قُلْنَا بِجَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ بُسْرَةَ فِي إيجَابِ
الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ ؛ لِأَنَّهَا رَوَتْ مَا سَمِعَتْ ،
وَبَلَّغَتْ مَا وَعَتْ .
وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ
الرِّجَالَ ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَحَقَّقْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ عَلَى
أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عُمَرَ ،
وَهَذَا كَانَ هَاهُنَا .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى :
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } .
فِيهَا
مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ
قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أُمِّ كُلْثُومٍ
بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ
هَاجَرَتْ مِنْ النِّسَاءِ ، وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَدْ قَبِلْت ، فَزَوَّجَهَا مِنْ
زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَسَخِطَتْهُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
الثَّانِي :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، خَطَبَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ،
فَامْتَنَعَتْ ، وَامْتَنَعَ أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ لِنَسَبِهَا فِي
قُرَيْشٍ ، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ،
وَإِنَّ زَيْدًا كَانَ عَبْدًا بِالْأَمْسِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهَا : مُرْنِي بِمَا شِئْت ، فَزَوَّجَهَا
مِنْ زَيْدٍ .
وَاَلَّذِي رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ
أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ
مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ ، زَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ سَاقَ
إلَيْهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا ، وَمِلْحَفَةً ،
وَدِرْعًا ، وَخَمْسِينَ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ ، وَعَشْرَةَ أَمْدَادٍ مِنْ
تَمْرٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا نَصٌّ عَلَى
أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي الْأَحْسَابِ ، وَإِنَّمَا
تُعْتَبَرُ فِي الْأَدْيَانِ ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَالْمُغِيرَةِ وَسَحْنُونٍ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ
، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوَالِيَ تَزَوَّجَتْ فِي قُرَيْشٍ وَتَزَوَّجَ
زَيْدٌ بِزَيْنَبِ ، وَتَزَوَّجَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ ضُبَاعَةَ
بِنْتَ الزُّبَيْرِ ، وَزَوَّجَ أَبُو حَنِيفَةَ سَالِمًا مِنْ هِنْدَ
بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ مَوْلًى
لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ .
وَفِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ ؛
لِمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَجَمَالِهَا ؛ فَعَلَيْك
بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } .
وَفِيهِ قَالَ سَهْلٌ : { مَرَّ
رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ
يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ
قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ ،
فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا
يُنْكَحَ ، وَإِنْ قَالَ لَا يُسْمَعَ ، وَإِنْ شَفَعَ لَا يُشَفَّعَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا } .
الْآيَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك
وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى
النَّاسَ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا
وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ
فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ
أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ {
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَنْزِلَ زَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ ، فَأَبْصَرَ امْرَأَتَهُ قَائِمَةً ، فَأَعْجَبَتْهُ ؛ فَقَالَ
: سُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ، فَلَمَّا سَمِعَتْ زَيْنَبُ ذَلِكَ
جَلَسَتْ ، وَجَاءَ زَيْدٌ إلَى مَنْزِلِهِ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ
زَيْنَبَ ؛ فَعَلِمَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ ؛ فَأَتَى زَيْدٌ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، ائْذَنْ لِي فِي طَلَاقِهَا ، فَإِنَّ بِهَا غَيْرَةً
وَإِذَايَةً بِلِسَانِهَا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ أَهْلَك وَفِي قَلْبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ ،
فَطَلَّقَهَا زَيْدٌ .
فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ : اُذْكُرْنِي لَهَا
فَانْطَلَقَ زَيْدٌ إلَى زَيْنَبَ ، فَقَالَ لَهَا : أَبْشِرِي ، أَرْسَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُك .
فَقَالَتْ : مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا ، حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَبِّي ، وَقَامَتْ إلَى مُصَلَّاهَا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } أَيْ بِالْإِسْلَامِ .
{ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ } ، أَيْ بِالْعِتْقِ ، هُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ .
وَقِيلَ
: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْ سَاقَهُ إلَيْك ، وَأَنْعَمْت
عَلَيْهِ بِأَنْ تَبَنَّيْته ؛ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ اللَّهِ إلَيْهِ
أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ إلَيْهِ فَهُوَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } يَعْنِي مِنْ نِكَاحِك لَهَا .
فَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهَا تَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ .
وَقِيلَ : تُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ مِنْ مَيْلِك إلَيْهَا وَحُبِّك لَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَتَخْشَى النَّاسَ } فِيهِ أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : تَسْتَحِي مِنْهُمْ ، وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَاهُ ، وَتَسْتَحِي مِنْهُ .
وَالْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ كَثِيرَةٌ فِي اللُّغَةِ .
الثَّانِي : تَخْشَى النَّاسَ أَنْ يُعَاتِبُوك ، وَعِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ .
الثَّالِثُ : وَتَخْشَى النَّاسَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِيك .
وَقِيلَ : أَنْ يُفْتَتَنُوا مِنْ أَجْلِك ، وَيَنْسُبُوك إلَى مَا لَا يَنْبَغِي .
وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَإِنَّهُ مَالِكُ الْقُلُوبِ ، وَبِيَدِهِ النَّوَاصِي وَالْأَلْسِنَةُ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ وَتَصْحِيحِ الْحَالِ : قَدْ
بَيَّنَّا فِي السَّالِفِ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الذُّنُوبِ ،
وَحَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِيمَا نُسِبَ إلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَهِدْنَا
إلَيْكُمْ عَهْدًا لَنْ تَجِدُوا لَهُ رَدًّا أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْبَغِي
أَنْ يَذْكُرَ نَبِيًّا إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ ، لَا يَزِيدُ
عَلَيْهِ ، فَإِنَّ أَخْبَارَهُمْ مَرْوِيَّةٌ ، وَأَحَادِيثَهُمْ
مَنْقُولَةٌ بِزِيَادَاتٍ تَوَلَّاهَا أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا غَبِيٌّ
عَنْ مِقْدَارِهِمْ ، وَإِمَّا بِدْعِيٌّ لَا رَأْيَ لَهُ فِي بِرِّهِمْ
وَوَقَارِهِمْ ، فَيَدُسُّ تَحْتَ الْمَقَالِ الْمُطْلَقِ الدَّوَاهِي ،
وَلَا يُرَاعِي الْأَدِلَّةَ وَلَا النَّوَاهِيَ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } ، أَيْ
أَصْدَقُهُ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا
فِي أَمَالِي أَنْوَارِ الْفَجْرِ .
فَهَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَصَى قَطُّ رَبَّهُ ، لَا فِي حَالِ
الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا بَعْدَهَا ، تَكْرِمَةً مِنْ اللَّهِ وَتَفَضُّلًا
وَجَلَالًا ، أَحَلَّهُ بِهِ الْمَحَلَّ الْجَلِيلَ الرَّفِيعَ ،
لِيَصْلُحَ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ
الْخَلْقِ فِي الْقَضَاءِ يَوْمَ الْحَقِّ .
وَمَا زَالَتْ الْأَسْبَابُ
الْكَرِيمَةُ ، وَالْوَسَائِلُ السَّلِيمَةُ تُحِيطُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ
جَوَانِبِهِ وَالطَّرَائِفُ النَّجِيبَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ
ضَرَائِبِهِ ، وَالْقُرَنَاءُ الْأَفْرَادُ يَحْيَوْنَ لَهُ ،
وَالْأَصْحَابُ الْأَمْجَادُ يَنْتَقُونَ لَهُ مِنْ كُلِّ طَاهِرِ
الْجَيْبِ ، سَالِمٍ عَنْ الْعَيْبِ ، بَرِيءٍ مِنْ الرَّيْبِ ،
يَأْخُذُونَهُ عَنْ الْعُزْلَةِ ، وَيَنْقُلُونَهُ عَنْ الْوَحْدَةِ ،
فَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا مِنْ كَرَامَةٍ إلَى كَرَامَةٍ ، وَلَا يَتَنَزَّلُ
إلَّا مَنَازِلَ السَّلَامَةِ حَتَّى تَجِيءَ بِالْحَيِيِّ نِقَابًا ،
أَكْرَمَ الْخَلْقِ سَلِيقَةً وَأَصْحَابًا ، وَكَانَتْ عِصْمَتُهُ مِنْ
اللَّهِ فَضْلًا لَا اسْتِحْقَاقًا ؛ إذْ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا
رَحْمَةً
لَا مَصْلَحَةً ، كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ
لِلْخَلْقِ ، بَلْ مُجَرَّدُ كَرَامَةٍ لَهُ وَرَحْمَةٍ بِهِ ، وَتَفَضُّلٍ
عَلَيْهِ ، وَاصْطِفَاءٍ لَهُ ، فَلَمْ يَقَعْ قَطُّ لَا فِي ذَنْبٍ
صَغِيرٍ حَاشَا لِلَّهِ وَلَا كَبِيرٍ ، وَلَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ
يَتَعَلَّقُ بِهِ لِأَجْلِهِ نَقْصٌ ، وَلَا تَعْيِيرٌ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
وَهَذِهِ
الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا سَاقِطَةُ الْأَسَانِيدِ ؛ إنَّمَا الصَّحِيحُ
مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : لَوْ كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا مِنْ الْوَحْيِ
شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ } يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ ، { وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ }
يَعْنِي بِالْعِتْقِ ، فَأَعْتَقْته : { أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك وَاتَّقِ
اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولًا } وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا قَالُوا : تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ
رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } .
وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّاهُ وَهُوَ
صَغِيرٌ ، فَلَبِثَ حَتَّى صَارَ رَجُلًا ، يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } .
فُلَانٌ مَوْلَى فُلَانٍ ، وَفُلَانٌ أَخُو فُلَانٍ ، هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّهُ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ .
قَالَ
الْقَاضِي : وَمَا وَرَاءَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ،
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَآهَا فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَبَاطِلٌ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهَا فِي
كُلِّ وَقْتٍ وَمَوْضِعٍ ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ حِجَابٌ ، فَكَيْفَ
تَنْشَأُ مَعَهُ وَيَنْشَأُ مَعَهَا وَيَلْحَظُهَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ ،
وَلَا
تَقَعُ فِي قَلْبِهِ إلَّا إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ ، وَقَدْ
وَهَبَتْهُ نَفْسَهَا ، وَكَرِهَتْ غَيْرَهُ ، فَلَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ ،
فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ هَوًى لَمْ يَكُنْ ، حَاشَا لِذَلِكَ الْقَلْبِ
الْمُطَهَّرِ مِنْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ الْفَاسِدَةِ .
وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ لَهُ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }
.
وَالنِّسَاءُ أَفْتَنُ الزَّهَرَاتِ وَأَنْشَرُ الرَّيَاحِينِ ،
فَيُخَالِفُ هَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ ، فَكَيْفَ فِي الْمَنْكُوحَاتِ
الْمَحْبُوسَاتِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْحَدِيثُ أَنَّهَا لَمَّا
اسْتَقَرَّتْ عِنْدَ زَيْدٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ : إنَّ زَيْنَبَ زَوْجُك ،
وَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ أَنْ جَاءَهُ زَيْدٌ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا ،
فَقَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ ، وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك ، فَأَبَى
زَيْدٌ إلَّا الْفِرَاقَ ، وَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ،
وَخَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
يَدَيْ مَوْلَاهُ زَوْجِهَا ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ الْمَذْكُورَ
فِيهِ خَبَرُهُمَا ، هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا
وَفَسَّرْنَاهَا ، فَقَالَ : وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إذْ تَقُولُ لِلَّذِي
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ : أَمْسِكْ عَلَيْك
زَوْجَك ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي فِرَاقِهَا ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا
اللَّهُ مُبْدِيهِ يَعْنِي مِنْ نِكَاحِك لَهَا ، وَهُوَ الَّذِي أَبْدَاهُ
لَا سِوَاهُ .
وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذْ أَوْحَى إلَيْهِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ
لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ هَذَا الْخَبَرِ وَظُهُورِهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي
يُخْبِرُ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِوُجُوبِ
صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ ، هَذَا يَدُلُّك عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا
ذَكَرَهُ مُتَسَوِّرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ، مَقْصُورٌ عَلَى عُلُومِ
الدِّينِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِأَيِّ مَعْنًى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك ، وَقَدْ
أَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا زَوْجُ زَيْدٍ ؟ قُلْنَا :
هَذَا لَا
يَلْزَمُ ؛ وَلَكِنْ لِطِيبِ نُفُوسِكُمْ نُفَسِّرُ مَا
خَطَرَ مِنْ الْإِشْكَالِ فِيهِ : إنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ مِنْهُ
مَا لَمْ يُعْلِمْهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ رَغْبَتِهِ فِيهَا أَوْ رَغْبَتِهِ
عَنْهَا ، فَأَبْدَى لَهُ زَيْدٌ مِنْ النُّفْرَةِ عَنْهَا
وَالْكَرَاهِيَةِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ مِنْهُ فِي أَمْرِهَا .
فَإِنْ
قِيلَ : فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِالتَّمَسُّكِ بِهَا ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ
الْفِرَاقَ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ؟ قُلْنَا : بَلْ هُوَ
صَحِيحٌ لِلْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَمَعْرِفَةِ
الْعَاقِبَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعَبْدَ
بِالْإِيمَانِ ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ ، فَلَيْسَ فِي
مُخَالَفَةِ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ لِمُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَا يَمْنَعُ
مِنْ الْأَمْرِ بِهِ عَقْلًا وَحُكْمًا ، وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ الْعِلْمِ ؛
فَتَيَقَّنُوهُ وَتَقَبَّلُوهُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ
قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا
زَوَّجْنَاكَهَا } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الْوَطَرُ : الْأَرَبُ ، وَهُوَ الْحَاجَةُ ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ
قَضَاءِ الشَّهْوَةِ .
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { أَيُّكُمْ يَمْلِكُ
أَرَبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَمْلِكُ أَرَبَهُ } عَلَى أَحَدِ الضَّبْطَيْنِ يَعْنِي شَهْوَتَهُ " .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { زَوَّجْنَاكَهَا } فَذَكَرَ عَقْدَهُ
عَلَيْهَا بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عِنْدَ
جَمَاعَةٍ عَلَى أَنَّهُ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ بِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ
غَيْرُهُ فِيهِ ، وَعِنْدَنَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَضْلَ
فِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ وَغَيْرُهُ { أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا زَيْدًا فَقَالَ : ائْتِ
زَيْنَبَ فَاذْكُرْنِي لَهَا } ، كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ يَحْيَى : {
فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِيهَا ، فَاسْتَفْتَحَ زَيْدٌ
الْبَابَ ، فَقَالَتْ : مَنْ ؟ قَالَ : زَيْدٌ .
قَالَتْ : مَا حَاجَتُك ؟ قَالَ : أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَتْ
: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَفَتَحَتْ لَهُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي ، فَقَالَ زَيْدٌ :
لَا أَبْكَى اللَّهُ لَك عَيْنًا قَدْ كُنْت نِعْمَتْ الْمَرْأَةُ
تَبَرِّينَ قَسَمِي ، وَتُطِيعِينَ أَمْرِي ، وَتَبْغِينَ مَسَرَّتِي ،
وَقَدْ أَبْدَلَك اللَّهُ خَيْرًا مِنِّي .
قَالَتْ مَنْ ؟ قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَخَرَّتْ سَاجِدَةً } .
وَفِي
رِوَايَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ { قَالَتْ : حَتَّى أَوَامِرَ رَبِّي ،
وَقَامَتْ إلَى مُصَلَّاهَا ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إذْنٍ ، فَكَانَتْ
تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَتَقُولُ : أَمَّا أَنْتُنَّ فَزَوَّجَكُنَّ آبَاؤُكُنَّ ، وَأَمَّا أَنَا
فَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ } .
وَفِي
رِوَايَةٍ : { إنَّ زَيْدًا لَمَّا جَاءَهَا بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهَا تُخَمِّرُ عَجِينَهَا قَالَ :
فَمَا اسْتَطَعْت أَنْ أَنْظُرَ إلَيْهَا مِنْ عِظَمِهَا فِي صَدْرِي ،
فَوَلَّيْت لَهَا ظَهْرِي ، وَنَكَصْت عَلَى عَقِبِي ، وَقُلْت : يَا
زَيْنَبُ ، أَبْشِرِي ، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَذْكُرُك الْحَدِيثُ } .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : { قَالَتْ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي أُدِلُّ
عَلَيْك بِثَلَاثٍ ، مَا مِنْ أَزْوَاجِك امْرَأَةٌ تُدِلُّ بِهِنَّ
عَلَيْك : جَدِّي وَجَدُّك وَاحِدٌ ، وَإِنِّي أَنْكَحَنِيكَ اللَّهُ مِنْ
السَّمَوَاتِ ، وَإِنَّ السَّفِيرَ جِبْرِيلُ } .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا
مِنْهُنَّ وَطَرًا } يَعْنِي دَخَلُوا بِهِنَّ ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِي
أَزْوَاجِ الْأَبْنَاءِ مِنْ الْأَصْلَابِ ، أَوْ مَا يَكُونُ فِي حُكْمِ
الْأَبْنَاءِ مِنْ الْأَصْلَابِ بِالْبَعْضِيَّةِ ، وَهُوَ فِي الرَّضَاعِ
كَمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ :
الْآيَةُ
الثَّالِثَةَ عَشَرَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا
أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ
بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } .
إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى خَطَّطَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِخُطَطِهِ ، وَعَدَّدَ لَهُ أَسْمَاءَهُ ، وَالشَّيْءُ إذَا عَظُمَ
قَدْرُهُ عَظُمَتْ أَسْمَاؤُهُ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ : لِلَّهِ
تَعَالَى أَلْفُ اسْمٍ ، وَلِلنَّبِيِّ أَلْفُ اسْمٍ .
فَأَمَّا
أَسْمَاءُ اللَّهِ فَهَذَا الْعَدَدُ حَقِيرٌ فِيهَا ، { قُلْ لَوْ كَانَ
الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ
تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } .
وَأَمَّا
أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُحْصِهَا
إلَّا مِنْ جِهَةِ الْوُرُودِ الظَّاهِرِ لِصِيغَةِ الْأَسْمَاءِ
الْبَيِّنَةِ ، فَوَعَيْتُ مِنْهَا جُمْلَةً ، الْحَاضِرُ الْآنَ مِنْهَا
سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ اسْمًا : أَوَّلُهَا الرَّسُولُ ، الْمُرْسَلُ ،
النَّبِيُّ ، الْأُمِّيُّ ، الشَّهِيدُ ، الْمُصَدِّقُ ، النُّورُ ،
الْمُسْلِمُ ، الْبَشِيرُ ، الْمُبَشِّرُ ، النَّذِيرُ ، الْمُنْذِرُ ،
الْمُبَيِّنُ ، الْعَبْدُ ، الدَّاعِي ، السِّرَاجُ ، الْمُنِيرُ ،
الْإِمَامُ ، الذِّكْرُ الْمُذَكِّرُ ، الْهَادِي ، الْمُهَاجِرُ ،
الْعَامِلُ ، الْمُبَارَكُ ، الرَّحْمَةُ ، الْآمِرُ ، النَّاهِي ،
الطَّيِّبُ ، الْكَرِيمُ ، الْمُحَلِّلُ ، الْمُحَرِّمُ ، الْوَاضِعُ ،
الرَّافِعُ ، الْمُخْبِرُ ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ، ثَانِي اثْنَيْنِ ،
مَنْصُورٌ ، أُذُنُ خَيْرٍ ، مُصْطَفًى ، أَمِينٌ ، مَأْمُونٌ ، قَاسِمٌ ،
نَقِيبٌ ، مُزَّمِّلٌ ، مُدَّثِّرٌ ، الْعَلِيُّ ، الْحَكِيمُ ،
الْمُؤْمِنُ ، الرَّءُوفُ ، الرَّحِيمُ ، الصَّاحِبُ ، الشَّفِيعُ ،
الْمُشَفَّعُ ، الْمُتَوَكِّلُ ، مُحَمَّدٌ ، أَحْمَدُ ، الْمَاحِي ،
الْحَاشِرُ ، الْمُقَفِّي ، الْعَاقِبُ ، نَبِيُّ التَّوْبَةِ ، نَبِيُّ
الرَّحْمَةِ ، نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ ، عَبْدُ اللَّهِ ، نَبِيُّ
الْحَرَمَيْنِ ، فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ .
وَلَهُ وَرَاءَ هَذِهِ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا لَا يُصِيبُهُ إلَّا صَمَيَانٌ .
فَأَمَّا الرَّسُولُ
: فَهُوَ الَّذِي تَتَابَعَ خَبَرُهُ عَنْ اللَّهِ ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ بِفَتْحِ السِّينِ ، وَلَا يَقْتَضِي التَّتَابُعَ .
وَهُوَ
الْمُرْسِلُ : بِكَسْرِ السِّينِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ بِالتَّبْلِيغِ
مُشَافَهَةً ، فَلَمْ يَكُ بُدٌّ مِنْ الرُّسُلِ يَنُوبُونَ عَنْهُ ،
وَيَتَلَقَّوْنَ مِنْهُ ، كَمَا بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : { تَسْمَعُونَ ،
وَيَسْمَعُ مِنْكُمْ ، وَيَسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ } .
وَأَمَّا
النَّبِيءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَهُوَ مَهْمُوزٌ مِنْ
النَّبَأِ ، وَغَيْرُ مَهْمُوزٍ مِنْ النُّبُوَّةِ ، وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ
مِنْ الْأَرْضِ ، فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرٌ عَنْ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، رَفِيعُ الْقَدْرِ عِنْدَهُ ،
فَاجْتَمَعَ لَهُ الْوَصْفَانِ ، وَتَمَّ لَهُ الشَّرَفَانِ .
وَأَمَّا
الْأُمِّيُّ : فَفِيهِ أَقْوَالٌ ؛ أَصَحُّهَا أَنَّهُ الَّذِي لَا
يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ ، كَمَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا
تَعْلَمُونَ شَيْئًا } ، ثُمَّ عَلَّمَهُمْ مَا شَاءَ .
وَأَمَّا الشَّهِيدُ : فَهُوَ لِشَهَادَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا } .
وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ الْمُعْجِزَةُ بِالصِّدْقِ ، وَالْخَلْقُ بِظُهُورِ الْحَقِّ .
وَأَمَّا
الْمُصَدِّقُ : فَهُوَ بِمَا صَدَّقَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ
التَّوْرَاةِ } .
وَأَمَّا النُّورُ : فَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ بِمَا
كَانَ فِيهِ الْخَلْقُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ ، فَنَوَّرَ
اللَّهُ الْأَفْئِدَةَ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ .
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ : فَهُوَ خَيْرُهُمْ وَأَوَّلُهُمْ ، كَمَا قَالَ : { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } .
وَتَقَدَّمَ
فِي ذَلِكَ بِشَرَفِ انْقِيَادِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ ، وَبِكُلِّ حَالٍ إلَى
اللَّهِ وَبِسَلَامَةٍ عَنْ الْجَهْلِ وَالْمَعَاصِي .
وَأَمَّا
الْبَشِيرُ : فَإِنَّهُ أَخْبَرَ الْخَلْقَ بِثَوَابِهِمْ إنْ أَطَاعُوا ،
وَبِعِقَابِهِمْ إنْ عَصَوْا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يُبَشِّرُهُمْ
رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَكَذَلِكَ الْمُبَشِّرُ .
وَأَمَّا
النَّذِيرُ وَالْمُنْذِرُ : فَهُوَ الْمُخْبِرُ عَمَّا يُخَافُ وَيُحْذَرُ
، وَيَكُفُّ عَمَّا يَؤُولُ إلَيْهِ وَيُعْمَلُ بِمَا يُدْفَعُ فِيهِ .
وَأَمَّا الْمُبَيِّنُ : فَمَا أَبَانَ عَنْ رَبِّهِ مِنْ الْوَحْيِ وَالدِّينِ ، وَأَظْهَرَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ .
وَأَمَّا الْأَمِينُ : فَبِأَنَّهُ حَفِظَ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ وَمَا وُظِّفَ إلَيْهِ ، وَمَنْ أَجَابَهُ إلَى أَدَاءِ مَا دَعَاهُ .
وَأَمَّا
الْعَبْدُ : فَإِنَّهُ ذَلَّ لِلَّهِ خُلُقًا وَعِبَادَةً ، فَرَفَعَهُ
اللَّهُ عِزًّا وَقَدْرًا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ، فَقَالَ : { أَنَا
سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } .
وَأَمَّا الدَّاعِي : فَبِدُعَائِهِ الْخَلْقَ لِيَرْجِعُوا مِنْ الضَّلَالِ إلَى الْحَقِّ .
وَأَمَّا السِّرَاجُ : فَبِمَعْنَى النُّورِ ، إذْ أَبْصَرَ بِهِ الْخَلْقُ الرُّشْدَ .
وَأَمَّا الْمُنِيرُ : فَهُوَ مُفْعِلٌ مِنْ النُّورِ .
وَأَمَّا الْإِمَامُ : فَلِاقْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِهِ وَرُجُوعِهِمْ إلَى قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ .
وَأَمَّا
الذِّكْرُ : فَإِنَّهُ شَرِيفٌ فِي نَفْسِهِ ، مُشَرِّفٌ غَيْرَهُ ،
مُخْبِرٌ عَنْ رَبِّهِ ، وَاجْتَمَعَتْ لَهُ وُجُوهُ الذِّكْرِ
الثَّلَاثَةُ .
وَأَمَّا الْمُذَكِّرُ : فَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ
اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ الذِّكْرَ ، وَهُوَ الْعِلْمُ الثَّانِي فِي
الْحَقِيقَةِ ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا ، وَلَقَدْ
اعْتَرَفَ الْخَلْقُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ الرَّبُّ ، ثُمَّ
ذَهَلُوا ، فَذَكَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْبِيَائِهِ ، وَخَتَمَ الذِّكْرَ
بِأَفْضَلِ أَصْفِيَائِهِ ، وَقَالَ : { فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ
مُذَكِّرٌ لَسْت عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } .
ثُمَّ مَكَّنَهُ مِنْ السَّيْطَرَةِ ، وَآتَاهُ السَّلْطَنَةَ ، وَمَكَّنَ لَهُ دِينَهُ فِي الْأَرْضِ .
وَأَمَّا الْهَادِي : فَإِنَّهُ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ النَّجْدَيْنِ .
وَأَمَّا الْمُهَاجِرُ : فَهَذِهِ الصِّفَةُ لَهُ
حَقِيقَةً
؛ لِأَنَّهُ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ، وَهَجَرَ أَهْلَهُ
وَوَطَنَهُ ، وَهَجَرَ الْخَلْقَ ؛ أُنْسًا بِاَللَّهِ وَطَاعَتِهِ ،
فَخَلَا عَنْهُمْ ، وَاعْتَزَلَهُمْ ، وَاعْتَزَلَ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا الْعَامِلُ : فَلِأَنَّهُ قَامَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ ، وَوَافَقَ فِعْلُهُ وَاعْتِقَادُهُ .
وَأَمَّا
الْمُبَارَكُ : فَبِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي حَالِهِ مِنْ نَمَاءِ
الثَّوَابِ ، وَفِي حَالِ أَصْحَابِهِ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ ، وَفِي
أُمَّتِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعَدَدِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ .
وَأَمَّا
الرَّحْمَةُ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَاك
إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فَرَحِمَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ
الْعَذَابِ ، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ ، وَتَضْعِيفِ
الثَّوَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
وَأَمَّا الْآمِرُ وَالنَّاهِي : فَذَلِكَ
الْوَصْفُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ
الْوَاسِطَةَ أُضِيفَ إلَيْهِ ؛ إذْ هُوَ الَّذِي يُشَاهَدُ آمِرًا
نَاهِيًا ، وَيُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ وَاسِطَةٌ ، وَنَقْلٌ
عَنْ الَّذِي لَهُ ذَلِكَ الْوَصْفُ حَقِيقَةً .
وَأَمَّا الطَّيِّبُ
فَلَا أَطْيَبَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْقَلْبِ حِينَ
رُمِيَتْ مِنْهُ الْعَلَقَةُ السَّوْدَاءُ .
وَسَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْقَوْلِ ، فَهُوَ الصَّادِقُ الْمُصَدِّقُ .
وَسَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْفِعْلِ ، فَهُوَ كُلُّهُ طَاعَةٌ .
وَأَمَّا الْكَرِيمُ : فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَرَمِ ، وَهُوَ لَهُ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ .
وَأَمَّا
الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَرِّمُ : فَذَلِكَ مُبَيِّنُ الْحَلَالَ
وَالْحَرَامَ ، وَذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَالنَّبِيُّ مُتَوَلِّي ذَلِكَ بِالْوَسَاطَةِ وَالرِّسَالَةِ
.
وَأَمَّا الْوَاضِعُ وَالرَّافِعُ : فَهُوَ الَّذِي وَضَعَ
الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا ، بِبَيَانِهِ ، وَرَفَعَ قَوْمًا ، وَوَضَعَ
آخَرِينَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ فُضِّلَ
عَلَيْهِ بِالْعَطَاءِ غَيْرُهُ : أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ
الْعَبِيدِ
بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا
وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ فَأَلْحَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَطَاءِ بِمَنْ فَضَّلَ عَنْهُ .
وَأَمَّا الْمُخْبِرُ : فَهُوَ النَّبِيءُ مَهْمُوزًا .
وَأَمَّا
خَاتَمُ النَّبِيِّينَ : فَهُوَ آخِرُهُمْ : وَهِيَ عِبَارَةٌ مَلِيحَةٌ
شَرِيفَةٌ ، تَشْرِيفًا فِي الْإِخْبَارِ بِالْمَجَازِ عَنْ الْآخِرِيَّةِ ؛
إذْ الْخَتْمُ آخِرُ الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ بِمَا فُضِّلَ بِهِ ،
فَشَرِيعَتُهُ بَاقِيَةٌ وَفَضِيلَتُهُ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَاقْتِرَانُهُ فِي الْخَبَرِ بِاَللَّهِ .
وَأَمَّا
مَنْصُورٌ : فَهُوَ الْمُعَانُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِالْعِزَّةِ
وَالظُّهُورِ عَلَى الْأَعْدَاءِ ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الرُّسُلِ ، وَلَهُ
أَكْثَرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا
لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ
جُنْدَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ } .
وَقَالَ لَهُ : اُغْزُهُمْ نَمُدَّك ، وَقَاتِلْهُمْ نَعُدُّك ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ عَشْرَةَ أَمْثَالِهِ .
وَأَمَّا
أُذُنُ خَيْرٍ : فَهُوَ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضِيلَةِ
الْإِدْرَاكِ لِقِيلِ الْأَصْوَاتِ لَا يَعِي مِنْ ذَلِكَ إلَّا خَيْرًا ،
وَلَا يَسْمَعُ إلَّا أَحْسَنَهُ .
وَأَمَّا الْمُصْطَفَى : فَهُوَ
الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَفْوَةُ الْخَلْقِ ، كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ
وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ
وَلَدِ إبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلَ ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ
بَنِي كِنَانَةَ ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا ، وَاصْطَفَى
مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ } .
وَأَمَّا الْأَمِينُ : فَهُوَ الَّذِي تُلْقَى إلَيْهِ مَقَالِيدُ الْمَعَانِي ثِقَةً بِقِيَامِهِ عَلَيْهَا وَحِفْظًا مِنْهُ .
وَأَمَّا الْمَأْمُونُ : فَهُوَ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْ جِهَتِهِ شَرٌّ .
وَأَمَّا قَاسِمٌ : فَبِمَا مَيَّزَهُ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْخَلْقِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْأَخْمَاسِ وَسَائِرِ
الْأَمْوَالِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُ يُعْطِي ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ } .
وَأَمَّا
نَقِيبٌ : فَإِنَّهُ فَخَرَ بِالْأَنْصَارِ عَلَى سَائِرِ الْأَصْحَابِ
مِنْ الصَّحَابَةِ ، بِأَنْ قَالَ لَهَا : { أَنَا نَقِيبُكُمْ } .
إذْ
كُلُّ طَائِفَةٍ لَهَا نَقِيبٌ يَتَوَلَّى أُمُورَهَا ، وَيَحْفَظُ
أَخْبَارَهَا ، وَيَجْمَعُ نَشْرَهَا ، { وَالْتَزَمَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ } ، تَشْرِيفًا لَهُمْ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرْسَلًا فَبِبَعْثِهِ الرُّسُلَ بِالشَّرَائِعِ إلَى النَّاسِ فِي الْآفَاقِ مِمَّنْ نَأَى عَنْهُ .
وَأَمَّا
الْعَلِيُّ : فَبِمَا رَفَعَ اللَّهُ مِنْ مَكَانِهِ وَشَرَّفَ مِنْ
شَأْنِهِ ، وَأَوْضَحَ عَلَى الدَّعَاوَى مِنْ بُرْهَانِهِ .
وَأَمَّا الْحَكِيمُ : فَإِنَّهُ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ ، وَأَدَّى عَنْ رَبِّهِ قَانُونَ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَمَلِ .
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ : فَهُوَ الْمُصَدِّقُ لِرَبِّهِ ، الْعَامِلُ اعْتِقَادًا وَفِعْلًا بِمَا أَوْجَبَ الْأَمْنَ لَهُ .
وَأَمَّا
الْمُصَدِّقُ : فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، فَإِنَّهُ صَدَّقَ رَبَّهُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى ، وَصَدَّقَ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ ، فَتَمَّ لَهُ
الْوَصْفُ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ : فَبِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الشَّفَقَةِ عَلَى النَّاسِ .
قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ
مُسْتَجَابَةٌ ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَقَالَ كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَهُ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " .
وَأَمَّا
الصَّاحِبُ : فَبِمَا كَانَ مَعَ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ حُسْنِ
الْمُعَامَلَةِ وَعَظِيمِ الْوَفَاءِ ، وَالْمُرُوءَةِ وَالْبِرِّ
وَالْكَرَامَةِ .
وَأَمَّا الشَّفِيعُ الْمُشَفَّعُ : فَإِنَّهُ
يَرْغَبُ إلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ الْخَلْقِ بِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ ،
وَإِسْقَاطِ الْعَذَابِ وَتَخْفِيفِهِ ، فَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ ،
وَيُخَصُّ بِهِ دُونَ الْخَلْقِ ، وَيُكَرَّمُ بِسَبَبِهِ غَايَةَ
الْكَرَامَةِ .
وَأَمَّا الْمُتَوَكِّلُ : فَهُوَ الْمُلْقِي مَقَالِيدَ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ عِلْمًا ، كَمَا قَالَ
:
{ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } ،
وَعَمَلًا ، كَمَا قَالَ : { إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ
يَتَجَهَّمُنِي ، أَوْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي } ؟ وَأَمَّا
الْمُقَفَّى : فِي التَّفْسِيرِ فَكَالْعَابِدِ .
وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ : لِأَنَّهُ تَابَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ دُونَ تَكْلِيفِ قَتْلٍ أَوْ إصْرٍ .
وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ : تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الرَّحِيمِ .
وَنَبِيُّ
الْمَلْحَمَةِ : لِأَنَّهُ الْمَبْعُوثُ بِحَرْبِ الْأَعْدَاءِ
وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ ، حَتَّى يَعُودُوا جَزْرًا عَلَى وَضَمٍ وَلَحْمًا
عَلَى وَضَمٍ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ
سَرَاحًا جَمِيلًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى
مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَهُوَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ لِهَذِهِ
الْآيَةِ ، وَإِذَا دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ إجْمَاعًا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وقَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } ، وَهِيَ الرَّجْعَةُ عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي آيَتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : الدُّخُولُ بِالْمَرْأَةِ وَعَدَمُ الدُّخُولِ بِهَا
إنَّمَا يُعْرَفُ مُشَاهَدَةً بِإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ عَلَى خَلْوَةٍ ،
أَوْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجَيْنِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دُخُولٌ وَقَالَتْ
الزَّوْجَةُ : وَطِئَنِي ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ، حَلَفَ وَلَزِمَتْهَا
الْعِدَّةُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ .
وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ : وَطِئْتهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ كُلُّهُ ، وَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ .
وَإِنْ كَانَ دُخُولٌ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : لَمْ يَطَأْنِي لَمْ تُصَدَّقْ فِي الْعِدَّةِ ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْمَهْرِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْخَلْوَةِ ، هَلْ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ ؟ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
فَإِنْ
قَالَ : وَطِئْتهَا ، وَأَنْكَرَتْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ،
وَأُخِذَ مِنْهُ الصَّدَاقُ ، وَوَقَفَ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يَطُولَ
الْمَدَى ، فَيُرَدُّ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ ، وَذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ بِخِلَافِهِ
وَأَدِلَّتِهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَمَتِّعُوهُنَّ } تَقَدَّمَ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِهِ وَأَدِلَّتِهِ ، وَفِي
مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِفُرُوعِهِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ :
قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك
أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ
خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ
أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ
عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا } فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ
أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ { قَالَتْ : خَطَبَنِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَذَرْت إلَيْهِ ،
فَعَذَرَنِي ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت
أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك
وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ
خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ
نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } [ قَالَتْ : فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ ؛
لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ ، كُنْت مِنْ الطُّلَقَاءِ } ] قَالَ أَبُو عِيسَى
: هَذَا حَدِيثٌ [ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ
السُّدِّيِّ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ، وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ يُحْتَجُّ فِي مَوَاضِعِهِ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَحْلَلْنَا لَك } وَقَدْ تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْلَالِ وَالتَّحْرِيمِ فِي سُورَةِ
النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَزْوَاجَك } وَالنِّكَاحُ وَالزَّوْجِيَّةُ مَعْرُوفَةٌ .
وَقَدْ
اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ هَلْ هُنَّ كَالسَّرَائِرِ عِنْدَنَا ، أَوْ
حُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْأَزْوَاجِ الْمُطَلَّقَةِ ؟ قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ : فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي قَوْلِهِ : {
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُنَّ حُكْمَ
الْأَزْوَاجِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ الْمُرَادُ
بِذَلِكَ كُلُّ زَوْجَةٍ أَمْ مَنْ تَحْتَهُ مِنْهُنَّ ؟ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : قِيلَ : إنَّ
الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ أَيْ
كُلَّ زَوْجَةٍ آتَيْتهَا مَهْرَهَا ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ
عُمُومًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ .
الثَّانِي
: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك الْكَائِنَاتِ
عِنْدَك ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { آتَيْت } خَبَرٌ عَنْ
أَمْرٍ مَاضٍ ؛ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِظَاهِرِهِ ، وَلَا يَكُونُ
الْفِعْلُ الْمَاضِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إلَّا بِشُرُوطٍ لَيْسَتْ
هَاهُنَا ، يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا ، وَلَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ
فِيهِ .
{ وَقَدْ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى عِدَّةٍ مِنْ النِّسَاءِ نِكَاحَهُ } ، فَذَكَرْنَا
عِدَّتَهُنَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا هَاهُنَا وَفِي غَيْرِهِ ؛ وَهُنَّ
خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَسَوْدَةُ
بِنْتُ زَمْعَةَ ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ
أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي
سُفْيَانَ ، فَهَؤُلَاءِ سِتُّ قُرَشِيَّاتٍ .
وَزَيْنَبُ بِنْتُ
خُزَيْمَةَ الْعَامِرِيَّةُ ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ
أَسَدُ خُزَيْمَةَ ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ ،
وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْهَارُونِيَّةُ ،
وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ ، وَمَاتَ عَنْ
تِسْعٍ ، وَسَائِرُهُنَّ فِي شَرْحِ
الْبُخَارِيِّ مَذْكُورَاتٌ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : أَحَلَّ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَزْوَاجَ اللَّاتِي
كُنَّ مَعَهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَأَمَّا إحْلَالُ
غَيْرِهِنَّ فَلَا ؛ لِقَوْلِهِ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ
بَعْدُ } ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ نَصٌّ فِي إحْلَالِ
غَيْرِهِنَّ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالِ وَالْخَالَاتِ
، وَقَوْلُهُ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } يَأْتِي
الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ } يَعْنِي اللَّوَاتِي تَزَوَّجْت بِصَدَاقٍ ، وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مِنْهُنَّ مَنْ ذَكَرَ لَهَا صَدَاقًا ، وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَ ذَكَرَ لَهَا الصَّدَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ ، كَزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ نِكَاحَهَا مِنْ السَّمَاءِ ، وَكَانَ فَرْضُ الصَّدَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَهَا ، وَمِنْهُنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا وَحَلَّتْ لَهُ ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك } يَعْنِي السَّرَارِيَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَحَلَّ السَّرَارِي لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ بِغَيْرِ عَدَدٍ ، وَأَحَلَّ الْأَزْوَاجَ
لِنَبِيِّهِ مُطْلَقًا ، وَأَحَلَّهُنَّ لِلْخَلْقِ بِعَدَدٍ ؛ وَكَانَ
ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ .
وَقَدْ رُوِيَ
عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي أَحَادِيثِهِمْ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ
السَّلَامُ كَانَتْ لَهُ مِائَةُ امْرَأَةٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَكَانَ
لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَثُمِائَةِ حُرَّةٍ وَسَبْعُمِائَةِ
سُرِّيَّةٍ ، وَالْحَقُّ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ :
لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً كُلُّ امْرَأَةٍ
تَلِدُ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ
شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ } .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك }
وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَيْءُ الْمَأْخُوذُ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ
وَالْغَلَبَةِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِهِ ، وَيَطَأُ مِنْ مَلْكِ
يَمِينِهِ ، بِأَشْرَفِ وُجُوهِ الْكَسْبِ ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الْمِلْكِ
، وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ ، لَا مِنْ الصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي } .
الْمَسْأَلَةُ
الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك
وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك } الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا لَك
ذَلِكَ زَائِدًا إلَى مَا عِنْدَك مِنْ الْأَزْوَاجِ اللَّاتِي آتَيْت
أُجُورَهُنَّ ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ .
فَأَمَّا مَنْ عَدَاهُنَّ
مِنْ الصِّنْفَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ فَلَا ذِكْرَ لِإِحْلَالِهِنَّ
هَاهُنَا ؛ بَلْ هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا
يَحِلُّ لَهُ غَيْرُ هَذَا ؛ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَاهُ
أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي عِنْدَك ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ
أَحْلَلْنَا لَك كُلَّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجْت وَآتَيْت أَجْرَهَا لِمَا
قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا كَرَّرَهُ لِأَجْلِ شَرْطِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ قَالَ : اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك .
قُلْنَا
: وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَصِحُّ هَذَا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ
شَرْطَ الْهِجْرَةِ لَوْ كَانَ كَمَا قُلْتُمْ لَكَانَ شَرْطًا فِي كُلِّ
امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا .
فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ شَرْطًا فِي
الْقَرَابَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ
هَاجَرَ وَلَا يَكُونُ شَرْطًا فِي سَائِرِ النِّسَاءِ ، فَيَتَزَوَّجُ
مِنْهُنَّ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ ، فَهَذَا كَلَامٌ رَكِيكٌ
مِنْ قَائِلِهِ بَيِّنٌ خَطَؤُهُ لِمُتَأَمِّلِهِ ، حَسْبَمَا قَدَّمْنَا
ذِكْرَهُ ، مِنْ أَنَّ الْهِجْرَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي كُلِّ
زَوْجَةٍ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْقَرَابَةِ فَائِدَةٌ بِحَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك }
وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ
تَنْكِحَ مِنْ بَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك إلَّا مَنْ أَسْلَمَ ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا
نَهَى اللَّهُ عَنْهُ } .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ
لَك مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ
يُهَاجِرْ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَائِك لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
حَتَّى يُهَاجِرُوا } .
وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَكْمُلْ ، وَمَنْ
لَمْ يَكْمُلْ لَمْ يَصْلُحْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِي كَمُلَ وَشَرُفَ وَعَظُمَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْسَتْ بِعَامَّةٍ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ ، كَمَا قَالَ
بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تَخْتَصُّ بِهِ .
وَلِهَذَا
الْمَعْنَى نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي أُمِّ هَانِئٍ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ
هَاجَرَتْ ، فَمُنِعَ مِنْهَا لِنَقْصِهَا بِالْهِجْرَةِ ، وَالْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ : { هَاجَرْنَ } خَرَجْنَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَهَذَا أَصَحُّ
مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هِيَ
الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِيمَانِ ، وَالْأَسْمَاءُ
إنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهَا ، وَالْهِجْرَةُ فِي الشَّرِيعَةِ
أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ ، أَوْ تَخْتَصَّ بِدَلِيلٍ ؛
وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِمَنْ ادَّعَى غَيْرَهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مَعَك } صُحْبَتِهِ إذْ
هَاجَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ يُقَالُ : دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي ، أَيْ فِي
صُحْبَتِي ، فَكُنَّا مَعًا ، وَتَقُولُ : دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي وَخَرَجَ
مَعِي ، أَيْ كَانَ عَمَلُهُ كَعَمَلِي ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ فِيهِ
عَمَلُكُمَا وَلَوْ قُلْت : خَرَجْنَا مَعًا لَاقْتَضَى ذَلِكَ
الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا : الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ
، وَالِاقْتِرَانُ فِيهِ ؛ فَصَارَ قَوْلُك : " مَعِي " لِلْمُشَارَكَةِ ، وَقَوْلُك : " مَعًا " لِلْمُشَارَكَةِ وَالِاقْتِرَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَبَنَاتِ عَمِّك } فَذَكَرَهُ مُفْرَدًا .
وَقَالَ : { وَبَنَاتِ عَمَّاتِك } فَذَكَرَهُنَّ جَمِيعًا .
وَكَذَلِكَ قَالَ : وَبَنَاتِ خَالِك فَرْدًا وَبَنَاتِ خَالَاتِك جَمْعًا .
وَالْحِكْمَةُ
فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ فِي الْإِطْلَاقِ اسْمُ جِنْسٍ
كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِزِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعَمَّةِ
وَالْخَالَةِ .
وَهَذَا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ ؛ فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
بِغَايَةِ الْبَيَانِ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ ؛ وَهَذَا دَقِيقٌ
فَتَأَمَّلُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي فَائِدَةِ
الْآيَةِ وَلِأَجْلِ مَا سِيقَتْ لَهُ : وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ :
الْأُولَى : نَسْخُ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ قَدْ أَلْزَمَهُ
بِقَوْلِهِ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } فَأَعْلَمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُ أَزْوَاجَهُ اللَّوَاتِي عِنْدَهُ ،
وَغَيْرَهُنَّ مِمَّنْ سَمَّاهُ مَعَهُنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
الثَّانِيَةُ
: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَيْسَتْ
مُطْلَقَةً فِي جُمْلَةِ النِّسَاءِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْمُعَيَّنَاتِ
الْمَذْكُورَاتِ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ ، وَبَنَاتِ
الْخَالِ وَالْخَالَاتِ الْمُسْلِمَاتِ ، وَالْمُهَاجِرَاتِ
وَالْمُؤْمِنَاتِ .
الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُ
نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ ؛ فَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ
إلَيْهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الرَّابِعَةُ
: أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ أَيْضًا صِيَانَةً لَهُ ،
وَتَكْرِمَةً لِقَدْرِهِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ
وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } وَقَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ
الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَغَيْرِهَا : { أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ ،
وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي وَهَبْت لَك نَفْسِي .
الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ } .
وَوَرَدَ
فِي ذَلِكَ لِلْمُفَسِّرِينَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : نَزَلَتْ
فِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ ، خَطَبَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَجَعَلَتْ
أَمْرَهَا إلَى الْعَبَّاسِ عَمِّهِ .
وَقِيلَ : وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ، وَقَتَادَةُ .
الثَّانِي
: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ شَرِيكٍ الْأَزْدِيَّةِ ، وَقِيلَ
الْعَامِرِيَّةِ ، وَاسْمُهَا غَزِيَّةُ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ ، وَعُرْوَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ .
قَالَ
الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ
فَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ
وَارِدَةٌ بِطُرُقٍ مِنْ غَيْرِ خُطُمٍ وَلَا أَزِمَّةٍ ، بِيدَ أَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا : لَمْ يَكُنْ
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ
مَوْهُوبَةٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي مَجِيءِ
الْمَرْأَةِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَوُقُوفِهَا عَلَيْهِ ، وَهِبَتِهَا نَفْسَهَا لَهُ مِنْ طَرِيقٍ سَهْلٍ
وَغَيْرِهِ فِي الصِّحَاحِ ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي ثَبَتَ سَنَدُهُ ،
وَصَحَّ نَقْلُهُ .
وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ أَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَهَبْت نَفْسِي لَك ؛
فَسَكَتَ عَنْهَا ، حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : زَوِّجْنِيهَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَك
بِهَا حَاجَةٌ .
وَلَوْ
كَانَتْ هَذِهِ الْهِبَةُ غَيْرَ جَائِزَةٍ لَمَا سَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى
الْبَاطِلِ إذَا سَمِعَهُ ، حَسْبَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ كَانَتْ بِالْإِحْلَالِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ مُنْتَظِرًا بَيَانًا ؛ فَنَزَلَتْ
الْآيَةُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّخْيِيرِ ؛ فَاخْتَارَ تَرْكَهَا
وَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ حَتَّى قَامَ الرَّجُلُ لَهَا طَالِبًا .
وَقَدْ
رَوَى مُسْلِمٌ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْت أَغَارُ مِنْ
اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَتْ : أَمَا تَسْتَحِي امْرَأَةٌ أَنْ تَهَبَ
نَفْسَهَا ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ
وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } فَقُلْت : مَا أَرَى رَبَّك إلَّا
يُسَارِعُ فِي هَوَاك .
فَاقْتَضَى هَذَا اللَّفْظُ أَنَّ مَنْ وَهَبَتْ
نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ عِدَّةٌ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا
أَنَّهُ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً أَمْ لَا .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَامْرَأَةً } الْمَعْنَى
أَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً تَهَبُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ صَدَاقٍ فَإِنَّهُ
أَحَلَّ لَهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا أَزْوَاجَهُ اللَّاتِي آتَى
أُجُورَهُنَّ .
وَهَذَا مَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ؛ فَزَادَهُ
فَضْلًا عَلَى أُمَّتِهِ أَنْ أَحَلَّ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ ، وَلَا
تَحِلُّ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ :
قَوْلُهُ : { مُؤْمِنَةً } وَهَذَا تَقْيِيدٌ مِنْ طَرِيقِ التَّخْصِيصِ
بِالتَّعْلِيلِ وَالتَّشْرِيفِ ، لَا مِنْ طَرِيقِ دَلِيلِ الْخِطَابِ ،
حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَفِي هَذَا
الْكِتَابِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْكَافِرَةَ لَا تَحِلُّ
لَهُ .
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الْحُرَّةِ الْكَافِرَةِ عَلَيْهِ .
قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ ،
وَبِهَذَا يَتَمَيَّزُ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِ
الْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَةِ فَحَظُّهُ فِيهِ أَكْثَرُ ، وَمَا كَانَ مِنْ
جَانِبِ النَّقَائِصِ فَجَانِبُهُ عَنْهَا أَظْهَرُ ، فَجَوَّزَ لَنَا
نِكَاحَ الْحَرَائِرِ مِنْ الْكِتَابِيَّاتِ ، وَقُصِرَ هُوَ لِجَلَالَتِهِ
عَلَى الْمُؤْمِنَاتِ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ مَنْ لَمْ
يُهَاجِرْ لِنُقْصَانِ فَضْلِ الْهِجْرَةِ فَأَحْرَى أَلَّا تَحِلَّ لَهُ
الْكِتَابِيَّةُ الْحُرَّةُ لِنُقْصَانِ الْكُفْرِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { إنْ وَهَبَتْ } : قُرِئَتْ
بِالْفَتْحِ فِي الْأَلِفِ وَكَسْرِهَا ، وَقَرَأَتْ الْجَمَاعَةُ فِيهَا
بِالْكَسْرِ ، عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ .
تَقْدِيرُهُ وَأَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَك ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ سِوَى ذَلِكَ .
وَقَدْ
قَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إنْ مَحْذُوفًا ،
وَتَقْدِيرُهُ إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ حَلَّتْ لَهُ وَهَذَا
فَاسِدٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْعَرَبِيَّةِ ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ
فِي مَوْضِعِهِ .
وَيُعْزَى إلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً وَاحِدَةً
حَلَّتْ لَهُ ، لِأَجْلِ أَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ ، وَهِيَ لَا
تَجُوزُ تِلَاوَةً ، وَلَا تُوجِبُ حُكْمًا .
الثَّانِي : أَنْ تُوجِبَ
أَنْ يَكُونَ إحْلَالًا لِأَجْلِ هِبَتِهَا لِنَفْسِهَا ، وَهَذَا بَاطِلٌ
فَإِنَّهَا حَلَالٌ لَهُ قَبْلَ الْهِبَةِ بِالصَّدَاقِ .
وَقَدْ نُسِبَ
لِابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُسْقِطُ فِي قِرَاءَتِهِ " أَنْ "
فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا
ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَوْهُوبَةِ ثَابِتٌ قَبْلَ
الْهِبَةِ ، وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ : { خَالِصَةً
لَك } لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ هَذَا الشَّرْطِ وَأَمْثَالِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ .
الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَهَبَتْ نَفْسَهَا } وَهَذَا
يُبَيِّنُ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَلَكِنَّهُ عَلَى
صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعَاوَضَاتِ وَإِجَارَةٌ
مُبَايِنَةٌ لِلْإِجَارَاتِ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّدَاقُ أُجْرَةً ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، فَأَبَاحَ
اللَّهُ لِرَسُولِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهُ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْلُهُ : { إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } مَعْنَاهُ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرٌ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ نَكَحَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا ؛ وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ ، وَجَعَلَهُ قُرْآنًا يُتْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّ مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِ نَبِيِّنَا أَنْ يَقْبَلَ مِنْ الْوَاهِبِ هِبَتَهُ ، وَيَرَى الْأَكَارِمُ أَنَّ رَدَّهَا هُجْنَةٌ فِي الْعَادَةِ ، وَوَصْمَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ ، وَإِذَايَةٌ لِقَلْبِهِ ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ رَسُولِهِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ ، وَلِيُبْطِلَ ظَنَّ النَّاسِ فِي عَادَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ : { خَالِصَةً لَك } وَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا :
خَالِصَةً لَك : إذَا وَهَبَتْ لَك نَفْسَهَا أَنْ تَنْكِحَهَا بِغَيْرِ
صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَقَدْ أَنْفَذَ
اللَّهُ لِرَسُولِهِ نِكَاحَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي السَّمَاءِ
بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ الْخَلْقِ ، وَلَا بَذْلِ صَدَاقٍ مِنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بِحُكْمِ أَحْكَمِ
الْحَاكِمِينَ وَمَالِك الْعَالَمِينَ .
الثَّانِي : نِكَاحُهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ ؛ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ .
الثَّالِثُ
: أَنَّ عَقْدَ نِكَاحِهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ خَالِصًا لَك ، وَلَيْسَ
ذَلِكَ لِغَيْرِك [ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ] ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ .
قَالَ
الْقَاضِي : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي رَاجِعَانِ إلَى مَعْنًى
وَاحِدٍ ، إلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِي أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ ؛
لِأَنَّ سُقُوطَ الصَّدَاقِ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ
وَهُوَ قَوْلُهُ : { إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } فَأَمَّا
سُقُوطُ الْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا ذِكْرٌ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ
مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ النِّكَاحَ ؛ وَإِنَّمَا
شُرِعَ لِقِلَّةِ الثِّقَةِ بِالْمَرْأَةِ فِي اخْتِيَارِ أَعْيَانِ
الْأَزْوَاجِ ، وَخَوْفِ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ فِي نِكَاحِ غَيْرِ
الْكُفْءِ ، وَإِلْحَاقِ الْعَارِ بِالْأَوْلِيَاءِ ، وَهَذَا مَعْدُومٌ
فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ
خَصَّصَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ فِي
بَابِ الْفَرْضِ وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ ، مَزِيَّةً عَلَى
الْأُمَّةِ ، وَهَيْبَةً لَهُ ، وَمَرْتَبَةً خُصَّ بِهَا ؛ فَفُرِضَتْ
عَلَيْهِ أَشْيَاءُ ، وَمَا فُرِضَتْ عَلَى غَيْرِهِ ، وَحُرِّمَتْ
عَلَيْهِ أَشْيَاءُ وَأَفْعَالٌ لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ ؛ وَحُلِّلَتْ
لَهُ أَشْيَاءُ لَمْ تُحَلَّلْ لَهُمْ ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ،
وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، أَفَادَنِيهَا الشَّهِيدُ الْأَكْبَرُ عَنْ
إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْدَ أَنَّا نُشِيرُ
هَاهُنَا إلَى جُمْلَةِ الْأَمْرِ لِمَكَانِ الْفَائِدَةِ فِيهِ ،
وَتَعَلُّقِ الْمَعْنَى فِيهِ إشَارَةً مُوجِزَةً ، تَبِينُ لِلَّبِيبِ
وَتُبْصِرُ الْمُرِيبَ ، فَنَقُولُ : أَمَّا قِسْمُ الْفَرِيضَةِ
فَجُمْلَتُهُ تِسْعَةٌ : الْأَوَّلُ : التَّهَجُّدُ بِاللَّيْلِ .
الثَّانِي : الضُّحَى .
الثَّالِثُ : الْأَضْحَى .
الرَّابِعُ : الْوِتْرُ ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي قِسْمِ التَّهَجُّدِ .
الْخَامِسُ : السِّوَاكُ .
السَّادِسُ : قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا .
السَّابِعُ : مُشَاوِرَةُ ذَوِي الْأَحْلَامِ فِي غَيْرِ الشَّرَائِعِ .
الثَّامِنُ : تَخْيِيرُ النِّسَاءِ .
التَّاسِعُ : كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ .
وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْرِيمِ فَجُمْلَتُهُ عَشْرَةٌ : الْأَوَّلُ : تَحْرِيمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ .
الثَّانِي : صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَيْهِ ، وَفِي آلِهِ تَفْصِيلٌ بِاخْتِلَافٍ .
الثَّالِثُ
: خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ ،
أَوْ يَنْخَدِعَ عَمَّا يُحِبُّ ، وَقَدْ ذَمَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ عِنْدَ
إذْنِهِ ؛ ثُمَّ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ عِنْدَ دُخُولِهِ .
الرَّابِعُ :
حَرَّمَ عَلَيْهِ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْهُ ، أَوْ
يَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَارِبِهِ ، وَيَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَيْرِ .
الْخَامِسُ : الْأَكْلُ مُتَّكِئًا .
السَّادِسُ : أَكْلُ الْأَطْعِمَةِ الْكَرِيهَةِ الرَّائِحَةِ .
السَّابِعُ :
التَّبَدُّلُ بِأَزْوَاجِهِ .
الثَّامِنُ : نِكَاحُ امْرَأَةٍ تَكْرَهُ صُحْبَتَهُ .
التَّاسِعُ : نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ .
الْعَاشِرُ : نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْلِيلِ فَصَفِيُّ الْمَغْنَمِ .
الثَّانِي : الِاسْتِبْدَادُ بِخُمْسِ الْخُمْسِ أَوْ الْخُمْسِ .
الثَّالِثُ : الْوِصَالُ .
الرَّابِعُ : الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ .
الْخَامِسُ : النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ .
السَّادِسُ : النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ .
السَّابِعُ : النِّكَاحُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ .
وَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، وَقَدْ
قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّهِ ،
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ ، فَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
الثَّامِنُ : نِكَاحُهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ ، فَفِي
الصَّحِيحِ { أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
التَّاسِعُ : سُقُوطُ الْقَسَمِ
بَيْنَ الْأَزْوَاجِ عَنْهُ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ :
{ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } .
الْعَاشِرُ : إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ وَجَبَ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقُهَا ، وَحَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا .
قَالَ
الْقَاضِي : هَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
الْأَمْرَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ كَيْفَ وَقَعَ .
الْحَادِيَ
عَشَرَ : أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ؛
وَفِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ ،
وَيَتَعَلَّقُ بِنِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ أَيْضًا .
الثَّانِيَ عَشَرَ : دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَفِي حَقِّنَا فِيهِ اخْتِلَافٌ .
الثَّالِثَ
عَشَرَ : الْقِتَالُ بِمَكَّةَ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : {
لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ،
وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } .
الرَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ لَا يُورَثُ .
قَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا ذَكَرْته فِي قِسْمِ التَّحْلِيلِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَارَبَ الْمَوْتَ بِالْمَرَضِ زَالَ عَنْهُ
أَكْثَرُ
مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ خَالِصًا ، وَبَقِيَ
مِلْكُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ
مَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْمِيرَاثِ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : بَقَاءُ زَوْجِيَّتِهِ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ .
السَّادِسَ عَشَرَ : إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً ، هَلْ تَبْقَى حُرْمَتُهُ عَلَيْهَا فَلَا تُنْكَحُ ؟ .
وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ سَتَأْتِيَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَذِهِ
الْأَحْكَامُ فِي الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا
مَشْرُوحَةٌ فِي تَفَارِيقِهَا ، حَيْثُ وَقَعَتْ مَجْمُوعَةٌ فِي شَرْحِ
الْحَدِيثِ الْمَوْسُومِ بِالنَّيِّرَيْنِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي إعْرَابِ قَوْلِهِ :
{ خَالِصَةً لَك } ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ الْوَهْمُ فِيهِ ، وَقَدْ
شَرَحْنَاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
وَحَقِيقَتُهُ عِنْدِي
أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ
الْمُظْهَرُ ، تَقْدِيرُهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك ، وَأَحْلَلْنَا لَك
امْرَأَةً مُؤْمِنَةً ، أَحْلَلْنَاهَا خَالِصَةً بِلَفْظِ الْهِبَةِ
وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى الْخُلُوصِ هَاهُنَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : قِيلَ : هُوَ خُلُوصُ النِّكَاحِ لَهُ
بِلَفْظِ الْهِبَةِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى
الْخُلُوصِ هَاهُنَا .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا : إنَّ
نِكَاحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بُدَّ فِيهِ
مِنْ الْوَلِيِّ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ { قَوْلُهُ لِعَمْرِو بْنِ أَبِي
سَلَمَةَ رَبِيبِهِ ، حِينَ زَوَّجَ أُمَّهُ : قُمْ يَا غُلَامُ فَزَوِّجْ
أُمَّك } .
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ
هَذَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَوْهُوبَةِ : وَهَبْت نَفْسِي لَك لَا
يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ ، وَلَا بُدَّ بَعْدَهُ مِنْ عَقْدٍ مَعَ
الْوَلِيِّ ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِهِ وَصِفَتِهِ أَمْ لَا ؟
مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَا ذِكْرَ لِلْآيَةِ فِيهَا .
الثَّانِي : أَنَّ
الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ خُلُوُّ النِّكَاحِ مِنْ الصَّدَاقِ ، وَلَهُ
جَاءَ الْبَيَانُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْخُلُوصُ الْمَخْصُوصُ بِهِ .
الثَّالِثُ
: أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا ، فَذَكَرَهُ فِي جَنْبَتِهِ
بِلَفْظِ النِّكَاحِ الْمَخْصُوصِ بِهَذَا الْعَقْدِ ، فَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ وَهَبَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ ، فَإِنْ
أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ،
فَيَكُونُ النِّكَاحُ حُكْمًا مُسْتَأْنَفًا ، لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِلَفْظِ
الْهِبَةِ ، إلَّا فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْهِبَةِ ، وَهُوَ سُقُوطُ
الْعِوَضِ وَهُوَ الصَّدَاقُ .
الرَّابِعُ : إنَّا لَا نَقُولُ : إنَّ
النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ هَذَا
اللَّفْظِ ؛ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ
أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك ، وَأَحْلَلْنَا لَك الْمَرْأَةَ الْوَاهِبَةَ
نَفْسَهَا خَالِصَةً ، فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ : { خَالِصَةً } حَالًا
مِنْ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ ذِكْرُ الْهِبَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي
هُوَ الْمَرْأَةُ وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ ، لَكَانَ إخْلَالًا مِنْ الْقَوْلِ
، وَعُدُولًا عَنْ الْمَقْصُودِ فِي اللَّفْظِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ
عَرَبِيَّةً ، وَلَا مَعْنًى .
أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ
قُلْت :
أُحَدِّثُك بِالْحَدِيثِ الرُّبَاعِيِّ خَالِصًا لَك دُونَ أَصْحَابِك
لَمَا كَانَ رُجُوعُ الْحَالِ إلَّا إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ ،
وَهُوَ الْحَدِيثُ ؛ هَذَا عَلَى نِظَامِ التَّقْدِيرِ ، فَلَوْ قُلْت
عَلَى لَفْظِ أُحَدِّثُك بِحَدِيثٍ إنْ وَجَدْته بِأَرْبَعِ رِوَايَاتٍ
خَالِصًا ذَلِكَ دُونَ أَصْحَابِك لَرَجَعَتْ الْحَالُ إلَى الْمَقْصُودِ
الْمَوْصُوفِ أَيْضًا ، دُونَ الصِّفَةِ ؛ وَهَذَا لَا يَفْهَمُهُ إلَّا
الْمُتَحَقِّقُونَ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَمَا أَرَى مَنْ عَزَا إلَى
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : { خَالِصَةً }
يَرْجِعُ إلَى النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إلَّا قَدْ وَهَمَ ، لِأَجْلِ
مَكَانَتِهِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ .
وَالنِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، مَعْرُوفٌ بِدَلِيلِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ } فَائِدَتُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا
مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ
دُخُولٌ ؛ لِأَنَّ تَصْرِيفَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَهُمْ
عَلَى تَقْدِيرِ الْإِسْلَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا
عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ } قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ
عِلْمِ اللَّهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَكِتَابِ الْأُصُولِ .
وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَهِيَ قَوْلُهُ : ( مَا فَرَضْنَا )
وَبَيَّنَّا مَعْنَى الْفَرْضِ ، وَالْقَدْرُ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ عِلْمَهُ سَابِقٌ
بِكُلِّ مَا حَكَمَ بِهِ ، وَقَرَّرَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ فِي النِّكَاحِ وَأَعْدَادِهِ وَصِفَاتِهِ ،
وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَشُرُوطِهِ ، بِخِلَافِهِ ، فَهُوَ حُكْمٌ سَبَقَ
بِهِ الْعِلْمُ ، وَقَضَاءٌ حَقَّ بِهِ الْقَوْلُ لِلنَّبِيِّ فِي
تَشْرِيعِهِ وَلِلْمُنْبَأِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ بِتَكْلِيفِهِ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { لِكَيْلَا يَكُونَ
عَلَيْك حَرَجٌ } أَيْ ضِيقٌ فِي أَمْرٍ أَنْتَ فِيهِ مُحْتَاجٌ إلَى
السَّعَةِ ، كَمَا أَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ لَا
يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ شَرْطَ السَّعَةِ عَلَيْهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَحِيمًا } قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ "
الْأَمَدِ الْأَقْصَى " بَيَانًا شَافِيًا .
وَالْمِقْدَارُ الَّذِي
يَنْتَظِمُ بِهِ الْكَلَامُ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْ النَّاسَ
بِذُنُوبِهِمْ ، بَلْ بِقَوْلِهِمْ ، وَرَحِمَهُمْ وَشَرَّفَ رُسُلَهُ
الْكِرَامَ ، فَجَعَلَهُمْ فَوْقَهُمْ ، وَلَمْ يُعْطِ عَلَى مِقْدَارِ مَا
يَسْتَحِقُّونَ ، إذْ لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ بَلْ
زَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَعَمَّهُمْ بِرِفْقِهِ وَلُطْفِهِ ، وَلَوْ
أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ، وَأَعْطَاهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ عِنْدَ
مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ
فِيهِمْ ، لَمَا وَجَبَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَيْءٌ ، وَلَا غُفِرَ لِلْخَلْقِ ذَنْبٌ ؛ وَلَكِنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى
الْكُلِّ ، وَقَدَّمَ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ ، وَأَعْطَى كُلًّا عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ
وَحِكْمَتِهِ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ .
الْآيَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ
عَزَلْت فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ
وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاَللَّهُ
يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } .
فِيهَا
عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ رَوَى أَبُو رَزِينٍ
الْعُقَيْلِيُّ { أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا أَشْفَقْنَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ اجْعَلْ لَنَا
مِنْ نَفْسِك وَمَالِك مَا شِئْت ، فَكَانَتْ مِنْهُنَّ سَوْدَةُ بِنْتُ
زَمْعَةَ ، وَجُوَيْرِيَةُ ، وَصَفِيَّةُ ، وَمَيْمُونَةُ ، وَأُمُّ
حَبِيبَةَ ، غَيْرُ مَقْسُومٍ لَهُنَّ وَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَةُ ،
وَأُمُّ سَلَمَةَ ، وَزَيْنَبُ ، وَأُمُّ سَلَمَةَ ، يَضُمُّهُنَّ ،
وَيَقْسِمُ لَهُنَّ } قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَرَادَ مَنْ شِئْت أَمْسَكْت ، وَمَنْ شِئْت طَلَّقْت .
الثَّالِثُ
: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَطَبَ
امْرَأَةً لَمْ يَكُنْ لِرَجُلٍ أَنْ يَخْطِبَهَا حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَتْرُكَهَا .
وَالْمَعْنَى اُتْرُكْ نِكَاحَ مَنْ شِئْت ، وَانْكِحْ مَنْ شِئْت ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الرَّابِعُ : تَعْزِلُ مَنْ شِئْت ، وَتَضُمُّ مَنْ شِئْت ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الْخَامِسُ : قَالَ أَبُو رَزِينٍ : تَعْزِلُ مَنْ شِئْت عَنْ الْقَسْمِ ، وَتَضُمُّ مَنْ شِئْت إلَى الْقَسْمِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : فِي تَصْحِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : أَمَّا قَوْلُ أَبِي
رَزِينٍ فَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ ؛ وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا
رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرُوِيَ فِي
الصَّحِيحِ أَنَّ { سَوْدَةَ لَمَّا كَبِرَتْ قَالَتْ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ اجْعَلْ يَوْمِي مِنْك لِعَائِشَةَ ، فَكَانَ
يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ : يَوْمَهَا ، وَيَوْمَ سَوْدَةَ } .
وَأَمَّا
قَوْلُ الْحَسَنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ امْتِنَاعَ خِطْبَةِ مَنْ يَخْطُبُهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ وَلَا دَلِيلٌ فِي
شَيْءٍ مِنْ مَعَانِي الْآيَةِ وَلَا أَلْفَاظِهَا .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي
إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } يَعْنِي تُؤَخِّرُ وَتَضُمُّ ، وَيُقَالُ :
أَرْجَأْته إذَا أَخَّرْته ، وَآوَيْت فُلَانًا إذَا ضَمَمْته وَجَعَلْته
فِي ذُرَاك وَفِي جُمْلَتِك ، فَقِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ :
الْأَوَّلُ : تُطَلِّقُ مَنْ شِئْت ، وَتُمْسِكُ مَنْ شِئْت ؛ قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : تَتْرُكُ مَنْ شِئْت ، وَتَنْكِحُ مَنْ شِئْت ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ .
الرَّابِعُ : تَقْسِمُ لِمَنْ شِئْت ، وَتَتْرُكُ قَسْمَ مَنْ شِئْت .
الْخَامِسُ
: مَا فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْت أَغَارُ مِنْ
اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُولُ : أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ؟ فَلَمَّا
أَنْزَلَ اللَّهُ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك
مَنْ تَشَاءُ } .
قُلْت : مَا أَرَى رَبَّك إلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاك .
السَّادِسُ
: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ
الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { تُرْجِي مَنْ
تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْت
مِمَّنْ عَزَلْت فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك } ، فَقِيلَ لَهَا : مَا كُنْت
تَقُولِينَ ؟ قَالَتْ : كُنْت أَقُولُ : إنْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ
فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْك أَحَدًا } .
وَبَعْضُ
هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَدَاخَلُ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا ، وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ الَّذِي
يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ .
وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ هُوَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي
أَزْوَاجِهِ إنْ شَاءَ أَنْ يَقْسِمَ قَسَمَ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَ
الْقَسْمَ تَرَكَ ، لَكِنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ دُونَ
فَرْضِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قِيلَ لَهُ :
انْكِحْ مَنْ شِئْت ، وَاتْرُكْ مَنْ شِئْت ، فَقَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ : {
إنَّا
أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ
يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ
عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }
.
حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فِي ذَلِكَ
وَالِانْتِهَاءِ إلَى آخِرِ الْآيَةِ ، فَهَذَا الْقَوْلُ يُحْمَلُ عَلَى
فَائِدَةٍ مُجَرَّدَةٍ ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْقَسْمِ فَإِنَّ النِّكَاحَ
يَقْتَضِيهِ ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ ؛ فَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ جُعِلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَيْهِ .
فَإِنْ
قِيلَ : فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ الْقَسْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي الْقَسْمِ ، وَيَقُولُ : { هَذِهِ
قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا
أَمْلِكُ يَعْنِي قَلْبَهُ } " لِإِيثَارِ عَائِشَةَ دُونَ أَنْ يَكُونَ
يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ .
قُلْنَا : ذَلِكَ مِنْ
خِلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلِهِ ،
فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَاهُ سُقُوطَهُ ؛ وَكَانَ هُوَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَزِمُهُ تَطَيُّبًا لِنُفُوسِهِنَّ ،
وَصَوْنًا لَهُنَّ عَنْ أَقْوَالِ الْغَيْرَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَرَقَّتْ
إلَى مَا لَا يَنْبَغِي .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : {
وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت } يَعْنِي طَلَبْت ، وَالِابْتِغَاءُ
فِي اللُّغَةِ هُوَ الطَّلَبُ ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِرَادَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى : { ذَلِكَ مَا كُنَّا
نَبْغِ } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { مِمَّنْ عَزَلْت }
يَعْنِي أَزَلْت ، وَالْعُزْلَةُ الْإِزَالَةُ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ
فِي اللَّفْظَيْنِ مَفْهُومٌ .
وَالْمَعْنَى : وَمَنْ أَرَدْت أَنْ
تَضُمَّهُ وَتُؤْوِيَهُ بَعْدَ أَنْ أَزَلْته فَقَدْ نِلْت ذَلِكَ
عِنْدَنَا ، وَوَجَدْته تَحْقِيقًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ :
لَا أَرَى رَبُّك إلَّا وَهُوَ يُسَارِعُ فِي هَوَاك ؛ فَإِنْ شَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤَخِّرَ أَخَّرَ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُقَدِّمَ اسْتَقْدَمَ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَقْلِبَ الْمُؤَخَّرَ مُقَدَّمًا وَالْمُقَدَّمَ مُؤَخَّرًا فَعَلَ ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا حَرَجَ فِيهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : وَقَدْ بَيَّنَّا الْجُنَاحَ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَأَوْضَحْنَا حَقِيقَتَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } : الْمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ الْإِدْنَاءُ وَالْإِقْصَاءُ لَهُنَّ ، وَالتَّقْرِيبُ وَالتَّبْعِيدُ إلَيْك ، تَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا شِئْت ، كَانَ أَقْرَبَ إلَى قُرَّةِ أَعْيُنِهِنَّ ، وَرَاحَةِ قُلُوبِهِنَّ ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ كَانَ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ حَقًّا لَمْ يُقْنِعْهُ مَا أُوتِيَ مِنْهُ ، وَاشْتَدَّتْ غَيْرَتُهُ عَلَيْهِ ، وَعَظُمَ حِرْصُهُ فِيهِ ، فَكَانَ مَا فَعَلَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مِنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ فِي أَحْوَالِ أَزْوَاجِهِ أَقْرَبَ إلَى رِضَاهُنَّ مَعَهُ ، وَاسْتِقْرَارِ أَعْيُنِهِنَّ عَلَى مَا يُسْمَحُ بِهِ مِنْهُ لَهُنَّ ، دُونَ أَنْ تَتَعَلَّقَ قُلُوبُهُنَّ بِأَكْثَرَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي : الْمَسْأَلَةِ الثَّامِنَةِ : { وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } الْمَعْنَى : وَتَرْضَى كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمَا أُوتِيَتْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، لِعِلْمِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَقٍّ لَهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهَا ، وَقَلِيلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ ، وَاسْمُ زَوْجَتِهِ ، وَالْكَوْنُ فِي عِصْمَتِهِ ، وَمَعَهُ فِي الْآخِرَةِ فِي دَرَجَتِهِ ، فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ كَبِيرٌ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : {
وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ وَهُوَ بَيِّنٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْبَارِئَ لَا يَخْفَى
عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ .
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ، وَيَطَّلِعُ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ .
وَوَجْهُ
تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ
مَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ مَيْلٍ إلَى بَعْضِ مَا عِنْدَنَا مِنْ النِّسَاءِ
دُونَ بَعْضٍ ، وَهُوَ يَسْمَحُ فِي ذَلِكَ ؛ إذْ لَا يَسْتَطِيعُ
الْعَبْدُ أَنْ يَصْرِفَ قَلْبَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمِيلِ إنْ كَانَ
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْرِفَ فَعَلَهُ ، وَلَا يُؤَاخِذُ الْبَارِئُ
سُبْحَانَهُ بِمَا فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُ بِمَا
يَكُونُ مِنْ فِعْلٍ فِيهِ ، وَإِلَى ذَلِكَ يَعُودُ قَوْلُهُ : { وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ :
الْآيَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ
مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك
حُسْنُهُنَّ إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ رَقِيبًا } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ { أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ
بِنْتِ عُمَيْسٍ ، لَمَّا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
أَعْجَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسْنُهَا ،
فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } اعْلَمُوا
وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ كَلِمَةَ " بَعْدُ " ظَرْفٌ بُنِيَ عَلَى
الضَّمِّ هَاهُنَا ، لِمَا اُقْتُرِنَ بِهِ مِنْ الْحَذْفِ ، فَصَارَ
بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ كَأَنَّهُ بَعْضُ كَلِمَةٍ ، فَرُبِطَ عَلَى حَرْفٍ
وَاحِدٍ لِيَتَبَيَّنَ ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ
الْمَحْذُوفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا يَحِلُّ لَك
النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ مَنْ عِنْدَك ، مِنْهُنَّ اللَّوَاتِي اخْتَرْنَك
عَلَى الدُّنْيَا فَقُصِرَ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَجْلِ اخْتِيَارِهِنَّ لَهُ ؛
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : مِنْ بَعْدِ مَا أَحْلَلْنَا لَك ، وَهِيَ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ .
الثَّالِثُ : لَا يَحِلُّ لَك نِكَاحُ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : فِي التَّنْقِيحِ : أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ
بِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَك نِكَاحُ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ
فَدَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا
تَحْتَمِلُ إلَّا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ،
وَالثَّانِي قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ
أُبَيٍّ ، وَحَكَمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ لَا يَحِلُّ لَك
النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ مَا أَحْلَلْنَا لَك مِنْ أَزْوَاجِك اللَّاتِي
آتَيْت أُجُورَهُنَّ قَرَابَتَك الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ ،
وَالْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا بَقِيَ عَلَى التَّحْرِيمِ مَنْ عَدَاهُنَّ .
وَالْآيَةُ
مُحْتَمِلَةٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ ، وَيَقْوَى فِي
النَّفْسِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ وَقَعَ
الْأَمْرُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَتْ
عَائِشَةُ ، وَأُمُّ سَلَمَةَ : لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ ، وَبِهِ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ ، وَكَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا
أَحَلَّ لَهُ النِّسَاءَ حَتَّى الْمَوْتِ قُصِرَ عَلَيْهِنَّ كَمَا
قُصِرْنَ عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ ، وَأَبُو
حَنِيفَةَ
، وَجَمَاعَةٌ وَجَعَلُوا حَدِيثَ عَائِشَةَ سُنَّةً نَاسِخَةً ، وَهُوَ حَدِيثٌ وَاهٍ ، وَمُتَعَلَّقٌ ضَعِيفٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ؛ فَتَمَّ تَمَامُ الْقَوْلِ وَبَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
: قَوْله تَعَالَى : { وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ }
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُطَلِّقَ
امْرَأَةً مِنْ أَزْوَاجِك ، وَتَنْكِحَ غَيْرَهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَبَدَّلَ الْمُسْلِمَةَ الَّتِي عِنْدَك بِمُشْرِكَةٍ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : لَا تُعْطِي زَوْجَك فِي زَوْجَةٍ أُخْرَى ، كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : أَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ،
لَهُ يَشْهَدُ النَّصُّ ، وَعَلَيْهِ يَقُومُ الدَّلِيلُ .
وَأَمَّا
قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ فِي
الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ ،
وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمَا يُبْطِلُ فَائِدَتَهُ وَيُسْقِطُ
عُمُومَهُ ، وَيُبْطِلُ حُكْمَهُ ، وَيَذْهَبُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى
ذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ فَضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ
عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَلْ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ ؛ إذْ
التَّعَاوُضُ فِي الزَّوْجَاتِ لَا يَجُوزُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
أَنَّهُ قَالَ : { بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } ، وَهَذَا الْحُكْمُ لَا
يَجُوزُ لَا بِهِنَّ وَلَا بِغَيْرِهِنَّ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ
اسْتِبْدَالَ الْجَاهِلِيَّةِ لَقَالَ : أَزْوَاجَك بِأَزْوَاجٍ ، وَمَتَى
جَاءَ اللَّفْظُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ لَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ
لِضَرُورَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك } الْمَعْنَى فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَك عَلَى
الْإِطْلَاقِ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ .
وَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إحْلَالِ الْكَافِرَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ
الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ وَوَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك } وَهَذَا عُمُومٌ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ قَالَ : لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ
مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ خَوْفِ الْعَنَتِ ؛ وَهَذَا الشَّرْطُ مَعْدُومٌ فِي
حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ ؛ فَأَمَّا وَطْؤُهَا بِمَلْكِ الْيَمِينِ
فَيَتَرَدَّدُ فِيهِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ
نِكَاحُ الْكَافِرَةِ ، وَلَا وَطْؤُهَا بِمَلْكِ الْيَمِينِ ، تَنْزِيهًا
لِقَدْرِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْكَافِرَةِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
: { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } ، فَكَيْفَ بِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك } ،
فَشَرَطَ فِي الْإِحْلَالِ لَهُ الْهِجْرَةَ بَعْدَ الْإِيمَانِ ، فَكَيْفَ
يُقَالُ إنَّ الْكَافِرَةَ تَحِلُّ لَهُ ،
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الرَّقِيبِ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمَعْنَى الْمُخْتَصُّ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عِلْمًا مُسْتَمِرًّا ، وَيَحْكُمُ فِيهَا حُكْمًا مُسْتَقِرًّا ، وَيَرْبِطُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ رَبْطًا يَنْتَظِمُ بِهِ الْوُجُودُ ، وَيَصِحُّ بِهِ التَّكْلِيفُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ
عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ
غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ وَلَكِنْ إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا
طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ
كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاَللَّهُ لَا
يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا
أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ
عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } .
فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ سِتَّةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ :
كِتَابِ الْبُخَارِيِّ ، وَمُسْلِمٍ ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَاللَّفْظُ لَهُ
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : { تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ ، فَصَنَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ
أُمِّي حَيْسًا ، فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ ، وَقَالَتْ لِي : يَا أَنَسُ
اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ :
بَعَثَتْ بِهِ إلَيْك أُمِّي ، وَهِيَ تُقْرِئُك السَّلَامَ ، وَتَقُولُ
لَك : إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ :
فَذَهَبْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقُلْت : إنَّ أُمِّي تُقْرِئُك السَّلَامَ وَتَقُولُ لَك : إنَّ هَذَا
لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : ضَعْهُ ثُمَّ قَالَ :
اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا ، وَمَنْ لَقِيت وَسَمَّى
رِجَالًا فَدَعَوْت مَنْ سَمَّى ، وَمَنْ لَقِيت .
قَالَ : قُلْت لِأَنَسٍ : عَدَدُكُمْ كَمْ كَانُوا ؟ قَالَ : زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ .
فَقَالَ
: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا
أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ قَالَ : فَدَخَلُوا حَتَّى امْتَلَأَتْ الصُّفَّةُ
وَالْحُجْرَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : لِيَتَحَلَّقْ عَشْرَةٌ عَشْرَةٌ ،
وَلْيَأْكُلْ كُلُّ
إنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ : فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا قَالَ :
فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ
قَالَ : قَالَ لِي : يَا أَنَسُ ، ارْفَعْ قَالَ : فَرَفَعْت ، فَمَا
أَدْرِي حِينَ وَضَعْت كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْت قَالَ : وَجَلَسَ
مِنْهُمْ طَوَائِفُ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إلَى الْحَائِطِ ،
فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ
عَلَى نِسَائِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا
عَلَيْهِ ، فَابْتَدَرُوا الْبَابَ ، وَخَرَجُوا كُلُّهُمْ ، وَجَاءَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَرْخَى
السِّتْرَ ، وَدَخَلَ ، وَأَنَا جَالِسٌ فِي الْحُجْرَةِ ، فَلَمْ يَلْبَثْ
إلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ
الْآيَةَ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ
غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
قَالَ أَنَسٌ : أَنَا
أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِهَذِهِ الْآيَاتِ ، وَحُجِبَ نِسَاءُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
الثَّانِي : رَوَى
مُجَاهِدٌ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْت آكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْسًا ، فَمَرَّ عُمَرُ فَدَعَاهُ ،
فَأَكَلَ ، فَأَصَابَ أُصْبُعُهُ أُصْبُعِي ، فَقَالَ حِينَئِذٍ : لَوْ
أُطَاعُ فِيكُنَّ مَا رَأَتْكُنَّ عَيْنٌ ؛ فَنَزَلَ الْحِجَابُ } .
الثَّالِثُ
: مَا رَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إلَى
الْمَنَاصِعِ وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ ، يَتَبَرَّزْنَ فِيهِ ، فَكَانَ
عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ :
اُحْجُبْ نِسَاءَك ، فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ
لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي ، وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً ، فَنَادَاهَا
عُمَرُ : قَدْ عَرَفْنَاك يَا سَوْدَةُ ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ
الْحِجَابُ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأُنْزِلَ الْحِجَابُ .
الرَّابِعُ :
رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : أُمِرَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَابِ ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ : يَا
ابْنَ الْخَطَّابِ ؛ إنَّك تَغَارُ عَلَيْنَا وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ
عَلَيْنَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ
مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } .
الْخَامِسُ : رَوَى
قَتَادَةُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَكَلُوا
وَأَطَالُوا الْحَدِيثَ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ ، وَيَسْتَحْيِي مِنْهُمْ ، وَاَللَّهُ لَا
يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ .
السَّادِسُ : رَوَى أَنَسٌ أَنَّ عُمَرَ
قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ نِسَاءَك يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ
الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ ؛
فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ
الرِّوَايَاتُ ضَعِيفَةٌ إلَّا الْأُولَى وَالسَّادِسَةَ ، وَأَمَّا
رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَبَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْحِجَابَ نَزَلَ يَوْمَ
الْبِنَاءِ بِزَيْنَبِ ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { بُيُوتَ النَّبِيِّ } صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْتَ بَيْتُ الرَّجُلِ
إذْ جَعَلَهُ مُضَافًا إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } .
قُلْنَا
: إضَافَةُ الْبُيُوتِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إضَافَةُ مِلْكٍ ، وَإِضَافَةُ الْبُيُوتِ إلَى الْأَزْوَاجِ إضَافَةُ
مَحَلٍّ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الْإِذْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْإِذْنُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَالِكِ ،
وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ يُؤْذِي أَزْوَاجَهُ ، وَلَكِنْ
لَمَّا كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْحَقُّ حَقَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَضَافَهُ إلَيْهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بُيُوتِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كُنَّ يَسْكُنَّ فِيهَا ،
هَلْ هُنَّ مِلْكٌ لَهُنَّ أَمْ لَا ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : كَانَتْ
مِلْكًا لَهُنَّ بِدَلِيلِ أَنَّهُنَّ سَكَنَّ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى وَفَاتِهِنَّ ؛
وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَبَ
لَهُنَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ لَهُنَّ هِبَةً ، وَإِنَّمَا كَانَ إسْكَانًا ، كَمَا يُسْكِنُ
الرَّجُلُ أَهْلَهُ ، وَتَمَادَى سُكْنَاهُنَّ بِهَا إلَى الْمَوْتِ
لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا لِأَنَّ عِدَّتَهُنَّ لَمْ تَنْقَضِ إلَّا
بِمَوْتِهِنَّ ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى ذَلِكَ لَهُنَّ مُدَّةَ حَيَاتِهِنَّ ، كَمَا
اسْتَثْنَى نَفَقَاتِهِنَّ بِقَوْلِهِ : { مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ
عِيَالِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ } .
فَجَعَلَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةً بَعْدَ نَفَقَةِ
الْعِيَالِ ؛ وَالسُّكْنَى مِنْ جُمْلَةِ النَّفَقَاتِ ، فَإِذَا مُتْنَ
رَجَعَتْ مَسَاكِنُهُنَّ إلَى أَصْلِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ،
كَرُجُوعِ نَفَقَاتِهِنَّ .
وَالدَّلِيلُ
الْقَاطِعُ لِذَلِكَ أَنَّ وَرَثَتَهُنَّ لَمْ يَرِثُوا عَنْهُنَّ شَيْئًا
مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَسَاكِنُ مِلْكًا لَهُنَّ لَوَرِثَ
ذَلِكَ وَرَثَتُهُنَّ عَنْهُنَّ ، فَلَمَّا رُدَّتْ مَنَازِلُهُنَّ بَعْدَ
مَوْتِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي تَعُمُّ مَنْفَعَتُهُ جَمِيعَ
الْمُسْلِمِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سُكْنَاهُنَّ إنَّمَا كَانَتْ
مَتَاعًا لَهُنَّ إلَى الْمَمَاتِ ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى أَصْلِهَا فِي
مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : {
إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ }
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْإِذْنِ وَأَحْكَامِهِ فِي سُورَةِ
النُّورِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { إلَى طَعَامٍ }
يَعْنِي بِهِ هَاهُنَا طَعَامَ الْوَلِيمَةِ ، وَالْأَطْعِمَةُ عِنْدَ
الْعَرَبِ عَشْرَةٌ : الْمَأْدُبَةُ ، وَهِيَ طَعَامُ الدَّعْوَةِ
كَيْفَمَا وَقَعَتْ .
طَعَامُ الزَّائِرِ التُّحْفَةُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ النُّزُلُ .
وَطَعَامُ
الْإِمْلَاكِ الشَّدْخِيَّةُ ، وَمَا رَأَيْته فِي أَثَرٍ ، إلَّا مَا
رُوِيَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ لَمَّا عُقِدَ نِكَاحُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمِّ حَبِيبَةَ عِنْدَهُ قَالَ لَهُمْ :
لَا تُفَرِّقُوا الْأَطْعِمَةَ .
وَكَذَلِكَ كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ تَفْعَلُ ، وَبَعَثَ بِهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ .
طَعَامُ الْعُرْسِ : الْوَلِيمَةُ .
طَعَامُ الْبِنَاءِ : الْوَكِيرَةُ .
طَعَامُ الْوِلَادَةِ : الْخُرْسُ .
طَعَامُ سَابِعِهَا : الْعَقِيقَةُ .
طَعَامُ الْخِتَانِ : الْإِعْذَارُ : وَيُقَالُ : الْعَذِيرَةُ .
طَعَامُ الْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ : النَّقِيعَةُ .
طَعَامُ الْجِنَازَةِ : الْوَضِيمَةُ .
وَهُنَاكَ أَسْمَاءٌ تُعَدُّ هَذِهِ أُصُولُهَا الْمَعْلُومَةُ .
وَالْفَائِدَةُ
فِي قَوْلِهِ : إلَى طَعَامٍ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكَرِيمَ
إذَا دَعَا إلَى مَنْزِلِهِ أَحَدًا لِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ
يُقَدِّمَ إلَيْهِ مَا حَضَرَ مِنْ طَعَامٍ وَلَوْ تَمْرَةً أَوْ كِسْرَةً ،
فَإِذَا تَنَاوَلَ مَعَهُ مَا حَضَرَ كَلَّمَهُ فِيمَا عَرَضَ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ } مَعْنَاهُ غَيْرَ
مُنْتَظِرِينَ وَقْتَهُ ، وَالنَّاظِرُ هُوَ الْمُسْتَنْظِرُ ، وَالْإِنَى
هُوَ الْوَقْتُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَعْنَى لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ فِي الدُّخُولِ ،
أَوْ يُطْعِمَكُمْ طَعَامًا حَاضِرًا ، لَا تَنْتَظِرُونَ نُضْجَهُ ،
وَلَا تَرْتَقِبُونَ حُضُورَهُ ، فَيَطُولُ لِذَلِكَ مُقَامُكُمْ ،
وَتَحْصُلُونَ فِيمَا كَرِهَ مِنْكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ :
قَوْلُهُ : { وَلَكِنْ إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } الْمَعْنَى
اُدْخُلُوا عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ ، وَحِفْظِ الْحَضْرَةِ الْكَرِيمَةِ
مِنْ الْمُبَاسَطَةِ الْمَكْرُوهَةِ .
وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : إذَا
دُعِيتُمْ فَأُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الدَّعْوَةِ
لَا تَكُونُ إذْنًا كَافِيًا فِي الدُّخُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ } هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّيْفَ يَأْكُلُ عَلَى مِلْكِ الْمُضِيفِ ، لَا عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ } فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ الْأَكْلِ ، وَلَا أَضَافَ لَهُ سِوَاهُ ، وَبَقِيَ الْمِلْكُ عَلَى أَصْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَانْتَشِرُوا } : الْمُرَادُ : تَفَرَّقُوا .
مِنْ النَّشْرِ ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُفْتَرَقُ .
وَالْمُرَادُ إلْزَامُ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنْزِلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْأَكْلِ .
وَالدَّلِيلُ
عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ حَرَامٌ ، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ
الْأَكْلِ ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَكْلُ زَالَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ ،
وَعَادَ التَّحْرِيمُ إلَى أَصْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ :
قَوْلُهُ : { وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } : الْمَعْنَى : لَا
تَمْكُثُوا مُسْتَأْنِسِينَ بِالْحَدِيثِ ، كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ ،
وَلَكِنَّ الْفَائِدَةَ فِي عَطْفِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ
اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ دُخُولٌ فَعَطَفَهُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ :
قَوْلُهُ : { إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } : وَالْإِذَايَةُ
كُلُّ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى النَّاسِ ، لَا
سِيَّمَا إذَايَةٌ يَكْرَهُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ بَلْ أَلْزَمَ الْخَلْقَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَكْرَهُونَ ،
إرْضَاءً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْمَعْنَى
: مَنَعْنَاكُمْ مِنْهُ لِإذَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الْمَنْعَ مِنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَالْمُقَامَ
بَعْدَ كَمَالِ الْمَقْصُودِ مُحَرَّمًا فِعْلُهُ ، لِإذَايَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْمُحَرَّمَاتُ فِي الشَّرْعِ
عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهَا مُعَلَّلٌ ، وَمِنْهَا غَيْرُ مُعَلَّلٍ ؛
فَهَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ بِالْعِلَّةِ ، وَهِيَ إذَايَةُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاَللَّهُ
لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ } : وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَيَاءَ فِي كُتُبِ
الْأُصُولِ ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا فَيُمْسِكُ عَنْ كَشْفِ مُرَادِهِ
لَكُمْ ، فَيَتَأَذَّى بِإِقَامَتِكُمْ ، عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيرِ عَنْ
الشَّيْءِ
بِمُقَدِّمَتِهِ ، وَهُوَ أَحَدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ ، أَوْ بِفَائِدَتِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي ، أَوْ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَهُوَ الثَّالِثُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } وَفِي الْمَتَاعِ أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : عَارِيَّةٌ .
الثَّانِي : حَاجَةٌ .
الثَّالِثُ : فَتْوَى .
الرَّابِعُ : صُحُفُ الْقُرْآنِ .
وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي مُسَاءَلَتِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ فِي حَاجَةٍ تَعْرِضُ أَوْ مَسْأَلَةٍ يُسْتَفْتَى فِيهَا ؛
وَالْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ ؛ بَدَنُهَا وَصَوْتُهَا ، فَلَا يَجُوزُ
كَشْفُ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ لِحَاجَةٍ ، كَالشَّهَادَةِ
عَلَيْهَا ، أَوْ دَاءٍ يَكُونُ بِبَدَنِهَا ، أَوْ سُؤَالِهَا عَمَّا
يَعِنُّ وَيَعْرِضُ عِنْدَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :
{ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } الْمَعْنَى : أَنَّ
ذَلِكَ أَنْفَى لِلرِّيبَةِ ، وَأَبْعَدُ لِلتُّهْمَةِ ، وَأَقْوَى فِي
الْحِمَايَةِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ
أَنْ يَثِقَ بِنَفْسِهِ فِي الْخَلْوَةِ مَعَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ ؛
فَإِنَّ مُجَانَبَةَ ذَلِكَ أَحْسَنُ لِحَالِهِ ، وَأَحْصَنُ لِنَفْسِهِ ،
وَأَتَمُّ لِعِصْمَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ :
قَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } وَهَذَا
تَكْرَارٌ لِلْعِلَّةِ ، وَتَأْكِيدٌ لِحُكْمِهَا ؛ وَتَأْكِيدُ الْعِلَلِ
أَقْوَى فِي الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ :
قَوْلُهُ : { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } :
وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ ؛ فَقَدْ خُصَّ بِأَحْكَامٍ ، وَشَرُفَ
بِمَعَالِمَ وَمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ ، تَمْيِيزًا
لِشَرَفِهِ ، وَتَنْبِيهًا عَلَى مَرْتَبَتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ
سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ آيَةَ الْحِجَابِ لَمَّا نَزَلَتْ
قَالُوا : يَمْنَعُنَا مِنْ بَنَاتِ عَمِّنَا ؛ لَئِنْ حَدَثَ بِهِ
الْمَوْتُ لَنَتَزَوَّجَنَّ نِسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
هَذِهِ الْكَلِمَةَ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : لَئِنْ مَاتَ
لَأَتَزَوَّجَنَّ عَائِشَةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ،
وَصَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ ، وَحَقَّقَ غَيْرَتَهُ ، فَقَصَرَهُنَّ
عَلَيْهِ ، وَحَرَّمَهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي
حَالِهِنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ
عَشْرَةَ : هَلْ بَقِينَ أَزْوَاجًا أَوْ زَالَ النِّكَاحُ بِالْمَوْتِ ؛
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ زَالَ بِالْمَوْتِ ، فَهَلْ
عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ أَمْ لَا ؟ فَقِيلَ : عَلَيْهِنَّ الْعِدَّةُ ؛
لِأَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ زَوْجُهُنَّ ، وَهِيَ
عِبَادَةٌ .
وَقِيلَ : لَا عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ تَرَبُّصٍ لَا يُنْتَظَرُ بِهَا الْإِبَاحَةُ .
وَبِبَقَاءِ
الزَّوْجِيَّةِ أَقُولُ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي
صَدَقَةٌ } .
وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ : { مَا
تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ أَهْلِي } وَهَذَا اسْمٌ خَاصٌّ بِالزَّوْجِيَّةِ ؛
لِأَنَّهُ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ النَّفَقَةَ مُدَّةَ حَيَاتِهِنَّ ،
لِكَوْنِهِنَّ نِسَاءَهُ .
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ : { كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي } .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ .
وَمَعْنَى
إبْقَاءِ النِّكَاحِ بَقَاءُ أَحْكَامِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الزَّوْجِيَّةِ ،
وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى ؛ إذْ جُعِلَ الْمَوْتُ فِي حَقِّهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغِيبِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ،
لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجًا لَهُ
قَطْعًا ، بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَعَ أَهْلِهِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ ، فَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالْآخَرُ فِي النَّارِ ، فَبِهَذَا الْوَجْهِ انْقَطَعَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ ، وَبَقِيَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } يَعْنِي إذَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نِكَاحَ أَزْوَاجِهِ ، فَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ ، وَلَا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنْهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَحْوَالَ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمُشْكِلَيْنِ فِي أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { إنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } : الْبَارِئُ تَعَالَى عَالِمٌ مَا بَدَا وَمَا خَفِيَ وَمَا ظَهَرَ ، وَمَا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَاضٍ يَمْضِي ، وَلَا مُسْتَقْبَلٌ يَأْتِي ، وَهَذَا عَلَى الْعُمُومِ تَمَدَّحَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ أَصْلُ الْحَمْدِ وَالْمَدْحِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ مَا أَكَنُّوهُ مِنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ ، فَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حِينَ أَضْمَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَأَكَنُّوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ ؛ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا مُبَيِّنَةً لَهَا .
الْآيَةُ
الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي
آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ
إخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : رُوِيَ أَنَّ نُزُولَ الْحِجَابِ لَمَّا نَزَلَ ، وَسِتْرَهُ
لَمَّا انْسَدَلَ قَالَ الْآبَاءُ : كَيْفَ بِنَا مَعَ بَنَاتِنَا ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي الْمَنْفِيِّ عَنْهُ الْجُنَاحَ : فَقِيلَ : مَعْنَاهُ
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ ؛ قَالَ قَتَادَةُ .
وَقِيلَ : لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي سَدْلِ الْحِجَابِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَالْمَعْنَى
الْمُتَقَدِّمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُنَّ بِالسَّتْرِ عَنْ الْخَلْقِ ،
وَضَرَبَ الْحِجَابَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النَّاسِ ، ثُمَّ أَسْقَطَ
ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ ذَكَرَ هَاهُنَا مِنْ الْقَرَابَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَذْكُرْ
اللَّهُ الْعَمَّ فِيهَا وَلَا الْخَالَ ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ
لِأَبْنَائِهِمَا .
وَقِيلَ : لَمْ يَذْكُرْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا
قَائِمَانِ مَقَامَ الْأَبَوَيْنِ ، بِدَلِيلِ نُزُولِهِمَا
مَنْزِلَتَهُمَا فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ
بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَالَ : إنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ مَعَ النِّسَاءِ
يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : مَنْ يَجُوزُ لَهُ
نِكَاحُهَا .
وَالثَّانِي : مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ، لِابْنِهِ ، كَالْأَخِ وَالْجَدِّ وَالْحَفِيدِ .
وَالثَّالِثُ
: مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ، وَيَجُوزُ لِوَلَدِهِ ، كَالْعَمِّ
وَالْخَالِ ، بِحَسْبِ مَنْزِلَتِهِمْ مِنْهَا فِي الْحُرْمَةِ .
فَمَنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ رُؤْيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا .
وَمَنْ
لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا وَيَجُوزُ لِوَلَدِهِ جَازَ رُؤْيَةُ
وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا خَاصَّةً ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ رُؤْيَةُ
زِينَتِهَا .
وَمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا لِوَلَدِهِ جَازَ الْوَضْعُ لِجِلْبَابِهَا وَرُؤْيَةُ زِينَتِهَا .
وَهَذَا التَّقْسِيمُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي الْآيَةِ هُوَ فِي وَضْعِ الْجِلْبَابِ .
فَإِنْ
قُلْنَا : إنَّهُ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّرْتِيبُ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ وَضْعِ الْجِلْبَابِ فِي
سُورَةِ النُّورِ ، وَحُكْمَ الْعَمِّ مِنْ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ بِمَا
يُغْنِي بَيَانُهُ عَنْ إعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّقِينَ اللَّهَ } فَخَصَّ بِهِ النِّسَاءَ ، وَعَيَّنَهُنَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى ، لِقِلَّةِ تَحَفُّظِهِنَّ وَكَثْرَةِ اسْتِرْسَالِهِنَّ .
الْآيَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
فِيهَا تِسْعُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ صَلَاةِ اللَّهِ : قَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِنَا ،
وَالْأَمْرُ خُصَّ بِهِ مَعْنَى صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ،
وَأَنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى دُعَائِهِمْ لَهُ ، وَذِكْرِهِ الْجَمِيلِ ؛
وَتَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى رَحْمَتِهِ لَهُ ؛ إذْ هُوَ
فَائِدَةُ ذَلِكَ مَجَازًا عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْءِ
بِفَائِدَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : هُوَ دُعَاؤُهُمْ ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ ، وَتَبْرِيكُهُمْ عَلَيْهِمْ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } ، وَكَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَلْقِ
عَلَيْهِ : وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ أَوْرَدْنَاهَا فِي كِتَابِ مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ فِي
شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ ؛ فَمِنْ ذَلِكَ ثَمَانِ رِوَايَاتٍ : الْأُولَى :
رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ {
أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُولُوا
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ،
كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ،
إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .
الثَّانِيَةُ : رَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي
مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ
بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ : { أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك ؟ قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ
لَمْ يَسْأَلْهُ ، ثُمَّ قَالَ : قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ
إبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا
بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ،
وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ } .
الثَّالِثَةُ : رَوَى
النَّسَائِيّ عَنْ طَلْحَةَ مِثْلَهُ بِإِسْقَاطِ قَوْلِهِ : فِي
الْعَالَمِينَ ، وَقَوْلِهِ : وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ .
الرَّابِعَةُ
: عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى
: تَلَقَّانِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ ، فَقَالَ : أَلَا أُهْدِي لَك
هَدِيَّةً ؟ قُلْت : بَلَى .
قَالَ : { خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْك قَدْ عَلِمْنَاهُ ، فَكَيْفَ
الصَّلَاةُ عَلَيْك ؟ قَالَ : قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا
صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ ، إنَّك
حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِ
مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .
الْخَامِسَةُ
: عَنْ بُرَيْدَةَ الْخُزَاعِيِّ قَالَ : { قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛
قَدْ عِلْمنَا كَيْفَ السَّلَامُ عَلَيْك ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك ؟
قَالَ قُولُوا : اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِك وَرَحْمَتَك عَلَى
مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا جَعَلْتهَا عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ،
إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .
السَّادِسَةُ : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ : { قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ عَلِمْنَا
هَذَا السَّلَامَ عَلَيْك ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك ؟ قَالَ : قُولُوا
: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولِك ، كَمَا صَلَّيْت
عَلَى إبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ،
كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ } .
السَّابِعَةُ : رَوَى أَبُو
دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ
بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ
فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَأَزْوَاجِهِ
أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ، كَمَا
صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .
الثَّامِنَةُ
: مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : {
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت
عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ،
اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا
بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ
مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ تَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ
كَمَا تَرَحَّمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك
حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ وَتَحَنَّنْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ
مُحَمَّدٍ كَمَا تَحَنَّنْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ،
إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ
مُحَمَّدٍ كَمَا سَلَّمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ؛
إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ }
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مِنْ
هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحٌ ، وَمِنْهَا سَقِيمٌ ، وَأَصَحُّهَا مَا
رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فَاعْتَمِدُوهُ .
وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى غَيْرَ
مَالِكٍ مِنْ زِيَادَةِ الرَّحْمَةِ مَعَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لَا
يَقْوَى ؛ وَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي أَدْيَانِهِمْ
نَظَرَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ ، وَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيْعِ
دِينَارًا مَعِيبًا ، وَإِنَّمَا يَخْتَارُونَ السَّالِمَ الطَّيِّبَ ؛
كَذَلِكَ فِي الدِّينِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا صَحَّ سَنَدُهُ لِئَلَّا
يَدْخُلَ فِي خَبَرِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَطْلُبُ الْفَضْلَ إذَا بِهِ قَدْ
أَصَابَ النَّقْصَ ، بَلْ رُبَّمَا أَصَابَ الْخُسْرَانَ الْمُبِينَ .
الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَرْضٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً بِلَا خِلَافٍ ؛ فَأَمَّا فِي
الصَّلَاةِ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ وَالشَّافِعِيُّ : إنَّهَا
فَرْضٌ ، فَمَنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ .
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ .
وَالصَّحِيحُ
مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : إنَّ
اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك ؟
فَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَوَقْتَهَا ، فَتَعَيَّنَا كَيْفِيَّةً وَوَقْتًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : مَنْ آلِ مُحَمَّدٍ ؟ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَجُمْلَتُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ الْمُتَّقُونَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ
غَيْرُهُ : وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ هُمْ أَهْلُهُ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛
لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ : { صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ }
.
وَقَالَ فِي آخَرَ : { وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ } .
فَتَارَةً فَسَّرَهُ بِالذُّرِّيَّةِ وَالْأَزْوَاجِ ، وَتَارَةً أَطْلَقَهُ .
الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ : وَهِيَ
مُشْكِلَةٌ جِدًّا ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ مِنْ إبْرَاهِيمَ ،
فَكَيْفَ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ ، ثُمَّ يَطْلُبُ لَهُ أَنْ يَبْلُغَ
رُتْبَتَهُ ؟ وَفِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ أُمَّهَاتُهَا عَشْرَةٌ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ
بِمَرْتَبَتِهِ ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَأَزْوَاجِهِ ، لِتَتِمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةُ ، كَمَا تَمَّتْ عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ كُلُّ مَنْ اتَّبَعَهُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُضَاعَفًا لَهُ ، حَتَّى يَكُونَ لِإِبْرَاهِيمَ بِالْأَصْلِ ، وَلَهُ بِالْمُضَاعَفَةِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لِتَدُومَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
السَّادِسُ
: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ذَلِكَ لَهُ بِدُعَاءِ
أُمَّتِهِ ، تَكْرِمَةً لَهُمْ وَنِعْمَةً عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُكَرَّمَ
رَسُولُهُمْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ .
السَّابِعُ : أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ لَهُمْ لِيُثَابُوا عَلَيْهِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا } .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْقَى لَهُ ذَلِكَ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخَرِينَ .
التَّاسِعُ : أَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ رَحْمَةً فِي الْعَالَمِينَ يَبْقَى بِهَا دِينُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
الْعَاشِرُ
: أَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً تَتَّخِذُهُ بِهَا
خَلِيلًا ، كَمَا اتَّخَذْت إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا .
قَالَ الْقَاضِي :
وَعِنْدِي أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ اللَّهِ عَلَيْهِ
بِصَلَاتِهِ وَصَلَاةِ أُمَّتِهِ كَمَا غُفِرَ لَهُمْ بِشَرْطِ
اسْتِغْفَارِهِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ ، ثُمَّ كَانَ
يُدِيمُ الِاسْتِغْفَارَ ، لِيَأْتِيَ بِالشَّرْطِ الَّذِي غُفِرَ لَهُ .
وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَقْوَالِ ، وَتَحْقِيقٌ فِيهَا لِمَا يَقْوَى مِنْ الِاحْتِمَالِ .
الْآيَةُ
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتِك وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا
يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فِيهَا سِتُّ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رُوِيَ { أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ مَرَّ عَلَى
امْرَأَةٍ مُخْتَرِمَةٍ بَيْنَ أَعْلَاجٍ قَائِمَةٍ بِسُوقِ بَعْضِ
السِّلَعِ ، فَجَلَدَهَا ، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
جَلَدَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ رَآهُ مِنِّي ،
فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى جَلْدِ ابْنَةِ عَمِّك ؟ فَأَخْبَرَهُ
خَبَرَهَا ، فَقَالَ : وَابْنَةُ عَمِّي هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
أَنْكَرْتهَا إذْ لَمْ أَرَ عَلَيْهَا جِلْبَابًا فَظَنَنْتهَا وَلِيدَةً
فَقَالَ النَّاسُ : الْآنَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا .
قَالَ عُمَرُ : وَمَا نَجِدُ لِنِسَائِنَا
جَلَابِيبَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتِك وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِلْبَابِ عَلَى أَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ ،
عِمَادُهَا أَنَّهُ الثَّوْبُ الَّذِي يُسْتَرُ بِهِ الْبَدَنُ ،
لَكِنَّهُمْ نَوَّعُوهُ هَاهُنَا ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ الرِّدَاءُ .
وَقِيلَ : إنَّهُ الْقِنَاعُ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ } قِيلَ :
مَعْنَاهُ تُغَطِّي بِهِ رَأْسَهَا فَوْقَ خِمَارِهَا .
وَقِيلَ : تُغَطِّي بِهِ وَجْهَهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهَا إلَّا عَيْنُهَا الْيُسْرَى .
الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي تَنْوِيعِهِ أَنَّهُمْ
رَأَوْا السِّتْرَ وَالْحِجَابَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ،
وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ،
وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرِينَةُ